مقدمة :

المذيع:
  الجبن؛ ما هو الجبن؟ ولماذا يجبن الإنسان؟
 لما سئل رسول صلى الله عليه وسلم أيكون المسلم بخيلاً؟ قال: نعم، أيكون جباناً؟ قال: نعم، أيكون كذاباً؟ قال: لا.
 كيف يكون المسلم جباناً وهو يعلم أن لكل أجل كتاب ولكل نفس عمر وأجل؟
 ما هو الجبن؟ وما دوافعه؟ وما منشأه؟ وكيف نقضي عليه؟
 في سياقيات القرآن الكريم والسنة النبوية هل كان من الصحابة من هو جبان؟ هل يتنافى الجبن مع الرجولة والمروءة؟
 وكان خالد بن الوليد سيف الله المسلول، مات على الفراش وهو يقول: ما من شبر في جسدي إلا فيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ولكني أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، كيف نتخلص من الجبن؟
 الجبن حلقة جديدة في برنامج:" ديناً قيماً " أهلاً بكم.
 مشاهدينا الكرام؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم معنا في حلقة جديدة من هذا البرنامج، نرحب بحضرتكم كما نرحب بضيفينا الكريمين العالمين الجليلين الدكتور محمد راتب النابلسي، والدكتور عمر عبد الكافي، مرحباً بكما في حلقة جديدة.
 شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي ما رأيك في الجبن؟

حقيقة الجبن :

الدكتور راتب :
 الحقيقة أن هناك معتقداً عقدياً يفسر هذا الموضوع، الله عز وجل واجب الوجود، وما سواه ممكن الوجود، ممكن أن يكون أو لا يكون، أو ممكن أن يكون على ما هو كائن أو على خلاف ما يكون، شاءت حكمة الله أن يزرع فينا الشهوات، والشهوات لها دور كبير جداً، هي كالمحرك في المركبة – طاقة - والعقل هو المقود، والشرع هو الطريق، فالبطولة أن تنطلق بقوة المحرك وهي الشهوات بقيادة العقل على طريق الشرع.
 فالشرع طريق، والعقل مقود، والشهوة محرك. الشهوة شيء دقيق جداً ممكن أن تمارسها بمئة و ثمانين درجة إلا أن الله سمح لك بمئة درجة فما هي الاستقامة؟ أن تبقي الحركة باتجاه الشهوة، أو بدافع الشهوة وفق مئة درجة، بالإسلام لا يوجد حرمان، والدليل:

﴿ وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

[سورة القصص: ٥٠]

 عند علماء الأصول المعنى المخالف الذي يتبع هواه- أي شهوته- وفق هدى الله لا شيء عليه، هذه النقطة أحبّ أن أقدمها للإخوة المشاهدين، بالإسلام لا يوجد حرمان لكن ترقية وتصعيد.
المذيع:
 الجبن شهوة؟
الدكتور راتب :
 الجبن مقابل المال، يجوز أن يخاطر الإنسان فيفقد حياته، الله عز وجل طمأننا الأجل والرزق لا يتبدلان، فالله كفى عبده رزقه، فالإنسان عندما يؤمن بالتوحيد، ويستقيم على أمر الله، لا يوجد عنده جبن، لأن الآمر ضامن، فالآمر مادام هو الإله، وبيده كل شيء، يضمن لك إن استقمت على أمره ألا ينالك شيء. فالجبن يأتي من ضعف التوحيد، ويأتي من غلبة الشهوة.
المذيع:
 هل هذا المفهوم ينطبق على بعض الصحابة مثل حسان بن ثابت؟ ما كان يحب أن يخرج إلى المعارك أو يحارب واعتبر في جانب هذا أنه نوع من الجبن؟

حسان شاعر ومسألة الحرب بالنسبة له مخالفة لطبيعته وملكاته :

الدكتور عمر :
 أولاً: كل إنسان له ملكات، والرسول صلى الله عليه وسلم أدرك ملكات تلاميذه تلميذاً تلميذاً، ووضع مفتاح العبقرية في مكانها عند كل تلميذ، فأنبتنا أو أنبت للإسلام نسخاً مصحفية تمشي على قدمين، حسان بن ثابت يجب أن تدرس البعد الثالث من كل شخص صالحاً كان أو طالحاً، بعده التكويني، وبعده الشعوري، وبعده البيئي.
 حسان شاعر، هذا الشاعر مرهف الحس، ورقيق، دائماً يبحث عن الكلمة الطيبة، مسألة الحرب بالنسبة له مسألة مخالفة لطبيعته، وملكاته، انظر الأغرب أن عمر بن خطاب رغم ما فيه من قوة كان يكره الحرب.
المذيع:
 سيدنا علي كان شاعراً وكان يحارب؟
الدكتور عمر :
 هذا ربيب النبوة، هذه تربية الإنسان الذي امتلأت عيناه وامتلأ بتصرفات وملكات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر، عنترة كان شاعراً، وكان إذا قال عن عبلة فتقول: إن هذا الشاعر ذاب عشقاً ولا يستطيع أن يمسك السيف، ولما رأى بريق السيف تذكر ثغرها المتبسم. فهذه ملكات سيدنا حسان لا نستطيع أن نصف صحابياً بالجبن.
المذيع:
 هي منقصة؟
الدكتور عمر :
 نعم، الوصف بالجبن منقصة، إذا غرست شجرة الجبن في قلب إنسان أورثت ثمارها خبيثة، سيئة، سلبية، انعزالية، وتوحد، ولا يستطيع أن يواجه الحقائق.
المذيع:
 سيدنا النبي قال - دكتور راتب وصحح لي- لما سئل يكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قال: يكون جباناً؟ قال: نعم، قال: يكون كذاباً؟ قال: لا.
vأي قد تكون صفة الجبن في المؤمن؟

اقتراب الجبن من الطبع :

الدكتور راتب :
 الكذب ليس شهوة غلبته، الكذب مؤامرة، الجبن أي غلب عليه الشيء القريب منه ونسي وعد الله له. أنا أولاً أعتقد يقيناً أن في حياتنا كمسلمين هناك واحداً معصوماً هو رسول الله، هذا إيمان، ما سواه غير معصوم، فأي نقطة سلبية من أي إنسان من أصحاب النبي أقدم لها هذا التفسير، هذا من عدم عصمته، وانتهى الأمر.
المذيع:
 يعتبر الجبن إثماً على الشخص؟
الدكتور راتب :
 هذا يقترب من الطبع، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]

الدكتور عمر :
 لكن إذا ترتب على هذا الجبن ضياع حقوق أناس، أي أظل أجبن إلى أن تضيع حقوق أرضي ومقدساتي، أقول: قد تقتضيك الشجاعة أن تجبن ساعة، اجبن ساعة ليس قرناً أي الجبن له أمد:

﴿ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ﴾

[ سورة الأنفال :16]

 ليس هذا جبناً وإنما إعداد.
المذيع:
 وصف القرآن:

﴿ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ ﴾

[سورة التوبة: ٣٨]

vأليس هذا نوع من أنواع الجبن؟

الإنسان الجبان إنسان نسي نسبه السماوي :

الدكتور عمر :

﴿ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ ﴾

 لأنه أثقلته الدنيا، لأنها أشعرته أنه أرضي لا سماوي، نحن نسبنا سماوي، نسبنا ليس أرضياً، الله عز وجل أنزل من فضل رحمته هذا القرآن، فلما نزل من عاليه وارتفع الإنسان بالقرآن فصار نسبنا سماوياً، فإذا اثاقلت إلى الأرض صيرت نفسي طيناً لا قيمة لي، وما قيمة العناصر الأرضية في الأمور الكبيرة؟! فالإنسان الجبان إنسان نسي نسبه السماوي، وحبس نفسه داخل الإهاب الترابي، ونسي الإهاب النوري، الذي هو قبضة من روح الله يرى بنور الله، ويسعى بنور الله.
المذيع:
 شيخنا الدكتور راتب الثلاثة الذين تخلفوا زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا صحابة أو لم يكونوا جبناء أيضاً؟

النبي فقط هو الإنسان المعصوم في أقواله و أفعاله :

الدكتور راتب :
 لماذا تجرني لأقول عنهم جبناء؟
المذيع:
 لا، أنا أتعلم فقط من حضرتك.
الدكتور عمر :
 هو خاض في الحديث وقال لك: إنهم ليسوا معصومين.
الدكتور راتب :
 أنا أعلم يقيناً في حياتي كمسلم أن هناك إنساناً واحداً معصوماً من أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره.
المذيع:
 تفسير حضرتك للثلاثة الذين خلفوا ما هو؟
الدكتور راتب :
 الإنسان الغير معصوم يقع في خطأ.
المذيع:
 مع أنهم صحابة؟
الدكتور راتب :
 هل أنبئنا النبي أن أصحابه معصومون؟
المذيع:
 لا.
الدكتور راتب :
 حسناً هذا من عدم عصمتهم وانتهى الأمر، القضية بسيطة.
المذيع:
 أريد أن أستنبط دروساً من هذه المواقف؟

الدروس المستنبطة من مواقف أصحاب النبي :

الدكتور عمر :
 الثلاثة الذين خلفوا يكفي أنهم فضحوا على مر التاريخ رغم توبتهم، لكن هذه ليست فضيحة ولكنها تهذيب للنفس.
المذيع:
 توبتهم قبلت.
الدكتور عمر :
 عوف بن مالك لما وصلته رسالة من ملك الروم بلغنا أن صاحبك قد قلاك فتعال إلينا حيث المنعة. فألقى رسالة ملك الروم في النار.
المذيع:
 على رسلك هذا درس خطر، مرة ثانية؟
الدكتور عمر :
 أرسل ملك الروم إلى عوف بن مالك - أحد الثلاثة - بلغنا أن صاحبك قد قلاك، وكان ابن عمه الجدار على الجدار لا يسلم عليه بأمر من رسول الله. فلو أننا صنعنا هذا في المجتمع مع كل منحرف في المجتمع مهما كان والله لكان رجع.
المذيع:
 أي ملك الروم أراد أن يستغل هذا الظرف لصالحه.
الدكتور عمر :
 تعال إلينا حيث المنعة والرخاء.. أي لجوء سياسي، تعال اهرب، وهذا من الابتلاء، من ضمن الابتلاء المعصية أنني اثاقلت إلى الأرض، وأبيت أن أخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فألقى الرسالة في النار.
المذيع:
 ولم يخرج لملك الروم؟
الدكتور عمر :
 لم يفكر في المسألة، انظر المتدين وطني بطبعه، والذين يقولون إن المواطنة أو حب الوطن عند الملتزمين قليل أقول: كذبتم، الذين لا يقولون: الله ورسوله ويلتزمون بدين الله ليسوا وطنيين.
المذيع:
 المواطنة تقديم الوطن على الدين مثلاً؟
الدكتور عمر :
 لا، أي وطن بدون دين أنا لا أعتبره وطناً.
الدكتور راتب :
 يوجد ملمح دقيق جداً أن الله عز وجل قال:

﴿لَقَد تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهاجِرينَ وَالأَنصارِ الَّذينَ اتَّبَعوهُ في ساعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ ما كادَ يَزيغُ قُلوبُ فَريقٍ مِنهُم ثُمَّ تابَ عَلَيهِم ﴾

[سورة التوبة: ١١٧]

 جبراً لخاطرهم، وترميماً لمشكلتهم، عطف توبته على النبي، وعطف توبتهم على توبة النبي.
المذيع:
 كيف ترى من مرصدك الخاص وأنك جلت في كثير من بلدان العالم صور الجبن في هذا العصر الحديث.

صور الجبن في العصر الحديث :

الدكتور راتب :
 والله الإنسان إذا استغرق في الشهوات يصعب عليه البعد عنها، فالمبالغة في التمتع والرفاه أنا كنت في بلاد الغرب كثيراً، رأيت خاصتين اثنتين؛ يعيشون لحظتهم فقط، وهمهم الأول الرفاه، فالرفاه هو همهم الوحيد لا يوجد رسالة، ولا آخرة، ولا موت.
الدكتور عمر :
 الذي يكيل بمكيالين ولو كانت دولة عظمى من أكبر الجبناء في عصرنا، وفي كل العصور، لماذا يكيل بمكيالين؟ لأنه جبان، لا يريد أن يواجه الحق، الحق له مقياس واحد لا يتعدد، فإذا كلت بمكيالين صرت جباناً.
المذيع:
 قيل لخالد بن عبد الله:

أبا خالد انفر فلست بخالــــد  وما جعل الله عذراً لقاعــــــد
***
قال - وأريد رأي فضيلتك- قال  أبو خالد شعراً نظماً قال:
زاد الحيــــــاة إلـــــــــيّ حبــــــــــاً  بناتي إنهن من الضعـــــــاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي  وأن يشربن رنقاً بعد صــاف
ولولا ذاك قد سومت مــهري  وفي الرحمن للضعفاء كاف
***

صدق التوكل على الله لأن الحياة و الرزق بيده :

الدكتور عمر :
 لو أنه وقف عند الشطر الأخير وما قال الشطرين الأولين لرأينا صدق توكله على الله، لأن الحياة لها أمد -كما قال أستاذنا له عمر محدد- والرزق مكفول عند الله تعالى، أجيبك بالشافعي:

أمطري لؤلؤاً جبال سرنـــــــديب  وفيضي آبار تبريز تبــــــراً
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً  وإن مت لست أعدم قبــــراً
همتي همة الملوك ونفســــــــي  نفس حر ترى المذلة كفراً
***

المذيع:
 كلمة نختم بها، كلمة سيدنا خالد بن الوليد وهو يموت على فراشه فقال: فلا نامت أعين الجبناء، كيف نفهم هذه المقولة؟ كيف نسقطها على الواقع؟

الإنسان كلما ضعف إيمانه ازداد قلقه :

الدكتور راتب :
 الإنسان لا يموت إلا في أجله، لذلك شيئان بيد الله عز وجل الأجل والرزق، وخوف نقص الرزق لا يؤثر على الرزق إطلاقاً، يوجد قلق يصيب ضعاف الإيمان، الإنسان كلما ضعف إيمانه ازداد قلقه، أما المؤمن فمؤمن بأن الله عز وجل سوف يعطيه كل شيء، لأن الحقيقة عندما يقتصر نظري على الدنيا هناك مشكلة، المؤمن إذا رأى مقامه في الآخرة يقول: لم أر شراً قط.
المذيع:
 شيخنا كلمة أخيرة نختم بها بعض الجبناء حينما تواجهه يقول: ليس جبناً لكن أنا أحتفظ بحق الرد؟

على المؤمن أن يقول الحق وأن يقبل الحق ولو كان مراً :

الدكتور عمر :
 هو لن يرد لأن الرد يجب أن يكون في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، أما أن يتخاذل في كل مرة ليحتفظ بحق الرد فسوف يموت، يأتيه الرد.
الدكتور راتب :
 ويتمتع بضبط النفس.
الدكتور عمر :
 أنا أقول: على المؤمن أن يقول الحق، وأن يقبل الحق، ولو كان مراً هكذا كان الشافعي يقول:

علي ثياب لو يباع جميعهــــــا  بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تقاس بمثلها  نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
***

 هذا الإنسان معقول أن يجبن يوماً؟
المذيع:
 لا.
الدكتور عمر :
 قال الحسن البصري: - لما ضغطوا عليه في قضية القضاء- فراقبوه وجدوه يشرب من نهر الفرات، ويأكل من حشيش الأرض، قال له تلميذه: يا سيدي لو خدمت السلطان ما احتجت لهذا؟ قال: وأنت لو قنعت بهذا ما احتجت لخدمة السلطان.

خاتمة و توديع :

المذيع:
 أقول الختام نختم به هذه الحلقة، نلتقي بالحلقة القادمة إن شاء الله، مشاهدينا الكرام وصلنا وإياكم إلى نهاية الحلقة، نلتقي في حلقة قادمة بإذن الله، شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في أمان الله.