وضع داكن
19-04-2024
Logo
جائزة دبي الدولي للقرآن الكريم الدورة السابعة عشرة: الجانب الإنساني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج الإسلام في الحقوق والإخاء الإنساني .
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فبرعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي وراعي جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم جزاه الله خيراً.
 أيها الأخوة الكرام؛ يسعدني أن أكون أحد المتكلمين لهذه الجائزة، وأن أتحدث عن موضوع الإنسانية في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم.

تكريم الله للإنسان :

 بادئ ذي بدء؛ من تكريم الإسلام للإنسان أنه اعترف بكيانه كله جسماً ونفساً وعقلاً وإرادة، لذلك يعد الإسلام دين الفطرة، قال الله تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾

[ سورة الروم : 30]

 الإسلام تناول المادة والروح، وتناول الدنيا والآخرة، وتناول جوانب الإنسان، عقله وقلبه وجسمه، لهذا أمر الله الإنسان بالسعي في الأرض، قال الله تعالى:

﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾

[ سورة الملك: 15]

 والمشي في المناكب، والأكل من طيباتها، والاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده، وحثه على النظافة والتجمل والاعتدال، ونهاه عن المسكرات، وعن كل ما يضره، وأمره بعبادة الله وحده، والتقرب إليه بأنواع الطاعات من صلاة وصيام وصدقة وزكاة وحج وعمرة وذكر ودعاء وإنابة وتوكل وخوف ورجاء وبر ووفاء، وغير ذلك من أنواع العبادات الشعائرية والنفسية.
 أيها الأخوة الكرام؛ وفاء لحق نفس الإنسان أمره بتزكيتها، وأمره بالنظر والتفكر في ملكوت السموات والأرض، قال الله تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة يونس: 101 ]

 وما خلق الله من شيء، وفي مصير الأمم والشعوب، وفي سنن الله في المجتمعات، كما أمره بطلب العلم، والتماس الحكمة، وأنكر عليه الجمود، وتقليد الآباء والكبراء، كل ذلك وفاء لحق عقله، ولفته لجمال الكون بأرضه وسمائه، ونباته وحيوانه، وما زانه الله به من الحسن والبهجة، ليشبع حاسة الجمال في نفسه، وليشعره في أعماقه بعظمة ربه الذي أحسن كل شيء خلقه، وذلك رعاية لجانب الوجدان فيه، أي أنه غذى عقلبه بالعلم، وغذى قلبه بالحب، وغذى جسمه بما خلق له من الطيبات.

العلاقة بين المعصية ونتائجها والطاعة ونتائجها علاقة علميّة :

 أيها الأخوة الكرام؛ ملاحظة دقيقة وهي أن العلاقة بين الأمر الإلهي ونتائجه علاقة علمية، بمعنى أنها علاقة سبب بنتيجة، أحياناً إنسان يرأس مؤسسة يمنع شيئاً، ليس هنالك من علاقة علمية بين المنع والعقاب وبين هذا الشيء، نسميها علاقة وضعية، لكن عظمة هذا الدين أن العلاقة بين المعصية ونتائجها، والعلاقة بين الطاعة ونتائجها علاقة علمية، أي أن في بذور الطاعة نتائجها، وفي بذور المعصية نتائجها، أي أن هذا المنهج الموضوعي لو طبقه إنسان غير مؤمن لقطف ثماره في الدنيا، منهج موضوعي، لو طبقته أمة غير مسلمة لقطفت ثماره، بل إن ايجابيات الغرب كلها إسلامية، لا لأنهم يعبدون الله، ولكن لأنهم يعبدون الدولار من دون لله، مصلحتهم تقتضي إنصاف الناس، والاهتمام بالاختصاص، وما شاكل ذلك.

حقوق الإنسان التي أقرها الإسلام :

 أيها الأخوة؛ وقبل أن تسمع أذن الدنيا عن حقوق الإنسان لخمسة عشر قرناً أو تزيد، ويوم كان العالم كله لا ينظر إلى الإنسان، إلى ما هو عليه من الواجبات التي يطالب بأدائها، وإلا كان عليه من العقاب ما يستحق، جاء الإسلام ليقرر جهرة أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن تراعى، كما أن عليه واجبات يجب أن تؤدى، وكما أنه يُسأل عما عليه.
 من هذه الحقوق التي أعلنها الإسلام جهرة قبل خمسة عشر قرناً حق الحياة، إنسانية الإسلام، توجهات النبي إلى تأكيد إنسانية الإنسان، حق الحياة، وحق الكرامة، وحق التفكير، وحق التدين، وحق الاعتقاد، وحق التعبير، وحق التعلم، وحق التملك، وحق الكفاية، وما إلى ذلك، أيها الأخوة يضاف إلى هذه الحق حق الأمن من الخوف، قال الله تعالى:

﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

[ سورة قريش:4]

 وقال تعالى أيضاً:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

[ سورة النحل: 112]

 معنى ذلك العطاء الكبير للأمة الشبع والأمن، والعقاب الكبير للأمة الجوع والخوف.

تعريف الإنسانيّة :

 أيها الأخوة؛ ما معنى الإنسانية؟ أن ترى أن عليك ما على غيرك فأنت إنساني، وأن ترى أن لك ما ليس لغيرك فأنت عنصري، يمكن أن يقسم البشر في مقياس معين إلى صنفين، الذي يرى أن عليه ما على غيره، وأن لغيره ما له هذا إنساني، أما إذا رأى أن له ما ليس لغيره وأن على غيره ما ليس عليه فهو عنصري. ما دام هنالك عنصرية في الأرض فالحروب لن تقف.
 أيها الأخوة؛ مثل من أضيق دائرة، الزوج الذي يسخر من أم زوجته، ولا تستطيع أن تقول كلمة، بينما لو تكلمت زوجته عن أمه كلمة أقام عليها الدنيا، هذا الزوج عنصري، وحق الفيتو حق عنصري، من أضيق دائرة لأكبر دائرة، مادام هنالك في الأرض عنصرية النزاعات لن تقف، لن تقف إلا إذا طبق مقياس واحد على كل الشعوب.
 أيها الأخوة؛ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، إنها تشغل حيزاً كبيراً من منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية، هناك تهمة شائعة، كلام نظري، نريد الواقع العملي، عظمة هذا الدين أنه جعل المثالية واقعية، وجعل الواقعية مثالية، فهناك مصطلح يخص الإسلام؛ المثالية الواقعية، والواقعية المثالية.
 أيها الأخوة؛ هذه المثالية والإنسانية ربطت بعقائده وشعائره ومناهجه وآدابه ربطاً محكماً، فالإنسانية في الإسلام ليست مجرد أمنية شاعرية تهفو إليها بعض النفوس، وليست فكرة مثالية تتخيلها بعض الرؤوس، وليست حبراً على ورق سطرته بعض الأقلام، إنها ركن عقدي، وواقع تطبيقي، وثمار يانعة.

ثمرات الإنسانيّة :

 من ثمرات إنسانية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأن إنسانية النبي محور هذا اللقاء الطيب- مبدأ الإخاء الإنساني، إنه مبدأ قرره الإسلام بناء على أن البشر جميعا أبناء رجل واحد، وامرأة واحدة، ضمتهم هذه البنوة الواحدة المشتركة، والرحم الواصلة، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾

[سورة النساء:1]

 ولعل كلمة يا أيها الناس وكلمة من نفس واحدة، تلزمنا أن نفهم كلمة الأرحام في هذه الآية بالذات على أنها الرحم الإنسانية العامة التي تسع البشر جميعاً.
 أيها الأخوة؛ النبي عليه الصلاة والسلام في البحث عن جوانب شخصيته الإنسانية يقرر هذا الإخاء، ويؤكده كل يوم أبلغ تأكيد، فقد روى أبو داود وأحمد في مسنده عن زيد بن أرقم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته:

((أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة))

[أحمد في مسنده عن زيد بن أرقم رضي الله عنه]

 شيء آخر النبي عليه الصلاة والسلام يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً، لا بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين وحدهم، بل هي أخوة بين بني البشر جميعاً.
 الإسلام إنساني، والحقيقة - كتعليق- الإنسان أحياناً ينتمي إلى ذاته، وقد يهتم بأسرته، وقد تتسع الدائرة فيهتم بعائلته، وقد يهتم بشعبه، وقد يهتم بأمته، وقد يهتم بالإنسانية جمعاء، وهذا خلق الأنبياء، الاهتمام بالإنسانية جمعاء، مثل بسيط، مرة كنت مسافراً من المغرب إلى بلدي، فالطائرة دخلت إلى القطر السوري من جهة طرابلس، رأيت بعيني مدينة في شمال لينان ومدينة في جنوبه بنظرة واحدة، أي على ارتفاع أربعين ألف قدم رأيت خمسمئة كيلو متر، معنى ذلك أن الإنسان كلما ارتفع اتسعت دائرته، وكلما ارتفع اتسعت عواطفه، فالذي ينتمي إلى مجموع البشرية هم الأنبياء، هنالك من ينتمي إلى قومه، إلى أمته، إلى بلده، إلى وطنه، إلى عشيرته، إلى قبيلته، إلى أسرته، هذه انتماءات متعددة لكن كلما ارتقى الإنسان اتسعت دائرة انتمائه واهتماماته.

الناس صنفان لا ثالث لهما :

 أيها الأخوة، الإنسانية التي جاء بها النبي الكريم هي أخوة بين البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم، وأعراقهم، وألوانهم، وطبقاتهم، ومللهم، ونحلهم، البشر جميعاً عند الله نموذجان، أي:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾

[سورة الليل:1-4]

 سبعة مليارات إنسان، كل إنسان له تصور، له حركة، له اتجاه، له لون، له طعم، له رائحة، يحكمه تيار، يؤمن بمبدأ، هذه الفردية التي ميز الله بها الإنسان، إذاً هناك توجهات متنوعة في الأرض، لكن الله سبحانه وتعالى في سورة الليل أنزل كل هذه التوجهات المتباينة المختلفة المتنوعة المتناقضة في حقلين، ما هما؟ قال تعالى:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل:1-6 ]

 أول زمرة:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

[سورة الليل:5-7]

 الثانية:

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[سورة الليل:8-10]

 أخواننا الكرام؛ كلام القرآن دقيق جامع مانع موجز،

﴿ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

 صدق أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، الرد الإلهي:

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

  أي أكبر عطاء إلهي التيسير، الأمور ميسرة، تربية الأولاد ميسرة، الزواج ميسر، العمل ميسر، الدخل ميسر،

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

  الترتيب معكوس،

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

 صدق بالجنة، صدق بالآخرة، نقل اهتماماته للآخرة، آمن بالآخرة، واستخدم الدنيا ممراً وطريقاً، لن يجعلها مقراً دائماً، لم يتشبث بها، جعلها مناسبة لدفع ثمن الجنة، فلذلك،

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾

 اتقى أن يعصي الله بنى حياته على العطاء، صدق بالحسنى، المصير هنالك عناية إلهية تتولاه،

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

  قال تعالى:

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[سورة الليل:8-10]

 كذب بالجنة، وآمن بالدنيا، لأنه كذب بالجنة استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، لذلك ما الذي يسعدك أن تعطي أم أن تأخذ؟ يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
 أخواننا الكرام؛ مقياس دقيق ما الذي يفرحك؟ ما الذي يسعدك؟ ما الذي يطمئنك؟ ما الذي تزهو به أن تعطي أم أن تأخذ؟ الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، والمؤمن مسموح له أن يأخذ ويعطي، لكن لابد من أن تعطي، لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ولأن الشيء الوحيد الذي ينزل مع الإنسان إلى قبره عمله الصالح، إن كان كريماً أكرمه، وإن كان لئيماً أسلمه، إذا هؤلاء البشر على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم وأعراقهم وأنسابهم وطوائفهم وتياراتهم نوعان:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

[سورة الليل:5-7]

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[سورة الليل:8-10]

 فالبطولة أيها الأخوة؛ نحن إذا قرأنا القرآن يجب أن نقف عند كل آية ونسأل، أين أنا من هذه الآيات؟ هذا هو التدبر، أين أنا من هذه الآيات؟! هل أنا مع الذين أعطوا فسعدوا بالعطاء أم مع الذين أخذوا فسعدوا بالأخذ؟
 أيها الأخوة؛ إذاً البشر على اختلاف مللهم ونحلهم نموذجان: إنسان عرف الله فالتزم بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، وإنسان غفل عن الله وتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، ولن تجد نموذجاً ثالثاً:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾

[سورة الليل:5-7]

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[سورة الليل:8-10]

 الأول مكافأة الله له التيسير، والثاني عقاب الله له التعسير.

الربط المحكم بين الأخوة الإنسانيّة و الإيمان :

 أيها الأخوة؛ شيء دقيق أنه لا تناقض بين الإخاء البشري وبين الإنسانية، هذا الإخاء الإنساني في الإسلام ليس للاستهلاك المحلي، ولا للتضليل العالمي، إنما هو حقيقة دينية لا ريب فيها، تنطلق من إسقاط كل المتألهين في الأرض الذين طغوا وبغوا، ويزداد هذا الإخاء توثقاً وتأكداً إذا أضيف له عنصر الإيمان، فتجتمع الأخوة الدينية إلى الأخوة الإنسانية ولا تناقض بينهما، أخوك في الدين والإنسانية معاً، فتزيدها قوة إلى قوة، ولما كان باب الإيمان مفتوحاً لكل الناس بلا قيد ولا شرط، ولا تحفظ على جنس، أو لون، أو إقليم، أو طرفة، فإن الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان بالعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام، بل يشده ويقويه، فلا تناقض إذاً بين الإخاء البشري العام وبين الإخاء الديني الذي تشير إليه الآية الكريمة:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 10]

 بالمناسبة تعليق على هذه الآية الدقيقة، ما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فهذه نقطة ضغف كبيرة في شخصية المؤمن، أو ما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً لقوله تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾

[ سورة الحجرات: 10]

 بل إن علاقة النسب هي أمتن علاقة في حياتنا، فالله عز وجل جعل علاقة المؤمنين ترتقي إلى علاقة النسب، قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 10]

 شيء دقيق جداً، قد تنشأ مشكلة فتنشأ عداوة أحياناً- سوء تفاهم- مهمة المؤمن الصادق أن يصلح لا أن يفرق، والحديث الشريف: " ليس منا من فرق" لذلك النبي عليه الصلاة والسلام ربط ربطاً محكماً بين الأخوة في الإنسانية وبين الإيمان، بل جعلها من مقوماته، فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 يوجد وقفة في علم الأصول، يحب لأخيه، أي أخوة؟ هذه الأخوة لم تقيد لا بقرابة، ولا بوطن، ولا بقوم، مادامت جاءت مطلقة فالمطلق في الكتاب والسنة على إطلاقه، أي الأخوة في الإنسانية، لذلك:

(( لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 وهناك رواية فيها زيادة، وحتى يكره له ما يكره لنفسه، وقد ذكر بعض شراح الحديث أن كلمة أخيه في الحديث لم تقيد بصفة تحد من إطلاقها، والمطلق في النصوص المحكمة على إطلاقه، فالأخوة المطلقة في الحديث تعني الأخوة الإنسانية.

مبدأ المساواة من معاني الأخوة الإنسانيّة :

 أيها الأخوة؛ من معاني الأخوة الإنسانية مبدأ المساواة، فمن ثمرات إنسانية الإسلام الجامعة مبدأ المساواة في الإنسانية، فقد قرره الإسلام، ونادى به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ينطلق من أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان، لا من أية حيثية أخرى، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 13]

 أخوة الإيمان، لقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة، تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق، التي يحتاجها العالم الشارد المعذب ليرشد ويسعد، فمن المبادئ التي انطوت عليها هذه الخطبة أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز، وعلى أية حالة تكون، وفوق أية مستوى تتربع، فعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي الكريم في وسط أيام التشريق فقال:

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، ..فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ...))

[أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ]

 هذا ملمح دقيق.
 الملمح الثاني؛ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها، مؤمنة بوعده ووعيده، مؤمنة بأنه يعلم سرها وجهرها، لأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها، ولا تبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بنت مجدها على أنقاض الآخرين، وربما بنت غناها على فقرهم، بنت عزها على ذلهم، بل ربما بنت حياتها على موتهم، كما ترون وتسمعون في العالم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:

(( ... فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ))

[أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ]

 إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى يوم تلقونه، ثم قال:

((…اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ… ))

[أحمد عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ]

النتائج المأساوية التي تتأتى من حرمان المال :

 أيها الأخوة؛ النتائج المأساوية الآن التي تحصل من حرمان المال، و المال قوام الحياة ينبغي أن يكون متناولاً بين كل الناس، لذلك حينما نجد مليوناً لا يملكون واحداً، وواحداً يملك مليوناً هذا التفاوت الخطير في المجتمع وراء أكثر المشكلات، لذلك قال تعالى:

﴿ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ﴾

[سورة الحشر:7]

 إشارة دقيقة جداً، المال يجب أن يكون متداولاً بين كل الناس، هذا منهج الله عز وجل. لذلك إذا ولد المال المال من دون جهد حقيقي لا يسهم في إعمار الأرض، وإغناء الحياة، تجمع في أيد قليلة وحرمت منه الكثرة الكثيرة عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويلجأ إلى العنف، وهذا السبب وراء تحريم الربى، الربى المال يلد المال، أما الأعمال فحينما تلد المال توزع الأموال توزيعاً منصفاً، كل بحسب جهده، أما إذا ولد المال المال فهذه مشكلة كبيرة.

مساواة المرأة للرجل في التشريف والتكليف والمسؤولية :

 أيها الأخوة؛ أما المرأة فالنساء شقائق الرجال، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث أنها مكلفة كالرجل بالعقائد، والمعاملات، والعبادات، والأخلاق، مساوية له من حيث استحقاقها الثواب والعقاب، مساوية له تماماً في التشريف والتكليف والمسؤولية، لذلك ينبغي أن نعتمد المساواة كل بحسب خصائصه، هنالك كلمة أقولها: المرأة خصائصها الجسمية، والنفسية، والاجتماعية، والفكرية، كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بها، والرجل خصائصه الجسمية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، كمال مطلق للمهمة التي أنيطت به، فلذلك بكل جهة ينبغي أن تلبى هذه الخصائص.

المساواة بين جميع الناس :

 أيها الأخوة الكرام؛ النبي عليه الصلاة والسلام وقف في جنازة رجل غير مسلم فلما سئل النبي الكريم عن ذلك قال: أليس إنساناً؟ لذلك عدّ الإسلام الاعتداء على أية نفس، اعتداء على الإنسانية كلها، كما عدّ إنقاذ أية نفس إحياء للناس جميعاً، وهذا ما جاء به القرآن الكريم بوضوح شديد، فقال تعالى:

﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾

[سورة المائدة: 32]

 أخواننا الكرام؛ لم يكتف الإسلام بأن قرر مبدأ المساواة نظرياً بل أكده عملياً بجملة أحكام وتعاليم، نقلته من جمل مجردة إلى واقع ملموس، فالعبادات الشعائرية التي فرضها الإسلام، فرضها على الجميع، وجعل الأركان العملية التي يقوم عليها بناؤه العظيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج واحدة بين كل الناس، والمساواة في توحيد الصفوف، في مساجد الإسلام، حيث تقام صلاة الجمعة والجماعة، تأخذ المساواة صورتها العملية، وتزول في هذه الصلاة كل الفوارق التي تميز بين الناس، فمن دخل المسجد أولاً أخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان أقل الناس مالاً وأضعفهم جاهاً، ومن تأخر حضوره تأخر مكانه مهما يكن مركزه، فكل الناس سواسية أمام الله في قيامهم وقعودهم، وركوعهم وسجودهم، ربهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وحركاتهم واحدة، وإمامهم واحد.

أصل الدين معرفة الله :

 أيها الأخوة الكرام؛ هنالك نقطة دقيقة أتمنى أن تكون واضحة، أن الإنسان إذا عرف الله عظم أمره، فخضع له، فإذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الله، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر فتتفنن في معصية الآمر، لذلك هل يمكن أن نضع يدنا على مشكلة المسلمين الأولى؟ الأمر بين أيديهم درسوه في المدارس، أحكام الزكاة والصلاة والصيام والحج والصدقة وما إلى ذلك، لكن هل عرفنا الله؟
 لذلك ينبغي أن تعرفه، أن تعرف خلقه، هناك علم بخلقه، اختصاص الجامعات في الأرض، علم بخلقه، أي فيزياء وكيمياء ورياضيات وفلك وطب وهندسة، وهناك علم بأمره اختصاص كليات الشريعة، الأمر والنهي والحلال والحرام والواجب، وهناك علم به، العلم بخلقه والعلم بأمره هذه العلوم تحتاج إلى مدارسة، إلى مدرس وكتاب ومنهج وامتحان ودراسة ومراجعة وحفظ، أما أن تعرفه فالعلم به يحتاج إلى مجاهدة، قال بعض العلماء: جاهد تشاهد، فهناك علم بخلقه وعلم بأمره، الوسيلة المدارسة، هناك علم به الوسيلة المجاهدة، لذلك أيها الأخوة؛ الطريق إلى الله طويل لكنه ميسور، والإنسان خلق ليعرف الله، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، أنا أحب إليك من كل شيء، ورد في مدارج السالكين هذا الأثر القدسي:

(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي- الشاهد - إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))

[ البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ]

 لذلك قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾

[سورة المعارج:19]

 هكذا خلقه الله، نقطة ضعف في حياته، لو خلقه قوياً لاستغنى بقوته فشقي باسغنائه، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً*إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

[سورة المعارج:19-22]

 أيها الأخوة ورد في الأثر القدسي: " ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، يسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها".
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعاً بهذه النصوص، وأن يحفظ لكم إيمانكم، وأهلكم، وأولادكم، وصحتكم، واستقرار بلادكم، وادعوا لأخوتكم في الشام أن يحقن الله دماءهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور