وضع داكن
27-04-2024
Logo
الخلفاء الراشدين : سيدنا علي بن أبي طالب 6 - من أقواله وحكمه - 2 حكمة علي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

ما معنى الحكمة ؟

 أيها الأخوة, مع الدرس السادس من دروس سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، ولا زلنا نقـف عند حكمه، وقد يسأل سائل: ما معنى الحكمة؟ هي عبارة عن تجارب إنسانية طويلة، كُثِّفت في كلمات، في مجال العلوم شيءٌ اسمه البحث العلمي، البحث العلمي قد يكون في صفحتين أو في صفحةٍ واحدة، وقد يكون في معادلةٍ واحدة، وقد يستغرق من الجهد البشري ما يزيد عن خمسين عاماً، أو أربعين عاماً، ملخَّص هذه الدراسات, وتلك التجارب, وهذه الملاحظات وتلك الإحصاءات خلال خمسين عاماً تكتب في صفحةٍ واحدة، أيعقل أن صفحةً واحدة استغرقت كل هذه الجهود؟ الحقيقة أن هذه الصفحة مكثفةٌ جداً، وكذلك الحكمة، الحكمة كلامٌ موجز وبليغ، لكن الإنسان خلال حياته كلها يخطئ ويصيب، وفي نهاية المطاف يستنتج حقائق يصبّها في حكمٍ بليغة وموجزة، فإياكم أن تستهينوا بهذه الحِكم، إنها خلاصة معرفةٍ بالله، وخلاصة تطبيقٍ لمنهجه ، وخلاصة تفاعل من معطيات البيئة, ومن أشخاصٍ, ومن ظروفٍ, ومن أشياء كثيرة .
 فهذا الصحابي الجليل كان حكيماً، وقد وصفه النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: " أنا مدينة العلم وعليٌ بابها " .

من كمال العقل ورشده :

 اسمعوا مني هذه الحقيقة، كلما ارتقى الإنسان يستفيد من تجارب الآخرين، وكلما هبط مستواه لا يستفيد من هذه التجارب، هناك مبدأ يقول: " الإنسان لا يتعلم إلا من تجربته الشخصية " فمهما استمع إلى حقائق أو إلى حِكم أو إلى ملاحظات أو إلى توجيهات فإنه لا يتعلّم تعلماً حقيقياً إلا إذا عانى معاناةً مؤلمةً، هذا القول ربما استُنِبط من واقع معظمِ الناس، لكن نخبةَ الناس، لكن الصفوة من الناس تستطيع أن تستفيد من تجارب الآخرين، أي أن الإنسان أحياناً لا يتعلم إلاّ بعينه، لكن إذا ارتقيت تتعلم بعقلك، فقد تدرك الخطر قبل أنْ يقع، وتأخذ حذرك منه، أما الذي لا يتعلم إلا إذا واجه الخطر فهذا إنسان ضعيف العقل .

إليكم مغزى هذه القصة :

 القصة التي أرويها على مسامعكم كثيراً, وهي قصة السمكات الثلاث، الكيسة والأكيس منها والعاجزة، الكيسة هي العاقلة، والأكيس الأعقل، والعاجزة الغبية، فحينما مرّ بهذا الغدير صيادان تواعدا أن يرجعا, ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، سمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوَّفت, وقالت: العاقل يحتاط للأُمور قبل وقوعها، ولم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت .
 فمَن هو العاقل؟ هو الذي يتخيل الخطر قبل أن يواجه الخطر فإنه يتخيله تخيلاً، ومَن هو الطالب الذي ينال الدرجة الأُولى على القطر في الشهادة الثانوية؟ هو الذي يتخيل الامتحان قبل سنوات ثلاث، أي من الصف العاشر، وبالمناسبة إن التخيل من خصائص الإنسان، وهي نعمةٌ كبيرةٌ أنعم الله بها علينا، وبإمكان خيالك أن يصل إلى الخطر قبل أن تصل إليه أنت، فالعاقل هو الذي يتخيل المستقبل فيتكيف معه منذ الوقت الحاضر، هذا هو العاقل, وأما الكيِّسة فمكثت في مكانها، دائماً الأقل عقلاً يرجئ ويسوِّف، غداً أتوب، غداً أُهيئُ البيت لفصل الشتاء، يقول لك: الدنيا صيف فيأتي البرد فجأةً، وكل شيء في البيت لا يصلح لفصل الشتاء، الأقل عقلاً يرجئ ويرجئ ويسوّف، فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها، فإذا بالمكان قد سُد, فقالت: فرَّطت، وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقلَ لا يقنط من منافع الرأي، وتعلمون النتيجة، ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء، وأخذها الصياد وأمسكها بيده، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت .
 يمكن أن أقول لكم: العاقل يعيش مستقبله، والأقل عقلاً يعيش واقعه، والغبي يعيش ماضيه، فإذا كنت عاقلاً يجب أن تعيش في مستقبلك، وأخطر حدثٍ في مستقبلنا هو حدث الموت، مغادرة الدنيا إلى أين؟ ماذا في القبر؟ ماذا بعد الموت ؟.

هذا هو الإنسان المستدرج :

 يقول هذا الصحابي الجليل سيدنا على بن أبي طالب كرم الله وجهه: " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه، ومغرورٌ بالستر عليه، ومفتونٌ بحسن القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه وتعالى أحداً بمثل الإبلاء له ", إنسان أحسن الله إليه أتم عليه الصحة، رزقه رزقاً وفيراً، أعطاه قوةً كبيرةً، رزقه زوجةً وأولاداً، يقول هذا الإنسان: لولا أنّ الله يحبني لما أكرمني؟ هذه مقولةٌ خاطئة، لا تستطيع أن تقول هذا الكلام إلا إذا نظرت إلى عملك، فإن كان على منهج الله عزَّ وجل فأنِعْم وأكرِمْ بهذا الكلام، بإمكانك أن تعدّ النعمَ التي تكرّم الله بها عليك نعماً حقيقيةً، أما مع الصحة أن تكون هناك معاصي، مع الصحة تجاوزات، مع الصحة الدخل المشبوه، وتقول: الصحة مِن نِعَمِ الله علي، لا، فأنت مستدرَج، ليست هذه نعمة، إنما هي استدراج .
 بالمناسبة أيها الأخوة, ما من إنسانٍ إلا وهو ممتحنٌ في الحياة الدنيا مرتين، مرةً بما أعطاه الله، ومرةً بما حرمه الله، فالذي أعطيت إياه أنت ممتحنٌ به، والذي سُلب منك فأنت ممتحنٌ به، أعطاك صحةً، أحد مواد امتحانك الصحة، أعطاك مالاً، أحد مواد امتحانك المال، حرمك المال، حرمانك من المال امتحان، ماذا تفعل؟ أتأكل مالاً حراماً؟ أتسخط على قضاء الله وقدره؟, وطِّنوا أنفسكم على أنكم ممتحَنون, لهذا قالوا: " الحظوظ توزع في الدنيا توزيع ابتلاء لتوزَّع في الآخرة توزيع جزاء " .
 إن كنتَ ثريًّا فأنت لست على الله كريماً، ولست وضيعاً، هذا أمرٌ حيادي، لا تعرف إذا كان هذا إكراماً أم نقمةً إلا بإنفاقك للمال، فالحظوظ كلها حيادية، وهي في الوقت نفسه درجاتٌ ترقى بها، أو دركاتٌ تهوي بها .
 والشيء الذيُ يضِحك أنّ أهل الغنى، وأهل القوة، وأهل الوسامة، هؤلاء يتوهمون أن الله يحبهم كثيراً، ولولا أنه يحبهم لما جعلهم بهذا الوضع، وكلمة العوام الشائعة أي أن الله عزَّ وجل إذا أحب عبده أرجاه ملكه, يذهب يسافر إلى بلاد أجنبية، يرتكب كل المحرمات، ينسى ربه، ينغمس في الشهوات المنحطة، وفوق هذا يقول: إذا الله أحب عبده أرجاه ملكه, هذا كلام مضحك, " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه ومغرورٌ بالستر عليه "، الله ستِّير، وهو من أسمائه الحسنى، لكن هذا السِّتر ليس إلى مالا نهاية، فإذا استخف الإنسانُ بستر الله عزَّ وجل يفضحه في عقر داره، إذا استخف بستر الله عزَّ وجل يفضحه بطريقة غريبة، هذا الذي يُكِنُّه يظهر للملأ، هذا الذي يخفيه يشيع عنه، إذًا: " ما أسر عبدٌ سريرةً إلا ألبسه الله ثوبها " .
 لما ربنا عزَّ وجل يعاقب الإنسان، قد يسأل: لماذا عاقبني ربي؟ أما إذا أكرمه وليس بالمستوى المطلوب، فهذا استدراج، وربنا عزَّ وجـل قال:

﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾

( سورة القلم الآية : 44-45)

 لماذا قال متين؟ متين كلمة يعرفها أخوتنا الفيزيائيون، المتانة صفة في الجسم تقاوم قوى الشد، أما القساوة صفة في الجسم تقاوم قوى الضغط، الإسمنت يتحمل السنتيمتر مكعب فوقه مئتي كيلو ، وإذا كان صب بطريقةٍ صحيحةٍ أصولية يتحمل خمسمئة كيلو، لكن هذا السنتيمتر مكعب للإسمنت لا يتحمل خمسة كيلو على الشد، خمسة كيلو ينقطع، من خمسمئة كيلو إلى خمسة، لذلك الإسمنت لا بد له من تسليح بالحديد، كي يقاوم قوى الشدِّ لا قوى الضغط، أحيانًا تجد دعامة حاملة بناء ثلاثة عشر طابقًا، أستغرب، حجم الدعامات قليل، وتحمل بناءً ضخمًا، الإسمنت يتحمل قوى الضغط، ولا يتحمل قوة الشد، وربنا قال:

﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾

( سورة القلم الآية: 45)

 كأن كيد الله عزَّ وجل حبلٌ مرخى، فهذا الحبل المُرخى يظنه الإنسان أنه ليس حبلاً، هو طليق يقول لك: أين الله؟ يأكل المال الحرام، ينهش أعراض الناس، يظلم، يتكبر، ينتقل من مائدة حمراء إلى مائدة حمراء، من ليلة حمراء، إلى ليلة حمراء أخرى، ومن مائدة خضراء إلى مائدة خضراء غيرها، ومن مقصف إلى ملهى، ويقول لـك: أين الله؟ إنّ كيدي متين، حينما يأتي أمر الله عزَّ وجل إذا هو في قبضة الله لا يلوي على شيء .
 أيها الأخوة, " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه مغرورٌ بالستر عليه، ومفتونٍ بحسن القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه وتعالى أحداً بمثل الإبلاء له ", فأنا لا أكتمكم أن المصيبة الآن بعد هذا الشرح أقل خطرًا مِن العطاء، لأن الإنسان بالمصيبة يتنبه، ماذا فعلت حتى ساق الله لي هذه المصيبة؟ فإذا كان وضعُ الإنسان وسطًا، وعنده مجموعة متاعب، واللهُ يحاسبه حسابًا عسيرًا، ويتتبعه على أدقّ الخطرات، فهذا من كرامته على الله .

من أبواب الرزق :

 قال: " إذا أملقتم فتاجروا بالصدقة ", إذا كان الإنسان يشكو من قلةٍ في دخله، هناك مجموعة وصفات، مجموعة وسائل تنمي هذا الدخل:

1- استقم على أمر الله، لقول الله عزَّ وجل:

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾

( سورة الجن الآية : 16-17)

2- كن أميناً أمانةً مطلقة:

 فالأمانة لا تتجزَّأ، سكرةٌ صغيرة، وأنت في محل سكاكر، وهناك عشرات، بل مئات، بل ألوف الأوزان والأنواع، هذه السكرة لا تأكلها بغير حق، لأن الأمانة لا تتجزأ، قال عليه الصلاة والسلام:

" الأمانة غنى ".

( ورد في الأثر)

 إذا كنت أميناً، ووَثِق الناس بك، أعطوك كل ما تريد، فإذا شعروا أن فيك خيانةً، أثمن وأعظم رأس مال تملكه، ما هو؟ أن يثق الناس بك, ثقة الناس لا تأتي باليسير، الإنسان يمر بتجارب كبيرة جداً، ويمتحن امتحانات كبيرة جداً، إلى أن يستقر في أذهان الناس أنه أمين، وأنه كفؤ موثوق، لذلك إذا أملقتم، يعني إذا افتقر الإنسان، فأول شيء عليه أنْ يستقيم، لقول الله عزَّ وجل:

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾

( سورة الجن الآية : 16-17)

3- أن يصل الرحم:

 لأن صلة الرحم تزيد في الرزق .

4- أنْ يتقن عمل:

 لأن إتقان العمل جزءٌ من الدين، وهو سببٌ في ترويج حرفتك وصناعتك ودخلك، فماذا بقي؟ الصدقة، استمطر الرزق بالصدقة، كلما ضاقت بك الأمور تصدق على نية أن ترزق بهذه الصدقة، وهذا ما قاله الإمام عليٌ كرم الله وجهه: " إذا أملقتم، فتاجروا بالصدقة " .

علاج الجسد :

 يقول هذا الإمام الجليل: " صحة الجسد من قلة الحسد ", الحسود عليه ضغوط نفسية، يسميها العلماء الآن الشدة النفسية، أول سؤال لمريض القلب: هل تعاني مشكلة؟ لأن هذه المشكلة تسبب جلطة، هذه المشكلة تسبب ارتفاعًا في ضغط الدم، هذه المشكلة تسبب ارتفاعًا في السكر، هذه المشكلة تسبب ارتفاعَ آلامٍ في العضلات، الآن الطبُّ الحديث يبحث عن الأسباب النفسية للأمراض العضوية، فهذا الصحابي الجليل, يقول: " صحة الجسد من قلة الحسد ", لكن صحة النفس، ما أساسها؟ التوحيد، فالتوحيد مريح، الدليل القرآني:

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾

( سورة الشعراء الآية : 213)

 إذا أيقنت أن لهذا الكون إلهاً واحداً، وهو سميعٌ، بصيرٌ، عليمٌ، حكيمٌ، غنيٌ، قويٌ، عادلٌ ، رحيمٌ، وأن أمْرَك كلَّه عائدٌ إليه ترتاح, قال تعالى:

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

( سورة هود الآية : 123)

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾

( سورة الزخرف الآية: 84)

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾

( سورة الأعراف الآية : 54)

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾

( سورة الزمر الآية : 62)

﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

( سورة هود الآية : 56)

﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

( سورة الكهف الآية : 26)

 إذا أيقنت هذا اليقين فعلاقتك مع الواحد الأحد فقط، كل هؤلاء صور، وكل هؤلاء الأشرار المخيفون عِصِيٌ بيد الله, صدق القائل:

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجب نا فإنا منحنا بالرضى مَن أحبنا
ولذ بحمانا واحتمِ بجنابنـــا  لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

 أيها الأخوة, إنّ المؤمن الصادق المستقيم يتمتّع بنعمةٍ، واللهِ لا تعدلها نعمة، إنها نعمة الأمن، قال تعالى:

 

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾

 

( سورة الأنعام الآية : 81-82)

 أربع كلمات أقولها لكم: الطب النفسي أساسه التوحيد، والطب الطبيعي أساسه بذل الجهد ، والطب الوقائي أساسه الاعتدال في كل شيء، والطب العلاجي أساسه استعمال الدواء .

شيئان متناقضان :

 يقول هذا الإمام الجليل: " مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة ", الإنسان في الدنيا إذا كان غارقاً في شهواته، هذه حلاوةٌ ولا شك، و لكن تعقبها مرارةٌ إلى يوم القيامـة وإلى أبد الآبدين، بينما لو أنك تحمَّلت بعض متاعب الإيمان تمتعت وسعدت بجنةٍ عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين .
 هناك أمثلة في الدنيا، لو أنّ إنسانًا درس دراسة عالية جداً، واختص اختصاصًا نادرًا، ودرس ثلاثة وثلاثين سنة، ولا ينام الليل، ودخل امتحانات، وقدَّم فحوصًا، وخضع لتجارب، وخضع لأمزجة مدرسين متنوعة، وكان همُّه الأولُ أن ينجحَ في الامتحان، ليحتل منصبًا رفيعًا، أو مهنة راقية، ليأتيه دخلٌ وفير بجهدٍ قليل، هذا الدخل الوفير مع الجهد القليل ثمنُه الليل الطويل، وإذا التفــت الإنسان إلى أيام دراسته، يأتي عليه وقت يرى أن كل الناس هو أفضل منهم، فقد أضر بآخرته, فلذلك عَن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

" مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى " .

(أخرجه الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري في مسنده )

عرفت الله بنقض العزائم :

 وهذا الإمام العظيم يقول قولاً رائعاً: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " الإنسان قد يخطط، ويدرس الأمر دراسة جيدة، ويغطي كل الاحتمالات، يأخذ بكل الأسباب، يعتمد على قوته, وعلى ذكائه, وعلى أعوانه, وعلى ماله, وعلى رأي من حوله، وينسى الله عزّ وجل، أي أنه يعتمد على هذه الأسباب كلها، فلو أن الله عزّ وجل حقق له مراده, لقال لك: أين الله؟ مثل هذا الإنسان الذي يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، مثل هذا الإنسان يعالج بنقض هذه العزائم كلها، فتجده على الرغم من كل الاحتياطات التي أخذها، ومن كل الأسباب التي فعلها، ومن كل التدابير التي دبَّرها يصابُ بفشلٍ وإخفاقٍ من جهةٍ لم تخطر له على بال .
 أنا أعرف رجلاً لا داعي إلى وصف مزاياه الدنيوية، بلغ إنْ صحّ التعبير إلى قمة النجاح في الدنيا، مِن عشرين إلى ثلاثين مؤسسة تجارية وصناعية مِلْكُه الشخصي، موظفون يتحركون بإشارةٍ منه، المركبات، الصحة الطيبة، فتشعر أنّ الدم يكاد أن يخرج من جلده من شدة تورده، والطعام الذي يأكله، والقوة التي يتمتع بها، والأنصار مِن حوله، أعرفه جيداً، اعتمد على ذكائه، وعلى أعوانه، وعلى اتصالاته، وعلى أمواله المنقولة وغير المنقولة، دخل الحمامَ فرأى القاطع الكهربائي غير صالح، فجاء بإنسان يصلحه له، فقال له: سيدي إنه منخفضٌ، هل أرفعه لك ؟ فقال له: ارفعه، في اليوم التالي تعطلت الكهرباء في بيته فجاء ليحرك القاطع الواصل، ولكن القاطع صار أعلى من طوله فطلب كرسيًا من ابنته في البيت، فلما صعد على الكرسي اختل توازنه، ودخلت إحدى أرجل هذا الكرسي في مقعدته، أُخذ إلى المستشفى، وبقي فيها عشرين يوماً ، زاره أكثر من عشرين طبيباً، وقد انتهى أجلُه بهذه الحادثة، وأصيب بتسمم في الدم لأتفه سبب، قال سيدنا عليٌّ: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " .
 هذا الكلام خطير جداً، فحينما تأخذ بالأسباب وتعتمد عليها فلا بدّ أن يكشف اللهُ لك الحقيقة، أن هذه الأسباب التي اعتمدت عليها والتي عبدتها من دوني لن تنفعك أبداً, وسوف تفاجأ بأن نقضها على الله يسير: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " .

أي الأعمال أفضل ؟

 قال: " أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه ", علمونا في الجامعة أن الطرق التربوية الصحيحة تقاومها النفس، الآن في الدراسة أهون شيء هو أن تفتح الكتاب، وتضجع على السرير وتقرأ، يقول لك: أنهيت سبعين صفحة، وهذا شيء جميل، أعد لنا صفحة، لا تتذكر شيئًا، لأنه يقرأ، ويقلب الصفحات، هذه الطريقة سهلة جداً، وتحبها النفس، لكن الطريق الصعبة هي أن تفتح الكتاب، وأن تمسك بالقلم والمسطرة، والدفترُ أمامك، والفكرة الدقيقة تضع تحتها خط، ولها رقم، وهذه الفقرة تلخَّص في الهامش، وهنا أُسلوب رائع أن تشير بالقلم الأحمر إلى هذه الجملة الهامة، الدراسة بهذه الطريقة تقاومها النفس، تحتاج إلى جهد كبيرٍ، لكن هذه هي الدراسة المجدية فقط، أما تلك القراءة السريعة فلا غناء فيها، العلماءُ أجروا بعض التجارب، فوجدوا أنَّ ثلاثة وتسعين في المئة مما قرأته قراءةً سريعة تنساه بعد أُسبوعٍ واحد .
 أخواننا الطلاب, هذه القراءةُ مضيعةٌ للوقت، فالطرق التربوية الصحيحة تقاومها النفس، اجلسْ مثلاً أمام آلة كاتبة بأصبع واحد، لو تضرب ثلاثين سنة فإنك تحتاج لإنجاز الصفحة الواحدة ساعة، أو ساعة ونصف، بينما إذا دخلت مكتب تعليم الضرب على الآلة الكاتبة فممنوع أنْ تكتب بإصبع واحد، بل عليك أنْ تكتبَ بالعشرة، يا أخي ضعت، بل إنَّ الطريقة الصحيحة أنْ تكتب بالعشرة، اذهب إلى ضاربي الآلة الكاتبة المحترفين، ترى شيئًا عجيبًا، ترى أنَّ عينه على الورقة فقط، والصفحة الكبيرة تأخذ من وقته ثماني دقائق فقط، فالطرق التربوية الصحيحة دائماً تقاومها النفس، والنفس تشبه عملَ إنسانٍ وضع الأُنبوبَ بالصنبور، وفتح ليسيل الماءُ، لكن في الأنبوب ثقب، فإنَّ الماء يخرج من الثقب، ولا يكمل بل يستقرب، عندما يصير مع الإنسان ثقب بوتال مفتوح هذا الثقب بين الأُذينين إذا كان مفتوحًا يصير معه مرض يسمى الزرق، لأن القلب عندما يضغط ليضخ الدم إلى الرئتين ما دام يوجد فتحة بين الأُذينين فينتقل الدم للأُذين الآخر دون الذهاب إلى الرئتين، السوائل دائماً تختار الطريق الأقصر، إذا كان عندك حاقنة وبربيش أملأها ماءً، واثقب هذا البربيش في مكان قريب من الحاقنة واضغط، الماء يخرج من الثقب الأقرب لا من الأبعد، والنفس هكذا تميل إلى الطرق السهلة في الدراسة وفي التعامل، وحتى في الدين، يقول لك: يا أخي أنا قمت بثلاث وثلاثين عمرة، واللهِ العمرة جميلة، تركب في الطائرة وتنزل إلى الفندق, وإذا كان لك ابن في جدة، تأكل وتشرب فهي نزهة، وطواف حول الكعبة، هذه هي العمرة ، ولكن تأتي وتغض بصرك عن النساء هذه هي البطولة، فالمسلمون الآن يبحثون عن الأشياء السهلة، فالصلاة لا تكلف شيئًا، والعمرة لا تكلف شيئًا, نريد أن ننظر إليه في الدرهم والدينار أوقَّافٌ هو عند حدود الله، وفي البيع والشراء, وغضِّ البصر، والعلاقات الاجتماعية؟ ألديه التزام في كل هذا؟ هذا هو الدين .
 ذات مرةٍ قلت لكم: كل إنسانٍ بإمكانه أن يفعل صالحاً، لكن ليس بإمكان كل إنسان أنْ يستقيم، قد تكون له أعمال كثيرة جداً وطيِّبة، ولها عند الله أجر كبير، لكن ليس منضبطاً بأوامر الشرع، إذًا: " أفضل الأعمال ما أكرهــت نفسك عليه "، هناك أعمال طابعها مادي، وهناك أعمال طابعها نفسي، الأعمال النفسية تحتاج إلى مجاهدة، أما المادية فلا تحتاج إلى شيء من هذا.

لا تخيب ظن أخيك فيك :

 يقول هذا الإمام الجليل: " من ظن بك خيراً فصدِِّق ظنه ", قالوا: إن أبا حنيفة النعمان رضي الله عنه كان يمشي في الطريق، فقال أحدهم للآخر: هذا الرجل الذي لا ينام الليل، لكنه في الحقيقة ينام الليل، فاستحيا من الله عزّ وجل أنْ يظنه الناس بورعٍ أعلى من ورعه الحقيقي، ويروي التاريخ أنه منذ تلك الليلة صار يحيي الليل، وينام في بعض وقت النهار، يحيي الليل بالعلم وبالصلاة وبالذكر، شيء صعب جداً أنْ يظنك الناسُ في مكان, وأنت دون هذا المكان، أن يظنك الناس بهذا الحجم, وأنت لستَ بهذا الحجم .
 كنت أقرأ كتاباً فلفت نظري فيه أربعة أدعية, وردتْ في مقدمته، أعجبتني أيَّما إعجاب: " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحداً أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيءٍ يشينني عندك، وأعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك " .
 قال: " مَن ظنَّ بك خيراً فصدِّقْ ظنه "، أحياناً الإنسان يظن فيك ظنًّا طيِّبًا، فأنت لا تخيِّب ظنه .

الظلم رهنه الانتقام من الله , والشيء المغصوب رهنه الخراب :

 يقول هذا الإمام الجليل: " يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم " , عندما يحين الوقت لينتقم اللهُ من الظالم لصالح المظلوم هذا اليوم أشد على الظالم من يومه على المظلوم، عندما كان يتعالى أو يتجبَّر أو يتشفى منه .
 ويقول هذا الإمام الجليل: " الحجر المغصوب في الدار رهنٌ بخرابها ", أي أنّ حجرًا واحدًا مغصوبًا في دار طويلة عريضة ذات طوابق كثيرة، هذا الحجر وحده ربما كان سبب خراب هذه الدار، رأس مال طويل عريض فيه مبلغ قليل من المال الحرام يكون سببًا لِمحق المال كلِّه .
 مرة قال لي شخص: احترق سوق بأكمله، وآخر دكان احترقت دكانُه، أي أنّ الحريق بدأ في الساعة الثالثة ليلاً، ومحلّه احترق في الساعة الثامنة صباحاً، سوق بأكمله احترق، فقال: والله لو أن أحداً اتصل بي هاتفياً لأعطيته على هذا الخبر مئة ألف ليرة، وكان هذا سنة السبعين، لأن مجموع البضاعة التي احترقت ثلاثة ملايين، وكان في الصندوق ثمانمئة ألف، واحترق الصندوق بما فيه، فالخسارة أربعة ملايين، ثم قال لي: أنا لي في التجارة ثلاثون عام، في هذه الأعوام كنت أحلف يميناً كاذبة، واجمع المال الذي لا يرضي الله عنه، وكانت هذه نتيجته .
 فإذا كان لدى الشخص أموالٌ، وجزء منها حرام ربما هذا الجزء الصغير أتلف الكمية الكبيرة، هذا كلام دقيق: " الحجر المغصوب في الدار رهنٌ بخرابها "، المبلغ الصغير في المبلغ الكبير رهنٌ بتلفه .

من هما العاقل والجاهل برأي الإمام علي بن أبي طالب ؟

 قيل لهذا الإمام العظيم: " صف لنا العاقل؟ فقال: هو الذي يضع الشيء مواضعه، فقيل له: صف لنا الجاهل؟ قال: قد فعلت ", البلاغة بالإيجاز، لأنه ما دام العاقل يضع الشيء في مواضعه، فالجاهل يضع الشيء في غير مواضعه، فمَن هو الحكيم؟ هو الذي يضع الشيء في المكان الصحيح، أن تضع الشيء المناسب في المكان المناسب، وبالقدر المناسب، وفي الوقت المناسب، هذه هي الحكمة:

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

( سورة البقرة الآية : 219)

 انظر أيها الأخ، فأنت بالحكمة تجلب المال، وبعدم الحكمة تتلف المال، بالحكمة تتعايش مع الجسم العليل، أنا أعرف شخصًا من خمسة وثلاثين عامًا، معه آفة بقلبه، يقول لك: دارِهِ تستأنس به، حكيم جداً، لا يتعب نفسه، بعيد عن الهزات النفسية، أكلُه معتدل، يعيش مع قلبه بالحكمة، وإنسان آخر أحياناً يتلف نفسه بثلاثة وثلاثين عامًا، فأنت بالحكمة تتعايش مع مرضك، وبالحمق تتلف صحتك، بالحكمة تجعل المرأة السيئة صالحة، وبالحمق تجعل الصالحة سيئة، لذلك: " صف لنا العاقل؟ قال: هو الذي يضع الشيء مواضعه، فقيل له: صف لنا الجاهل؟ قال : قد فعلت ".

ما معنى الحياة الطيبة كما وردت في الآية برأي الإمام ؟

 سئل كرَّم الله وجهه كما ورد في نهج البلاغة عن قوله تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

( سورة النحل الآية : 97)

 ما معنى الحياة الطيبة؟ قال: " هي القناعة ", لأن الإنسان إذا قنع بما آتاه الله سعد به، لأنه معظم الناس أدركوا الحدَّ الأدنى من الحياة, قال عليه الصلاة والسلام:

" إذا أصبحت آمناً في سربك، معافى في جسمك عندك قوت يومك، فكأنما ملكت الدنيا بحذافيرها " .

( ورد في الأثر)

 لك غرفة صغيرة، فيها فراش وثير نظيف، مدفأة دافئة، تأكل الطعام الطيِّب، وتلبس ثيابًا نظيفة، وعندك أولادك وزوجتك، ألم يقل الملك لوزيره: من الملك؟ فاستغرب الوزير, وقال له: أنت الملك، فقال له: لا، الملك رجلٌ له بيتٌ يؤويه، وزوجةٌ ترضيه، ودخلٌ يكفيه، وهو لا يعرفنا ولا نعرفه ", هذا هو الملك .

من جعل همه الدنيا فرق الله عليه أمره :

 ويقول هذا الصحابي الجليل: " من أصبح على الدنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً ", حزين على الدنيا، وقيل عن سيدنا الصديق: انه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط، وربنا قال:

﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾

( سورة يونس الآية : 58)

 افرح بالعطاء الإلهي، افرح بالعلم، افرح بالحكمة، افرح بمعرفة الله، افرح بفهم القرآن، افرح بالعمل الصالح، افرح بطلاقة لسانك في ذكر الله عزّ وجل, " من أصبح على الدنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً، ومن أصبح يشكو مصيبةً نزلت به فقد أصبح يشكو ربه، ومن أتى غنياً فتضعضع لغناه ذهب ثلثا دينه، ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط منها بثلاث، همٍ لا يفارقه وحرصٍ لا يدركه, وأملٍ لا يبلغه ", ومعنى التاط منها بثلاث, أي أصابته الدنيا بثلاث فواقر .

بادرة التعلم :

 يقول هذا الإمام الجليل: " إن لم تكن حليماً فتحلَّم فإن من تشبه بقومٍ أوشك أن يكون منهم", وهذا الموضوع ذكرته مِن قبْل بالتفصيل: " الحلم سيد الأخلاق، وكاد الحليم أن يكون نبياً " فإذا لم يكن الإنسانُ حليمًا فلْيتحلَّم، يغلي مثل المرجل مِن الداخل، لكنه ضابط لأعصابه، وهذه نعمة، وهذا إنسان عظيم، لأنه يعاكس نفسه، هذا هو التحلُّم، التحلُّم ثمن الحلم، إذا أردت أن تكون حليماً أصالةً فعليك بالتحلم وكالةً، تتحلم وكالةً تصبــح حليمًا أصالةً، لأن الحلم خلقٌ يتفضَّل الله به عليك، وكما يقولون: " إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلُقاً حسناً " .
 فالحلم الحقيقي من الله، لكن ثمن هذا الحلم الحقيقي أن تتصنع الحلم: " إنما الحلم بالتحلم وإنما الكرم بالتكرم, وإنما العلم بالتعلم ".

نطاق العلم واسع :

 قال: " كل وعاءٍ يضيق بما جُعِل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع به ", الذي عنده مستودع للوقود السائل يسع ألف لتر، أخي بحبح المقدارَ، لا يتسع ولا للتر زائد، فهذا الوعاء المادي محدود السعة، لكن الإنسان لو يقرأ ألف كتاب, لو يقرأ مئة ألف كتاب، فعنده سَعة، الحاسوب له سعة, يقول لك: هذا مئتا ميغا، هذا ثلاثمئة ميغا، يوجد له سعة ينتهي عندها، سبحان الله إلا الإنسان مهما طلب العلم فإن هذا الدماغ يتسع من دون حدود، وميزة العلم أنك إذا أنفقته يزداد، فمِنَ الممكن أنْ يكون عندك وعاء فيه شراب لذيذ، تملأ منه كأسًا، وتعطيها للضيف، فهل يزيد الوعاء؟ لا، بل ينقص، قال: " يا بني المال تنقصه النفقـة، والعلم يزكو على الإنفاق "، " مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة " .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور