وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 31 - سورة آل عمران - تفسير الآية 121 ، درس معركة أحد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الواحدة والعشرين بعد المئة .

وقفات مع غزوة أُحُد :


 أيها الإخوة الكرام ، بدءاً من هذه الآية إلى ستين آيةً قادمة يتحدث الله عز وجل عن موقعة أحد ، وقبل أن نَشرَعَ بفضل الله ، وبتوفيقه في تفسير هذه الآيات المتعلقة بموقعة أحد لابد من وقفتين ؛ وقفة أولى نتحدث عن حكمة هذه المعركة التي انهزم فيها المسلمون ، ووقفة ثانية نتحدث فيها عن وقائع هذه المعركة ، فمن حكم هذه المعركة إلى وقائع هذه المعركة ، وبعدها نبدأ بتفسير الآيات التي تبدأ بقوله تعالى :

﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 121)

1 ـ حياة النبي صلى الله عليه وسلم مقصودة من قِبَلِ الله عز وجل :

 أيها الإخوة الكرام ، الحقيقة الأولى أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من أحداث ومشكلات ، وأزمات ، ومضائق ، وصعوبات ، وانتصارات ، ونكسات ، حياة مقصودة من قبل الله عز وجل ، لأن كل موقف من هذه المواقف وقف النبي فيه موقفاً كاملاً ، وقف موقفاً مشرفاً ، فالأحداث التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحداث متميزة كانت سبباً للتشريع ، فهناك انتصارات ، وهناك نكسات ، وهناك تقدم ، وتأخر ، ومؤامرات ، وتنكيل من الكفار ، وهناك موت في سبيل الله ، وهناك نصر عزيز ، فكل هذه الأحداث كانت مقصودة لذاتها لتكون درساً بليغاً من بعده .
 ما من حدث على الإطلاق إلا وقد أراده الله عز وجل لذاته ، ليكون سبباً لمنهج قويم ننتفع به ، فالأمة الإسلامية اليوم في أشد الحاجة إلى هذه الدروس ، وكأن هذه الدروس التي حصلت من تفاعل النبي مع المحيط الذي أحاط به ، ومع البيئة ومع المعطيات ، ومع الأحداث هذه الدروس هي منهج يمكن أن ننتفع به في مشكلاتنا التي نعانيها هذه أول حقيقة .

2 ـ نَكسةُ أُحُدٍ و نَكسةُ حُنَينٍ :


 الحقيقة الثانية ، أيها الإخوة ، أن المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقعوا في نكستين ؛ نكسة أحد ، ونكسة حنين ، في أحد خالفوا النص القتالي ، يعني هزموا لأسباب متعلقة بالقتال نفسه ، وفي معركة حنين هزموا لأنهم وقعوا في شرك خفي ، فنحن إما أن نهزم لتقصير في الإعداد ، وإما أن نهزم لضعف في الإيمان ، قال تعالى :

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

( سورة الأنفال : الآية 60 )

لابد من الإعداد والإيمان :

 هذا بند الإعداد ، شرط الإعداد ، لكنه شرط لازم غير كاف ، الشرط الثاني شرط الإيمان ، قال تعالى :

﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الروم : الآية 47)

 فهذا النبي الكريم سيد الخلق ، وحبيب الحق ، ومعه أصحابه الذين افتدوه بأرواحهم ، ومع ذلك عندما وضع خطةً ، وألزمهم بتطبيقها ، وخالفوا هذه الخطة لم يستحقوا النصر ، يدل هذا على قيمة التنظيم ، وقيمة القيادة ، وقيمة الطاعة ، لم يهزم المسلمون بسبب خطأ من رسول الله ، ولكنهم هزموا بسبب من مقاتليهم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وضع الرماة على تلٍّ من جبل أحد أمرهم أن يلزموا أماكنهم ، ولو رأوا أن الطير تأكل الجيش ، ينبغي أن يلزموا أماكنهم ، فعصوا رسول الله ، وانكبوا على ساحة المعركة ليأخذوا الغنائم ، وقد قال تعالى :

 

﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾

 

( سورة آل عمران : الآية 152 )

 فنحن لا ننتصر إلا بشرطين ، وكلٌّ من هذين الشرطين شرط لازم غير كاف ، لا ننتصر إلا بالتوحيد وبالافتقار إلى الله عز وجل ، وبالتوكل عليه كما انتصروا في بدر ، قال تعالى :

 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 123)

 وننتصر أيضاً بأن نعد ما نستطيع ، قال تعالى :

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

 وهناك ملمح لطيف في هذه الآية ما كلفنا الله جل جلاله أن نعد لهم القوة المكافئة ، وقد يكون هذا فوق طاقة المسلمين ، ولاسيما في هذه الأيام ، قطع أعداؤنا مراحل كثيرة جداً في التطوير والتحديث في الحروب الإلكترونية ، وفي الأقمار الصناعية ، والصواريخ ، ودقة الإصابة ، والأسلحة الجرثومية والكيماوية ، والفتاكة ، والأسلحة المعنوية ، والإعلام ، فلو أن الله عز وجل كلفنا أن نعد لأعدائنا القوة المكافئة هذا فوق طاقتنا الآن ، ولكنه جل جلاله رحمنا ، فأمرنا أن نعد القوة المتاحة فقط :

 

 

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 وأمرنا أن نؤمن به حق الإيمان وأن نفتقر إليه ، فإذا آمنا به حق الإيمان ، وافتقرنا إليه كان النصر حليفنا ، لقول الله عز وجل :

 

 

﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾

 

( سورة الصافات : الآية 173)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾

( سورة محمد : الآية 7)

﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾

( سورة الروم : الآية 47)

﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

( سورة غافر : الآية 51)

 هذه حقائق مسلَّم بها ، فمتى يهزم المسلمون إذًا ؟ إذا قصروا في الإعداد لعدوهم الإعداد المتاح ، أو إذا اعتدوا بأنفسهم ، ونسوا ربهم فأشركوا .
 إما أن ننهزم لضعف في إيماننا ، وإما أن ننهزم لضعف في استعدادنا ، فإذا كنا مؤمنين الإيمان الكاف ، ومستعدين الاستعداد المتاح كان النصر حليفنا ، ومن نحن أمام أصحاب رسول الله هؤلاء الذين شهد الله لهم بالفضل ، ولقد رضي عنهم في محكم القرآن الكريم ، قال سبحانه وتعالى :

 

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾

 

( سورة الفتح : الآية 18)

 ومع ذلك حينما وقعوا في شرك خفي ورأوا أنفسهم عشرة آلاف مقاتل ، وقد دانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها ، وكانوا أكبر قوة ضاربةٍ في الجزيرة مع ذلك ، قال تعالى :

 

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

 

( سورة التوبة : الآية 25)

 ماذا نستفيد من هذا الدرس في حياتنا اليومية ؟ يشتري تاجر بضاعة من دون دراسة ، ومن دون معرفة لاحتياجات السوق فرضاً ، من دون معرفة لجدوى هذه الصفقة ، من دون دراسة لأسعار السوق ، يشتريها شراءً عشوائياً ، فقصر في الإعداد ، ثم إنه لما اشتراها قال : سوف أبيعها ، فقصر في الإيمان ، ولم يتوكل على الله ، إذاً لن يبيعها ، إذاً لا يربح .

 

درس أُحد وحنين يطّبقان في حياة المسلمين كلها :

 هذان الدرسان يطبقان في كل حقول الحياة ، يطبقان في الدراسة ، قال طالب : يا رب أنا متفوق في الجبر ، وضعيف في الهندسة ، فرسب في الجبر ، ونجح في الهندسة ، في الامتحان الثاني قال : يا رب الهندسة والجبر عليك .
أنت حينما تتوهم أنك متفوق ، وأنك مستغن عن إمداد الله لك لا تحقق النجاح ، أو حينما تقصر ، كطالب لم يدرس أبداً ، ويقول : أنا مؤمن ، والله يحبني ، وإذا ما نجحت فهذا ترتيب الله ، وليس لي نصيب ، سبحان الله ، هذا أيضاً كلام مرفوض .
 هذا درس بليغ في حياتنا ، في دراسة طلابنا ، في حرفنا ، في طبنا ، في هندستنا ، في تجارتنا ، في حربنا ، في سلمنا ، في كل شؤون حياتنا ، يجب أن نأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، ثم نتوكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، فإذا كان التقصير في الإعداد لا ننتصر ، إذا كان التقصير في الإعداد المتاح لا ننتصر ، وإذا كان التقصير في الإيمان التوحيدي لا ننتصر ، إذا اعتددنا بأنفسنا ، ونسينا ربنا ، واستغنينا عن الالتجاء إليه لا ننتصر ، وإذا قصرنا في الإعداد لعدونا لا ننتصر ، هذا درس بليغ من دروس السيرة ، وأصحاب النبي ، وهم على ما هم عليه من إيمان ، ومن تضحية ، ومن توحيد ، في بدر انتصروا ، لأنهم كانوا موحدين ، وأعدوا العدة التي أتيحت لهم ، وكانوا قلة قليلة ، وفي أحد عصوا أمر رسول الله ، لو أن الله نصرهم في أحد على الرغم من المعصية لألغي منهج الله ، لو أن الطالب ما درس أبداً ، ونجح معنى هذا أن الدراسة ليس لها قيمة أبداً .
 لقد أراد الله عز وجل أن يدفع المسلمون ثمن هذا التقصير ، أليس الله قادراً أن يمسك النبي بحفنة من تراب ، ويلقيها في وجوه الأعداء ، فيولوا هاربين ، هذا شيء يمكن أن يقع ، ولكن لو فعل هذا النبي لانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى ، فنقصر في الإعداد ، ونقول : ليس بيننا نبي الله حتى ينصرنا على أعدائنا ، لا فالله عز وجل جعل المسلمين يدفعون ثمناً باهظاً في تقصيرهم ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على هؤلاء الرماة الذين عصوه ، وقد استنبط العلماء استنباطاً رائعاً ، وهو أنهم عصوا أمراً تنظيمياً ، ولم يعصوا أمراً تشريعياً ، الأمر التشريعي شيء والتنظيمي شيء آخر .

قريشٌ لم تحقق مبتغاها في غزوة أُحد :

 أيها الإخوة الكرام ، لكن قريشًا في هذه المعركة لم تحقق ما أرادت ، لو أنها أرادت الثأر لقتلى بدر لحققت بعض ما أرادت ، ولو أنها أرادت أن تستعيد هيبتها لحققت بعض ما أرادت لبعض الوقت ، أما لو أنها أرادت أن تقضي على المسلمين ، وأن تفسح الطريق إلى تجارتها إلى الشام لم تحقق ما تريد ، فمهما أصيب المسلمون من نكسات فهم موجودون ، والله معهم ، ولن يتخلى عنهم ، لكنه سبحانه يؤدبهم ، تماماً كالابن يخطئ ، لكن الأب لا يتبرأ منه ، ولا يطرده من البيت ، لكنه يؤدبه ، فمعنى ذلك أنك إذا كنت مؤمناً بالله فينبغي أن تصبر على تأديب الله ، وإن الله لا يتخلى عنك بالكلية ، ولكن يسوق لك من الشدائد ما يحملك على معرفته وطاعته .
 أيها الإخوة الكرام ، لقد كانت غزوةُ أحد فرزاً للمؤمنين ، ودائماً هذه المصائب تسمى محك الرجال ، وقد قال الله عز وجل في الخندق :

﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾

( سورة الأحزاب : 10-11)

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ﴾

( سورة آل عمران : الآية 179)

لا بد من امتحان يفرز المؤمن الصادق من غيره :

 الطلاب في أثناء العام الدراسي كلهم يرتدون ثياب موحدة ، وكلهم محسوبون على المدرسة طلاباً ، وكلهم قد يرتدي ثياباً أنيقة ، ولكن بينهم تفاوت كبير في العلم ، بين طالب متفوق ، وطالب كسول ، وطالب يدرس ، وطالب لا يدرس متى يكشف التفاوت بينهم ؟ في الامتحان ، فلابد من امتحان ، وأنتم أيها الإخوة هيؤوا أنفسكم ، فكل يدعي أنه يحب الله ، وكل يدعي أنه يحب طاعته ، ويسعى إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، هذا كلام بكلام ، قال تعالى :

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ﴾

 فلابد من امتحان ، ففي مثل هذه المصائب هناك امتحان ، لذلك قال بعض المسلمين في الخندق :

 

﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾

 

( سورة الأحزاب : الآية 12)

 بل قال أحدهم : أيعدنا صاحبكم ، ولم يقل رسول الله ، أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأَحَدنا لا يملك أن يقض حاجته ، وبالمقابل قال تعالى :

 

﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾

( سورة الأحزاب : الآية 23)

 فنحن في دار الابتلاء ، قال تعالى :

 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

( سورة العنكبوت : الآية 2)

 مستحيل ، يا إمام أندعوا الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ فقال : لن تمكن قبل أن تبتلى ، إذاً نحن في دار امتحان ، نحن في دار ابتلاء ، قال تعالى :

 

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

 

( سورة المؤمنون : الآية 30 )

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾

( سورة الملك : الآية 2)

 ومثل هذه المصائب ، ومثل هذه المعارك فيها ابتلاء .
 حصل في القاهرة زلزال ، كثير من أطباء القاهرة ولَّوا وجوههم شطر الإسكندرية ، وانسحبوا من هذا الزلزال طلباً للسلامة ، وأطباء بقوا في المستشفيات يعملون أربعاً وعشرين ساعة خدمةً لهؤلاء الجرحى ، هذا الزلزال فرز الأطباء .
 دائماً وأبداً هناك فرز ، الهجرة فرزت المؤمنين ، مؤمنون انصاعوا إلى أمر النبي ، وهاجروا ، وآثروا الهجرة على أموالهم ، وبيوتهم ، ومكانتهم ، وأناس تشبثوا ببيوتهم ، وأموالهم ، ولم يهاجروا ، فالهجرة فرز ، والمعارك فرز ، والمصائب فرز ، وقهر الإنسان أحياناً فرز ، يأتي ضغط هؤلاء المؤمنون بعضهم لا يصمد لهذا الضغط ، فيعصي الله طلباً للسلامة ، وبعضهم يصمد ، لذلك الإيمان الحق لا يتغير ، ولا يتبدل ، لا تحت سياط الجلادين اللاذعة ، ولا أمام سبائك الذهب اللامعة ، المؤمن كالجبل لا تهزه هذه المغريات ، ولا تثنيه هذه الضغوط ، فهذا المعركة فرز للمؤمنين :

 

﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾

 

( آل عمران : من الآية 152 )

 أيها الإخوة ، وهناك حقيقة أيضاً دقيقة جداً ، لو أن مدرساً أعطى تعليمات للتوضيح ، وخالفها طالب فلم يعاقب سقطت قيمة هذه التعليمات ، لو أن المدرس كلف طلاباً بوظيفة ، وفي اليوم التالي طلاب كتبوا ، وهناك طلاب ما كتبوا ، استوى عند المدرس الذين كتبوا ، والذين لم يكتبوا، في اليوم الثالث لم يكتب أحد ، فإذا لم تنفذ التعليمات تلغى قيمتها ، فلو أن هؤلاء الصحابة على أنهم عصوا أمر رسول الله فانتصروا لسقطت قيمة الطاعة إطلاقاً ، وهذا شأن تربوي ، حينما لا يحاسب المقصر ، ولا يكافأ المحسن تسقط القيم ، يسقط الباعث ، يسقط الخوف يسقط الطمع .

 

معركة أحد استكمالٌ لبناء شخصية المسلمين :

 الحقيقة تعد معركة أحد استكمالاً لبناء شخصية المسلمين ، والله ، وأنا في طريقي إلى هذا المسجد خطر في بالي أننا في هذه البلدة الطيبة نصلي ، وندعو الله عز وجل ، ونخطب ونلقي الدروس ، والمساجد مليئة بالمصلين ، إلى من يعود الفضل في ذلك ؟ إلى هؤلاء الصحابة الذين بذلوا الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، ففي أُحُد ، وبدر ، والخندق ، وسوف ترون بعد حين كم بذل هؤلاء الصحابة ، سبعون صحابياً من نخبة الصحابة قتلوا في أحد ، هذا الإسلام الذي وصل إلينا مدفوع ثمنه باهظاً ، نحن أخذنا من الإسلام ، ولم نعطه شيئاً ، نحن حملنا ، ولم نحمل ، نحن قطفنا الثمار ولم نزرع الشجر ، أما هؤلاء الصحابة الكرام بفضلهم ، وبفضل إيمانهم ، واستشهادهم ، وإراقة دمائهم وصل الإسلام إلى هذه البلاد.
 والله الذي لا إله إلا هو لو أن الصحابة الكرام فهموا الدين كما نفهمه نحن عبادات شعائرية ، ومظاهر واحتفالات ، ومكتبات ، ومحطات فضائية، ندوات ، لو فهموا الإسلام كما نفهمه نحن ، والله الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكة لم يصل إلى المدينة ، لأنه وصل إلى إسبانيا ، ومن ذهب إلى هناك يرى معالم المسلمين ، ووصل إلى الصين ، حيث يوجد في خمسون مليون مسلم ، وفي إندونيسيا مئتان وخمسون مليون مسلم ، لولا أن الصحابة الكرام فهموا الإسلام فهماً حقيقياً ما انتقلوا من رعاة الغنم إلى قادة الأمم ، والآن نحن لا سبيل إلى استعادة هذا الدور القيادي لهذه الأمة إلا أن نعود إلى هذا المنهج القويم ، وإلى أن نتمسك بالتوحيد، أن نوحد وأن نستعد .
 أيها الإخوة ، بعد هذه الهزيمة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلبها إلى نصر ، فأصحابه كلهم جرحى ، بعد يوم قتال عنيف ، وسوف ترون بعد حين أنواع الشدة التي شهدها المسلمين ، وأنواع الجراحات التي أصابتهم ، ومع ذلك أمرهم النبي أن يتوجهوا إلى حمراء الأسد ، ليلحقوا بالمشركين ، ولم يقبل إلا من خاض معركة البارحة ، على الرغم من تحمله الشدة ، ومن جراحه العميقة والثخينة لبى نداء النبي ، فخفف هذا الأمر إلى العشر ، وولى المشركون هاربين ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد أن يحقق المشركون كل غايتهم .

لا تقلق على هذا الدين :

 أيها الإخوة ، آخر تعليق لا تقلق على هذا الدين ، إنه دين الله ، وإن الله جل جلاله يتولى نصرته ، ولكن ليكن قلقك ما إذا سمح الله لك ، أو لم يسمح أن تكون جندياً في هذا الدين .
 ويا أيها الإخوة الكرام ، وحينما لا يتاح لك مثل هذا الجهاد القتالي فهناك جهاد وصفه الله عز وجل بأنه جهاد كبير ، أن تجاهد بهذا القرآن ، أن تتعلمه ، وأن تعلمه ، لأنك قبل أن تجاهد الكفار ينبغي أن توصل القرآن إلى المؤمنين .
 سأل بعضهم عالماً : أيصل ثواب قراءة القرآن على الموتى إلى الموتى ؟ فقال هذا العالم ، وقد أعجبتني إجابته : وهل بإمكانك أن توصل هذا القرآن إلى الأحياء ؟
 دعك من الميت ، هل بإمكانك أن توصله إلى الأحياء ؟ هل بإمكانك أن تقنع الناس أن يطبقوا هذا القرآن في بيوتهم ، أن يطبقوه في زواجهم ، في نزههم ، في حلهم ، في ترحالهم ، في كسب أموالهم ، في أتراحهم ، هذا جهاد كبير .
 الجهاد القتالي من أجل هذا الجهاد ، فإذا كان هذا متاحاً للمسلمين في كل العهود فما يمكنك أن تعقد مؤتمراً في أمريكا في عقر دار الأعداء إسلامياً ، متاح لك أن تدعو إلى الإسلام في أي مكان ، والشاهد المساجد مليئة ، والحمد لله فأنت حينما لا يتاح لك جهاد قتالي لسبب أو لآخر ، فإنه قد أتيح لك أن ترسخ هذا القرآن في نفوس المؤمنين ، متاح لك أن تفهمه ، أن تعلمه ، أن تجعل من هذا القرآن منهجاً لنا ، متاح لك أن تأمر بالمعروف ، وأن تنهى عن المنكر، متاح لك أن تبلغ من حولك آيةً ، أو حديثاً ، أو حكماً ، أو قصةً ، أو سيرةً ، متاح لك أن تفعل كل شيء لكنه التقصير ، من يمنعك أن تجلس مع أهلك لتعلمهم ؟ من يمنعك أن تجلس إلى أصدقائك لتعلمهم ، من يمنعك أن تنقل خطبة الجمعة إلى من حولك ؟
 أيها الإخوة الكرام ، ورد في بعض الأحاديث

(( ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، حتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا ، وَهَوًى مُتَّبَعًا ، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْىٍ بِرَأْيِهِ ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لاَ يَدَانِ لَكَ بِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ ، فَإِنَّ مَنْ وَرَائِكَ أَيَّامَ الصَّبْرِ ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ))

أبو داود ، ابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني)

 أهلك ، جيرانك ، أصدقاؤك ، زملاؤك ، رواد مسجدك ، هؤلاء خاصة النفس ، فنحن إذا أردنا أن نعلم هؤلاء بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وأن نرسخ قيم الدين ، وأن نكون قدوةً للآخرين ، فهذا سماه الله عز وجل في كتابه الكريم الجهاد الكبير ، الكبير ، قال تعالى :

 

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾

( سورة الفرقان : الآية 52)

 أبواب الخير مفتحة على مصاريعها ، أبواب الدعوة إلى الله مفتحة على مصاريعها ، الإسلام لا يحتاج إلا إلى نشر هذا الحق ، قوته بكلمته ، والأنبياء جاؤوا بالكلمة الصادقة الواضحة النيرة الصحيحة المخلصة ، فقلبوا وجه الأرض ، من هم العرب ؟ قبائل متناحرة في الجاهلية كان أحدهم يمد رجله ويقول : من كان أشرف مني فليضربها ، فيأتي من يضربها ، وتنشأ حرب تزيد عن عشر سنوات ، جاهلية ما بعدها جاهلية ، تنابز بالألقاب ، افتخار بقيم جاهلية ، غزل رخيص ، معاقرة خمرةٍ ، ربا لا يحتمل .
 أتيت ، والناس فوضى ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في حياة قصيرة مفعمة بالخير ، حتى إن الله عز وجل أقسم بعمره الثمين ، فقال تعالى :

 

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

 

( سورة الحجر : الآية 72 )

 أيها الإخوة الكرام ، هذه بعض حكم هذه المعركة معركة أحد ، والله عز وجل في هذه الآيات التي تحدث بها عن معركة أحد يبين أسباب هذه المعركة ، وتفاصيلها ، ولابد من رواية تفاصيلها قبل الشروع بشرح هذه الآيات .
أيها الإخوة الكرام ، الآية الكريمة :

 

﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 121 )

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

1 ـ سببُ غزوة أحدٍ :

 هذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم ، والغايات المحمودة التي كانت في هذه الوقعة ، وكانت في شوال من السنة الثالثة باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها وحزن أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، فجاؤوا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم ينل ما في نفسه أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع ، قريباً من ثلاثة آلاف من قريش على رأسهم أبو سفيان ، بسبب معركة بدر التي انهزم فيها المشركون ، وانتصر فيها المؤمنون ، وقتل في بدر رؤوس الكفر ، فأخذ أبو سفيان يؤلب قريشاً على رسول الله ، وجمع ثلاثة آلاف مقاتل من قريش ، ومن حلفائها ، ومن الأحابيش ، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا ليدافعوا عنهن ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد .

2 ـ الاستعداد المادي والمعنوي والتنظيمي :

 دققوا ، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرجون إليهم ، أم يمكثون في المدينة ؟ وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخرجوا المسلمون من المدينة ، وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلها المشركون قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي ، وكان هو الرأيُ ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، والنبي يرى أن يبقى في المدينة ، وأن يتحصن بها ، وأن يقاتل الكفار من أفواه الأزقة ، والنساء يضربون الجند من على السطوح ، وقد قال الله عز وجل :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

( سورة الحجرات : الآية 1 )

 فنهض النبي عليه الصلاة والسلام ، ودخل بيته ، ولبس لأْمته ، أي لبس درعه ، وخرج عليهم ، وقد انثنت عزائم أولئك الملحين لما رأوه لبس درعه ، وتأهب للخروج فندموا ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا مُنَحَّرَةً ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةُ ، وَأَنَّ الْبَقَرَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ ، قَالَ : فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : شَأْنَكُمْ إِذًا ، قَالَ : فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ ، قَالَ : فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْيَهُ ، فَجَاءُوا فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، شَأْنَكَ إِذًا ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ ))

(أحمد)

 لقد بيّن النبي أن التردد آفة كبيرة ، اتخذ قرارًا بالخروج ، أما هذا التردد فمشكلة كبيرة جداً ، والتردد في أغلب الأحيان سبب الإحباط ، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام في ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، انظر إلى النظام ، لابد من أمير على المدينة ، والمسلمون جميعاً في أحد ، استعمل ابن أم مكتوم على المسلمين في المدينة .

3 ـ رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعركة :

 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا ، وهو في المدينة ، رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقراً تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة ، فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته ، إنه سيدنا حمزة ، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون ، وتأول الدرع بالمدينة .

4 ـ خروج النبي إلى أحد وهو يحث أصحابه على القتال :

 رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الجمعة ، فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد خذل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام ، فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله عنهما يوبخهم ، ثلث المقاتلين رجعوا ، ولم يقاتلوا مع النبي ، فهذا والد جابر تبعهم يوبخهم ، ويحضهم على الرجوع ، ويقول لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا عن مدينتكم العدو .

﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾

( سورة آل عمران : الآية 167)

 فرجع عنهم ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، هذا درس ثان ، أول درس عدم التردد ، الدرس الثاني ينبغي ألا تستعين بمشرك على مشرك ، وسلك حرة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، حتى نزل الشعب من أحد ، مستنداً إلى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، هذا النظام ، بما أن قوة الجيش في نظامه ، هذه فاتحة يتعلمها الجنود ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم .

 

5 ـ تنظيم النبي جيشه ، ووضعه الرماة على الجبل :

 لما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال هو وأصحابه السبعمئة ، كانوا ألفاً ، فيهم خمسون فارساً ، وخمسون رامياً ، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وأمره وأصحابه أن يلزموا مكانهم ، وألاّ يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر .
 الآن في أي شأن في سفر هناك أمير ، الأمير له رؤية ، يرى ما لا يراه أتباعه ، فإذا أعطى أمرًا فينبغي أن ينفذ ، بالمناسبة ما كل أمر يعلل ، أذكر مرةً أن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قال بإيجاز شديد : لا تقتلوا عمي العباس ، فقط ، صحابي فكر ، وقال : أينهانا عن قتل عمه ، ونحن نقتل آباءنا ، وإخواننا ! هو عمه ، يجب ألاّ نقتله ، ونحن نقتل آباءنا وإخواننا ، فأبقاها في نفسه ، النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يقول كلمة واحدة زائدة ، لأن عمه مسلم ، وقد أسلم خفيةً ، وهو عينه في قريش لكل أخبارها ، فتأتيه تباعاً ، كل قرار متخذ في أعلى مستوى يأتي النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذه قيادة حكيمة وذكية فلو قال : عمي مسلم لا تقتلوه لكشفه ، وأنهى مهمته ، لو أن عمه لم يخرج لانكشف أمره ، لو خرج لقتله أصحاب النبي ، لا يستطيع أن يقول إلا كلمة واحدة ، لا تقتلوا عمي العباس ، فما كل أمر يعلل، وهذا نحتاجه في حياتنا اليومية ، هناك أمير يرأس القوم ، وقد علم الله عز وجل منه الحكمة ، والحرص ، والإخلاص ، فأمّره على هؤلاء ، وليس كل فرد يحق له أن يسأل ، وأن يطلب التعليل ، هناك مواقف عصيبة ، يجب أن تأمر دون أن تعلل ، لا تقتلوا عمي العباس ، فقط .
 هؤلاء الخمسون رامياً أمر عليهم عبد الله بن جبير ، وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وألاّ يفارقوه ، ولو رأوا الطير تخطف العسكر ، نص واضح من قيادة حكيمة ، وكانوا خلف الجيش ، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم ، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، أيْ لبس درعين أخذاً بالحيطة ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾

( سورة النساء : الآية 71 )

 وهؤلاء المسلمون السذج ، كلما ترك أحدُهم الأخذ بالأسباب ، وأهمل ، ولم يتقن ، تركها لسيدك، ليس لنا إلا الله ، الله يحمي ، هذا كله كلام الجهل ، ينبغي أن تأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق ، وحبيب الحق ، ومع ذلك لبس درعين ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وجعل على إحدى المجنتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى منذر بن عمر .

 

6 ـ ردّ النبي لصغار الصحابة :

 الآن دققوا ، دققوا بين شبابنا وشبابهم ، واستعرض الشباب يومئذٍ ، وكان بينهم أفراد استصغرهم عن القتال ، منهم عبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد ، كلهم صغار جاؤوا ليقاتلوا فردَّهم ، وأسيد بن حضير ، والبراء بن عازب ، وزيد بن الأرقم ، وزيد بن ثابت ، وعبابة بن أوس ، وعمرو بن حزام ، وأجاز من رآه مطيقاً ، منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، أجاز سمرة ، ورد رافعًا ، أو العكس ، فذهب أحدهما يبكي إلى أمه ، فجاءت أمه إلى النبي الكريم ، الآن الأم على الخدمة الإلزامية ، أمّ الولد تولول ، مثلاً هذا الجهل .
 فجاءت أم أحدهما تتوسل إلى النبي أن يجيزه ، فتصارعا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، النبي هل لديه وقت ؟ الوقت عصيب ، والعدو على الأبواب ، لكن احترام شخصية الصغير جزء أساسي من التربية ، طفل يريد أن يقاتل فتصارعا أمامه ، فأجازهما معاً ، أجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج ، ولهما خمسة عشر عامًا .
 الآن يمسك الهمبرغر ، ويذهب إلى الملعب ، وله خمسة عشر عامًا ، أجازهم للقتال ، فقيل أجاز من أجاز لبلوغه السن ، ورد من رده لصغر سنه ، وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ، ورد من رد لعدم إطاقته ، ولا تأثير للبلوغ ، وعدمه في ذلك .

7 ـ تقسيم الجيش إلى ميمنة وميسرة :

 قال أحد الشابين : فلما رآني مطيقاً أجازني ، وتعبّأت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، ثلاثة آلاف أمام خمسين فارساً فقط ، وخمسين رامياً ، وسبعمئة ، قريش هم ثلاثة آلاف ، وفيهم مئتا فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، لا تحكم على الشخص إلا حتى يتوفاه الله ، كان من ألد أعداء النبي ، وهو الذي سبب الهزيمة للمسلمين ، ثم أصبح من كبار الصحابة ، ثم أصبح سيف الله المسلول ، لا تيأس من إنسان ، ولو رأيته غارقاً في المعصية ، ولو رأيته يعادي الدين أشد العداء ، لعل الله يهديه ، ولعله يرجع ، فلا تقطع الأمل من أحد ، حينما أسلم خالد قال له النبي الكريم : عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً .
 هذا الذي بسببه قتل سبعون صحابياً من خيرة أصحاب رسول الله ، والسبب خالد ، كيف أصبح خالد بعد ذلك ؟ قال : والله خضت مئة معركة ، أو زهاءها ، وما في بدني إلا فيه موضع ضربة سيف ، أو طعنة برمح ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء .
 وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، كانوا أقطاب الكفر ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة ، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب .

8 ـ بدء القتال :

 وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه عبد الله بن عمرو ، وكان يسمى الراهب ، لترهبه وتمسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله الفاسق ، وكان رأس الأوس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام شرق به ، وما تحمل ، يريد مكسبًا ، فلما جاء النبي ضاع هذا المكسب ، وجاهر رسول الله بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحضهم على قتاله ، ووعدهم أن قومهم إذا رأوه أطاعوه ، ومالوا معهم ، فكان أول من لقي من المسلمين قومه ، فنادى قومه ، وتعرف إليهم قالوا : لا أنعم الله عليك ، لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ، أرأيتم إلى الولاء .
 فقاتل المسلمون قتالاً شديداً ، وأبلى يومئذ حمزة ، وطلحة ، وشيبة ، وأبو دجانة ، والنضر بن أنس بلاءً شديداً ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين ، واشتد القتال ، وكانت الدولة أي الغلبة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزم أعداء الله ، وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم ، هنا العقدة .

 

9 ـ نزول الرماة من الجبل :

 لما رأوا الرماة هزيمتهم انتهى كل شيء ، معهم نص ، معهم توجيه من النبي : لو رأيتم الطير تأكلنا فلا تغادروا أماكنكم ، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم النبي الكريم بحفظه ، وقالوا : يا قوم الغنيمةَ الغنِيمةَ ، قال تعالى :

﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾

( آل عمران : الآية 152 )

 فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة من خمسين ، فكرَّ المشركون ، وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم ، وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووثب العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 نتابع هذا في درس قادم إن شاء الله .

 

***

 

الأسئلة :

 س : يسأل أخ : إذا كتب الإنسان كتاب شيخ ؟
 ج : تعليق بسيط ، الحقوق لا تثبت الآن إلا بالكتاب الرسمي ، العقد الشرعي المسجل في سجلات المحكمة الشرعية ، يجوز قبل خمسين سنة أي كتاب شيخ صحيح ، الآن الحقوق لا تثبت إلا بالكتاب الرسمي ، فأنا أنصح الإخوة بعقد رسمي ، إلا إذا في ضرورة بالغة ، فهذا موضوع آخر ، أما من دون ضرورة ، حتى يدخل ويخرج ، لا يدخل ولا يخرج ، اكتبوا الكتاب ، ويدخل ويخرج .
 س : إذا كان الشاب خاطبًا ، وكتب كتاب شيخ ، ليس كتاب محكمة ، وأراد أن يترك العروس ، هل يستحق له النقد شرعاً ؟
 ج : يستحق ، إن لم يدخل بها فعليه نصف المهر المسمى ، وإن لم يسمِّ المهر فعليه نصف مهر المثل ، ولو كان بكلمتين من شيخ ، هذا دين الله عز وجل .
 س : هناك بعض المشايخ مع مريديهم يجعلون من أنفسهم حكماء ، كشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يريدون أن يعترض عليهم أحد ، بدعوى أن الأنبياء معهم ورثة ، ألا وهم العلماء ؟
 ج : لا نعتقد نحن بحسب العقيدة الإسلامية أن أحداً معصوماً عن الخطأ ، الكل يخطئ إلا رسول الله ، الصحابة منهم من يريد الدنيا ، ومنهم من يرد الآخرة ، لا نعتقد العصمة إلا لرسول الله ، أما أمته فمعصومة بمجموعها ، فكل من يدعي العصمة وقع في مطب كبير وادعاء العصمة أكبر خطأ يرتكبه من يدعي العصمة .
 س : أليس النصر والهزيمة هو قضاء وقدر ؟
 ج : نعم ، وهذا لامتحان المؤمنين بإيمانهم وصدقهم ، أحياناً يقوى الكفار ، ويفعلون ما يريدون ، ويفتكون ، ويقتلون كما ترون في أطراف العالم ، هذا امتحان صعب جداً ، هذا الامتحان صعب، فضعاف المؤمنين يسقطون ، يقولون : أين الله ؟ أما أقوياء المؤمنين فلا يتأثرون ، يرون حكمة الله ، ويرون امتحان الله ، يرون يد الله تعمل في الخفاء ، يرون الدنيا دار عمل ، دار امتحان ، ولو لم تنجح ، لك إيمانك ، ولك عملك الصالح ، ولك نيتك ، ولك الآخرة ، الفوز الحقيقي ليس في الدنيا ، النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق قال له المولى جل جلاله :

 

﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾

 

( سورة يونس : الآية 46)

 قد تموت ، ولا ترى النصر ، أنا علي أن أكون مع منهج الله ، علي أن أكون في مرضاة الله ، أما أن أطالب الله أن يغير سننه هذا شيء مستحيل .
 س :هل يجوز للمرأة أن ترتدي البنطال سواء أكانت تحت المعطف ولكم جزيل الشكر ؟
 ج : ثياب المرأة ينبغي أن تكون فضفاضة ثخينة لا تظهر خطوط جسمها ، فإذا كانت ترتدي معطفاً سابغاً ، فضفاضاً ، ثخيناً ، لا يشف ، ولا يجسد خطوط جسمها فهذا هو اللباس الشرعي ، أما إذا كانت ترتدي تحت هذا المعطف فهذا شيء لا يعنيها إلا إذا دخلت إلى بيت إحدى قريباتها، وقالت لها اخلعي المعطف ، وكان هناك من ينظر إليها فقد وقعت في معصية ، البنطال إذا كان يصف حجم أعضائها فهذا ثوب لا يجوز ، إلا أن يراها أقرب الناس إليها ، زوجها ، فله أن يراها بأي شكل ، وبأي ثياب ، ولو أنها ثياب حديثة جداً ، أما محارمها فينبغي أن ترتدي أمامهم ثياب الخدمة ، حيث لا ترتفع عن نصف الساعد ، وتحت الركبة ، وفوق الصدر ، ثياب محتشمة سماها الفقهاء ثياب الخدمة ، فالبنت التي تتعرى أمام أخيها ، هذا أخي ، هذا أبي ، هذا ابني ، هذا كله حرام ، ينبغي أن ترتدي المرأة أمام محارمها ثياب الخدمة ، وليس هناك أي قيد أمام الزوج وزوجته ، أما إذا خرجت فلا بد من ثياب تستر كل جسم المرأة ، ونكون ثخينة وفضفاضة ، هذا هو الحكم الشرعي .
 س : خلاف بين زوجين ، ارتأى الزوج أن تذهب إلى بيت أهلها كل شهر ساعة ؟
 ج : لا يكفي ، هل تستطيع إذا كنت ابناً باراً ألاّ ترى أمك ، ولا أباك في الشهر إلا ساعة ؟ عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، كما تحب أمك وأباك فهي تحب أمها و أباها ، ولن تستطيع أن تدعهم شهراً بأكمله لتراهم ساعةً مقننة .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور