وضع داكن
20-04-2024
Logo
موضوعات إسلامية - موضوعات مختصرة : 54 - الرحمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

قلب الأم وقلب الأب وحدهما آيات دالتان على رحمة الله :

 الله جلّ جلاله خلق الأكوان كي نعرفه، فكل أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى مجسدة في الكون، من خلال الكون تعرف حكمته، وتعرف علمه، وتعرف قدرته، وتعرف رحمته، فكل أسمائه مجسدة في الكون، بل إن الكون - وبالتعبير القرآني - السموات والأرض بل إن الكون هو مظهر لأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى.
 يضاف إلى هذا شيء آخر، مما يلفت النظر في سورة البلد قوله تعالى:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾

[ سورة البلد : 1-3]

 أكثركم آباء، شعور الأب تجاه ابنه، يتمنى له السلامة، يتمنى له السعادة، يتمنى له الغنى، يتمنى له أن يكون ديناً، مع أن هناك آباء ليسوا بحاجة إلى أبنائهم إطلاقاً، لا يعلق عليه أي أمل لكن يرجو له كل خير، فكأن الله سبحانه وتعالى جعل نظام الأبوة أداة لمعرفة الله، إذا كان أبوك هكذا، وإذا كانت الأم كل عواطفها، وكل رغباتها، وكل همومها وهواجزها مع أبنائها، هذا قلب الأم فكيف رحمة الرب؟ من هذا القبيل أن سيدنا موسى عليه السلام - هكذا تروي بعض القصص، والعبرة بالمغزى- مرّ بأم تخبز على التنور، وكلما وضعت رغيفاً في التنور تُقبّل ابنها، فعجب هذا النبي الكريم من تلك الرحمة التي أودعها الله بقلب هذه الأم، قال: يا ربي ما هذه الرحمة؟ قال: هذه رحمتي يا موسى أودعتها في قلب الأم وسأنزعها، فلما نزع الله الرحمة من قلب الأم بكى ابنها فألقته في التنور.
 وهناك مثل عندنا من الحيوان؛ القطة تعتني بأولادها عناية فائقة وبعد حين تأكلهم، تأكل أبناءها، فهذه الرحمة التي أودعها الله في قلوب الآباء والأبناء إنما هي رحمة الله.
 أعرف إنسانة من قريباتي لها ابن عمره ثلاثة أشهر، ما زاد وزنه ولا غرام لخلل في كبده، فلما شارف الموت كادت تموت ألماً، قلت: يا سبحان الله ثلاثة كيلو من اللحم ما قال لها مرةً: يا أماه، ولا جاءها بهدية، ولا خدمها، ترى الدنيا كلها من خلال هذا الابن، فقلب الأم وقلب الأب وحدهما آيات دالتان على رحمة الله.
 في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قصة مشابهة أنه رأى أماً تقبل ابنها فسأل عليه الصلاة والسلام أصحابه سؤال العارف أتلقي هذه بولدها إلى النار؟ قالوا: معاذ الله، قال: والذي نفس محمد بيده لله أرحم بعبده من هذه بولدها.
 فرحمة الله وسعت كل شيء، لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي.

(( لله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد، والعقيم الوالد، والضال الواجد ))

[ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنهما ]

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾

[ سورة الإنسان : 27- 28]

العبرة مع الحق و الفطرة السليمة :

 مرة سألوا مئة رجل باستبيان علمي، السؤال محرج، لماذا لا تخون زوجتك؟ جاءت الأجوبة، صنفت هذه الأجوبة تصنيفاً أخلاقياً، فكان أردأ صنف أنني لا أستطيع، لأنها تعمل معه في البقالية مثلاً، الإجابة الأرقى قال: لا أحتمل الشعور بالذنب هذا المعنى دقيق.
 فالإنسان عندما يعصي الله، ويأكل المال الحرام، ويعتدي على أخيه، ويكذب، ويلصق تهمة لغيره، يختل توازنه الداخلي، تحمل الشعور بالذنب، أصابته الكآبة، قد تجد إنساناً لا يملك من الدنيا شر نقير لكنه مستقيم متوازن.
 مرة هذه القصة لا أنساها، زرت إنساناً، مكتبه لا يوصف من الفخامة والأناقة، يبدو أن عمله سيئ، قال لي: أنا عملي قذر، بصراحة، نظرت إلى المكتب كله مغلف بالخشب، من أجل عزل الصوت والحرارة، الأرضية من الموكيت، أي بذخ لا يصدق، لكن بساعة صفاء قال لي: أنا عملي قذر. يبدو، أنهم سألوا راقصة فرنسية ما شعورك وأنت على خشبة المسرح؟ قالت شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور. إن الحب يجب أن يبقى بين الزوجين، وفي غرف مغلقة، هذه فطرة صادقة، هذه عبرت عن فطرة الإنسان السليمة، وهذا عبر عن فطرته السليمة.
 من مفارقات الحياة أنني كنت مضطراً في اليوم التالي إلى إصلاح مركبتي، لي صديق بعيد جداً، والمطر شديد، والوحل، ذهبت إلى مكان عمله دكانه، كلها سيارات، لا يوجد محل، وضعتها على الرصيف وأنا مضطر أن أصلح علبة السرعة، فالأرض طين ومطر، ويرتدي أفرول كان أزرق اللون من الشحم والطين لم يبق له لون، انبطح تحت المركبة بهذا الوحل، وفك علبة السرعة، وأصلحها بإتقان، وأخذ سعراً معتدلاً، فأنا الذي رأيت مكتبه البارحة، وقال لي: أنا عملي قذر، قلت في نفسي: والله هذا الذي انبطح تحت السيارة عمله نظيف، كل عمله بالوحل والشحم والزيت، لكن لأنه قام بعمل متقن وأخذ أجراً معتدلاً فهذا عمله نظيف. فنحن أخطر شيء في حياتنا الشكل، ترى محلاً فرضاً بأرقى أسواق دمشق، يبيع ألبسة داخلية نسائية، وهناك مجموعة شباب زناة تقريباً، كلما دخلت فتاة يسمعونها ويلطشونها، ويملؤوا أعينهم من محاسنها، إلخ... تجد محلاً بسوق متعب، ضجيج وصخب وشحم وزيت، هذا المحل نظيف، والمحل الأول الذي فيه مرايا و أناقة و ورود هذا المحل قذر، أنا أتمنى العبرة ليس الذي على الشبكية، العبرة الذي في الدماغ.
 كنت مرة ببلاد الغرب، سألني إنسان: ماذا رأيت؟ قلت: والله إذا كان هناك جنة في الأرض فهي هناك لكن على الشبكية، فإذا انتقلت إلى الدماغ والله جحيم، لأن آخرتك في جهنم، كل المعاصي والآثام ترتكب وكأنك تشرب كأس ماء، أجمل مدينة هناك في غرب البلاد، خمسة و سبعون بالمئة من سكانها شاذون جنسياً، نساء مع نساء، وذكور مع ذكور، أجمل مدينة، تعد بالملايين بأي مكان البيت بثلاثمئة ألف، عندهم بخمسة ملايين، البيت صغير، مساحته مئة متر بخمسة ملايين.
 فأنا أنصح أخواننا لا تعبأ بما على الشبكية، قد تجد مركبة فخمة، لكن صاحبها تاجر مخدرات، يجب أن يسقط من عينك هو ومركبته، قد تجد بيتاً فخماً، لكن صاحبه مغتصب أموال أخوته، هناك أبناء شريرون يغتصبون أموال الورثة جميعاً، يدع أخوته فقراء وهو يتنعم بهذا المال، هذا بالأدب يسمونه العاطفة السطحية والعاطفة العميقة، إذا دخلت إلى بيت تاجر مخدرات، مرة علق تاجر مخدرات وحكم عليه بالسجن، عرض مئة مليون، كلمة مئة مليون، معنى هذا أن دخله كبير جداً، فإذا دخلت إلى بيته هل تعجب بهذا البيت ؟ على حساب أخلاق الشباب، على حساب تدمير أسر. فنحن مشكلتنا بالشبكية، الذي على الشبكية لا تعبأ به، قد يكون أسوأ شيء الذي على الشبكية، العبرة بالدماغ.
 مرة قرأت عن صالة قمار بلبنان كلفت ثلاثين مليون دولار، فيها نوع رخام سعره مرتفع جداً، هذا الشفاف أونكس، أي ثريات ؟! وأي جبصين ؟! وأي سجاد ؟! وأي أثاث ؟! ثلاثون مليوناً بصالة ؟! تدخل لجامعة دمشق كم بلور مكسور؟ مروحة لا تدور؟ سبورة قديمة؟ مقاعد مكسورة؟ لكن الجامعة تخرج أطباء ومدرسين ومهندسين، تخرج قادة للأمة، دار القمار ماذا يخرج ؟ يخرج مجرماً، منتحراً.

هو الداء الذي لا برء منه  وليس لذنب صاحبه اغتفار
تشاد له المنازل شاهقات  وفي تشييد ساحتها الـدمار
نصيب النازلين بها سهاد  فإفلاس فيأس فانتحـــــــــــــار
***

 إنسان بأمريكا لبناني مسلم، معه اثنان ونصف مليون دولار، بالعام الماضي دخل إلى دار قمار بنيابادى مسموح القمار هناك، فلعب فخسرهم كلهم، اثنان ونصف مليون دولار، كم مليون ليرة سوري ؟ 125 مليون، جاء إلى البيت قتل زوجته و أولاده وانتحر، وقال: ليغفر الله لي.

نصيب النازلين بها سهاد  فإفلاس فيأس فانتحـــار
***

الولاء و البراء :

 مضمون هذا اللقاء لا تعبأ بما على الشبكية، كن أعمق من ذلك، قد تجد موظفاً شريفاً، مساحة بيته خمسون متراً، وثيابه من البالة، يأكل أكلاً خشناً جداً، وقد تجد إنساناً يقضي شهراً في فرنسا، وهو موظف بسيط، من أين يأتي بالمصروف؟ من دخل غير مشروع، فلا تحترم إنساناً دخله حرام، لا تحترم إنساناً ماله حرام، لا تحترم إنساناً جاهلاً، لذلك ولاء المؤمن للمؤمنين ولو كانوا فقراء، ولو كانوا ضعفاء، ويتبرأ من الكفار ولو كانوا أقوياء، ولو كانوا أغنياء، العبرة مع الحق، الله مع الحق، سبحان الله! ما جاء نبي إلا كان الذين اتبعوه فقراء.

﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾

[ سورة هود: 27 ]

 أي فقراؤنا، أما عظماء مكة فكفروا، صناديد قريش كفروا، من آمن مع النبي؟ الضعفاء والمساكين، لذلك النبي كان يدعو:" اللهم احشرني مع المساكين، اجعلني مسكيناً احشرني مع المساكين"، العبرة أن تحترم إنساناً مستقيماً يعرف الله، ولو كان بيته في أقصى الدنيا، ولو كان بيته صغيراً، يركب دراجة أحياناً، العار أن تعصي الله، وما لم نحترم المؤمن ولو كان فقيراً، ونزدري الكافر ولو كان غنياً، لن تقوم لنا قائمة.
 قضية الولاء والبراء قضية مهمة جداً، يجب أن توالي، قد يكون حاجباً، لكنه صائم ويصلي، ويغض بصره عن الحرام، وقد تجد إنساناً غنياً كبيراً لكنه زان، وشارب خمر، أنت حينما تعظم أرباب الأموال ذهب ثلثا دينك.

(( ومن دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ الطبراني عن أبي الدرداء ]

من نعم الله علينا ابتعادنا عن المظاهر المضللة :

 أردت من هذا أيها الأخوة أن أبين أن ما كل شيء يلمع نافع، الأفعى جمالياً جلدها جميل جداً، وملمسها ناعم، وشكلها انسيابي، لكن من منا إذا نظر إلى أفعى يضعها في حجره؟ يضعها في صدره؟ أعوذ بالله، يقفز من جلده منها، مع أن منظرها انسيابي، وشكل جلدها رائع جداً، ومع ذلك سمها في دسمها.
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن المظاهر المضللة، تجد دولة متخلفة لكن فيها تماسكاً أسرياً، فيها بقية حياء، فيها بقية تماسك أسري، هذه زوجة فلان، لا يوجد خيانة زوجية، فيها بقية أبوة، فيها أب.
 قال لي صديق: ذهبت إلى فرنسا كانت لغتي ضعيفة بالفرنسية، أحببت أن أقويها وجدت شاباً على نهر السين بباريس، قلت: أحدثه وأتعلم، قال له: ماذا تتمنى؟ فأجابه: لي أمنية أتمنى أن تتحقق، قال له: ما هي؟ قال له: أن أقتل أبي، قال له: ولمَ ؟ قال له: أحب فتاة فأخذها مني، واتخذها عشيقة له.
 انظر إلى آباء المسلمين همه الأول تزويج ابنه، همه الأول تأمين أولاده، همه الأول تزويج بناته، كم أب بالشام خرج من دمشق وسكن بزملكا، وبدمر، وزوّج أولاده عنده بيت باعه وزوج خمسة أولاد، هذا بطل، لو كان عندنا بالطريق حفر لا يهم، من أجل ألا تنام وأنت سائق، لو كان هناك متاعب لا يوجد مانع، هذه المتاعب أفضل ألف مرة من أن تكون حياتنا غنية ومنتظمة لكننا إباحيون.
 فاشكروا الله على نعمة الهدى، المساجد ممتلئة وليس هناك مساءلة إذا دخلت تريد أن تصلي هذه من نعم الله الكبرى، ونرجو الله أن تدوم، درس علم لا يوجد بالخارج، إذا دخلت للمسجد مرة واحدة تسأل، بشمال إفريقيا، بتونس، بالجزائر، مرة واحدة، نحن الحمد لله المساجد خلايا نحل، ممتلئة وخطب ودروس، نعمة هذه موجودة لا تستهين بها، هناك نعم مألوفة عندنا كأنها ليست نعماً، لا هذه نعم.
 كنت أقول لكم: من يملك عقلاً، و هو حر، و صحيح غير مريض، و حي يرزق لم يمت، هذا يملك الدنيا، نعمة الحياة والصحة والعقل والحرية.

إخفاء الصور