وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الذاريات - تفسير الآيات 24-46 - المؤمن المستقيم يعلم أن الله يراقبه في كل أعماله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة الذاريات، ومع الآية الرابعة والعشرين.


من دلائل نبوة الرسول الكريم إخباره بأخبار الأمم السابقة:


 قال تعالى:

﴿ هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ (24)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 "هل" حرف استفهام، والاستفهام هنا استفهام إنكاري، أيْ لم يأتِك، فَمِن أين جئتَ بهذه الأخبار؟ إنَّه من دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك في القرآن الكريم أنواع ثلاثة من الأخبار؛ غَيبُ الماضي، وغيبُ الحاضر، وغيب المستقبل، وهذه القصّة من غيب الماضي، وهي من دلائل نبوّة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني أنت نشأت في الصحراء، وأنت أُمِّيٌ قال تعالى:

﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ(48)﴾

[  سورة العنكبوت  ]


أمية النبي عليه الصلاة و السلام كمال فيه و ليست نقصاً:


 أُمِّيَّة النبي عليه الصلاة والسلام كمالٌ فيه؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي علَّمَهُ، قال تعالى:

﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)﴾

[  سورة النجم  ]

 ولو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم تلقَّى من ثقافة عصره الشيء الكثير، ثمَّ جاءه الوحي العظيم، لكان هناك سؤالٌ لا يبْرح أذهان أصحابه؛ فكلَّما قال شيئاً يُقال له: أهذا وَحْيٌ أم مِن ثقافتك؟ أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون كلّ نُطق النبي عليه الصلاة والسلام وحياً يوحى، فهو معصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله وإقراره وصفاته، وعلَّمه الله جلّ جلاله، وقطعه الله عن ثقافة عصره فهو أُمِيّ لا يقرأ ولا يكتب، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ﴾ فهل أتاك أي لم تأتِكَ يا محمّد قبل هذا تلك الأخبار، إنَّها من عند الله عز وجل الذي يعلم السرّ وأخفى، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. 


قدوم الملائكة إلى سيدنا إبراهيم على شكل ضيوف كرام:


 قال تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ﴾ ضيف إبراهيم هم الملائكة عليهم السلام، جاؤوا هذا النبي العظيم، جاؤوا أبا الأنبياء على شكل ضيوف، ومن شيمة الأنبياء الكرم، فهم مُكرمون: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ﴾ قال علماء التفسير: إما أنَّ إبراهيم عليه السلام بالغ في إكرامهم فصاروا مكرمين، أو أنَّهم من طهارتهم واستقامتهم مُكَرَّمون.


استقامة الإنسان و أعماله الطيبة تجعله مكرماً عند الله و عند الناس:


 الإنسان باسْتِقامته، وترفّعه عن السَّفاسف، وتعلّقه بالكمالات، وباتِّصاله بالله عز وجل يُكرَّم عند الله، وعند الناس، فَفُلانٌ من الناس مُكرَّم باسْتِقامته، ومُكرَّم بإكرام الناس له، وكِلا المعنيَيْن يصِحّ في هذه الآية يمكن أن تستقيم، وأن تلتزِمَ الصِّدق، وأن تؤدِّي الأمانة إلى أهلها، وأن تفي بالوعد، وأن تنجز العهد، عندئذ أنت مكرَّم عند الناس وعند الله تعالى، فأعمالك الطيّبة تنتزع تكريم الناس لك، واستقامتك تلفت النَّظر، وعِفّتك تلفت النَّظر، وإقبالك على الله يلفت النَّظر، فأنت بإمكانك أن تُكرِّم نفسَك بِتَرفُّعها عن الدَّنايا، وحينما تكرِّم نفسَك بالتَّرفّع عن الدنايا يُكَرِّمك الله عز وجل عن طريق تكريم الخلق لك، قال تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي(39)﴾

[  سورة طه  ]

 أيْ ألْقَيْتُ حُبَّك في قلوب الخلق، وما أخْلص عبدٌ لله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودَّة والرَّحمة، وأثْمن ثرْوةٍ، وأعظم رأسِمالٍ تملِكُهُ ثِقة الناس بك، ومحبَّتهم لك. 


التواضع، العفة، الصدق، و الإخلاص كمالات ترفع الإنسان عند ربه:


 إذاً وقفة دقيقة، فأنت باسْتِقامتك، وعِفَّتك، وطهارتك، وصِدقك، ووفائِكَ بِعَهدك، وإنجازك لِوَعدكَ، وترفُّعِكَ عن الدَّنايا تتكرَّم في ذاتك والناس يُكَرِّمونك، فإذا فعَلْتَ هذا كرَّمَكَ الله تعالى جزاءً، وألقى حُبَّك في قلوب الخلق، وألقى مهابَتَك في قلوب الخلق، وجعل قلوب الخلق تميل إليك، فإذا أردْت عِزاً بلا سلطان، وإذا أردت رِفْعةً بين الناس فَكُنْ مع الله، وأخْلِص لله، واسْتقِم على أمر الله، وأقْبِل على الله تعالى، وإذا أحبّ الله عبداً ألقى حُبَّه في قلوب الخلق، قال: 

يُنادَى له في الكون أنَّا نُحِبُّه   فيسْمَعُ مَن في الكون أمر مُحِبِّنا

[ علي بن محمد بن وفا ]

والشيء الآخر، أنَّ الكمال محبوب، والعِفَّة مُعظَّمة، والصِّدْق مُبجَّل، والكرم يُمال إليه، فالكريم، والصادِق، والعفيف، والمتواضع، والمخلص، والوفي، هذه الكمالات هي التي ترفع الإنسان عند الله، بِرَبِّكم، النبي عليه الصلاة والسلام أليس خطيباً من أعظم الخطباء؟ بلى، أليس عالماً من أجلّ العلماء؟ بلى، أليس قائداً سياسيًّاً مُحنَّكاً من أعظم القادة؟ بلى، أليس أباً كاملاً؟ بلى، أليس زوجاً ناجحاً؟ بلى، أليس أخًا وفيّاً؟ بلى، أليس خطيباً مُفوَّهاً؟ بلى، أليس حكيماً؟ بلى، لمّا أراد الله أن يمْدحَهُ؛ بماذا مَدَحَهُ؟‍ قال تعالى: 

﴿  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾

[  سورة القلم  ]

 ما الذي يُعْتَمد عند الله؟ الخُلق العظيم، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾


الْمُكْرَمِينَ: كلمة لها عدة معان منها:


 فلذلك قال تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ﴾

1 ـ إبراهيم عليه السلام بالغ في إكرام الملائكة:

 المعنى الأوّل: أنَّ إبراهيم عليه السلام كرّمهم، بالغَ في إكرامهم فَهُم مُكْرمون.

2 ـ الملائكة لطهارتهم صاروا مكرمين:

 والمعنى الثاني أنَّ الملائكة لِطهارتهم، وإقبالهم، وتعلّقهم بالله عز وجل صاروا مُكَرَّمين.  

3 ـ المعنى العملي بأن الله إذا أحب إنساناً مستقيماً أكرمه:

 الآن المعنى العملي، أيُّ واحِدٍ من المؤمنين إذا جَهِدَ في ضَبط نفسِهِ، وضبط أعضائِهِ وجوارحه، وضَبْط دَخْله وإنفاقه، وضبْط بيته وعمله، وكلّ شؤون حياته وِفق منهج الله، الناس يُكَرِّمونه بشكل عفوي، فالناس يُحِبُّون الصادق، ويُحِبُّون المنْصِف، ويُحِبُّون المتواضِع، ويُحِبُّون العفيف، ويُحِبُّون الأمين، ويُحِبُّون المستقيم، لذلك أنت تُكرِّم نفسك بالاسْتِقامة، فيُكَرِّمك الله تعالى بإلقاء حُبِّه في قلوب العباد، ألم يقل تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ فإذا أحبَّك الله عز وجل وصَلتَ إلى كلّ شيء، والله أيها الإخوة، ما من عطاءٍ، ولا كسْب، ولا إنجاز، ولا تفوّق، ولا نجاح، ولا فلاح، ولا نصر، ولا فوْزٍ أعظم من أن يُحِبَّك الله تعالى، لذلك: 

(( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. ))

[ صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري ]


السعادة المادية المحضة تحتاج إلى وقت و مال و صحة:


 أيها الإخوة الكرام، لو أنَّ الإنسان ترك الآخرة، وترك التَّوَجُّه نحو الله عز وجل، وأراد الدنيا، الدنيا بين يديه، الشيء الملموس من المال والنِّساء والمناصِب والمُتَع والبيوت والحدائق والطعام والشراب، لو أنَّه أراد الدنيا ماذا ينتظرهُ؟ قال عليه الصلاة والسلام:  

((  بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))

[  رواه الترمذي عن أبي هريرة ]

 ماذا ينتظر العبد المعرِض عن الله غير هذه الأشياء؟ ثمَّ إنَّ الناس يعلمون أنّ الرجل إذا ترك الآخرة، وترك ربّه، وأدار ظهره للدِّين، وأراد السَّعادة المادِّية المَحْضة في الدنيا لا تُتِمُّ له؛ لأنَّ السعادة المادية المحضة تحتاج إلى وقت، وإلى مال، وإلى صِحَّة، ففي بِدايته ليس هناك مال والصحَّة متوافرة والوقت متوافر، وفي منتصف حياته الصحّة موجودة والمال موجود والوقت غير موجود، وفي آخر حياته الصحَّة غير موجودة والمال موجود والوقت موجود! فدائماً يوجد عنصر ناقص، والله عز وجل جعَلَ الحياة هكذا كي لا نرْكن إليها، ولكنّ الإنسان إذا عرف الله عز وجل يسْعد بِقُربِهِ، ويسْعد في تحقيق هدفه. 


على الإنسان ألا يعلق أهمية كبيرة على معرفة الناس له المهم أن يعرفه الله:


 ثمّ قال تعالى: 

﴿ هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ(24) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمًاۖ قَالَ سَلَٰمٌ قَوۡمٌ مُّنكَرُونَ (25)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 لكنَّه ما عرفهم ﴿قَومٌ مُنْكَرون﴾ ! سيّدنا عمر جاءهُ رسولٌ مِن إحدى المعارك في شرق آسيا فسأله ما الذي حدث؟ فقال الرسول: ماتَ خلْقٌ كثير، فقال له عمر: اُذْكُر لي أسماءهم، فَذَكَر له بعض أسمائهم، فقال: أيضاً؟ فقال الرسول: ومات آخرون وأنت لا تعرفهم، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: وما ضرَّهم أنِّي لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم، أي لا تُعَلِّق أهَمِيَّة كبيرة على أن يعرِفَك الناس، فالله يعْرِفُك، قال تعالى:

﴿ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍۢ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍۢ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍ(61)﴾

[  سورة يونس ]

 وقال تعالى:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)﴾

[  سورة الشعراء ]


المؤمن الحق يراقب الله و يعلم أن الله يراقبه:


 حالُ المُراقبة، فالمؤمن الكامل دائِماً يُراقب الله تعالى، ويُراقبُ أنَّ الله يُراقبُهُ، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[  سورة النساء  ]


تعليم الله الإنسان آداب الضيافة وهي:


 لكنّ هؤلاء الملائكة الذين في صُورة البشَر ما عرفهم إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٌ قَوۡمٌ مُّنكَرُونَ﴾ الآن الله جلّ جلاله في كلماتٍ عِدَّة يُعلِّمنا آداب الضِّيافة. 

1 ـ إكرام الضيف دون سؤاله:

 قال تعالى: 

﴿ فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٍ سَمِينٍ (26)﴾

[ سورة الذاريات ]

معنى "راغَ" في المعاجم أيْ انْسلَّ خُفْيَةً! دون أن يُعْلِمَ الضَّيف، ومن أدب الضِّيافة أنَّك إن أردْت أن تُكْرِمَ الضَّيف فلا ينبغي أن تسألهُ، إنَّك إن سألْتَهُ أحْرجتهُ، وإنَّك إن سألْتَهُ تَمَنَّع وقال: لسْتُ بِحاجة إلى الطَّعام، ربما أُحرِج، وربَّما اسْتحيا، فمن أدب الضّيافة ألا تسألهُ.  

2 ـ على الإنسان أن ينسل خفية لجلب الطعام:

 ألا تخرج من البيت أمامه وكأنَّك ذاهبٌ إلى جلب الطَّعام، ﴿فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ﴾ انسلّ خفية، قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ﴾ هذه الفاء تُفيد الترتيب على التعقيب أيْ ما إن خَرَج من عند الضُّيوف إلا وأحضر لهم الطعام. 

3 ـ عدم التأخر في إحضار الطعام:

 ومن أدب الطَّعام ألا يتأخّر، فالتَّأخّر الشديد في إحضار الطَّعام يُتْعِبُ الضَّيف، ويجعلهُ يتضجّر، فالأدب الثاني أنَّه عاد بالطَّعام سريعاً، معنى ذلك أنَّه مُسْتعِدّ، والكرماء دائماً يسْتَعِدُّون، وعندهم أكلات كثيرةٌ جاهزة، فما إن يأتي الضَّيف إلا والطَّعام بين يدَيه، وهذا من شِيَم الكرماء، وإطعام الطَّعام من السنّة، قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ﴾ مشْويّ، وورد في الحديث:

(( مثلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّحْلَةِ، لا تَأْكُلُ إلا طَيِّباً، ولا تَضَعُ إلاَّ طَيِّباً. ))

[ رواه ابن حبان بسند ضعيف ]

 قال تعالى:

﴿ وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)﴾

 

[ سورة الكهف  ]

4 ـ تقريب الطعام إلى الضيف و دعوته إلى الأكل:

﴿فَجَآءَ بِعِجۡلٍ سَمِينٍ﴾ بعد أن جاء بهذا العِجل السَّمين الطيّب الشهيّ المَشْويّ قرَّبَهُ إليهم، فمعنى ذلك أنَّ المُضيف ينْبغي أن يُلاحِظ أنَّ هذا الطَّبَقَ بعيدٌ عن الضَّيف، وينبغي أن تُقَرِّبَهُ إليه، وقرِّب إليه الماء، والخبز، هذا الطبق يحبه.

﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)﴾

[  سورة الذاريات  ]

وأحيانًا يضَعُ المضيف الطعام أمام الضَّيف، وينْشَغِلُ بِحَديثٍ طويل، وينسى أن يقول له: تفضل كُلْ، والضَّيف يستحي أن يبْدأ بالطَّعام قبل أن يُدعَى، إذاً من أدب الضيافة أيضاً، أن تقرّب الطعام إلى الضيف، وأن تدعوه إلى الأكل، قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٍ سَمِينٍ*فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾


خوف سيدنا إبراهيم من الضيوف عندما لم يأكلوا:


 لكنهم ما أكلوا، فحينما لم يأكلوا: 

﴿ فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٍ (28)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 إما لأنَّهم لم يأكلوا، أو إما لأنَّ عدم الأكل دليل عداوةٍ أو حِقدٍ، قال تعالى: ﴿فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٍ﴾


أعظم فضل على الأب أن يكرمه الله بابن مستقيم مهذب:


 بشَّروا هذا النبي الكريم بِغُلامٍ عليم، والله عز وجل إذا أكْرم الإنسان بِغُلامٍ نجيب، وبِغُلامٍ مُستقيمٍ، وبِغُلامٍ مؤمن، وبِغُلامٍ مُحِبّ لله عز وجل، وبِغُلامٍ يسْعى مع أبيه فهذا مِن أعظم الفضل على الأب، فالآباء الذين يَهَبُهم الله عز وجل أولاداً نُجَباء، خلوقين، ومُنيبين، ومُستقيمين؛ هذه ثَرْوَة لا يُمكن أن تُقدَّر بِثَمن، لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّ أَطيبَ ما أَكلَ الرَّجلُ مِن كَسْبِه، ووَلدُه مِن كَسْبِه. ))

[ صحيح النسائي ]

لكنّ شيئًا لا يكون من لا شيء، فأنْ تُنْجِب الأولاد، وأن تدعهم للطريق، ولِرُفقاء السُّوء، وأن تُهْمِل تربيَتَهم، وأن تهمل تهذيبهم، وتعليمهم، وتوجيههم، فإذا شَبُّوا انْحرفوا، وانساقو وراء شَهَواتهم، ومع أصدقائهم السيِّئين؛ عندئذ تندب حظَّك، أنت هو المقصِّر، فالطِّفل الصَّغير ينبغي أن يُرعى في وقت مُبكِّر، وأبوه مَسؤول عنه، وعليه أن يُلَقِّنَهُ العِلم، والأدَب، والخُلُق، وحُبَّ رسول الله، وحُبَّ أصْحابِه، وأن يُعَلِّمه القرآن، ويُفقِّهَهُ بالفقه، ويعلّمه السير والمغازي. 


استغراب امرأة إبراهيم بأن تنجب طفلاً و هي عجوز عقيم:


 قال تعالى:  

﴿ فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٍ (28)فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ(29)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 لا أقول ضربَتْ وجْهها، كأن تقول: ردَدْتُهُ على ظهره قال تعالى:

﴿  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)﴾

[  سورة طه  ]

 أهشّ بها لا يعني أنَّه يضرب بها غنمهُ، ولكن يضَع العصا على غنمه، فكذلك صكَّت وجهها تَعَجُّباً! أَيُعْقلُ أن أُنْجِبَ وأنا في هذه السنّ؟ أَيُعْقلُ أن أُنْجِبَ وأنا عَجوز عقيم؟ 


قدرة الله عز وجل في تغيير الأسباب و تعطيلها:


 لذلك قال تعالى:  

﴿ فَأَقۡبَلَتِ ٱمۡرَأَتُهُۥ فِي صَرَّةٖ فَصَكَّتۡ وَجۡهَهَا وَقَالَتۡ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُواْ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ (30)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 أي محجبة، صكت وجهها. 

﴿ فَأَقۡبَلَتِ ٱمۡرَأَتُهُۥ فِي صَرَّةٖ فَصَكَّتۡ وَجۡهَهَا وَقَالَتۡ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُواْ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ (30)﴾

[  سورة الذاريات  ]

وأنت عجوز عقيم، أي سوف تَلِدين غُلاماً عليماً، والمعجزة ليْسَتْ مُستحيلة عقلاً، ولكنَّها بعيدةٌ عادةً! وفرْقٌ كبير، لأنّ الله الذي خلق الأسباب قادِرٌ دائماً على أن يُعَطِّلها، وأن يلغيها، وأن يخلق نتيجةً من دون سبب قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ*قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ 


سؤال سيدنا إبراهيم الملائكة عن مهمتهم التي جاؤوا من أجلها:


 ثمَّ قال تعالى: 

﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(31)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 أيْ ما هي المهِمَّة التي أتَيْتُم من أجلها؟ وما الذي بعثكم إلى المجيء إليّ؟ 


إخبار الملائكة سيدنا إبراهيم عن المهمة التي كلفوا بها:


 قال تعالى:  

﴿  قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(34)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 أما معنى "مُسَوَّمة" أنّ كُلّ حَجَرٍ عليه اسم الذي سيَقْتُلُه، ولا يوجد شيء عند الله اسمه شظية طائشة، الشظية الطائشة سوء فهْمٍ من عندنا، أما عند الله فَكُلّ شيءٍ مُسَوَّم، ولكلّ شيء حقيقة: 

(( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. ))

[ رواه البزار ]


المجرم من يخسر الدار الآخرة:


 ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ*قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ مجرم، الذي يعصي الله تعالى مُجرم، قال تعالى:

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)﴾

[  سورة القلم  ]

 ما الذي يُقابل المسلم؟ المُجرِم، أجْرَمَ بِحَقِّ من؟ بحق نفسِهِ، فلمَّا الإنسان يخْسر الدار الآخرة، هو يخسَرُ نفسه، لا يزكيها، قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾

[  سورة الشمس ]

 حينما يخسر نفسَهُ فهو في حَقِّها مُجْرِم، حينما يخسر أهْله فهو في حَقِّهم مُجْرم، وحينما يخسر أولاده فهو في حقِّهم مجرم، هذا الذي لا يربي أولاده يخسرهم، وهذا الذي لا يدلّ زوجته على الله يخْسرها، وهذا الذي لا يزكِّي نفسه يخسرها، قال تعالى: 

﴿ ٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ ۗ قُلْ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ(15)﴾

[  سورة الزمر ]


من يخسر نفسه يخسر كل شيء:


 أنت لا تملك إلا نفسك فإذا خسرتها خَسِرْت كلّ شيء، لذلك قالوا: يا رب ماذا فقدَ من وجَدَك؟ وماذا وجد مَن فقَدَكَ؟

ابن آدم اُطلبني تَجِدني، فإذا وَجَدتني وجدْت كلّ شيء، وإن فِتُّكَ فاتَكَ كلّ شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء. 

قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ*قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ لا تتوهَّم الإجرام أن يدخل شخص إلى بيتٍ فيقْتل إنسانًا، فصار مجرماً، هذا في عُرْف مجتمعاتنا، أما المُجرم هو الذي لم يعرف الله تعالى، فأكل المال الحرام، واعْتدى على الأعراض، وتفلَّت من منهج الله تعالى، وما عرف سِرَّ وُجوده وغاية وجوده، وما عرف حقيقة الدنيا، وما عرف من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ ما عرف هذه الأسئلة، عاشَ كالناقة حبسها أهلها ثمّ أطلقوها، فلا هي عرفت لمَ حُبِسَت، ولا لِمَ أُطْلقَت، وجعله الله صحيح الجِسم، ما عرف لماذا، وما عرف هذه النِّعمة، وأمرضه الله فما عرف حِكمة المرض، ومن لم تُحدث المصيبة في نفسِهِ موعظة فمُصيبتُهُ في نفسه أكبر. 

(( ما مِن عَثرةٍ، ولا اختلاجِ عرقٍ، ولا خَدشِ عودٍ، إلَّا بما قدَّمت أيديكُم، وما يغفِرُ اللهُ أكثرُ. ))

[ ضعيف الجامع ]

هذا الذي ما عرف حقيقة الدنيا، وما عرف حقيقة مُهِمَّته في الدنيا، وما عرف لماذا خلقه الله؟ وماذا بعد الموت؟ فهذا مجرِم ولكن ليس بحاجة للزنزانة والإعدام والشنق، بل هو مجرم في حق نفسه. 


الشارد عن الله حين يأتيه الموت يصاب بألم لا حد له:


 لو أنَّه مكتوب على عمود الكهرباء: لا تقترب خطر الموت! فإذا اقترب الإنسان وأمسَكَ بالتَّيار، ومات، لا أحد يُحاسبهُ، لكنّ التيار هو الذي حاسَبه، ولو أنّ صاحب شاحنة كان يحمِل خمسة أطنان من السِّلعة، ووصَل إلى جِسر مكتوب عليه؛ الحدّ الأقصى ثلاثة طنّ فإذا سأل هذا السائل: هل هناك شرطي مرور حتَّى أجْتاز الجِسر؟ ليس هذا هو الموضوع، إذا مشيْت فوق الجِسر وقعت الشاحنة في النَّهر، فأحياناً تكون أنت مجرِمٌ بحقّ نفسك، ولا أحد يُحاسبك، فلمَّا وصَلتَ إلى الأربعين والخمسين ولا تصلي،  ولا تعرف الله تعالى، ولا تعرف ماذا ينتظِرُكَ بعد الموت، حينما يأتي الموت فجأةً يُصيبُ الإنسان من الألم ما لا يُطاق، والله لو كشَفْت على إنسانٍ تائهٍ شارِدٍ، وضالٍ مُضلّ جاءه الموت فجأةً، يدخل على قلبه من الألم والنَّدَم والحزن ما لو وُزِّع على أهل الأرض لكفاهم، قال تعالى: 

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)﴾

[  سورة الزخرف ]

 الإنسان حينما يأتيه ملك الموت وهو صفر اليدين، وليس معه عمل صالح، قال تعالى: 

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾

[  سورة آل عمران  ]


عدم طلب العلم و إتباع الهوى أكبر جريمة يرتكبها الإنسان بحق نفسه:


 قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ*قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ*مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ فَكَلمة "مُجرم" في القرآن لا تعني أنَّه قاتِل، بل تعني أنَّه إنسانٌ ما عرف الله وحمَّل نفسه ما لا تُطيق، ودسّا نفسه وما زكَّاها، وأبقاها جاهلة ومُنحرِفَة، وسَمَح لها أن تفعل ما تشاء، وأطلقها لِشَهَواتها، وجعلها كالدابة السائمة، لا تدري لا لمَ عُقِلَت ولا لمَ أُطلِقت، هذا هو المجرم، والدليل قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ فإن لم تكن مسلماً فأنت مجرم بِحَقّ نفسك، فإذا إنسان معه شيك بِمَبلغ خيالي (ألف مليون) ولم يعرف قيمته، فاسْتَعمله كَوَرقة مسْودَّة، ثم مزّقه وألقاه حينما يعلم الحقيقة؟ ما فعل شيئاً، ما قتل أحداً، ألف مليون لو ذهب إلى المصرف لقبضه، ولكنه لم ينتبه أنه شيك، جعله ورقة كتب عليها بعض الأسماء ثم مزقها وألقاها في المهملات، هذا مجرم بحقّ نفسه، فقد فوّت عليه هذا المبلغ الفلكي، فالإنسان أحياناً يرتكب جريمة بحق نفسه، وأكبر جريمة ألّا تطلب العلم، وأن تتَّبِع الهوى، وأن تكون مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا اسأت، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا. ))

[  رواه الترمذي  ]


كل إنسان مسؤول عن عمله:


 لا تقل: التيار جارف، هكذا الحياة، عفا الله عنا، بلوى عامة، هذا الكلام لا يُنجيك، وهذا الكلام لا معنى له، فأنت قادر على أن تستقيم، والدليل قوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

 فليس لديك حجة، الحجة تقام عليك.

 قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ إذا أطلق الإنسان لابنتِه العِنان، وقال: أنا أحب أن تعيش وقتها، وأن تعيش شبابها، وأن تنطلق في الحياة كي تَقْوى شَخْصِيَّتها، وقال لها: اِذْهبي حيث تشائين، وارْتدي أيّ الثياب تريدين، وأنا أُحبُّك أن تكوني متألِّقة في المجتمع، هذه يوم القيامة تقول: يا رب، أنا لا أدخل النار حتَّى أُدْخل أبي قبلي، لأنَّ هذا الأب في حقِّها مجرم، ضيّعها. 


المجرم يخطئ في حقّ نفسه و ليس في حق المجتمع:


 قال تعالى:  

﴿  وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)﴾

[  سورة التكوير ]

 هذه التي وُئِدَت إلى أين مصيرها؟ إلى الجنَّة، أما هذه التي أُفْسِدَت وفُتِنَتْ، وأُطلِقَ لها العِنان إلى أين مصيرها؟ إلى النار، من الذي أطلق عنانها؟ أبوها فهو مسؤول عنها، فهؤلاء الفتيات اللواتي يتنزَّهن في الطرقات والأسواق بِأبْهى زينة، كاسياتٍ عارياتٍ؛ أليس لهنّ آباء؟ أليس لهنّ أزواج؟ أليْس لهنّ إخوة؟ هؤلاء سيُحاسَبون عنهنّ، وقفْتُ هذه الوقفة عند كلمة "مُجرم" ، لأنّك إن لم تكن مُسلماً فأنت مجرِمٌ، لا في حقّ المجتمع ولكن في حقّ نفسك، فأقْرب مثل؛ لو أنَّ الأب ترك ابنه من دون توجيه ولا تعليم، ومن دون رِعايةٍ، ومن دون ضَبط، هذا الابن انطَلق مُتفلِّتاً، منحرفاً، سارقاً، شارداً، منغَمِساً في المعاصي، ودخل في عصابة، فأُلْقِيَ القبض عليه وأودِعَ السِّجن، من الذي فعل به ذلك؟ الأب، فهو الذي تركه، لذا نقول: هذا الأب في حقّ ابنه مجرمٌ، كلمة مستعملة من دون إدانة مجرم. 


الإنسان العاصي سمي مسرفاً لأنه خرج عن مسار منهج الله تعالى:


 قال: هذه الحجارة من الطِّين ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ ، الذين أسْرفوا على أنفسهم، والله عز وجل قال: 

﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(86)﴾

[  سورة هود  ]

 النِّساء كُثُر، فمن التي بقِيَتْ لك حلالاً؟ زوجتك، هذه هي بقيّة الله، والمال كثير، ولكن ما الذي يُسْمحُ لك منه؟ الدخل المشروع، بقي لك منه الكسب المشروع، أما الحرام محرَّم، فكلّ شيءٍ بقي لك من الشَّهوات التي أوْدَعها الله في الإنسان هي بقيَّة الله تعالى ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ، فما من شهوةٍ أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري فيها فالله تعالى رحيم، فأوْدع فينا حبّ النِّساء، ولكن فتح أبواب الزواج على مصارعها، وأودع فينا حب المال، وسمح لنا بالكسب المشروع، أود فينا حبّ العلوّ في الأرض، قال تنافسوا في الطاعات:

﴿ خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين ]

﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَٰمِلُونَ(61)﴾

[ سورة الصافات ]

﴿ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾

[ سورة يونس ]

فما من حاجة أو شهوة أو دافع أو مَيلٍ أودعه الله في الإنسان إلّا وهيّأ له قناةً نظيفة يسري خلالها، فمن هو العاصي؟ العاصي الذي خرج في شهوته عن مسار منهج الله عز وجل، مثلاً البنزين في السيارة إذا وُضِع في المستودع المحكم تماماً، وسار بالأنابيب المحكمة كلها إلى غرفة توزيع البنزين، ثم انفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة، أما إذا خرج عن مساره، وجاءته شرارة أحرق المركبة ومن فيها، فالشَّهوات لها قنوات نظيفة، ولها انحرافات خطيرة، لهذا سُمِّيَ العاصي مسرفاً، أي إنسان يسرف في إرواء شهواته في طريق غير منهج الله عز وجل هو مسرف، لكنّ عدالة الله عز وجل تلفت النَّظر. 


الله عز وجل إذا أراد حفظ عبد أبعده عن الخطر قبل وقوعه:


 قال تعالى:  

﴿  فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(36)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 حدَّثني أخٌ كان بِبَلدٍ غربي، حدث انفِجار وكان هناك شخص من بلد مسلم يعمل موظفاً في البناء الذي انفجر، قبل دقائق من الحدث الله تعالى أودعَ فيه حاجة إلى الخروج من البناء، وبعد أن خرج بِدقائق انفجر البناء، فالله عز وجل إذا أراد حِفظ عبداً من عباده يُبعِدُه عن موقع الخطر قبل وقت قصير، وهذا شيء يقع دائماً قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ قبل أن تأتي الملائكة بالحِجارة لِتَدمير قوم لوط ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ سيّدنا لوط وبِنتاه فقط، أما زوجته فمع قومها، ومن هَوِيَ الكفرة حُشِر معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً. 


طريق الإنسان إلى الله غير سالك إن لم يكفر بالكفار:


 الإنسان أحياناً يذهب إلى بلاد الغرب ولما يعود تجده يملأ الدنيا مدحاً لهم، ما رأيت الانحراف الخلقي؟ ما رأيت الزنى واللواط، وتبادل الزوجات، وزنى المحارم، وتفسخ الأسرة، وتطاول الأبناء على الآباء؟ ما رأيت هذا الشَّقاء الذين يعيشونه؟ نظرت فقط إلى أبنيتهم، وسياراتهم، وأنفاقهم، وحدائقهم، كُنْ مَوْضوعِيّاً، اُذْكُر ما لهم وما عليهم، ومن هَوِيَ الكفرة حُشِر معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً، فأنت إن لم تكْفر بالكُفر فالطريق إلى الله تعالى غير سالك، إذا رأيتهم أهل علم وثقافة وحضارة وقِيَم وحقوق إنسان ورحمة، انظر أين هي حقوق الإنسان في العالم؟ يَقضون على شَعبٍ بِأكملِهِ، وقد قيل:  

قَتْلُ امرئٍ في غابةٍ   جريمةٌ لا تُغْتَفـَر

وقتْلُ شَعبٍ آمـــــنٍ   مسألةٌ فيها نَظَر

[ أديب إسحاق ]

 فالذي يجري في أوروبا ليس بعيداً عنكم؛ أين رحمتهم؟ وأين حقوق الإنسان في أوروبا؟ أين عدالتهم؟ أين حرصهم على الإنسان؟ أحقادهم ظاهرة، فهؤلاء الكفار إن لم نكْفر بهم فالطريق إلى الله تعالى غير سالك، وأكبر إنجازٍ حصل، أنّ كلّ الناس يرون بِأعينِهِم جريمة هؤلاء الكفار، ففي الخمسينات كان هناك من يمْدحهم كثيراً ويثني عليهم، ولكنّهم الآن في الوَحل والحمد لله، ممكن أن يكون الطريق إلى الله تعالى سالك لأنّ هذا التعلق والتكريم والتعظيم انتهى. 


العقاب و الثواب الحقيقيين يوم القيامة:


 قال تعالى:  

﴿  فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(36) وَتَرَكۡنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ(37)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 فالله عز وجل أحيانًا يُعاقب بعض المنحرفين عقاباً رَدْعِيّاً لِبَقِيَّة المنحرفين، ويكافئ بعض المحسنين مكافأةً تشْجيعيَّةً لِبَقِيَّة المحسنين، ولكنّ الحساب الدقيق، لكن الرصيد يوم القيامة قال تعالى: 

﴿  كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 ففي الدنيا المُحسِن قد يُثاب تشجيعاً لبَقِيَّة المحسنين، وقد يُعاقَب المُسيء ولكن ليس هذا قاعدةً دائمة، ردعاً لبقية المسيئين، لكن المكافأة الحتمية الكاملة، والعقاب الحتمي الكامل يوم القيامة، ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾


معجزات الأنبياء فوق طاقة السحرة:


 قال تعالى:   قال تعالى:

﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(36) وَتَرَكۡنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ(37) وَفِي مُوسَىٰٓ إِذۡ أَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ بِسُلۡطَٰنٍ مُّبِينٍ (38)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 بالمعجزات: 

﴿ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)﴾

[ سورة الأعراف ]

هذا فوق طاقة السحرة.

﴿ وَفِي مُوسَىٰٓ إِذۡ أَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ بِسُلۡطَٰنٍ مُّبِينٍ (38)فَتَوَلَّىٰ بِرُكۡنِهِۦ وَقَالَ سَٰحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ (39)﴾

[  سورة الذاريات  ]

قال بعض المفسِّرين: الرُّكن هنا جَيْشُهُ، أي اعتمد على قوة معه كبيرة جداً، وأعرض عن سيدنا موسى، وبعضهم قال: تولّى بِجانبه أي لم يُعط للحق أُذُناً صاغيَة، ولم يلْتفِت إلى هذا النبي الكريم، ولم يعبأ به، ولم يعْقِل مقالة سيّدنا موسى، وتولَّى عنه جانباً، وأدار ظهره إليه.

 المعنى الثاني؛ أنَّ رُكن الإنسان جماعته، فهو قوي وطاغِيَة، فاعْتَمَد على قوَّته، ولم يعبأ بهذا النبي الضعيف، قال تعالى: ﴿فَتَوَلَّىٰ بِرُكۡنِهِۦ وَقَالَ سَٰحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ﴾


تثبيت التهم الباطلة التي اُتهم بها النبي ليكون أسوة للناس:


 بالمناسبة، الله عز وجل ذكر التُّهم الباطلة التي ألقاها الكفار على أنبيائه الكرام في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم القيامة، لو اقْتربنا من النبي عليه الصلاة والسلام: قالوا عنه ساحِر، وقد ذُكِر هذا في القرآن الكريم، وقالوا عنه مجنون، وقد نفى الله عنه الجنون، قال تعالى: 

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)﴾

[  سورة القلم ]

 وقالوا عنه كاهن، وقالوا شاعر، وكلّ هذه التُّهَم أثبتها الله في القرآن الكريم؛ ليكون النبي عليه الصلاة والسلام أُسْوةً حسنةً لِكُلّ داعية بعده إلى يوم القيامة، فالإنسان إذا دعا إلى الله، وكان له خُصوم أو حُسَّاد، أو أُناس يطعنون في علمه أو في نيّاته الطيّبة، فلا ينبغي أن يحْزن أو ييْأس فهذا شأن الحق والباطل إلى يوم القيامة، ومعركة الحق والباطل معركة أزلِيَّة، ولا تنقضي. 


خيار الإيمان خيار وقت فقط:


 قال تعالى:  

﴿ فَتَوَلَّىٰ بِرُكۡنِهِۦ وَقَالَ سَٰحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ (39) فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 أين قوَّته؟ الله عز وجل دَفَعَهُ إلى أن يتَّبِع موسى، سيّدنا موسى ضَرب البحر بِعصاه فإذا هو طريق يابس، دخل فيه والمؤمنون معه، ولما خرج من الضفّة الثانية تبِعَهُ فرعون، ولما أصبح فرعون وجنوده وسْط اليمّ عاد الطريق اليبسُ بحراً، فأغرقه الله، وفي أثناء غرقه قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

 معنى ذلك أنَّ خيار الإيمان خيار وقت، فهذا أكفر أهل الأرض الذي قال: 

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24) ﴾

[ سورة النازعات  ]

 والذي قال:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[  سورة القصص ]

ومع ذلك حينما أدركَهُ الغرق ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ معنى هذا أن خيار الإنسان مع الإيمان ليس خيار قبول أو رفض لكن خيار وقت، فإما أن تؤمن وأنت صحيح مُعافى، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان، ليس لنا خيار آخر، فإذا فرعون آمن! فكلّ هؤلاء الناس، كل هؤلاء المتفلِّتين، والمنحرفين والعصاة، والتائهين والشاردين لَيْسُوا كَفِرعون، فرعون الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ آمن، فالإيمان لا بدّ منه، وخيارنا معه خيار وقت؛ فإما أن نؤمن، أو لا بدّ من أن نؤمن، أما إذا آمنَّا الآن فلنا كلّ شيء ولنا جنَّتان؛ جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، أما الإيمان بعد فوات الأوان ما هو إلا حسرة وندَم. 


لوم الإنسان الشديد لنفسه عندما يعلم أنه مخطئ:


 قال تعالى: ﴿فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ معنى ذلك أنَّه لامَ نفسه، والإنسان حينما تنهار مَعْنويَّاته، و حينما ينهار داخِليّاً عندها يعلم كم كان مخطئًا، قال لي أحدهم: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ.))

[ صحيح مسلم  ]

 من دون تشديد، فليس في الأمر خطأ شديد، فقلتُ له: على العكس، قال تعالى:

﴿ فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ (8)﴾

[  سورة القصص ]

 الله عز وجل وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم خاطئون، فكلمة خاطئ كلمة كبيرة جدّاً. 


غضب الله عز وجل يعجز العالم كله عن رده:


 ثمّ قال تعالى:  

﴿  وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 هذه العواصف، هذه الأعاصير التي تزيد سرعتها عن ثمانمئة كيلو متر في الساعة، مئتان كيلو متر تهدم الجدران، ومئة وخمسين تقتلعُ الأشجار فكيف إذا كانت ثمانمئة، ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ*مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ هناك أعاصير في أمريكا لا تبقي ولا تذر، أحد الأعاصير في أمريكا دمَّر ما قيمته ثلاثون مليار دولار بِساعات! فلا أبنية، ولا جُسور، ولا طرق ولا أشجار، ولا مزارع، كلّ شيء يُدمَّر من خلال هذا الإعصار، فالله عز وجل بالأمطار يُدمِّر، وبالرّياح يدمّر، وبالصَّواعق يدمر، بالبراكين يدمر، بالزلازل يدمر، بالأمراض يدمر، الآن هناك سبعة عشر مليون إنسان مُصاب بمرض الإيدز! بالأمراض 

﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ(31)﴾

[ سورة المدثر ]

أحياناً بأضعف المخلوقات، وأضعف فيروس هو فيروس الإيدز، والعالم كلّه عاجزٌ عن مُكافحته. قال تعالى: 

﴿ وَفِي ثَمُودَ إِذۡ قِيلَ لَهُمۡ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ (43) فَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمۡ يَنظُرُونَ (44) فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ (45)﴾

[  سورة الذاريات  ]


تمتع الكافر في الدنيا لا يعني أن الله يحبه:


 ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذۡ قِيلَ لَهُمۡ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ﴾ دعاء سيدنا إبراهيم كما قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)﴾

[  سورة البقرة ]

 فَتَمَتُّع الكافر في الدنيا لا يعني أنَّه على حق، ولا يعني أنَّ الله تعالى يحبُّه، قال تعالى:

﴿  لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[  سورة آل عمران ]

 قال تعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذۡ قِيلَ لَهُمۡ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ*فَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ﴾ خرجوا عن أمر ربهم، أبَوا أن يطيعوا ربهم ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمۡ يَنظُرُونَ*فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ﴾ لذا في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. ))

[ صحيح مسلم ]


ابتعاد الإنسان عن غضب الله و سخطه:


 أحياناً يأتي البلاء فجأة، يفْقِدُ الإنسان بصرَهُ فجأةً، ويفْقِدُ قوَّته فجأة، يقال له: خثرة بالدِّماغ، نقطة دم تجمَّدَت في الدِّماغ، فكلّ مكانة الإنسان، وكل علمه، وكل شأنه، وكل حجمه المالي لا قيمة له، فهذا أحدهم أخذ أعلى شهادة، وعمل في أعلى منْصِب، هو صديق صديقي، فقَدَ بصرَهُ فجأةً، فقبع في البيت وجاءه البريد لأسبوعين أو ثلاثة ثم سُرِّح من منصبه، قال ليِ صديقي ماذا قال له بالحرف الواحد: والله أتمنَّى أن أجلس على الرصيف أتكفَّف الناس ولا أملك من الدنيا إلا هذا المعطف ويُردَّ إليّ بصري، لذا: (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) فالله تعالى قال: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذۡ قِيلَ لَهُمۡ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ*فَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمۡ يَنظُرُونَ*فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ﴾ . ثمَّ يقول تعالى:

﴿ وَقَوۡمَ نُوحٖ مِّن قَبۡلُۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا فَٰسِقِينَ (46) وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)﴾

[  سورة الذاريات  ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور