وضع داكن
24-04-2024
Logo
ومضات في آيات الله - الدرس : 02 - قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ..…
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

بماذا ينهى الله أهل الكتاب في هذه الآية؟ :

 أيها الأخوة الكرام, يقول الله عز وجل في سورة المائدة:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾

[سورة المائدة الآية: 77]

 الحقيقة: أتباع الأديان أمامهم منزلق خطير، ألا وهو الغلو في الدين؛ الغلو في الدين آفة الدين، والغلو في الدين يعطي الطرف الآخر تشبثاً بكفرهم، والغلو في الدين يحول بين الدين وانتشاره بين الناس، فلذلك: ربنا عز وجل يخاطب أهل الكتاب فينهاهم عن الغلو في الدين.

أنواع الغلو في الدين :

 الغلو في الدين أنواع: يمكن أن يكون الغلو اعتقادياً؛ أن تعتقد أن أحد فروع الدين هو الدين كله، وأن تزدري الفروع الأخرى، فهذا غلو من شأنه أن يشق صفوف الأمة، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾

[سورة الأنعام الآية: 159]

 ولا تكن من الذين أشركوا وفرقوا دينهم وكانوا شيعاً، معنى ذلك: حينما تأخذ جزئية أو فرعاً وتجعله أصلاً، وتقاتل من أجله, فقد شققت صفوف المسلمين، هذا نوع من الغلو.
 غلو آخر: التعصب إلى جماعة، وازدراء الجماعات الأخرى، هذا غلو أيضاً.
 غلو ثالث: التعصب لإنسان، وازدراء بقية الدعاة، هذا غلو ثالث.
 فالغلو في الدين يعطي عكس الذي تريده، الغلو في الدين يحول دون انتشار الدين، والغلو في الدين يمنع الطرف الآخر أن يؤمن بهذا الدين.

ما معنى هذه الآية؟ :

 لذلك أيها الأخوة: تكاد الآية الكريمة التي نصها:

﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾

[سورة يونس الآية: 85]

 أي غلو المسلم في دينه يجعل الكافر يتشبث بكفره، ويتمسك بكفره، ويعتقد صواب رأيه، إذاً: نعوذ بالله من الغلو في الدين، فالتعصب والتشدد يساوي التفلت والتساهل، وكلاهما واحد؛ فإما أن تغلو نحو تشدد غير المعقول، وإما أن تغلو نحو تساهل غير المعقول، أما الوسطية التي جاء بها النبي -عليه الصلاة والسلام- فهي الصواب.
 هذا الذي أهمل أهله، ولم يلتفت إليهم، وعكف على عبادة الله عز وجل, فلما دخلت زوجته على السيدة عائشة رأتها بهيئة مزرية، فلما سألتها عن حالها قالت: إن زوجي صوام قوام، فالنبي استدعاه, قال له: يا عثمان أليس لك بي أسوة؟.
 أنا قدوتك، النبي -عليه الصلاة والسلام- يعطي كل ذي حق حقه.

ما الذي يدمر الدين؟ :

 فالغلو في الدين هو الذي دمر الدين، ثم الحركة من دون دليل شرعي، صار الدين عرضة للأهواء، كل شخص يزعم أنه رأس جماعة، ويعطي توجيهات تخالف الكتاب والسنة ، تخالف منهج الله عز وجل، في أمور أخرى في الدنيا كل شخص له رأي، أما أمور الدين لا يمكن أن تقبل من دون دليل، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء.
 فهذه الآية أصل -أيها الأخوة- في الصواب، لا تغلو في دينكم، لا غلوًا اعتقاديًا، ولا غلوًّا عمليًا، أي هذا الذي يمضي ساعة يتوضأ فيها، هذا غلو في الدين، هذا الذي من أجل أن يقبل الحجر يؤذي المسلمين، هذا غلو في الدين، عندنا غلو اعتقادي، وعندنا غلو عملي تطبيقي، وعندنا غلو بمعنى التعصب نحو جماعة معينة، أو الغلو بمعنى التعصب باتجاه إنسان معين.

المسلمون أمة واحدة تتكافأ ذممهم ويرعاهم أدناهم:

 فالمسلمون جميعاً أمة واحدة، المسلمون جميعاً تتكافأ ذممهم، ويرعاهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وحربهم واحدة، فأي شيء يشق صفوف المسلمين، ويجعل المسلمين شيعاً وفرقاً وطوائف وأحزاباً، ويكون بأسهم بينهم، هذا من الغلو في الدين:
 لا تغلو في دينكم غير الحق.
 إذاً: يوجد تمسك بالحق، أنا أتمسك بالحق، لكن لا أغلو غير الحق، التمسك بالحق أن تطبق ما جاء في الوحيين؛ الكتاب والسنة، أما الغلو فأن تنتقي انتقاء جزئياً لمقولة، وتجعلها أصلاً في الدين، وتقاتل من أجلها، فهذا توجيه لأهل الكتاب وللمسلمين أيضاً.
 وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((إن المنبت لا أرضى القطع ولا ظهراً أبقى))

 المتشدد أحياناً لا يحقق الهدف.

 

انظر إلى هذا التوازن في حياة النبي وفي دعوته :

 يقول عليه الصلاة والسلام:

((أشدكم لله خشية أنا؛ أنام وأقوم، أصوم وأفطر، أتزوج النساء، آكل اللحم، هذه سنتي, فمن رغب عنها فليس من أمتي))

 ولا تزايد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، هو في أعلى مقام عند الله عز وجل، وكان متوازناً في حياته، كان يقول:

((الهوا، وامرحوا، فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة))

 وكان عليه الصلاة و السلام يمزح مع أصحابه.
 من توازنه صلى الله عليه وسلم في دعوته: أنه جاءه أنصاري يسأله حاجة ......
 فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُهُ, فَقَالَ:

((أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى, حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ, وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ, وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ, قَالَ: ائْتِنِ بِهِمَا, قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا, فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ, وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ, قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا-, قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ, فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ, وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ, وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ, وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا, فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ, وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِ بِهِ, فَأَتَاهُ بِهِ, فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُودًا بِيَدِهِ, ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ, وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا, فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ, فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ, فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ, أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ, أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ))

 أحياناً: يعتزل الإنسان الناس، ويعتزل العمل، ويهمل عمله، ويضيع أسرته من أجل أن يؤدي الواجبات الدينية بدرجة يتجاوز بها الحد المعقول، هذا غلو في الدين.

 

من أنواع الغلو في الدين أيضاً :

 هناك غلو بالعبادات، وغلو في المعاملات أحياناً، ينسى فرائضه من أجل علاقاته الاجتماعية، هذا غلو في المعاملات، هناك غلو في الأشخاص، وغلو في الجماعات، يوجد غلو في فرع من فروع الدين, يوجد غلو في جزئية من جزئيات الدين، الغلو مجاوزة الحد، فلا بد من التوازن.

الكليات الثلاث في الإسلام :

 وأنا أقول دائماً أيها الأخوة: يوجد في الإسلام ثلاث كليات؛ كلية معرفية، وكلية سلوكية، وكلية جمالية، هناك من يعتمد على الناحية الجمالية، في الدين أحوال، ومشاعر، ولا يعنيه من الدين إلا أحواله مع الله عز وجل، لكن لا يستطيع أن ينطق بكلمة، وهو كلٌ على مولاه، عبء على الآخرين، وإنسان آخر متبحر في العلم بدرجة رائعة، لكن عباداته ضعيفة، وإنسان ثالث أعماله جليلة، لكن علمه ضعيف، إنسان أحواله ضعيفة علمه قوي، الخطوط الثلاثة؛ خط طلب العلم، وخط العمل، وخط الاستمتاع، الناحية الجمالية، يجب أن نتحرك على الخطوط الثلاثة معاً، عندئذ نتفوق.

 

هكذا ربى النبي أصحابه :

 كان عليه الصلاة والسلام قد ربى أصحابه، فلما رآهم قبل أن يتوفاه الله, ابتسم حتى بدت نواجذه، وقال:

((علماء حكماء, كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء))

 ورباهم فكانوا رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، ورباهم على عزة النفس.
 قال الأنصاري للمهاجر:

((دونك بستان من هذين البستانين، دونك دكان من هذين الدكانين))

 فماذا كان موقف المهاجر؟ بارك الله في مالك، ولكن دلني على السوق.
 بقدر ما كان الأنصاري سموحًا وسخيًا، بقدر ما كان المهاجر عفيفًا، والحقيقة: كما قال عليه الصلاة والسلام:

((إن الله اختارني واختار لي أصحابي))

هذا الإسلام :

 الإسلام -أيها الأخوة- مثلث في أربع قطع؛ القطعة العليا القرآن، والثانية السنة، والثالثة السيرة، والرابعة سير الصحابة.
 فكل واحد من المؤمنين إلى آخر الزمان يجد في تاريخ الصحابة من يكون قدوة له، فنحن يجب أن نأخذ الدين بعلمه وبالتزامه وبأحواله، لا أن نكتفي بواحدة، إذا اكتفينا بواحدة اختلف شكلنا، إنسان رأسه كبير، وجسمه صغير، هذا إنسان مشوه، إنسان بطنه كبير، ورأسه كبير، إنسان مشوه، إنسان أقدامه عملاقة، وجسمه صغير، لا بد من التناسق، فحينما نتحرك بخط طلب العلم، وبخط التمسك السلوكي، وبخط الإقبال على الله عز وجل, نكون قد حققنا وسطية الدين، وشمولية الدين، وعندئذ يغدو الدين دين الحياة، ويغدو الدين دين الواقع، ويغدو الدين دين الفطرة، عندئذ لا تنمو المادة على حساب الروح، ولا القيم على المصالح، ولا تنمو الدنيا على حساب الآخرة، ولا تنمو الآخرة على حساب الدنيا، هذا التوازن الذي يحتاجه المسلمون اليوم.

المنهج الوسطي الذي جاء به النبي :

 إنسان ممكن أن تكفره لأنه يلبس بنطالاً، معقول! اليوم سمعت هذه القصة، كفّره لأنه يرتدي البنطال، مع أن هناك أحكامًا فقهية كثيرة متعلقة بالبيئة والعادات, ما لم تخالف الضوابط الشرعية في ستر العورة.
 أحياناً تقيّم الإنسان من جزئية صغيرة جداً، وتنسى إنجازه الكبير، هذا غلو في الدين، لذلك: الغلو دائماً يقابَل بغلو، ويكاد التاريخ الإسلامي يكون غلواً يواجه غلواً آخر، لكن المنهج الوسطي الذي جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-: هو الذي يجمع بين العلم والعمل والاتصال بالله عز وجل، هذا هو المنهج الصحيح الذي كان عليه أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا قلت: فلان من أهل السنة والجماعة، بمعنى: مما أجمع الصحابة الكرام على أنه صواب، هذا الذي أتمناه في هذا اللقاء الطيب إن شاء الله:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾

[سورة المائدة الآية: 77]

 والمسلمون دائماً مهيئون إلى أن يقعوا في غلو مشابه لغلو أهل الكتاب.
 هل تصدقون قبل خمسين عاما: لا يجوز أن يتزوج شافعي من حنفي, ولا يجوز أن يقتدي حنفي بشافعي؟ جاءني اتصال هاتفي من مدينة في الشمال: يجوز أن أصلي وراء شافعي؟ يا أستاذ أنا حنفي، قلت للسائل: هذا من عصور تخلف المسلمين، أنت مسلم وكفى, صل وراء أي إمام.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور