وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخلفاء الراشدين : سيدنا عمر بن الخطاب 6 - سعة إدراكه وبعد نظره وصدق فراسته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

لست بالخب ولا الخب يخدعني :

 أيها الأخوة الكرام, ولا زلنا مع سيدنا عمر بن الخطاب, ومع الدرس السادس من دروس سيرته، وحديث اليوم عن جانب من جوانب شخصيته، ألا وهو تألق فهمه، وحدّة ذهنه، وصدق فراسته, والمؤمن بشكل أو بآخر يمثِّل هذا الدين، ولا يستطيع المؤمن نشرَ هذا الحق إلا إذا كان على جانب من الإدراك العميق، والفهم الحاد، لقوله تعالى:

﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾

( سورة الأنعام الآية: 83 )

 لكلِّ مؤمنٍ نصيبٌ من هذه الآية، المؤمن لديه حجة، عنده منطق، معه دليل، معه برهان ، إدراكه دقيق، فهمه عميق، تصوُّره صحيح، رؤيته ثاقبة، قراره حكيم، هذا الجانب العقلي للمؤمن، لأن المؤمن كما تعلمون شخصيةٌ متميِّزة، فيه جانب نفسي أخلاقي، وفيه جانب سلوكي بناء .
 فسيدنا عمر مثَّل شخصيَّته، أو جانبه الإدراكي بكلمةٍ رائعة، فقال: " لست بالخِب، ولا الخَبُّ يخدعني"، يعني ذكاؤه ليس شيطانياً، ولا عدوانياً، ولا استغلالياً، ولا انتهازياً، هناك أذكياء يستغلون ذكاءهم لمآربهم الشخصية، ولمكاسبهم الدنيوية، ولكنه ذكاء رحماني، فهو ليس من الغباء حيث يخدعه الخِب، وليس من الخُبث حيث يخدع، لا يَخْدَع ولا يُخْدَع، هذا الموقف المثالي، فما من عبارةٍ أدق وأوضح من هذه العبارة، وينبغي على كل مؤمنْ أن يكون في هذا المستوى .
 وقد يقول قائل: أليست القدرات منتهية مبتوتًا فيها؟ أليست قدرات الإنسان محدودة؟ الجواب: لا, هذه نظرية قديمة باطلة، فالإنسان فيه طاقات مخبوءة إذا أتيحت له الظروف الجيدة فجَّرتها، فأنت إذا صدقت مع الله عزَّ وجل أعطاك قدرات لا تحلم بها، وهذا هو الإيمان، فالله عزَّ وجل يعطيك من القدرات ما يعينك على تحقيق أهدافك .

من شهادات الصحابة لعمر على فهمه للأمور والفقه في الدين :

1 - شهادتا عائشة وابن مسعود :

 السيدة عائشـة رضي الله عنها وصفته مرةً, فقالت: " كان والله أحوزياً, نسيج وحده، قد أعدَّ للأمور أقرانها " أي سريع الإدراك, حاد الخاطر، فالموفَّقون في الحياة، المتفوقون العقلاء الأفذاذ هم الذين يعدّون للأشياء أقرانها، للملمات ما يكافئها، للمستقبل ما يغطيه .
 ويقول عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " كان عمر أعلمنا بكتاب الله, وأفقهنا في دين الله"، يقول لك أحدهم: أنا ليس شغلي العلم، فأنا تاجر، وآخر أنا عملي مدير ناحية، لا أفهم في الدين، لكن سيدنا عمر قمة المجتمع الإسلامي فهو حاكم، وفي الوقت نفسه كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، فهذا شيء رائع جداً، فهذا العلم فرض عين على كل إنسان، هناك أشخاص يترنمون بقولهم: أنا صيدلي، أنا طبيب، أنا رجل علم ولكني لست رجل دين، تفتخر أم تلوذ هاربًا، هذا وسام شرف أم وصمة عار؟ والله هذه وصمة عار، لأن طلب العلم فرض عينٍ على كل مسلم؛ طبيب، مهندس، مدير ناحية، محافظ، تاجر .
 فهل من الممكن لإنسان يقعد مكان قائد الطائرة، والطائرة فيها أربعمئة راكب، وفيها أجهزة معقدة جداً؟ مستحيل، والله في الحياة هناك مطبَّات أصعب من قيادة الطائرة أصعب بكثير، هل يمكن أنْ تنطلق في الحياة من دون معصية؟ يجب أن تكون عالماً، فالعلم لكل مؤمن، فنحن في الإسلام ليس عندنا طبقة رجال دين، نحن عندنا مسلم، "ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه " ، وكل واحد منكم يجب أن يكون ولياً لله، وتعريف الولي سهل جداً, قال تعالى:

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾

( سورة يونس الآية: 62-63 )

 اتضح الأمر جلياً، اتق الله فأنت ولي، وليس فوق هذا التعريف تعريف، فهذا تعريف قرآني .

2- شهادة النبي له :

أما النبي عليه الصلاة والسلام, قال:

" إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبِه " .

( ورد في الأثر)

 هذه شهادة، إذا شهد لك النبي فهذه أعظم شهادة، أحياناً إنسان يفتخر بأستاذه, فيقول: الدكتور الفلاني علَّمنا في الجامعة، عندما يكون الإنسان مؤمنًا، ويكون تلميذًا للنبي عليه الصلاة والسلام فهذه أكبر شهادة يحوزها .

موافقات عمر :

 عندنا في السيرة شيء اسمه موافقات عمر، فكان سيدنا عمر يتمنى شيئًا فينزل به قرآن ، وهذه من خصائص هذا الصحابي الجليل، لذلك قالوا: " سيدنا عمر له موافقات

"، فمرة قال للنبي عليه الصلاة والسلام: " يا رسول الله, أليس هذا مقام إبراهيم أبينا؟ قال : نعم، قال: لو اتخذناه مصلى، فما هي إلا أيام حتى جاء الوحي بالآية الكريمة

( ورد في الأثر)

﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾

( سورة البقرة الآية: 125)

 كذلك تمنى أن يأتي تشريع ينظم علاقة الأبناء بالآباء في الدخول على آبائهم وأمهاتهم، فنزلت الآيات تبيِّن أدب الابن في الدخول على أبيه وأمه, قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾

( سورة النور الآية: 58)

 فكلما تمنى شيئاً يأتي الوحي مؤكداً له، هذا من صدقه مع الله ومن شدة إخلاصه، من أجل هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:

" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي الهادين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "

( أخرجه ابن ماجه عن العرباض بن سارية في سننه )

 إذاً: إذا اجتهد سيدنا عمـر اجتهادًا، فاجتهاده هذا يضاف إلى السنة، وملحـق بها، لعظم هذا الصحابي الجليل .

من كلمات عمر :

 كان إدراكه عميقًا جداً, قال: " ما من أحدٍ عنده نعمة إلا وجدت له حاسداً، ولو كان المرء أقوم من القِدح لوجدت له غامزاً "، أي من المستحيل ألاّ يكون لك خصم, فأنت وطِّن نفسك وارتاح، فلا بدَّ لك من خصومة، لا بد لك من حُسَّاد، حتى إن سيدنا موسى في المناجاة, قال: " يا ربي لا تبقي لي عدواً, قال له: هذه ليست لي يا موسى ", أفتطمع ألاّ يكون لك أي عدو؟ هذا الطمع في غير محله، لك عدو ولك خصم, ولك حاسد ولك مبغض, ولك من يطعن بعلمك، ولك من يبخِّس عملك, هذا شيء طبيعي جداً من أجل أن يكثر أجرك، واعلمْ أن النبي له أعداء، قال تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾

( سورة الأنعام الآية: 112)

 عدة آيات تؤكد هذا المعنى، إذاً: ما من أحدٍ عنده نعمة إلاّ وله أعداء، إذا كان عندك مال فلك أعداء، إذا كان عندك علم فلك أعداء، إذا كان عندك قوة ملموسة فلك أعداء، شيء طبيعي جداً هذه سنة الحياة، فلما الإنسان يوطن نفسه على أن الحياةَ لا تخلو من مبغض، ومنافق ، وحاسد، وغيور، وطعَّان، ولعَّان، فنظرته واقعية .

 

أقرب الناس إلى عمر إليكم وصف بيانه :

 وله ميزان آخر, قال: " أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سيرةً ", والله فلان صاحب دين، فلان حقَّاني، فلان شهم، فلان رحيم، فلان منصف، هذا كلام الناس, قال: " فإذا تكلمتم فأبينُكُم منطقاً ", أي أحبكم إلينا إذا تكلمتم، كلام واضح، حجة قوية، تعليل دقيق، شاهد قوي، قال: " فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلاً " .
 خطر في بالي شيء مشابه لهذا، أن بعض الناس تجالسه فلا يتكلم بأيّة كلمة، قد تقول: طويل، لونه حنطي، جميل الوجه, فإذا تكلم نسيتَ شكله، وإذا تكلم كلامًا سيئًا نسيتَ مظهرَه, قال الشاعر:

 

جمال الوجه مع قبح النفوس  كقنديلٍ على قبر المجوس

 تكلم أحدُهم كلامًا قبيحًا، وهو أنيق جداً، فقال له آخر: إمّا أن تلبس مثل كلامك، أو إما أنْ تتكلم مثل لباسك، فهذا الإنسان لما رأيته، رأيته أنيقًا، بهي الطلعة، ثيابه جميلة، فهذا أول انطباع، فلما تكلم نسيتَ شكله، فكلامه إما أن يرفعه إلى أعلى عليين، وإما أن يهوي به أسفل سافلين, قال الشاعر:

 

 

وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ  زيادته أو نقصه في التـــــكلُّمِ

 تكلم كلامًا طيبًا، فما هذا العلم؟ لديه منطق، وحجة، وبرهان، وطلاقة لسان، وطلاوة حروف، شيء جميل، ذهبت معه إلى نزهة، لم يشتغل، بل دفعك أنت، ولم يشتغل شيئاً فتنسى كلامه، فالكلام ينسيك الشكل، والمعاملة تنسيك الكلام، والعبرة أنْ يكون الإنسان في سلوكه وفق ما يريد الله عزَّ وجل .

 

 

ليست العبرة أن يعرفك الناس , وإنما العبرة أن يكون لك مقام عند الله :

 القصة المشهورة جداً عن سيدنا عمر، أنه طلب من شخص أن يأتي بمن يعرفه، قال له : " يا هذا إني لا أعرفك، قال: ولا يضرك أني لا أعرفك, قال: ائت بمن يعرفك، فجاءه بشخص قال له: هل تعرفه؟ قال له: نعم أعرفه، قال له: هل سافرت معه؟ قال له: لا، هل جاورته؟, قال له: لا، هل حاككته بالدرهم والدينار؟, قال له: لا، قال له: أنت لا تعرفه ", ولما جاءه رسول من القادسية يخبره أنَّ خلقًا كثيرًا مات فيها, قال له: من هم؟ قال له: إنك لا تعرفهم، فبكى عمر، وقال: وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم"، فمن أنا ؟.
 فلما قال للإنسان: " يا هذا إني لا أعرفك, قال: ولا يضرك أني لا أعرفك", أنا عبد مثلك، لا أقدِّم ولا أؤخِّر، قد تكون أفضل مني، فإذا لم تعرف إنسانًا فهذا لا يقدح في مكانتك، وإذا دخلت إلى مكان، ولم يعرفوك، فلا تقل: لم يعرفوني، ولم يوجهوني، ليست هذه مشكلة، مقامك عند الله محفوظ، فالأتقياء الأخفياء أثنى عليهم النبي الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا .
 فالإنسان يُعرف بالسفر، وسمِّي السفر سفراً, لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، يُعرف بالتعامل المادي، يُعرف بالمجاورة، أما بالشكل، وبالحديث، وبالمظهر العام، فهذا لا يكفي لمعرفة الرجل .

لا يعبد إلا الله , ولا يعبد الله إلا بما شرع :

 مرة تحدث أصحابه أمامه عن رجل, وأثنوا عليه ثناءً كبيراً، وممّا أثنوا عليه أنه لا يعرف الشر أبداً، فقال عمر: ذلك أجدر أن يقع فيه, يقول لك: مثل المصحف المطوي، إذا كان واحد يجهل الشر فهو أقرب الناس للوقوع فيه, قال عمر: لا بد من أن يعرف الشرين, ويعرف أهونهما .
 ففي الحج مثلاً من أجل أن يقبِّل الحجر يرتكب عشرة آلاف معصية، التقبيل سنة, لكنه خالف الفرائض فوقع في إيذاء المسلمين، وقع في الالتصاق بالنساء، وقع في مخالفات كبيرة جداً من أجل سنة، هذا الحاج جاهل، فلذلك الإنسان أحياناً لكي يؤدِّي سنة يترك لأجلها فريضة، من أجل أنْ يقوم بمستحب يترك واجبًا، أحياناً يقول لك: أنا لا أسمح لطبيب أن يرى زوجتي، خير إن شاء الله, أتموت الزوجة؟ هناك طبيب مختص، فهذا جاهل، فمسموح للطبيب أن يرى المرأة، وهذا أهون الشرين، طبعاً كشف المرأة أمام الطبيب خطأ، لكن أن تموت المرأة، وهناك من يداويها فهذا خطأ أكبر، فالإنسان لا بدّ أن يعرف الشرَّين، ويختار أهونهما، ويفرِّق بينهما، هذا رأي سيدنا عمر، وهو الصحيح أساساً .

سؤال وجه إلى عمر :

 له رأي دقيق جداً، مرة سئل: أيهما أفضل ؛ رجل لا يأثم، لأن نفسه لا تشتهي الإثم، أم رجل تشتهي نفسه الإثم، ولا يأثم؟ فسيدنا عمر رأيه أنّ الذين يشتهون المعصية، ولا يعملون بها هم الأفضل, قال تعالى:

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾

( سورة الحجرات الآية: 3)

 معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في ريعان الشباب، وعملُه في الأسواق، وغَضَّ بصره فهذا له أجر كبير، من السهل أن تعتزل الناس، وأن تقعد في بيت في رأس الجبل، ليس لك أية مخالفة، لكن أن يكون لك عمل في سوق تجاري, وتجمع في سلوكك الصِدْق والأمانة والاستقامة، فهذه بطولة، وهذه المجاهدة, ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:

" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس والهوى ".

( ورد في الأثر)

اجتهاد عمر في المسائل , ولكل مسألة ظرفاً حكم بها :

 أحياناً كان يستفَتى في قضيـة يعطي فيها رأيـه، وحين استفتي في قضية مشابهة أعطي رأيًا آخر، فلما قيل له: إن لك في هذا اجتهادين متناقضين، فقال سيدنا عمر: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي ، أي أن المشكلة واحدة، ولكن لها ظروف مختلفة .
 قد يقول لك: هل على الحلي زكاة؟ تقول له: لا يوجد عليها زكاة، فمثلاً امرأة فقيرة، عندها سواران، ليس عندها غيرهما، فهل يكلِّفها الشرع أن تبيع واحدة لكي تدفع الزكاة؟ هذه لا زكاة عليها، لكن امرأة غنية معها مئات الألوف نقداً، ومعها حلي, فنقول لها: الأحاديث تؤكِّد أنّ على الحلي زكاة, هذا اجتهادان مختلفان .
 له اجتهاد دقيق جداً, في سهم المؤلفة قلوبهم الذي يُؤدَّى من الزكاة، فقد أبطله في حياته، الإسلام كان ضعيفًا، وكان بحاجة إلى تأييد الأقوياء، فكان هؤلاء الذين سماهم القرآن المؤلفةَ قلوبهم نعطيهم، والإسلام ضعيف، أما وقد نصر الله الإسلام، وقويتْ شكيمته، وأصبح قوياً، فالآن هذا السهم ليس له وجود، هذا اجتهاد سيدنا عمر، قال: " لقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعطيهم، والإسلام يومئذٍ ضعيف، أما اليوم فقد أعز الله دينه، وأعلى كلمته، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا يتسع هذا الدين إلا من يدخله راغباً مؤمناً "، فمع ورعه الشديد، مع تقيده الشديد بالنص كان جريئاً في اجتهاده .

من مبشرات النبي لعمر :

 يروي البخاري ومسلم رضي الله عنها, أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم, قال:

" بينما أنا نائمٌ إذ رأيت قدحاً، أوتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الريَّ يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب, فقال أصحاب النبي عليهم رضوان الله: فماذا أَوَلْتَه يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: العلم " .

( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح )

 لأنه غذاء الإنسان، هذا تأويل النبي للرؤيا التى رآها، أي أن عمر عالم .

خشية عمر من أن يفتضح مسلم عند إدراك الحد :

 نحن نعرفه شديدًا جداً، ولكن بقدر ما هو شديد فهو رحيم، قال: " جيء بمسلم ارتكب ما يوجب إقامة الحد عليه، ويشهد ثلاثة شهادات تدينه، ولم يبق إلا شهادة الرابع، ثم يصير الحد عقاباً محتوماً، يرسل عمر، ويستدعي الشاهد الرابع، ولا يكاد يراه مقبلاً حتى تأخذه رهبة، وحينما تقترب خطاه ينظر أمير المؤمنين, ويقول: أرى رجلاً أرجو ألا يفضح الله به واحداً من المسلمين ، يقدم الشاهد فيقول لعمر: لم أرَ شيئاً يوجب الحد، يتنفس عمر الصعداء، ويقول:  الحمد لله رب العالمين ", كان يتمنى أن هذا الشاهد الرابع لم ير شيئاً حتى لا يفضح مسلمًا، تذكروا قول الله عزَّ وجل :

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

( سورة النور الآية: 19)

 فالذي يتمنى أن تشيع الفاحشة في المؤمنين هذا وضع نفسه مع المنافقين، هل المؤمن يتمنى أن يفضح مؤمنًا؟ بالتأكيد فهو ليس مؤمناً، بل منافق, قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾

( سورة النور الآية: 19)

 هدف عمر رضي الله عنه أن ينجو الناس بسمعتهم، وبأجسادهم من العقاب .

لا يجوز للمسلم أن يفضح أخاه المسلم إذا رآه في وضع لا يرضي الله :

 مرة جاءه رجل يحمل بشرى، أو ظنها بشرى، قال له: رأيت فلاناً وفلانةً يتعانقان وراء النخيل، فيمسك عمر بتلابيبه، ويعلوه بمخفقته، ويقول له بعد أن وسعه ضرباً: هلا سترت عليه، ورجوت له التوبة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال:

" من ستر على أخيه, ستره الله في الدنيا والآخرة " .

( ورد في الأثر)

 هو ورع جداً، لذلك فالإنسان لو وقع في معصية لم يكن مكلفًا أن يتكلم عنها، ويفضح نفسه، حتى أنت كمؤمن لو رأيت أخاك يفعل معصية فلك أن تنصحه فيما بينك وبينه، لكن لستَ مكلفًا أن تخبر عنه، أما الإمام إذا رفعت إليه قضيةٌ توجب الحد فلا عفا اللهُ عنه إن عفا، الإمام شيء، وأنت كمؤمن شيء، قال له: هلا سترت عليه .
 كان سيدنا عمر, يقول: " هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زلَّ زلةً فسددوه، كونوا عوناً له على الشيطان، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه ", أنت وظيفتك أنْ تستر، وظيفتك أن تخفف عن المؤمنين، وظيفتك ألا تتبع عوراتهم .

ادرؤوا الحدود بالشبهات :

 له قول شهير: " لأن أُعَطِّل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات ", هناك أشخاص أصلحهم الله يظنون خطأ أن سيدنا عمر عطّل حدَّ قطع يد السارق، لا, إنه لم يعطلها إطلاقاً، لكن أصبحت إقامة الحد في زمن المجاعة تكتنفها شبهة، لأنّ في الناس جوعًا، فإذا كان حول السارق شبهة في سرقته، كأنْ سرق من مالٍ يظن أن له فيه حقاً فلا يجوز قطع يده، أو سرق من مال فيه شبهة فلا يجوز قطع يده فيه، سيدنا عمر لم يعطل قطع يد السارق, لكن يقول: لأن أعطل الحدود في الشبهات خير من أن أقيمها في الشبهات .
 فهي مقولة في القضاء مشهورة، الخطأ في العفو خير من الخطأ في الظلم، حكمنا على شخص ظلماً عشر سنوات، وهو بريء، فلو عفونا عنه خطأً لكانَ أهونَ مِن أن نحكم عليه خطأً.
 إنّ رجلاً له ابنة أصابت حداً من حدود الله، فحينما وقعت في هذه المعصية التي توجب الحد، أخذت شفرةً لتذبح نفسها، قال: فأدركناها، وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت، ثم إنها تابـت بعدها توبةً حسنة، وهي اليوم تخطب إلى قوم، فسأل أخوها سيدَنا عمر: أفأخبرهم بالذي كان؟ فيجيبه عمر: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بها أحداً من الناس لأجعلنكم نكالاً لأهل الأمصار، اذهب وزوجها زواج العفيفة المسلمة .
 هذا درس لنا يا أخوان، قصة تعرفها عن شخص من عشر سنوات, والآن تاب إلى الله وانتهى أمره, ما هذا الكلام الفارغ أن تتكلم عن الماضي؟ .

اجتهاد عمر في مسألة غياب الزوج عن الزوجة والتفصيل في كتب الفقه :

 مرة خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال أهل المدينة فسمع سيدةً تشكو بثها وحزنها، وتقول شعراً:

تطاول هذا الليل وازور جانبه  وليس إلى جنبي حليلٌ ألاعبه
فوالله لولا الله لا ربَّ غيـره  لزلزل من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدنـي  وأكرم بعلي ، أن تنال ركائبه

 ثم قالت: أهكذا يهون على عمر وحشتنا وغيبة رجلنا عنا؟ سيدنا عمر بحث ودقق وحقق، فإذا هذه المرأة زوجها في الجهاد، وعند الصباح يذهب عمر إلى ابنته حفصة, ويسألها: يا بنيتي كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فتجيبه: تصبر شهراً وشهرين وثلاثة وينفد مع الشهر الرابع صبرها، فيسن من فوره قانوناً بأن لا يغيب في الجهاد جنديٌ متزوج أكثر من أربعة أشهر، ويرسل إلى زوج السيدة يستدعيه من فوره .
 أنا أعجب أحياناً من بعض أخواننا, أين ذاهب؟ والله إلى دول الخليج، كم سنة سوف تظل هناك؟ خمس سنوات, وزوجتك, يقول: أتركها في الشام، هل هذا الكلام معقول؟ هناك حاجة أساسية، والإنسان يجب أن يكون دقيقًا، هذه فطرة، لأن يبقى مع زوجته بدخل معقول أفضل من أن يغتني، ويكون هناك خلل في البيت، وهو غائب، هذه حقيقة أساسية، فاستفيدوا منها، أقصى سفر أربعة أشهر، أما تركها خمس سنوات، هي إن شاء الله عفيفة، لكنها احترقت حرقًا في غيابك ، وأنت احترقت في غيابها، ما هذا العمل؟ المفروض أن يجتمع شمل الأسر .
 إذا لم يكن دخلك في بعض دول الخليج يساوي ستة آلاف أو ستمئة دينار يُمنَع أن تجلب زوجتك، أصبح له أول سنة والثانية والثالثة، دخله أقل من ستمئة دينار، هكذا النظام، هذا النظام لا ينبـع من الإسلام، الإسلام يجب أن تجتمع الأسر، أن يجتمع الأزواج مع الزوجات، فبعض الدول إذا لم يكن لك دخل معين يجب أن تعيش بلا زوجة، أفتعيش منفرداً في هذا البلد بلا زوجة ؟ وزوجتك وحدها في بلدها, فالله الغني، والرزاق واحد، أينما كنت فهو الرزاق، هذا كلام دقيق، وله علاقة بحياة الإنسان، فإنه لم يغب أحد عن زوجته سنوات إلا وسُمع أحاديث، وبُثَّت الإشاعات ، طبعاً العفيفة الطاهرة تبقى على عفتها، لكن هناك خطأ ارتكبه زوجها .

 

اجتهاد عمر في مسألة إذا سرق الجندي أثناء المعركة :

 مع أن الاعتراف سيد الأدلة، لكن سيدنا عمر, قال مرة: ليس الرجل بمأمون على نفسه إن أجعته، أو أخفته، أو حبسته أن يقِر على نفسه زوراً, لذلك في المحاكمات الآن إذا قال الإنسان : أنا اعترفت تحت الضغط، يعد اعترافه باطلاً، "ليس الرجل بمأمونٍ على نفسه إن أجعته، أو أخفته، أو حبسته أن يقر على نفسه زوراً, وهذا الإقرار لا قيمة له إطلاقاً .
 له اجتهاد خطير جداً، فسيدنا عمـر لا يرى أن يقـام حد قطع اليد في أثناء المعركة، طبعاً اقتباساً من رسول الله عليه الصلاة والسلام، لو أردت أن تعاقب هذا الجندي في ساحة المعركة، فأهون له أن ينضم إلى الأعداء ويرتد، وينقل أسرار المسلمين إلى الأعداء، لذلك لا يجوز أن يقام الحد، ولا سيما قطع يد السارق في أثناء الحرب, وهذا اجتهاد سليم وصحيح .

 

لا يقاد الوالد بولده , أي لا قصاص :

 قد نأخذ المذنـب بذنبه، لكن أحياناً هناك خلفيات للذنب، ودوافع كبيرة، مرة جيء بغلمان صغار سرقوا ناقة رجل من مزينة، فلا يكاد يراهم صُفر الوجوه، ضامري الأجسام حتى يسأل: من سيد هؤلاء، فقالوا: فلان، قال: إلي به، فلما جاء سيدهم, قال: أنت سيد هؤلاء, قال: نعم, قال: كدت أنزل بهما العقاب لولا ما أعلمه من أنكم تؤدبونهم وتجيعونهم، لقد جاعوا فسرقوا، ولن ينزل العقاب إلا بك، ثم سأل صاحب الناقة: يا مزني كم تساوي ناقتك؟ قال: أربعمئة دينار، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمئة .
 أحياناً قد يرتكب الإنسان خطأ، لكن تحـت ضغط كبيـر، فلا ينبغـي للقاضي أن يتغافل عن الضغط الشديد، فقد يكون الأب مضطرًّا لإجراء عملية لابنه الذي على وشك الموت، ولم يعطه أحد، يقع في خطأ، والخطأ خطأ، لكن يجب أن يكون هناك أسباب مخففة، دوافع فطرية إنسانية .
 له كلمة شهيرة: " لن يغير الذي وليت من خلافتي شيئاً من خلقي إنما العظمة لله وحده وليس للعباد منها شيء "، ولو كنت خليفة عليكم، إني عبدٌ من عبيد الله، ولن تغيِّر الخلافة أخلاقي أبداً، لأن العظمة لله وحده, وللعباد ليس لهم منها شيء، ما هذا الكلام؟ كأننا أمام أساطير .

 

مواقف عمر :

 قال مرة: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازناً وقاسماً، أي تعالوا إليَّ .
 مرةً قال لبعض ولاته: بلغني أنه فشت لك فاشية في هيأتك ولباسك ومطعمك ومركبك ليست للمسلمين، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة مرَّت بوادٍ خصيب فجعلت همها في السمن وفي السمن حتفها .
 الإنسان أحياناً يكون حتفه في مكاسبه، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً، فالإنسان يجب أن يعتدل في مطالبه، وإلا كان عندئذٍ ضحيةَ مطالبه .
 مرة رأى امرأةً تبكي ميتاً بالأجرة يسمونها نائحة, فقال: إنها لا تبكي بشجونكم، إنما تبكي بدراهمكم .
 مرة سأل أحد أولاد هرم بن سنان، وهو رجل مدحه زهير بن أبي سلمى في الجاهلية مدحًا كبيرًا، فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول، فقال ابن هرم: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء، فقال عمر: لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور