وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0911 - الصبر2. فقه الصبر - ضرورة العلم لتحقيق الصبر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله، نحمده ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تبعهم إلى يوم الدين، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
 اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فقه الصبر :

 أيها الإخوة الكرام: لازلنا في الموضوع الذي بدأته في الأسبوع الماضي، وهو الصبر.
 ومن الأمثلة الموضِّحة لحقيقة الصبر: أن هذه المركبة، أي السيارة، إنما صنعت لتسير، فعِلّة صنعها السير، وأن تنقلك من مكان إلى مكان، والمكبح في المنطق يتناقض مع علّة صنعها، المكبح يوقفها، ولكنه يوقفها ضماناً لسلامتها، وتحقيقاً لرسالتها، أو لهدفها، فكما أن المركبة صنعت كي تسير، فالمكبح ضروري جداً لسلامتها، ولأداء مهمتها.
 وكذلك الإنسان، خُلق ليسعده الله في الدنيا والآخرة، ولكن المصائب تأتي أحياناً كي تصحّح مساره، وكي تدله على هدفه، وكي تدفعه إلى الله عز وجل.

 

ثوابت ومتحركات :

 أيها الإخوة الكرام: لحكمة بالغةٍ بالغة، كل شيء في الكون له نظام، والنظام ثابت، والعلاقات ثابتة، والقوانين ثابتة، وخصائص المواد ثابتة، وجُعل هذا رحمةً بنا، واستقراراً لحياتنا، وتطميناً لنا، فخصائص المعادن ثابتة، وخصائص البذور ثابتة، وخصائص المواد ثابتة، دورة الأفلاك ثابتة، وكذا شروق الشمس، ليس هناك دعاء للشروق، فهي تشرق كل يوم بثبات.
 ولكن الله جل جلاله حرَّكَ الصّحة والرزق، لتكون تحركات الصحة والرزق أدوات لتأديبنا.
 فالناس حريصون على وجودهم، وعلى سلامة وجودهم، وعلى كمال وجودهم، وعلى استمرار وجودهم، فالذي ثبته الله عز وجل كان ترسيخاً للنظام، وتطميناً للأنام، والذي حرَّكه الله عز وجل كان رحمةً بهم، كي يدفعهم إلى طريق سعادتهم وسلامتهم.

 

الابتلاء دليل المحبة :

 أيها الإخوة الأكارم: سئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي الناس أشد بلاءً؟
 فعن مصعب بن سعد، عن أبيه، رضي الله عنهما، قال:

((قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشَدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه، فإن كان دِينُه صُلْباً، اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّةً، على حَسبِ دِينه، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركَه يَمْشِي على الأرض وما عليه خطيئة))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

 إذاً: لا تحزن إذا ابتلاك الله عز وجل، فأشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل.
 إذا أحب الله عبده ابتلاه، فيكون هذا العبد ضمن العناية المشددة، والمصيبة التي ما بعدها مصيبة، أن يكون العبد خارج العناية المشددة.

 قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

( سورة الأنعام : 44)

 أيها الإخوة الأكارم: لست وحدك في موضوع الابتلاء، هذا من سنن الله عز وجل.
 قال تعالى:
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

( سورة المؤمنون : 30)

 أيها الإخوة الأكارم: هذه الحقيقة عبَّر عنها صحابي جليل، فقال:
 واللهِ لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
 أي: إن يقينه بحكمة الله ورحمته في هذا الابتلاء قبل كشف الغطاء، كيقينه بعد كشف الغطاء.

من حِكَمِ الابتلاء :

 أيها الإخوة الأكارم: من حكم الابتلاء:

 

1)رفع الدرجات :

 

 قال تعالى:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (*)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (*)أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾

( سورة البقرة: 155-156)

 إذاً: أول حِكَم البلاء رفع الدرجات، وثاني هذه الحِكَم:

2)التمايز في الدرجات

أيها الإخوة الأكارم: قال تعالى:

 

 

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾

( سورة آل عمران : 142)

 معنى ذلك: أن الابتلاء يميز بين الدرجات، كالعلامات تماماً، هذا درجته مئة، وهذا تسعون، ثمانون، سبعون، ستون، خمسون، وهكذا.
 آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة:
 قال تعالى:

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ﴾

( سورة آل عمران : 179)

 هذه حكمة ثانية، والحكمة الثالثة:

3)دفع الغرور :

 

 كيلا يصاب الإنسان بالغرور، فالإنسان إذا جاءت الأمور كما يتمنى دائماً، والأمور كلها منتظمة، وفي مصلحته، ينسى ربه، والدليل:
 قال تعالى:

﴿ كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (*)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

( سورة العلق: 6-7)

 فكأن هذه المصيبة تحجِّمه، تشعره بافتقاره إلى ربه، تشعره بضعفه، وقد توصل الخوفَ إلى قلبه، تشعره بعبوديته، تشعره بحجمه الحقيقي.
 المصيبة أحياناً تحجِّم الإنسان، أو تعيده إلى حجمه الحقيقي، فالعبد عبد، والرب رب.

 لحكمة بالغةٍ بالغة، أرادها الله جل جلاله، أن كل متع الدنيا لا يمكن أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة، بل هي متناقصة، وقد تنتهي به إلى الملل والسأم، من أجل أن يشتاق إلى الجنة، ومن أجل أن يشتاق إلى رضا الله عز وجل.

 أيها الإنسان، أنت مصمم بطريقة عجيبة، لا يملأ نفسك إلا هدف كبير، فإذا أنت اخترت باختيارك هدفاً صغيراً محدوداً، فهذا الهدف حينما تصل إليه تنتهي لذتك منه، ويصبح شيئاً مألوفاً، وقد يصبح مملاً، وقد تمل منه وتسأم منه، من أجل أن تبحث عن هدف كبير، من أجل أن تبحث عن شيء يملأ هذه النفس التي صممت لمعرفة الله عز وجل، فكل شيء في الدنيا لو بلغته فهو متناقص في إمدادك باللذائذ.

 تجد إنساناً حقق كل أهدافه المادية، تجده ضجراً، سئم كل شيء، ملّ كل شيء، وهذا من حكمة الله، أن:
 يا عبدي، لا يملأ نفسك إلا معرفتي، لا يملأ نفسك إلا طاعتي، لا يملأ نفسك إلا الإقبال عليّ، لا يملأ نفسك إلا طلب الجنة.

4)التذكير بالله عز وجل :

 

 من حِكَم المصائب أيها الإخوة الأكارم، أنها تذكرك بالله، فهي رسالة من الله، والله عز وجل له رسائل، رسائل الله عز وجل أفعاله، فحينما يساق للعبد شيء، فهذا الشيء إذا أزعجه فهو رسالة من الله، أن:
 يا عبدي راجعْ حساباتك، دقق في سلوكك، تفحَّص أمرك، رتب أوراقك، تأمل في وضعك.
 إن المصيبة رسالة من الله عز وجل.
 من هو الذي يصاب بمصيبة ما بعدها مصيبة؟
 هو الإنسان الذي لم تحدِث فيه المصيبة موعظة، ومن لم تحدِث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر، أكبر مصيبة أن تأتيك المصيبة، ثم لا تفهم على الله حكمته منها، أن تأتي المصيبة وتظن أنها من طبيعة الحياة، من تقلبات الدهر والأيام، من سخريات القدر.
 هذا الذي يفهم المصائب هذا الفهم الوثني، أو هذا الفهم الشركي، أو هذا الفهم المادي، إنسان يعاني من أكبر مصيبة.
 قال تعالى:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

( سورة الشورى : 30)

 أيها الإخوة الأكارم: أحياناً تغيب عنك عظمة الله عز وجل، تغيب عنك قدرته، فتأتي المصيبة لتلفتك إلى الله، إلى الذي بيده كل شيء، إلى الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، إلى الذي بيده الخير والشر.

5) التدليل على محبة الله :

 الحكمة الكبرى من حِكم المصائب، أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله يحبك حينما أصابتك هذه المصيبة، أن الله يحبك، ويريد أن يلفت نظرك إليه، يريد أن يصرفك عن الدنيا، يريد أن تستعد لملاقاته، يريد أن ترتب أمورك في معرفته، لذلك:

 عن أنس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:

((إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابْتلاهم، فَمَن رَضيَ فله الرِّضى، ومن سَخِطَ فله السَّخَطُ))

[ حديث أخرجه الترمذي بإسناد حسن ]

 فالمشكلات التي يعاني منها الناس، قد تكون سبباً لتوبتهم وإقبالهم على ربهم، والرخاء الشديد الذي تعانيه بعض المجتمعات، هو حجاب كبير بينهم وبين ربهم.

نماذج حية للصبر الجميل :

 أيها الإخوة الأكارم: من نماذج الصابرين:

1) سيدنا أيوب عليه السلام :

 حينما تقرأ قوله تعالى وهو يتحدث عن قول سيدنا أيوب عليه السلام:

﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾

( سورة الأنبياء : 83)

 ثم يقول تعالى:

﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾

( سورة ص : 44)

 ألا تشعر أن مرتبة الصبر عالية جداً عند الله عز وجل؟
 نبيٌّ كريم، كان قدوةً لنا في ابتلائه، وتحمله، وفي صبره الجميل، قال تعالى:

﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾

( سورة ص : 44)

2) سيدنا يوسف عليه السلام :

 يوسف عليه السلام، هذا النبي الكريم، هذا الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، سيق إلى السجن، وألقي في غيابات الجب، وتآمر عليه إخوته، ودعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾

( سورة يوسف : 33)

 أليس هذا النبي الكريم قدوةً لنا أيها الشباب، أيها المؤمنون؟

3) عمران بن الحصين رضي الله عنه :

 صحابي جليل اسمه عمران بن الحصين، أصابه مرض شديد حتى أقعده، لا يتحرك، وظل هكذا أعواماً طويلة، ويدخل الناس عليه يعودونه، وهو مقعد، فيبكون لهذه الحالة، فينظر إليهم، ويقول كلمة رائعة:
ما أحبَّه الله لي أحببته.
 هذا هو الإيمان، هذا هو الصبر الجميل.

 

 أيها الإخوة الأكارم: هذا الصحابي يقول أيضاً:
 حلاوة الثواب أفقدتني مرارة الألم.

4) أم سُلَيْم رضي الله عنها :

 أُمّ سليم وزوجها رضي الله عنهما، رُزِقا بولد، فأصيب بمرض شديد، وكان لهذا الولد في قلب أبيه وأمه محبة كبيرة، ومات الولد ليلاً، وجاء زوجها فلم تُرِد أن تزعجه بخبر موته.
 شيء لا يصدق.
 تطيبت، وتعطرت، وتزينت، ولما سألها عن ابنها قالت له: إنه في أهدأ حال.
 هي أرادت أنه مات، وقد هدأ، وهو ظن أنه قد شفي.
 ثم عند الصباح أخبرته ومهّدت له بإخبارها فقالت:
 إن كانت لجيراننا عندنا وديعة، أنردها إليهم؟ قال: نعم، قالت: أفرأيت إن طال الزمن؟ قال: فذلك أحق أن تؤدى، قالت: فاحتسب ابنك، فإن الله قد استرد وديعته.

 وقد بشرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وقال:

((باركَ اللهُ في لَيْلَتِكُما))

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 هذا هو الإيمان، الإيمان هو الصبر.

شروط الصبر الجميل :

 لكن أيها الإخوة الأكارم، للصبر الجميل شروط:

1) أن يكون عند الصدمة الأولى

 أول هذه الشروط، ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، فقال:

((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى))

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 لا أن يأتي الخبر السيئ فتزمجر، وتزبد، وترعد، وتقول كلاماً لا يليق، وبعد ذلك تصبر وتحتسب:

((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى))

[ من حديث صحيح، أخرجه أبو داود ]

 لأن بعد الصدمة الأولى، كل مصاب يجب أن يصبر، شاء أم أبى، ماذا يفعل إذا لم يصبر؟ لكن بطولة المؤمن أنه يصبر عند الصدمة الأولى، عند تلقي الخبر، يرى أن الأمر بيد الله، وأن الله يقدر الخير، وأن كل شيء وقع أراده الله، وأن كل شيء أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، فيصبر.

 عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم:

((أتى على امرأة تبكي على صبيّ لها، فقال: اتقي الله، واصبري، فقالت: ْإِليكَ عَنِّي، فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فلما ذهب قيل لها: إِنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأتت بابَه، فلم تجد على بابه بَوَّابين، فقالتْ: يا رسولَ الله، لم أعرِفْكَ، قال: إنما الصبرُ عند الصدمة الأُولى))

[ حديث صحيح، أخرجه أبو داود ]

 إن أردت أيها الأخ أن تنال ثواب المصيبة كاملاً، فاصبر عند الصدمة الأولى.

 أيها الإخوة الأكارم: ألا تنسيك هذه الآية كل المتاعب، قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾

( سورة الزمر : 10)

 الشرط الأول: الصبر عند الصدمة الأولى.
 الشرط الثاني أيها الإخوة الأكارم:

2) أن يقال الدعاء المأثور :

 أن يقول الإنسان إذا أصابته مصيبة ما علّمناه النبي صلى الله عليه وسلم:
 فعن أم سلمة، أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

((مَا مِن مُسلم تُصِيبُه مصيبة فيقولُ ما أمره الله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم أجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيراً منها، إِلا أخلف الله له خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمةَ قلتُ: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أوَّلُ بيت هاجر إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم إِني قُلتُها، فأَخْلَفَ الله لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالتْ: فأرسل إِليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاطِبَ بن أَبي بَلْتَعةَ يَخطُبني له، فقلتُ: إِن لي بنتاً، وأنا غَيُور، فقال: أمَّا ابنتُها فندعو اللهَ أن يغنيَها عنها، وأَدعو الله: أَن يَذْهَب بالغَيْرَةِ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 أيها الإخوة الأكارم: الصحابي الجليل البدري الشهيد أبو سلمة، من أعلام الصحابة، استشهد في موقعة بدر، وقال عليه الصلاة والسلام:

((لعل الله اطَّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم))

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 فلما استشهد أبو سلمة قالت أم سلمة الدعاء:
 إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم أجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيراً منها.

 

 ثم جلست تفكر، فقالت: من خير من أبي سلمة؟ استعرضت مجمل الصحابة، لم تجد أفضل من زوجها، فهي لم تفهم القسم الثاني من الدعاء:
 وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا.

 الأجر حاصل، أما:
 وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا.
 فلم تجد صحابياً في مستوى أبي سلمة، ثم تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم خيراً من أبي سلمة.

 أيها الإخوة الأكارم: الشرط الأول: الصبر عند الصدمة الأولى، والثاني: الدعاء:
 اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا.

 الشرط الثالث:

3) أن يكون الصبر بلا شكوى

 وهو الصبر الجميل:
 هذا الصبر الجميل ليس معه شكوى، ولا تبرم، ولا أن تشتكي لإنسان، لا لمؤمن، ولا لكافر، مع أنه من اشتكى لمؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.
 لكن لو أن إنساناً قال لطبيب يعالجه: أشعر بهذه الآلام، هذا لا علاقة له بعدم الصبر، لو أراد أن يستشير أخاً، فقال: ألمَّتْ بي مشكلة، فماذا أفعل؟ هذا لا علاقة له بعدم الصبر، لكن الذي من دون سبب تجد منه: تبرم، شكوى، ضجر، سباب، ثم يقول لك: نحن صابرون؟
 لا، لست صابراً، المطلوب منك الصبر الجميل الذي لا يرافقه تبرم، ولا شكوى، ولا كلام يخدش العقيدة.

 

الصبر في واقعنا :

 لو دخلنا إلى بيوت المسلمين، ماذا نجد؟
 عن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:

 

((لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنةً، إِن كَرِه منها خُلُقاً، رضي منها آخَرَ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 المقصود الزوجة، هناك أشخاص كثيرون لا ينظرون إلا إلى سلبيات زوجاتهم، إذا كانت هناك مشكلة، انظر إلى إيجابياتها، انظر إلى أنها حصان، أنها تحفظك في غيبتك، انظر إلى أنها مطيعة لك، فإذا كان هناك عيوب كثيرة، فاذكر الإيجابيات.

((لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنةً، إِن كَرِه منها خُلُقاً، رضي منها آخَرَ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 في كل مصيبة تلمُّ بك اتلُ قوله تعالى:

﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾

( سورة النساء : 19)

 وقوله تعالى:

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾

( سورة البقرة : 216)

صبر القوي والغني والصحيح :

 أيها الإخوة الكرام:
 عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال:

((ابتُلينَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالضَّرَّاء، فصبرنا، ثم ابتُلينا بعده بالسَّرَّاء، فلم نَصْبِر))

[ حديث موقوف حسن، أَخرجه الترمذي ]

 قد تفاجؤون بهذه الحقيقة: الإنسان الفقير عليه أن يصبر، والضعيف عليه أن يصبر، والمريض عليه أن يصبر:
 ولكن الذي في أشدِّ الحاجةِ إلى الصبر هو الغنيّ.
 الذي في أشدِّ الحاجةِ إلى الصبر هو القويّ.
 الذي في أمسِّ الحاجةِ إلى الصبر هو الصَّحيح.

 لأن الصحة والغنى والقوة تغري الإنسان بالمعصية، فالذي يملك أن يعصي، ولا يعصي، ويملك أن يسحق غيره، ولا يسحقه، خوفاً من الله عز وجل، هو صابر، وليس الغني بأقل حاجة إلى الصبر من الفقير، وليس القوي بأقل حاجة إلى الصبر من الضعيف، وليس الصحيح بأقل حاجة إلى الصبر من المريض.

 سيدنا يوسف شاب في ريعان الشباب، عبد مملوك، لا يحاسب كما يحاسب الحر، غريب، لا أحد يتناقل قصته إلى أهله، تأمره سيدته، وليس من مصلحتها أن يشيع الخبر، وسيدته فائقة الجمال، وهو شاب أعزب، ومأمور بهذه المتعة التي تفوق عند معظم الناس حدَّ الخيال، ومع ذلك قال: إني أخاف الله رب العالمين.

 بعض المفسرين أحصى أكثر من عشرة أسباب تجعله يرتكب هذه المعصية، ولكنه كان صابراً في النعمة، لذلك هناك صبر في النعمة، وهناك صبر في المصيبة.

ما يعين على الصبر :

 أيها الإخوة: مما يعين على الصبر عن المعاصي، أن يبتعد الإنسان عن أصحاب السوء، قال تعالى:

 

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

( سورة الكهف : 28)

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

( سورة التوبة : 119)

 يجب أن تكون مع المؤمنين، يجب أن تعيش في أجواء إيمانية حتى تصبر، وإلا إذا عشت مع الشاردين، مع العصاة والمذنبين، لن تصبر على ما أنت فيه.

وأخيراً :

 أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ضرورة العلم لتحقيق الصبر :

 أيها الإخوة الكرام: الصبر نصف الإيمان، والصبر من علامات الإيمان، والصبر معرفة بالواحد الديان، والصبر معرفة بالآخرة، فمن عرف أن الله خلقه ليسعده في الدنيا والآخرة، فإن لم يكن على ما ينبغي ساق له من الشدائد ليحمله على التوبة، صبر عندئذٍ.
 الحقيقة: الصبر يحتاج إلى علم، أنت حينما تعرف الله، وحينما تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، تفهم لماذا ساق الله لك هذه المصيبة؟
 الأب الذي يرى أن لعبةً استحوذت على عقل ابنه، وصرفته عن الدراسة، وعن تهيئة مستقبل مشرق له، يحطم له هذه اللعبة.
 فهذا الطفل، إذا كان ضيق الأفق، يرى أن هذه اللعبة هي كل دنياه، فإذا تحطمت أقام الدنيا ولم يقعدها، أما إذا عرف أنه يستعد لمستقبل مشرق، وأن هذه اللعبة حالت بينه وبين الإعداد لهذا المستقبل رضي عندئذٍ.
 فالصبر يحتاج إلى علم بالله، الصبر يحتاج إلى معرفة سر وجودك في الدنيا، ليس لكي تستمتع، بل لتعمل للآخرة، لكي تكون الدنيا مطية للآخرة، وأن تستخدم الدنيا داراً لدفع ثمن الآخرة، لذلك:

﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾

( سورة الزمر : 15)

قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة :

 أيها الإخوة الأكارم: أعيد وأكرر، شيء يحتاج إلى فكر رياضي، تخيل واحداً في الأرض، وأصفاراً إلى الشمس، وكل مسافة ميليمتر يوجد صفر، كم سيكون هذا الرقم؟
 ثلاثة أصفار مع الواحد تساوي ألف، ثلاثة أخرى مليون، ثلاثة ثالثة ألف مليون، ثلاثة رابعة ترليون، فإذا كان كل ميليمتر يوجد صفر، من الأرض إلى الشمس، فمن عندي إلى الباب يتشكل رقم فلكي، فكيف إلى الشمس؟ والمسافة إلى الشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر؟
 الآن: هذا الرقم إذا كان صورة، والمخرج هو اللانهاية، فستصبح قيمته صفر، فالدنيا هي الصورة مهما كبرت، ومهما عظمت:

 

((عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به))

[ من حديث صحيح، أخرجه الحاكم في مستدركه ]

 والآخرة هي اللانهاية، فقيمة الدنيا إلى الآخرة صفر.

 ما أخذت الدنيا من الآخرة؟
 اركب في البحر، اركب في المحيط الهادي، أو في المحيط الأطلسي، أو في البحر المتوسط، وأمسك إبرة، واغمسها بماء البحر، واسحبها، بمَ رجعت من ماء البحر؟
 هذا تشبيه دقيق، ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس بمياه البحر.

العلم بحقارة الدنيا يعين على الصبر :

 هذا الذي يرى الدنيا هي كل شيء، هي محط رحاله، منتهى آماله، وينسى الآخرة، تسحقه المصائب، فيجمد، ويشلّ، لكن الذي يرى الآخرة تهون عليه الدنيا، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

( سورة النساء : 113)

 إذاً: أن تعرف الله، وأن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، وأن تأتي حركتك وفق منهج الله، وأن يكون لك عمل تتقرب به إلى الله، هذا فضل عظيم:

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

( سورة النساء : 113)

 أن تملك القارات الخمس، وأن تملك ثروات الأرض، وأن تملك شركات الأرض الكبرى، ثم يأتيك الموت، تؤخذ منك كلها.
 إذاً: لا يليق بعطاء الله أن ينتهي بالموت، هذا ليس بعطاء، ولكن العطاء الذي يليق بكرم الله، أن يعطيك الجنة، سعادة الأبد.
 لذلك حينما تعرف حقيقة الآخرة، وتعرف حقيقة الدنيا، وتعرف طرفاً من كمال الله عز وجل، وتعرف سر وجودك، وغاية وجودك، تجد نفسك صابراً، فالصبر يحتاج إلى معرفة.
 معرفتك بالله تحملك على الصبر، وغفلتك عن الله، وعن الدار الآخرة تجعلك تضجر، والدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، لكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان دعاءً متوازناً:

((اللَّهمَّ أَصْلِح لي ديني الذي هو عِصْمَةُ أمري، وأصَلِح لي دُنيَايَ التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعَل الحياة زيادة لي في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ راحة لي من كل شَرٍّ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

الدعاء :

 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور