وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الدخان - تفسير الآيات 1- 9 القرآن الكريم منهج الناس جميعاً
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


مواقف العلماء من الحروف التي افتتحت بها بعض السور:


أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الأول من سورة الدخان.

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 

﴿ حمٓ (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)﴾

سورة الدخان 

كما ذكرت سابقاً الحروف التي افتُتحت بها بعض السور ومنها (حم) وقف العلماء من تفسيرها مواقف متعددة؛ من هذه المواقف: 

1 - دليل إعجاز القرآن الحكيم:

أنها دليل إعجاز القرآن الحكيم، فهذا الكتاب الذي بين أيدينا مؤلَّف من كلمات، والكلمات مؤلفة من حروف هي بين أيدينا، ومع ذلك هذا الكتاب يعجز عن أن يأتي بمثله أو بسورة منه بل وبآية واحدة منه أهل السماوات والأرض، أكبر دليل على أن هذا الكلام كلام الله: إعجازه ، ومعنى إعجازه أنه يعجز الإنسان عن أن يأتي بمثله، أن يأتي بتشريع حكيم؛ تشريع مبني على قواعد النفس، تشريع يسعد النفس إذا طبّقته، فيه إعجاز تشريعي، فيه إعجاز علمي، فيه بياني، فيه إخباري، فيه تاريخي، أي هذا الكتاب له بحث طويل، على كلٍّ من هذه الأحرف كيف أن الإنسان مركّب من مواد مأخوذة من التراب، لكن لو جئنا بهذا التراب وعالجناه هل بالإمكان أن يغدو إنساناً ينطق، يتكلم، يفكر؟! يوجد إعجاز بالخلق، هذا الحليب من أين نأتي به؟ من البقرة، والبقرة تأكل الحشيش، هل بإمكان كل من في الأرض أن يصنع من الحشيش حليباً؟! هذه البيضة من أين تأتي بها الدجاجة؟ تأكل مما في الأرض، هل بالإمكان أن نأخذ ما تأكله ونصنع منه بيضة؟! لا، ولله المثل الأعلى.

هذا الكتاب الحروف التي بين أيدينا هي بين أيدينا وقد نُظم منها، ومع ذلك يعجز الإنسان عن أن يأتي بسورة من هذه الآيات، فالمعنى الأول أن هذا الكتاب المعجز مادته بين أيديكم.

﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ (24)﴾

[ سورة البقرة  ]

أي أن الله -عزَّ وجلَّ- تحدى العرب جميعاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًا (88)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ (24)﴾

[ سورة البقرة  ]

2 - أوائل لأسماء الله الحسنى:

المعنى الثاني أن هذه الحروف أوائل لأسماء الله الحسنى. 

3 - أوائل لأسماء النبي عليه الصلاة والسلام:

وبعضهم قال: إنها أوائل لأسماء النبي عليه الصلاة والسلام: هو حامد ومحمود؛ محمود عند الله وعند الناس وعند نفسه.  

4 - الله أعلم بمراده:

وبعضهم قال: الله أعلم بمراده، والقرآن حمّال أوجه، ولا أحد يزاحم أحداً في هذا الكلام المعجز.  


بيان قيمة القرآن الكريم للناس:


(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) الله سبحانه وتعالى أقسم بهذا الكتاب المبين، والله -جلّ جلاله- إذا أقسم بشيء دونه فليبين للناس قيمة هذا الشيء، وأحياناً لا يقسم:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾

[ سورة الواقعة ]

حتى إذا قال الله: (فَلَا أُقْسِمُ) أي أن هذا الشيء من شدة وضوحه ودلالته وبيانه لا يحتاج إلى قسم، أو ما دام الشيء دون الله -عزَّ وجلَّ- فالعظيم لا يقسم بما هو دونه، أو إذا أقسم فليبيّن الله -جلّ جلاله- أن هذا الشيء عظيم بالنسبة إلينا، النقطة الدقيقة أن الله -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾

[ سورة الأنعام ]

والسماوات والأرض تعبير يعني الكون، والكون: أي ما سوى الله، فالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، في آية أخرى:

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُۥ عِوَجَا ۜ (1)﴾

[ سورة الكهف ]

ماذا يُستفاد من هذا؟ يستفاد من هذا أن الكون كله في جهة وكلام الله في جهة، يُستفاد أيضاً أن الله -عزَّ وجلَّ- يقول:

﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3)﴾

[ سورة الرحمن  ]

كيف يُعلَّم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق؟ قال: هذا ترتيب رُتبي؛ أي لا قيمة لوجود الإنسان من دون قرآن، أو لا قيمة لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ، كيف أن الآلة المعقدة جداً الغالية جداً ذات النفع الكبير؛ هذه الالة تحتاج إلى كُتيب يرشدك فيه إلى طريقة الاستعمال والصيانة لرفع المردود والحفاظ عليها، لو أن هذا الكتاب فُقد؛ ربما هذا الكتاب لا يقل أهمية عن الآلة نفسها، إذًا ربنا  -عزَّ وجلَّ- يلفت نظرنا إلى هذا الكتاب الذي فيه سر سعادتنا، أنت آلة معقدة لو تحركت بلا منهج هلكت وأهلكت، وشقيت وأشقيت، وضللت وأضللت، وفسدت وأفسدت؛ حركة بلا منهج، تصور سيارة تنطلق بسرعة مئة بلا مقود وبلا قائد فالدمار حتمي، والهلاك حتمي، والسقوط في الوادي حتمي، مركبة ذات محرك قوي تنطلق بسرعة هائلة بلا سائق أو بلا مقود الهلاك حتمي، فحينما قدّم الله تعليم القرآن على خلق الإنسان؛ أي أن حياة الإنسان بلا منهج تغدو شقاء، فساداً، هلاكاً، انحرافاً، إيذاءً.


الآيات المحكمات والمتشابهات في القرآن الكريم:


(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) لكن كتاب الله -عزَّ وجلَّ- مبين واضح البيان، أي الآيات المتعلقة بأصول العقيدة وبالأمر والنهي آيات محكمات لا تحتاج إلى تفسير ، أحيانًا يتوهّم الإنسان أن هذا الكتاب بحر من غاص فيه هلك، هناك تسعة أعشار كلام الله لا يحتاج إلى تفسير. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ يَوْمَ لَا يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (8)﴾

[ سورة التحريم ]

واضحة. 

﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلْأَلْقَٰبِ ۖ بِئْسَ ٱلِٱسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلْإِيمَٰنِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(11)﴾

[ سورة الحجرات ]

اقرأ القرآن تجد أنك تقرأ الآيات وفي معظمها لا تحتاج حتى إلى مُفسِّر.

﴿ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ (7)﴾

[ سورة آل عمران ]

الآيات المتعلقة بالعقيدة والتكليف والحلال والحرام وأسباب سعادتنا وأسباب شقائنا؛ هذه آيات كلها محكمات واضحات نيّرات. 


الحكمة من الآيات المتشابهات:


(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) لحكمة بالغة جاءت بعض الآيات متشابهات (فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ) هنالك حكم كثيرة من وجود آيات متشابهات: 

أولاً: ظنية الدلالة: إذًا صار للعلماء دور في فهمها، وتفسيرها، واكتشاف مضامينها، وتوجيهها وجهة خاصــــة، صار هناك حفز للعلماء، ومنافسة، وأحكام اجتهادية تفصيلية غنية جداً تسع كـل الحالات وكل البيئات وكل الظروف، وصار هناك شيء يُتحدَّى به الإنسان من أجل أن يجتهد وأن يشمر، هناك حكم أدرجهــــا العلماء لوجود آيات متشابهات لكنها قليلة جداً.

ثانيًا: والإنسان حينما يفهم آية متشابهة يعبّر فيها عن حسن ظنه بالله -عزَّ وجلَّ- أي لو أنك قرأت قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة النحل ]

فلو أنك لا تعرف الله -عزَّ وجلَّ- إذًا هو يضل الناس، لكن لو أنك تعرف الله وتعرف أن الله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا وليهدينا سواء السبيل عندئذ تفسر (يُضِلُّ مَن يَشَآءُ) تفسيراً يتناسب مع كمال الله -عزَّ وجلَّ-: إن هذا الضلال الذي عُزي إلى الله هو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، فآيات متشابهات تحفز الهمم، وتخلق التنافس الشريف بين العلماء، وقد يجتهد المجتهدون في فهمها مناحي عدة، هذه المناحي تغطي كل الحالات المستجدة والبيئات والتطورات.

  صار الإسلام فيه ثوابت وفيه متغيرات؛ الثوابت تؤكده الآيات المحكمات، والمتغيرات تغطيه الآيات المتشابهات، فوجود آيات متشابهات أي تشبه المعنى الفلاني من جهة والمعنى الآخر من جهة ثانية؛ هذا معنى متشابهات، لو فرضنا قلت: أعطِ فلاناً ألف درهم ونصفه، هذا أمر متشابه، يا تُرى ألف وخمسمئة أم ألـف ونصف درهم؟! ألف درهم ونصفه: الهاء على من تعود على الدرهم أم على الألف؟ إن عادت على الدرهم فهي ألف ونصف، وإن عادت على الألف فألف وخمسمئة؛ هذا نص متشابه، فالإنسان يُمتحن به فهناك من يفهمه ألف وخمسمئة وهناك من يفهمه ألف ونصف، يوجد امتحان وحفز للذهن، وهناك انغماس في الاجتهاد، وهناك توجيهات عديدة، ليس الموضوع أن نستعرض حكمة وجود آيات متشابهات، لكن الموضوع أن معظم آيات القرآن الكريم محكمات، واضحات، نيرات ، بينات لا يزيغ عنها إلا ضال، (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) بيّن العبارة، واضح العبارة، مُحكَم.


متى تكون الليالي المباركة؟


(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) قال بعض العلماء: إن هذا القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في رمضان وفي ليلة القدر بالذات، ثم نزل تِباعاً على النبي -صلى الله عليه وسلم- نزولاً بحسب الوقائع والمناسبات، وبعضهم قال: ابتدأ نزوله في رمضان لكن الذي يعنينا أن هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن هي ليلة مباركة عاد خيرها على البشرية جمعاء ، فإذا سعد الناس في حياتهم وفي أُخراهم، وسعدوا في كل شؤون حياتهم، وعرفوا ربهم، وأكرمهم ربهم فبفضل هذه الدلالة وهذا القرآن؛ هذا معنى قول الله -عزَّ وجلَّ-: (لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)

أنت أحياناً تسهر سهرة مع صديق مؤمن يلفت نظرك لأشياء في الدين، إلى آيات في كتاب الله، إلى حكمة وجودك في الأرض، تنتبه وتصحو واليوم التالي تتوب، تصلي مثلاً، تغض بصرك، تحرر دخلك، تضبط جوارحك، تشعر أنك ترقى وترقى...، تُوفق في عملك، تُوفق في زواجك، تشعر بقيمة وجودك في الحياة، بِعِظَم الرسالة التي تحملها، لا تفتأ تقول: والله كل هذا الخير جاءني من تلك الليلة التي سهرت بها مع فلان وقد كانت هذه الليلة سبب هدايتي وسعادتي؛ هذه ليلة مباركة.

 أحياناً الإنسان بلقاء، بخطبة جمعة، بدرس علم، بدرس تفسير، بلقاء، بمحاورة، بمناقشة تنقدح في ذهنه الحقيقة، يُلقى في نفسه نور الحق، ينطلق إلى طريق الله -عزَّ وجلَّ- مفعماً بالحماس والإقبال، فهذه الليلة -أنا أُقرّب المعاني- أنت كإنسان مؤمن عادي لو كان هناك لقاء وفي هذا اللقاء جرى تبادل أفكار وطُرحت موضوعات متعلقة بالدين؛ موضوعات دقيقة وعميقة مدعّمة بالأدلة والبراهين، وأنت شعرت أن هذا الذي طُرح جواب لمشكلات تعانيها وحلول لقضايا مُشكلة في حياتك، وانطلقت بعد هذا اللقاء إلى طاعة الله و التوبة إليه، يأتي عليك عشرون عاماً و تقول: لا أنسى هذه الليلة التي كانت سبب هدايتي، وأحيانًا الإنسان يمر أمام مسجد يدخل ليصلي فإذا هناك درس علم، قد تكون كل سعادته من هذا الدرس، يقول لك: أنا سبب هدايتي هذا الدرس، سبب عودتي إلى الله هذا اللقاء، سبب توبتي هذا اللقاء؛ معنى هذا أن هذه ليلة مباركة، وأحياناً يتلقى الإنسان نبأ مؤلماً في مكان معين أوفي زمان معين، يمضي عشرون عاماً في حياته ويقول: هذا اليوم لا أنساه، لا أعاده الله علي.

ففي حياة الإنسان ليلة مباركة وليلة شؤم، يوجد مكان مبارك و مكان غير مبارك، فربنا -عزَّ وجلَّ-في اللحظة التي تتعرف إلى الله بها، وتهتدي إليه و تتوب إليه وتعقد الصلح معه وتنطلق إليه هذه اللحظة مباركة أو الليلة مباركة واليوم مبارك والمكان مبارك وكل شيء يحيط بهذا الحدث مبارك، أحياناً الإنسان يتلقى نبأ نجاحه مثلاً في محل تجاري، يعيش خمسين سنة كلما مرّ أمام هذا المحل يقول لك: في هذا المكان تلقيت نبأ نجاحي، وأحياناً يتلقى نبأ ساراً في مكان معين، لكن الله -عزَّ وجلَّ-يقول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) هذا القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) أي هذا القرآن سعد به الناس جميعاً في شتى بقاع الأرض. 

ما قولك بإنسان يتحرك وفق منهج، هذا المنهج ارتقى به إلى الله، هذا المنهج جعله يقبل على الله، هذا المنهج جعله يحب الله -عزَّ وجلَّ-؟! فالإنسان أيها الإخوة لا يشعر بقيمته ولا بإنسانيته ولا بسر وجوده في الحياة ولا بالمهمة التي أوكله الله إياها إلا إذا عرف الله، فلذلك: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ، كلنا جميعاً أثناء حديثنا مع إخواننا وأصدقائنا يقول لك: تباركنا، الله يبارك فيك، منزل مبارك، ولقاء مبارك طيب، وحفل مبارك، لا يفتأ أحدنا يقول هذه الكلمة في اليوم آلاف المرات، لكن معنى البركة: هي الخير الكثير، خير كثير رحمة واسعة نزل من السماء إلى الأرض حينما نزل هذا القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام.


الإنذار دليل رحمة الله -عزَّ وجلَّ-: 


(إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي الرحمة تقتضي الإنذار، ما معنى (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) ؟ يا تُرى هذه (كان) فعل ماض ناقص؟ طبعاً تقول: الجو صاح، ضع (كان): كان الجو صاحياً، كان فعل ماض ناقص ليس تاماً، الفعل التام يدل على حدث: خرج، دخل، أشعل، أطفأ، قام، قعد، كسر؛ هذه أفعال تامة لكنّ (كان) تعرب فعل ماض ناقص لأنها لا تدل على حدث تدل على زمن فقط (الجو صاحٍ، كان الجو صاحياً) أي ربطنا علاقة بزمن معين هذا معنى فعل ماض ناقص، حسنًا حين يقول الله -عزَّ وجلَّ-: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) كيف نفسر هذه الآية؟ أي أن الله -عزَّ وجلَّ- كان في الماضي والآن ليس غفوراً رحيماً؟! لا، هذه إذا جاءت بمثل هذه الآيات لها معنى آخر، أي هذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطاً وجودياً، أي منذ أن كان الله هو رحيم، رحمته ملازمة لوجوده: (وكان الله عليماً حكيماً) (وكان الله غفوراً رحيماً) .

(كان) إذا جاءت مع اسم الله الأعظم تشير إلى هذه الصفة أو هذا الاسم متلازمٌ مع الذات الإلهية تلازماً وجودياً، أي وجود الله -عزَّ وجلَّ- من لوازمه أنه رحيم تلازماً وجودياً بحيث أن الصفة لو زالت لزال الموصوف ، أي ترابط الصفة مع الموصوف ترابط وجودي؛ هذه أقوى درجة في الترابط.

قد تقول: هذه طائرة غالية الثمن وقد تقدم بلا ثمن أحياناً، فهذه الصفة ليست ملازمة لوجودها، طائرة قُدمت بلا ثمن، قد تقول: هذه الطائرة جميلة جداً، قد تُحرق تصبح غير جميلة؛ أي أية صفة تلازم الطائرة صفة طارئة، أما إذا وصفتها بأنها تطير فالطيران صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًا فإذا ألغي الطيران ألغيت الطائرة؛ هذه نقطة دقيقة جداً، فحينما يصف الله -جلّ جلاله- ذاته بأنه كان عليماً؛ أي علمه أزلي أبدي ملازم لوجوده، مادام موجوداً فهو يعلم، قضية ثابتة مقطوع بها.

(إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) الإنذار: أنت جالس بمكان ورأيت طفلاً يقترب من المدفأة، لماذا تقوم من مجلسك وتصيح؟ دليل رحمتك، أما لو فرضنا جندياً في المعركة وتقدم العدو أمام لغم، هل ينبهه؟ ليس معقولاً أن ينبهه، هو ينتظر أن يقع في هذا اللغم، (الرحمة تقتضي الإنذار) أما الحرب تقتضي إيقاع الألم بالآخرين، فكلمة منذرين دليل رحمة، وهناك أشخاص أحياناً يتلافون وقوع الأخطار برحمة في قلوبهم، لكن الذي لا يعبأ أن يقع إيلام شديد بمخلوق هذا دليل ضعف رحمته، إذًا معنى (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) الإنذار دليل رحمة الله -عزَّ وجلَّ-، فربنا -عزَّ وجلَّ- دائماً ينذر عباده من مغبة أعمالهم، يقول لك الأب: (انبرى لساني)، أمعقول أب يرى ابنه مقصراً  في دراسته ويبقى ساكتًا ولا حركة؟!! يقول: هو حرّ ويعرف مصيره، إن اجتهد له وإن لم يجتهد فعليه، هذا ليس موقف أب أبداً، موقف الأب ينذر، يحذر، ينصح، يتابع الأمر، يقول لك: انبرى لساني وأنا أنصح ابني ليدرس، معنى هذا الإنذار صفة تؤكد رحمة المنذر دائماً.


القرآن الكريم كتاب هداية:


(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا) في هذه الليلة التي نزل فيها القرآن (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) والآية دقيقة جداً، يفرق: يتضح، يُبيَّن، ينجلي، (كُلُّ أَمْرٍ) من الحكمة أن يُبيَّن، أحيانًا ينتظر الإنسان أن يكون القرآن فيه كل شيء، هو كتاب هداية، يا تُرى أنواع الفلزات واردة في القرآن؟! لا ليست واردة؛ لأنه كتاب هداية، يا تُرى الصفات الكيميائية للرصاص واردة في القرآن؟! لا ليست واردة، لا علاقة لها هذه أمور متعلقة بالدنيا، العلماء وعلماء الفيزياء والكيمياء يتابعونها، هو كتاب هداية، فالله     -عزَّ وجلَّ- هناك أوامر بيّنها وهناك قضايا أغفلها، فالذي بيّنه من الحكمة أن يبينه، والذي أغفله من الحكمة أن يغفله، إذًا (فِيهَا يُفْرَقُ) : يُبيّن، يُجلّى، يُوضّح كل أمر من الحكمة أن يُبيّن.


القضايا التي عالجها القرآن:


هناك اصطفاء بكتاب الله، يوجد قضايا القرآن سكت عنها؛ أنواع الطعام: كُلْ ما شئت ولكن من غير إسراف ولا مخيلة؛ أي أحدهم أكل رزاً، وأحدهم أكل برغلاً، وأحدهم أكل فاصولياء والثاني بامية، هل هناك حكم شرعي؟ ليس هناك أي شيء، هذه الأمور سكت الله عنها، أحدهم لبس أبيض، أصفر، ملون، اللباس يجب أن يكون ساترًا للعورة والطعام يجب أن يكون حلالاً طيباً، وكُلْ واشرب من دون إسراف ولا مخيلة، البيت كم غرفة؟ النمط؟ هذه قضايا لا علاقة لها بالدين مسكوت عنها، أما قضايا المرأة ربما تؤدي إلى الفساد أو إلى البعد عن الله -عزَّ وجلَّ- ففيها تشريعات، قضايا كسب المال ربما أدى هذا إلى انحراف فيها تشريعات، فكل قضية من الحكمة أن تُبَيّن بيّنها الله -عزَّ وجلَّ-، أنت مثلاً في محطة وقود ولديك مكان للوحة، ماذا تكتب في هذه اللوحة؟ قد تكتب ألف إعلان ولكن يوجد إعلان مصيري: (ممنوع التدخين) ؛ لأن الدخان ربما تسبّب بحرق كل هذه المحطة، أو (أطفئ المحرك) مثلاً، يختارون إعلانات أو بيانات متعلقة بسلامة الناس في هذه المحطة، فليس كل شيء يُكتب في هذه المحطة، لو فرضنا كُتب في هذه المحطة (السكر مادة غذائية) لا علاقة لها بالمحطة!! يجب أن يُكتب شيء متعلق بسلامة المحطة، القصد أنه ليس كل شيء في الحياة تجده في القرآن، أما كل شيء أنت بحاجة إليه تجده في القرآن، كل شيء من الحكمة أن يعُالج عولج في كتاب الله ، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ  ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ  ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ  ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا  فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾

[ سورة المائدة ]

(ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) الكمال نوعي، (وَأَتْمَمْتُ) الإتمام عددي، أي مجموع القضايا التي عالجها القرآن تام لا يحتمل قضية جديدة.

(( أما بعدُ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وإنَّ أفضلَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ....))

[ أخرجه النسائي، وأحمد باختلاف يسير عن جابر بن عبد الله  ]

طريقة المعالجة كاملة، لا يحتمل كتاب الله -عزَّ وجلَّ- أن تعالج بعض الموضوعات معالجة أعمق، أو معالجة أوسع، أو معالجة أطول، أو معالجة أغنى؛ هذا كله كلام مردود (ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا) ، أما القضايا التي سكت عنها القرآن ليس من الحكمة أن تعالج إطلاقاً. 

إذاً (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) الله -عزَّ وجلَّ- ذكر قصة سيدنا يوسف، ذكر تفاصيل وأغفل تفاصيل، الذي ذكره متعلق بالحكمة بالمغزى من القصة، والذي أغفله لا علاقة له بالمغزى، إذاً في هذه الليلة المباركة التي عاد خيرها على البشرية جمعاء، في هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن -ذلك المنهج والدستور- للبشرية جمعاء في هذه الليلة يُفرق، يُبيّن، يُجلّى، يُوضّح كل أمر من الحكمة أن يوضح، وكما تعلمون كل شيء وقع أراده الله وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ؛ أي كل شيء وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله، كل شيء وقع ينبغي أن يقع، وليس في الإمكان أبدع مما كان؛ هذا معنى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) 


كلام رب العالمين لا يوازى بكلام آخر أبداً:


(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) الناس أحياناً لا يستوعبون هذا المعنى؛ أي يوازن بين تشريع البشر وتشريع خالق البشر، ليس هناك موازنة مطلقاً!!! يوازن بين قول قاله فلان مهما كان اسمه كبيراً وبين كلام خالق الكون (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) هذا كلام رب العالمين، هذا كلام الذي خلق السماوات والأرض، هذا كلام الخالق، المبدع، البارئ، المصور، رب العالمين، بيده مقاليد السماوات والأرض، العليم، الحكيم، القوي، هذا شيء لا يوازى بكلام آخر، (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) من عند الله خالق السماوات والأرض، (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ما دام (كان) جاءت مع ذات الله -عزَّ وجلَّ-، فالله -عزَّ وجلَّ- من أسمائه: الرحيم هذا من أسمائه الحسنى، الحكيم، الرؤوف، العدل (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) .


سبب نزول القرآن الكريم: 


لماذا أنزلناه في ليلة القدر (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ؟ ولماذا في هذه الليلة (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ؟ قال:

﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ (6)﴾

[ سورة الدخان ]

إعرابها مفعول لأجله، كأن تقول: وقف الطلاب احتراماً للمدرس، لماذا وقفوا؟ المفعول لأجله يُجاب عنه بكلمة (لماذا)، لماذا أنزل الله هذا القرآن في ليلة مباركة؟ لماذا أنذر الله عباده بهذا القرآن؟ لماذا أرسل الله نبيه بهذا القرآن؟ قال: (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) ليرحمنا، ليتجلى علينا، ليسعدنا في الدنيا والآخرة، خلقنا ليسعدنا، خلقنا ليرحمنا، لا كما يقول الجهلة.

إخواننا الكرام؛ السيارة لماذا صنعت؟ صنعت لتسير، سيرها علة صنعها، ممكن أن تكون بلا عجلات وترفعها على أعمدة؟! هذه ليست سيارة، السيارة صُنعت من أجل أن تسير، لماذا فيها مكابح؟ المكبح يفعل فعلاً مناقضاً لحركتها، مهمته أن يوقفها، تشعر أحياناً أن المكبح ضروري لسلامة صاحبها، أحياناً السلامة ليست بالحركة بل بالوقوف، لذلك مع أن المكبح يناقض علة صنع السيارة هو يوقفها، لكنكم تعلمون جميعاً أن إيقاف المركبة هو أخطر موقف أحياناً في السيارة، إذا وقفت ينجو صاحبها من الهلاك، أما إذا بقيت تسير هلك صاحبها، لو أن طريقاً تنتهي بوادٍ وليس هناك إشارات مسبقة، فلما فوجئ السائق أن هناك وادٍ يقف، فالوقوف ضمنا به سلامة السيارة؛ لذلك المصائب هي مناقضة للرحمة، خلقنا ليرحمنا، ليسعدنا، فهناك فقر ومرض وقهر وسجن هناك آلام أحيانًا؛ هذه كلها مكابح، تقتضي رحمة الله -عزَّ وجلَّ- أن يفعل هذا؛ لذلك قال تعالى:

﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍۢ وَٰسِعَةٍۢ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُۥ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ (147)﴾

[ سورة الأنعام ]

أحياناً تكون كل سعادتك على أثر مصيبة، كل السعادة بعد مشكلة، بعد ضائقة، بعد ملمة، بعد تضييق، بعد تشديد، السعادة قد تكون لفتة إلى الله -عزَّ وجلَّ-هذه اللفتة تحتاج إلى صعق أحياناً، أحياناً القلب يقف فيستخدم أطباء القلب صعقة كهربائية فبهذه الصعقة ينبض، الصعقة مؤلمة جداً ولكن هذا الألم الشديد دفع القلب إلى الحركة، إذاً (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) هو السميع لما تقول، العليم لما تنطوي عليه نفسك، لو لم تتكلم يعلم، نحن مع بعضنا لا تعلم إلا إذا قلت لك، ما دمت ساكتاً فلا تعلم، أقول لك: إني أعاني هذه المشكلة، الآن علمت بهذه المشكلة بعد أن أعلمتك بها أما لو بقيت ساكتاً فأنت لا تعلم، ربنا -عزَّ وجلَّ- (إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) ، إن تكلمت يعلم فهو السميع، و إن لم تتكلم يعلم فهو العليم أي يعلم ما تقول و مالا تقول، و يوجد شيء ثالث؛ وما يخفى عنك.

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[ سورة طه ]

يعلم ما تقول، يعلم ما أعلنته ويعلم ما أسررته، ويعلم ما يخفى عنك ؛ لذلك قال سيدنا علي: "علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون" ، أحدهم طيب -طبعاً على الدخل المحدود صار طيبًا- لو صار معه ألف مليون لا يعلم حاله إلا الله، على الدخل المحدود جيد أما على الغنى قد ينتكس، قد يغدو إنساناً آخر.


لا يتعلم ولا يوقن الإنسان إلا إذا أراد أن يتعلم و يوقن:


﴿ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ (6) رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7)﴾

معنى (مُوقِنِينَ) هناك شرح لغوي دقيق، الفرق بين المتقي و التقي: المتقي يريد أن يكون تقياً، المتقي غير تقي، فالتقي بلغ مرتبة التقوى لكن المتقي في طريقه إليها ، يريد أن يكون في هذه المرتبة، الموقن هو الذي يبغي اليقين، يوجد في الآية إشارة دقيقة؛ أنت إذا أردت أن لا تعلم لا تعلم، لن تتعلم إلا إذا أردت أن تعلم، لهذا قال بعضهم: "لم أجد أشد صمماً من الذي يريد أن لا يسمع"، تجد أحياناً إنساناً أمامك كل هذا الموضوع جملة وتفصيلاً لا يعنيه، تقول له: "اسمع هذا الشريط، اقرأ هذه المقالة، احضر درساً"، لا درس ولا شريط ولا قراءة يعنيه، الدين إجمالاً و تفصيلاً خارج اهتمامه، لذلك هذا مهما حاولت أن تبين و أن تفصل لا يسمع، هو في وادٍ و أنت في وادٍ.

فالله -عزَّ وجلَّ- قال: (رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) لكن أنت أيها الإنسان لا تعلم ولا توقن إلا إذا أردت أن تعلم وأردت أن توقن؛ أنت مخير، أحياناً يدخل الإنسان إلى محل تجاري و يكون في المحل مئات الأنواع من البضائع، يبحث عن نوع واحد من البضاعة فلو أن البائع عرض عليه بضائع أخرى بيّن له ميزاتها، صفاتها، سعرها الرخيص لوجود رخصة، هو يبغي حاجة واحدة من كل هذا المحل، فلذلك مهما تكلم البائع وبيّن وفصّل وبيّن ميزات الحاجة وأسعارها الرخيصة التي لا تنافس، يجبه: أخي عندك القطعة الفلانية هذا كله لا يعنيني؟ فأنت لما تبين لشارٍ ميزات حاجة لا يريدها موقف مضحك، جهد ضائع، جهد غير مجد، لا تبيّن لإنسان لا يريد، قال: (رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) لا تعلمون قيمته ولا عظمته ولا ربوبيته ولا قدرته ولا رحمته إلا إذا كنتم موقنين أي إلا إذا أردتم اليقين؛ لذلك الإنسان مخير، أبو لهب عاش مع النبي- أنت تتمنى أن تراه في المنام، لو رأيته في المنام أعتقد تبقى أشهراً وأنت مغموس في سعادة لا توصف- أبو لهب كان معه رآه رأي العين لكنه ما أراد أن يؤمن، (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) أي إذا أردتم اليقين هذا يؤثر بكم، أحياناً آلة التصوير لا يوجد فيها فيلم فمهما وقفت أمام منظر جميل وجهدت أن تجعل الشجرة ضمن هذا المنظر وأن تضبط المسافة والسرعة والفتحة وحاولت أن تعمل أرضية من الورد مثلاً وفوق الشجرة منظر بحر... كل ذلك بلا جدوى لا يوجد فيلم، فلا تتعب نفسك كل هذا الجهد ضائع؛ لأن هذا الإنسان رفض الهدى، أما إن أردت اليقين كل شيء يعلمك، أحياناً الكافر يعلمك، أو كلمة تعلمك، أو منظر يعلمك، سمعت عن شيخ من شيوخ الأزهر بدأ يطلب العلم أظن بالخمسين بدأ يتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وطلب العلم وما مات إلا شيخاً للأزهر، ولكن من علمه؟ نملة علمته!! نملة صعدت على الحائط أمامه 48 مرة وتقع مرة أخرى، كان عمره آنذاك 48 سنة، قال: النملة أكثر اجتهادًا مني!! 48 مرة صعدت ثم وقعت وهي تعيد الكرة؛ فهذا رجل اتعظ بالنملة وطلب العلم وما مات إلا شيخاً للأزهر، نملة علمته، فإذا أنت أردت الحقيقة كل شيء يعلمك؛ الكون يعلمك، الحوادث تعلمك كل شيء، يوجد في حياتنا آلاف المواعظ؛ الحوادث التي نحياها، نعيشها، نراها، نسمع بها هي مواعظ كبيرة جداً، القرآن فيه كل شيء، السنة فيها كل شيء، السيرة فيها كل شيء، الفقه فيه كل شيء (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) إن أردتم اليقين، إن أردتم ترون:

﴿ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ (8)﴾

[ سورة الدخان ]

(رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ* لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) لا يوجد غيره، كل ما سواه صورة.

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال ]

 ما هذه الآية؟! (وَمَا رَمَيْتَ) الله عزا الفعل له، (إِذْ رَمَيْتَ) حين رميت ما رميت أنت (وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ)

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

﴿ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف  ]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[ سورة هود ]


الحياة والرزق بيد الله وحده:


 (رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ* لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ) بيده الحياة وبيده الموت؛ لذلك فالمؤمن لا يخاف لأن هذه الحياة بيد الله، لا يستطيع مخلوق أن ينهيها ولو رأيت في الظاهر أن إنساناً حكم على إنسان بالإعدام، المقتول يُقتل في أجله، هذه الحياة بيد الله هو المحيي وهو المميت، والإنسان إذا أيقن أن الحياة بيد الله والموت بيد الله سعِد واطمأن وارتاح وصار شجاعاً وترك النفاق، شيئان خطيران: الحياة والرزق والله -عزَّ وجلَّ- قطع أمر العباد عن موضوع الحياة والرزق، الحياة بيد الله والرزق بيد الله، ولا يستطيع مخلوق أن يمنح الحياة ولا أن يسلب الحياة، ولا أن يعطي ولا أن يمنع.

﴿ مَا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

(لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود بحق إلا هو، لا رازق إلا هو، لا معطي إلا هو، لا مانع إلا هو، لا رافع إلا هو، لا خافض إلا هو، لا مُمد إلا هو، لا باسط إلا هو، لا قابض إلا هو، لا معزّ إلا هو، لا مذل إلا هو؛ هذه معناها (لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) ، إذاً لا معبود بحق إلا هو، لا يستحق أحد العبادة إلا الله؛ لأنه بيده كل شيء، أنت قد تكون موظفاً في دائرة تعرف من أقوى واحد فيها فتجد أن كل الولاء له، قد يكون أقل من قمة الدائرة لأسباب أو لأخرى، قد يكون معاون المدير أقوى من المدير فيكون الولاء كله لهذا وليس للآخر، شعرت أنه الأقوى فهذا سلوك طبيعي فأنت تمنح ودك واهتمامك وكل وسائل التكريم لمن بيده الأمر في عملك، فإذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله وحده لا شريك له (لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ) أي الله -عزَّ وجلَّ- أليس برب الصحابة الكرام الذين أعطاهم ونصرهم وأيدهم ومكنهم في الأرض وطمأنهم واستخلفهم؟ أليس ربنا ربهم؟ أليس ربهم ربنا؟ هو هو، العلة فينا، في تقصيرنا.

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم ]

 أي اعتقد أنه ربكم ورب آبائكم الأولين؛ هو هو.


 لا تصح الحركة إلا إذا عُرف الهدف:


﴿ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ يَلْعَبُونَ (9)﴾

[ سورة الدخان  ]

أي أن كلام الله موجز وقد يكون إعجاز كلام الله في إيجازه (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ يَلْعَبُونَ) أي عقيدتهم مفعمة بالشك وسلوكهم لعب، أحيانًا تجد الناس منهمكين في لعب، وفي مباريات، وفي منافسات فتقول: أَمعقول ثمانمئة مليون إنسان يتابعون مباراة بالعالم؟! انظر يلعبون، هي فعلًا لعبة، يلعبون -عمل بلا هدف-، لو أن فلانًا أدخل هذه الكرة، ماذا حدث في العالم؟ هل حصل رخاء اجتماعي؟ هل حصل تكافؤ فرص؟ هل التغى الفقر في العالم؟ التغى الظلم في العالم؟ ماذا حدث؟ ما حدث شيء، اللعب عمل بلا جدوى، بلا هدف، أحياناً يرى الإنسان طفلاً صغيراً يمسك بعلبة ثقاب ويسيرها كسيارة وهو فرح به، وإذا أخذها أحدهم منه يبكي بدموع سخية، هو تصور علبة الثقاب سيارة يسيرها على الأرض، فأنت ألا ترَ صغر عقل هذا الصغير؟! علبة ثقاب يمسكها ويحدث لها صوتاً وكأنها سيارة لو أخذتها منه لبكى، فوالله الذي لا إله إلا هو لو نظر مؤمن أكرمه الله بسعة الأفق والقرب من الله -عزَّ وجلَّ- لنظر إلى إنسان بعيد عن الله، غافل، غارق في هواية من هوايات الأرض والله يراه كما يرى الكبير الطفل الصغير بهذه الطريقة؛ ضيق الأفق، سخيف، يعمل عملاً لا طائل منه، يستهلك وقته بلا جدوى، الله -عزَّ وجلَّ- قال: (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ يَلْعَبُونَ) أوصاف ربنا -عزَّ وجلَّ- أوصاف بليغة، صفتان: في عقولهم شك وفي حركتهم لعب، والآن أحياناً تجد بعض الألعاب تكلف مئات الملايين، ألوف الملايين وتجذب مئات الملايين وفي النهاية ليس لها هدف إلا إملاء وقت فراغ أو استقطاب الناس، هل الإنسان بلا غاية، خلق في هذه الحياة بلا غاية، بلا هدف؟! تصور أن إنساناً ذهب لفرنسا ليدرس -مثل واضح- هو ذهب لمهمة واحدة أن يأتي بدكتوراة، ويجوز بفرنسا أشياء ملهيات جداً فهنالك المتاحف والمقاصف والمسارح ومكتبات ودور لهو؛ أشياء كثيرة تجذبه، لكن إن غفل الإنسان عن مهمته وعن هدفه الكبير تصبح حركته عشوائية، لنضرب هذا المثل: أحدهم ذهب إلى فرنسا ونام في الفندق وأول يوم استيقظ عنده سؤال كبير، لماذا أنا هنا؟ كل إنسان مسافر عنده هذا السؤال: لماذا أنا هنا؟ أي إن كنت قد جئت تاجراً فتجده باليوم التالي بعد الساعة الثامنة يأكل ويلبس ومعه العناوين، إلى أين ذهب؟ إلى المعامل والمؤسسات لأنه جاء هذه البلدة تاجراً، فالحركة صحت لأنه عرف الهدف، آخر جاء طالبَ علم، نام في الفندق استيقظ صباحاً، تناول طعام الفطور، لبس وراح إلى السوربون؛ لأنه جاء طالب علم توجه نحو المعاهد والجامعات، الآخر جاء سائحاً نام بالفندق، استيقظ تناول طعام الفطور، لبس ذهب إلى برج إيفل مثلاً، فما الذي حدد الحركة؟ معرفة الهدف، وأنت في الدنيا، متى تصح حركتك؟ تجد أنك وفّقت زواجك مع عملك، مع مهنتك، مع تربية أولادك، مع لهوك، مع حزنك كله وفّقته ضمن منهج واحد لهدف، لا تصح الحركة إلا إذا عُرف الهدف.


السعادة تكمن بمطابقة الحركة اليومية للهدف الحقيقي:


الآن عرفنا الهدف، كيف نسعد؟ لا تسعد إلا إذا جاءت الحركة مطابقة للهدف ، نحضر مثلاً   -أنا أستخدمه كثيراً- طالب على وشك أن يؤدي امتحاناً صعباً بآخر مادة في سنة التخرج واختصاصه مهم جداً ونادر ويعلق أهمية كبرى على نجاحه، الآن جلس في غرفة مظلمة قميئة تحت الدرج وفتح الكتاب المقرر وقرأ بشغف ونهم واستوعب وحفظ وغلب على ظنه أنه سينجح في هذه المادة، تجد أعصابه مرتاحة لأن الدراسة و الفهم والمذاكرة والتحضير ومناقشة الفقرات بالكتاب تفوق بها، إذًا غلب على ظنه أنه سينجح، حقق هدفه سعد، هذا الطالب نفسه لو جاء أصدقاؤه وأخذوه قبل الامتحان بأسبوع إلى مكان جميل على البحر أو في جبل أخضر وأطعموه أطيب الطعام وأصدقاؤه يحبهم حباً جماً، والمكان جميل وراحة وكلام لطيف وطعام طيب، لماذا ينقبض؟ لأن هذه الحركة-النزهة- تتناقض مع الامتحان يحس بالانقباض، كلمتان: متى تصح حركتك؟ إذا عرفت هدفك، والثانية: متى تسعد؟ إذا جاءت حركتك في اليوم موافقة لهدفك ، أحدهم ذهب إلى فرنسا ببعثة ويجب أن يكون معه دكتوراة، أمضى الوقت كله في الملاهي وفي المتاحف وفي المتنزهات، يحس بانقباض، يشعر بضيق عميق لأنه ما جاء هنا ليتنزه بل جاء ليدرس، فالنفس البشرية لا ترتاح إلا إذا عرفت هدفها وعرفت أنها مخلوقة لمعرفة الله ولطاعته ، فتجد المسلم قد تكون حياته خشنة، قد يكون وقته كله ملآن بالمشاغل لكنه سعيد لأنه شاعر بأنه يتحرك وفق هدف واضح، هذه الدنيا دار ابتلاء وليست دار استواء، دار تكليف لا دار تشريف، دار عمل لا دار جزاء ، أحيانًا التاجر في الموسم يقول لك: "الساعة الثامنة تغدينا"، نسي من كثرة البيع والمردود، والأخذ والعطاء، وتحميل بضاعة وإحضار المال نسي أنه متغدٍ، أحب إلى قلبه ألف مرة ألا يتغدى وألا يأتي إلى البيت ظهرًا لكن يبيع، أحياناً لا يكون هنالك بيع إطلاقاً، مرتاح ولكنه متضايق لكساد بضاعته وكثرة التزاماته، فالإنسان لا يسعد إلا إذا جاءت حركته اليومية مطابقة لهدفه، ولا يعرف صحة الحركة إلا إذا عرف الهدف الحقيقي، لذلك أيها الأخوة أن تعرف لماذا خلقك الله -عزَّ وجلَّ-؟ ولماذا أنت في الدنيا؟ وماذا قبل الموت؟ وماذا بعد الموت؟ وما البرزخ؟ وما الدار الآخرة؟ هذه أساسيات يجب أن تعرفها قبل كل شيء ولا شيء يعلو عليها، فلديك أولويات في حياتك؛ أن تعرف من أنت، هويتك، هناك أناس يعيشون على هامش الحياة كالناقة عقلها أهلها ثم أطلقوها لا تدري لِمَ عقلت ولِمَ أُطلقت؟ إنسان يعيش لحظته: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، إن أساؤوا أسأت، أكثر الناس هكذا: هكذا الناس، هكذا الموضة، هكذا الترتيب، هكذا التجار كلهم، هكذا الأعراف كلها؛ مع الناس.

(( لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤوا فَلاَ تَظْلِمُوا ))

[ أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان ]

من هو الإمعة؟ الذي يقول أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساؤوا أسأت، عطّل فكره، عطّل أخطر شيء أودعه الله فيه.


الحركة الصحيحة للإنسان وفق منهج الله -عزَّ وجلَّ-سر سعادته:


فنحن يجب أن نعرف لماذا خُلقنا؟ وما المهمة التي أوكلت بنا؟ وماذا بعد الموت؟ لذلك عندئذ توقع كل حركاتك، نشاطك، مهنتك، بيتك، أولادك، حتى أوقات الفراغ تملؤها وفق هذا الهدف، حتى اللهو الذي سمح الله به تفعله وفق هذا الهدف، حتى العلاقات الاجتماعية، حتى المناسبات، كل حركة، كل سكنة مبنية على هدف مسبق نابع من عقيدتك الصحيحة، لذلك حضور مجلس العلم ينمي في الإنسان التصورات الصحيحة المقتبسة من منهج الله -عزَّ وجلَّ-، الإنسان يجد نفسه بعد فترة حركته صحيحة، سلوكه منضبط، علاقاته كلها وفق منهج الله -عزَّ وجلَّ-، هذا يعطيه راحة نفسية فتجد المؤمن سعيداً، أسباب سعادته: يشعر بأنه يسير بشكل صحيح، يشعر بأن في انتظاره عطاء كبيراً، يشعر بأن الله -عزَّ وجلَّ- وعده بالجنة وهذا الوعد ينسيه كل متاعب الحياة، مرة قال لي أحدهم: أنت تقول المؤمن سعيد، ولكني أراه كبقية الناس، فقلت له: مثل شخص فقير جدًا دخله أقل من مصروفه بكثير؛ دخله 1500وعنده ثمانية أولاد وبيته بالأجرة وعليه دعوة إخلاء لكن فجأة ورث 300 مليون، حتى يتمكن من قبضهم يحتاج سنتين من براءات ذمة وإجراءات وروتين، لماذا هو في هاتين السنتين أسعد الناس علماً بأنه لم يقبض شيئًا؟! دخل بوعد؛ موعود، الله قال:

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

أي سر سعادة المؤمن الله وعده بالجنة، وهذه الدنيا مؤقتة وهو راضٍ عن حاله (فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ) ، تجد أحدهم يرتب ويرتب، لديه قلق عميق فلو مات فجأة، إذا كان عنده مشكلة متعلقة بالقلب تجده انهار على الأرض لأن كل هذا التعب على الأرض، كل شيء أصبح لغيره، فعندما يعلق الإنسان أمله بالدنيا فهو يقامر بسعادته مقامرة ويغامر بها، أما إذا علق سعادته بالآخرة تجده يقبل كل مشكلة، يمتصها امتصاصًا لا يهمه فهدفه حاصل، إذًا (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ يَلْعَبُونَ) 

أرجو من الله -عزَّ وجلَّ- أن نكون في يقين ولا نلعب، نتحرك وفق ما يرضي الله، إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيها، شرف المؤمن قيامه في الليل وعزه استغناؤه عن الناس (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ يَلْعَبُونَ) وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى:

﴿ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍۢ مُّبِينٍۢ (10) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة الدخان ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور