وضع داكن
20-04-2024
Logo
ومضات في آيات الله - الدرس : 17 - لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

هل أراد الله أن يؤمن به عباده قصراً وقهراً وتسييراً؟

 أيها الأخوة الكرام, المسبحة فيها حبات، لكن خيطاً داخل هذه الحبات لولاه, لانفرطت هذه الحبات وتبعثرت، الخيط موجود لكنه لا يرى، فأيّة سورة في القرآن الكريم فيها محور، هذا المحور ينتظم الآيات، قد لا يبدو لك لأول وهلة، ولكن لو تعمقت في فهم السورة, لوجدت كل آيات السورة تتمحور حول هذا المحور.
 في سورة الشعراء يقول الله عز وجل يخاطب نبيه الكريم الذي أرسله هادياً للعالمين:

﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾

 -يعني أنت متألم أشد الألم إذ لم يؤمنوا-:

﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 3-4]

 لو أن الله أراد أن يؤمنوا قصراً وقهراً وتسييراً لآمنوا، ولكن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نؤمن به اختياراً، وأن نأتيه طوعاً، وأن نطيعه محبةًَ.

قف هنا :

 لذلك قال في آية أخرى:

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾

[سورة السجدة الآية: 13]

 لو أن القضية قضية إيمان بالخلق لآمنوا قصراً، ولو شئنا أن نلغي الاختيار، نلغي هوية الإنسان، نلغي حمل الأمانة، نلغي التكليف، نلغي أصل التصميم, لآتينا كل نفس هداها، يعني يا عبادي لو أني مجبر واحداً منكم على شيء, ما أجبرته إلا على الهدى.

قيل إن الله أجبر عباده على المعصية:

 هناك من يدّعي ويقول: إن الله أجبر عباده على المعصية، هناك من يفهم القضاء والقدر فهماً ما أراده الله عز وجل، فيردّ الله عليهم:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 28]

 لا يمكن أن يجبر ربنا جل جلاله عبده على المعصية، ولو أجبره على المعصية كيف يعاقبه, وكيف يحاسبه, وكيف يسائله؟ الحجة عندئذ للعبد، قال تعالى:

﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 149]

 أيها الأخوة, محور هذه السورة أنه: لا إكراه في الدين، لو أن الله أراد أن يهدي عباده جميعاً لهداهم قصراً، لكن هذا الهدى القصري لا يمكن أن يسعدهم، هو خلقهم ليسعدهم، والهدى القصري لا يسعدهم إطلاقاً, هذه واحدة.

كيف نفسر هذه الواقعة ؟

 الآن: ما الذي يفسر أن إنسانًا لم ير نبياً ولا رسولاً، ولم ير معجزةً، آمن من دون أن يلتقي بنبي ولا رسول، ومن دون أن يرى معجزة، وإنسانًا آخر رأى البحر قد صار طريقاً يبساً، هذا شيء فيه خرق للعادات كبير، رأى جبلاً خرجت منه ناقة، رأى ناراً لم تحرق إبراهيم عليه السلام، المعجزات كثيرة جداً، كيف آمن هذا من دون معجزة, وذاك رأى معجزات ولم يؤمن!؟.
 في القرآن الكريم وفي هذه السورة بالذات, آية تتكرر عقب كل قصة، يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾

[سورة الشعراء الآية: 174-175]

 يعني آية دالة على عظمة الله، دالة على وجوده، دالة على وحدانيته، ومع ذلك لم يؤمنوا، لكن متى يؤمنون؟
 الجواب: الإيمان هو طلب سابق لكل شيء، أنت حينما تتخذ قراراً بالإيمان، أو بطلب الحقيقة، أو بمعرفة الله, أيّ شيء تراه عينك يدلك على الله، هل من شيء أصغر في نظر الناس من بعرة؟ البعرة تدل على البعير، والأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، إنسان رأى أقدامًا، قال: مشى في هذا المكان إنسان، إنسان رأى ماء يجري، قال: هناك نبع، إنسان رأى دخانًا فقال: هناك نار، إنسان رأى بعرة فقال: هناك جمل، هذا الذي أراد أن يؤمن, أقلّ شيء في الكون يدله على الله، والذي أراد ألاّ يؤمن، أراد أن يعيش لشهوته, لو كان موظفاً في قاعدة ناسا الفضائية، ويرى كل يوم بالتلسكوبات صور المجرات ما يأخذ بالألباب لا يؤمن، والذي هو في مركز المجهر الإلكتروني يرى الخلايا، يرى أدق الدقائق لا يؤمن، فقد تجد أكبر آية ولا تؤمن، وقد تؤمن بأصغر آية، الجواب الدقيق:
 الذي اتخذ قراراً بطلب الحقيقة والإيمان, أيّ شيء يدله على الله، والذي لم يتخذ هذا القرار, مهما تكن الآيات صارخةً لا يؤمن.

محور هذه السورة :

 والآن: محور هذه السورة: أنهم رأوا الطريق عبر البحر، ضرب موسى بعصاه فأصبح البحر طريقاً يبساً، طبعاً: فرعون من ورائهم؛ بجبروته، بقوته، بقسوته، بطغيانه، بحقده، بجماعته، بجنوده، بأسلحته، ورأى سيدنا موسى معه شرذمة قليلون، فلما وصلوا إلى ساحل البحر بالحسابات الأرضية لا أمل، وثمة يقين أنهم هالكون، قال تعالى:

﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾

[سورة الشعراء الآية: 61-62]

 هذا شيء لا يتصوره العقل، الله عز وجل أمر سيدنا موسى أن يضرب البحر بعصاه، وأصبح طريقاً يبساً، رأى بنو إسرائيل هذه الآية، قال تعالى:

﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 138]

 معنى ذلك: أنك قد تجد أكبر آية ولا تؤمن، وقد تستدل على الله بأصغر آية، وبشكل مختصر: نتصور هذا الإنسان الذكي الذي معه شهادات عليا يعمل في قاعدة فضاء كبيرة جداً، يرى ما لا يراه الناس، هذا الذي ركب غواصة أبحاث، ورأى أعماق البحار, والجزر المرجانية, والأسماك التي تزيد أنواعها على مليون، وهذا الذي وقف على مجهر إلكتروني، فرأى الخلية، ورأى الأعضاء والأجهزة، هؤلاء قد لا يؤمنون، والذي رأى بعرةً قد يؤمن، معنى ذلك: أن الإنسان إذا اتخذ قراراً بطلب الحقيقة, كل شيء يدله على الله، وإن لم يتخذ هذا القرار, فلا شيء يمكن أن يقنعه بوجود الله.

قف عند هذا الاستنباط:

 من هذا نستنبط: أن الإنسان الذي حصل علماً أرضياً عالياً جداً, يشبه آلة تصوير من أغلى نوع، هناك آلات ثمنها مليون ليرة، لكن هذه الآلة على تفوقها: إذا لم يكن فيها فيلم, فطلب الحق هو الفيلم، فمهما التقط من مناظر, فليس لها أثر إطلاقاً، فقد تجد إنسانًا عالمًا بالخلايا، عالمًا بالفضاء، عالمًا بالطب، عالمًا بالكيمياء، عالمًا بالذرة، وأمامه آيات تجعل الحجر يسجد ولا يؤمن، وتجد إنسانًا غير مثقف لم يقرأ، لم يطالع، لم يبحث، لكنه أراد الله عز وجل، فدله على الله أيّ شيء:

﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾

[سورة القمر الآية: 41]

الكون أكبر معجزة تدل على الله عز وجل:

 أخواننا الكرام, الأقوام السابقة بحكم ثقافتهم: احتاجوا إلى معجزات حسية، لكن المؤمن الصادق يعلم أن الكون من دون خرق لعادات؛ بوضعه الراهن, بأنظمته معجزة.
 مرة قرأت مقالة في مجلة علوم تصدر ببلد غربي بعيد جداً مترجمة في الكويت، اسمها: مجلة العلوم، حوالي خمس وعشرين صفحة عن ظاهرة الماء، شيء لا يصدق، هذا الماء شأنه شأن أي عنصر في الأرض، إذا سخنته يتمدد، وإذا بردته ينكمش، هكذا كل عناصر الأرض، إلا الماء إذا بردته ينكمش عند درجة زائد أربعة، يزداد حجمه، أشهد الله, لما قرأت المقالة, شعرت بألم في الرأس لتعقيد المقالة، كيف تنعكس الآية؟ كيف في هذه الدرجة يزداد حجمه؟ لولا هذه الظاهرة لما كنتم في هذا المسجد، ولا كان أحد في هذا البلد، ولا كان إنسان في هذه الأرض، لأن الماء إذا بردته وانكمش تزداد كثافته، فيغوص في أعماق البحر، بعد حين تتجمد البحار، وبعد حين تنعدم الأمطار، ويموت النبات، ويموت الحيوان، ويموت الإنسان، هذه آية، الآيات التي بين أيدي الناس لا تعد ولا تحصى؛ آيات الله في الفلك، آيات الله في الأرض، آيات الله في البحار، آيات الله في السماء، في الأطيار، في الأسماك، في الغذاء، في الحمل، في الولادة، في خلق المخلوقات، أنت أمام كمٍّ من الآيات لا يعلمه إلا الله، فالكون من دون خرق لنواميسه، من دون خرق لقوانينه، من دون خرق لعادات البشر، الكون وحده معجزة، ولكن من ضعف الإنسان يريد خرقاً للمعجزات.
 الآن: أحياناً تجد حلقة دينية أو جماعة دينية تبني الدعوة على الكرامات والمنامات، لا يلزم الكرامات ولا المنامات، الكون بوضعه الراهن أكبر معجزة تدل على الله عز وجل.

اعلم هذه الحقيقة :

 فيا أيها الأخوة, الآية تتكرر:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾

[سورة الشعراء الآية: 174-175]

 إذاً: ما لم تتخذ قراراً ذاتياً حراً مع الإصرار على طلب الحقيقة ومعرفة الله, فهذه الآيات مهما عظمت، ومهما تعددت، ومهما كبرت لم تقنعك، يقنعك أقلّ آية إن أردت الحقيقة، لذلك قالوا:
لم أر أشد صمماً مِن الذي يريد ألاّ يسمع.
 الإنسان إذا أراد ألاّ يسمع, هو أشد الناس صمماً، قال تعالى:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾

[سورة الشعراء الآية: 174-175]

لو أنزل القرآن بلغة أعجمية هل كانوا يؤمنون به؟ :

 وفي قوله تعالى:

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَنَ﴾

 -لو أن هذا القرآن أنزل على إنسان أعجمي، وجاء إلى الأمة العربية، وقرأ عليهم قرآناً باللغة الأعجمية, قال تعالى-:

﴿فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَنَ﴾

 -مثل صارخ, أنزل القرآن بلغة أعجمية على إنسان أعجمي، وهذا الأعجمي جاء إلى مكة، وقرأ عليهم هذا القرآن ما كانوا به مؤمنين، قال تعالى-:

﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾

[سورة الشعراء الآية:198-200]

 لذلك: القرآن لا يزيد الظالمين إلا خساراً، القرآن كما قال الله عز وجل:

﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾

[سورة فصلت الآية: 44]

 فما لم تطلب الحقيقة، وما لم تكن طاهراً لا تفهم هذا القرآن.

معنى الدقيق لـ لا :

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾

[سورة الواقعة الآية: 77-79]

 هذه لا: ليست لا ناهية، لا: نافية، لو أنها ناهية, لكان أمراً تكليفياً لك أن تعصيه، أما إذا كانت نافية فهذا أمر تكويني، لا تستطيع أن تعصيه، يعني إذا وضعت لوحة مكتوب عليها: ممنوع المرور، الطريق سالك، إن سلكت تدفع الثمن، لكنه سالك، أما إذا وضعت مكعبات إسمنتية في الطريق، فهذه حالة أخرى، لا تستطيع أن تخرق هذا الطريق، فالله عز وجل له أمر تكويني، وله أمر تكليفي؛ الأمر التكليفي يعصى، ويدفع العاصي الثمن، لكن الأمر التكويني هو فعل الله عز وجل، قال تعالى:

﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾

[سورة الواقعة الآية: 79]

 هذه لا: نافية، وليست ناهية، لو أنها ناهية, لكان ما بعدها مجزوما، إذا كان الفعل مضعفًا لا يمسَسْه إلا المطهرون، هو لا ينهانا، لكنه يؤكد لنا أن هذا القرآن الكريم لا يمكن أن تفهم معانيه، ولا أن تمس مضامينه, إلا إذا كنت طاهراً، فذلك:

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 198-200]

﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 201]

اعلم أن خيارك مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض:

 أخطر نقطة أيها الأخوة: أن خيارك مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، مع مليون شيء لك خيار قبول أو رفض؛ ترفض عملاً، ترفض وظيفةً، ترفض فتاةً، ترفض سفراً، لكنك مع الإيمان: خيارك مع الإيمان خيار وقت، لا بد من أن تؤمن، ولكن بعد فوات الأوان، كفرعون الذي قال:

﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾

[سورة النازعات الآية: 24]

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾

[سورة القصص الآية: 38]

 عندما أدركه الغرق قال:

﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾

[سورة يونس الآية: 90]

 كل كفار الأرض، وكل الملحدين، وكل أعداء الدين، وكل الشاردين، وكل العصاة، وكل الفجار عند الموت يؤمنون بفحوى دعوة الأنبياء، ولكن بعد فوات الأوان:

﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾

[سورة يونس الآية: 91]

ماذا نستنتج من هذا المثال؟ :

 مثل صارخ: لو تلي القرآن باللغة الأعجمية على قريش ما فهموا منه شيئاً.
 أنا كنت مرةً في إيران, ما تمكنت أن أتفاهم ولا بحرف مع هذه اللغة، حتى الأرقام ليست كما نألف، لو أن هذا القرآن جاء بلغة أعجمية وقرأ علينا, لا نفقه منه شيئاً، هذه الحالة تشابه تماماً كيف يسلكه الله في قلوب المجرمين، لذلك: أن تفهم القرآن، وأن تتعظ به، وأن تدرك مضامينه، وأن تتأثر ببلاغته وفحواه, هذه نعمة لا تعدلها نعمة، لأن الله يقول:

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً﴾

[سورة الإسراء الآية: 82]

﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾

[سورة فصلت الآية: 44]

ما الذي يحكم الإنسان إذا عطل عقله؟ :

 النقطة الدقيقة: قال تعالى:

﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 201]

 إذا عطل الإنسان عقله يحكمه الواقع، أما إذا أعمل عقله يحكمه البيان والنص، فكلما ارتقى الإنسان يتأثر بالنص والبيان، وكلما هبط مستوى الإنسان يتأثر بالواقع، يعني أبسط مثل:
 كم منا مَن يخطط للمستقبل؟ لكن يأتي البرد فجأةً فيبحث عن الوقود السائل، وازدحام، وارتفاع أسعار فرضاً، وتأخير في تنفيذ الطلبات، لو أنك فكرت قبل شهر، وملأت المستودعات, كنت في راحة تامة، فكلما ضعف تفكير الإنسان يحكمه الواقع، ويصبح فعله رد فعل، قال تعالى:

﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 201]

تعليق :

 مرة نظر هارون الرشيد إلى سحابة، وقال: اذهبي أينما شئت, فإنه يأتيني خراجك.
 أنا علقت على هذا القول, فقلت لإنسان شارد لا يصلي, عاص: اذهب أينما شئت, نهايتك إلى المسجد، لكن تأتي أحياناً بعد فوات الأوان، تأتي بالستين، وشتان بين من ينضبط ويتوب إلى الله وهو في العشرين، وينشأ في طاعة الله، والذي يأتي بعد فوات الأوان، يأتي بضعف:
 من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة.

الآية التي يقرؤها عمر بن عبد العزيز :

 أخواننا الكرام, آية كلما قرأتها اقشعر جلدي, كان سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يدخل مقر الخلافة إلا بعد أن يقرأها، وكأنها شعار:

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِين﴾

 -بيوت، قصور، مركبات، طائرات، إعلام، الاقتصاد بيدهم، البنوك بيدهم، الإعلام كله بيدهم، الثروات الطائلة بيدهم، إن ذهبت إلى الغرب تعلم ما معنى قولي هذا؟ هم غارقون في متع لا يعرفها إلا الله-:

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 205-207]

 أيّ إنسان شرد عن الله، وابتعد عن الله، ولم يعبأ بمنهج الله، وعصى الله عز وجل, تنطبق عليه هذه الآية:

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

[سورة الشعراء الآية:205-207]

 لذلك: سيدنا عمر بن عبد العزيز عين مرافقًا له اسمه: عمر بن مزاحم, وكان من العلماء، قال له: كن معي دائماً، وراقبني، إن رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت.
هذه آية شهد الله أنها تدخل إلى أعماق الإنسان:

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

[سورة الشعراء الآية:205-207]

هل فكرت في هذه اللحظة؟ :

 ساعة مجيء ملك الموت, صاعقة للشارد عن الله، يفقد الرجل كلّ شيء، ويقدم على عذاب أبدي، لذلك قال الله عز وجل:

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً﴾

[سورة الكهف الآية: 103]

 أنا لا أرى أذكى، ولا أعقل، ولا أشد فلاحاً، ولا أشد فوزاً، ولا أشد توفيقاً من الذي يعد لساعة الموت.

ما ينبغي أن تعد للموت :

 كنت مرةً في المغرب, أعجبتني كلمة على محل تجاري: صلّ قبل أن يصلى عليك.
 ندخل جميعاً إلى المسجد لنصلي، لكن في يوم واحد ندخله في نعش ليصلى علينا، نخرج كل يوم من البيت قائمين، وسنخرج مرة في نعش ولا نعود أبداً، كل مرة نعود ونخرج، لكن مرة نخرج ولا نعود على أقدامنا، هذه الساعة التي لا بد منها، فلنعدّ لها بالتوبة النصوح، ويعد للموت بطلب العلم، ويعد للموت بالعمل الصالح، ويعد للموت بإنفاق المال.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور