وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 50 - سورة التوبة - تفسير الآيات 71 - 72، المؤمنون أولياء مع بعضهم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


التوازن أسلوب تربوي رائع يجعل الإنسان بين الرجاء والخوف :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخمسين من دروس سورة التوبة، ومع قوله تعالى:

﴿  وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71) ﴾

[ سورة التوبة  ]

 أيها الإخوة الكرام، من حكمة الله -جلّ جلاله- في كتابه العزيز أنه إذا حدثنا عن الكفار والمنافقين جاء الحديث عن المؤمنين، وهذا من باب أن تسعى إلى هدف، وأن تبتعد عن شيء غير صحيح، فلابد من التوازن بين الإيجابيات والسلبيات، إن حدث عن حال أهل الجنة يأتي ذكر أهل النار، إن حدث عن المؤمنين يأتي ذكر الكفار والمنافقين، فهذا التوازن أسلوب تربوي رائع لأنه يجعل الإنسان بين الرجاء والخوف.

﴿  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) ﴾

[  سورة الليل ]


التغليب في القرآن الكريم :


 لذلك أيها الإخوة، بعد الحديث عن الكفار والمنافقين وكيف أنهم نقضوا عهودهم مع الله -عز وجل-، وانحرفوا عن منهج الله، وتعاملوا مع المؤمنين تعاملاً غير منطقي، وغير عادل يأتي ذكر المؤمنين، فالآية الكريمة الواحدة والسبعون هي قوله تعالى:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ ولابد من وقفة متأنية، هذه الوقفة تبين أن في قواعد البلاغة موضوع اسمه التغليب، فإذا قلت مثلاً: دخل سبعون فتاةً وفتى، تقول: دخل، لا تقول دخلت، سبعون فتاة وفتى، ما دام هناك ذكوراً وإناثاً تكتفي باختيار الذكور كقاعدة نحوية، وقاعدة صرفية، إذاً: التغليب حينما قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)﴾  

[ سورة الجمعة ]

 بمئات الآيات في القرآن الكريم، كل هذه الآيات المؤمنات معنيات قطعاً بهذه الآيات من باب التغليب، فإذا قال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حتماً إذا قرأت أخت كريمة مؤمنة هذا القرآن يجب أن تعتقد جازمة أن الله يخاطبها أيضاً على أساس التغليب، كأن تقول: الوالدان، الرجل لم يلد، لكن الوالدان تغليب صفة الأم كوالدة على الأب، وهكذا القمران، الشمس والقمر، فهذا التغليب قاعدة بلاغية.

 فالله -عز وجل- في كل القرآن الكريم إذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذه الآية تعني يا أيتها المؤمنات من باب التغليب، لكن في بعض الآيات القليلة ولحكمة بالغةٍ بالغة جاء ذكر المؤمنين والمؤمنات:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

 وآيات كثيرة من هذه الآيات هذه الآية.


مجتمع الإيمان مجتمع التواصي و النصح :


 الله -عز وجل- ذكر المنافقين والمنافقات، وحدثنا عن أحوالهم، وذكر الكفار ثم يقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ لو رجعنا قليلاً إلى الآية السابعة والستين في قوله تعالى:

﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)﴾

[ سورة التوبة  ]

 ما الفرق بين: ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ على المنافقين والمنافقات و﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ تعني المؤمنين والمؤمنات؟ فرق كبير جداً، ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ هم متشابهون، لكن المؤمنين ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ المؤمن ينصح أخاه، إن رأى فيه خللاً يرشده إلى هذا الخلل، إن رأى ضعفاً في عبادته ينصحه بعبادته، فهناك تناصح مستمر، هذا التناصح يرقى بالمجتمع الإيماني، والدليل أن الله سبحانه وتعالى في آية دقيقة جداً قال:

﴿  وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾

[  سورة العصر ]

 ما قال: أوصى بعضهم بعضاً، ﴿تَوَاصَوْا﴾ أنت توصي أخاك إذا رأيت فيه زللاً، وأخوك أيضاً يوصيك إن رأى فيك زللاً، فهناك تواص، هذا فعل مشاركة، مجتمع الإيمان مجتمع التواصي.


علة خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :


 بل إن علة خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدليل قوله تعالى:

﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ﴾

[  سورة آل عمران ]

 هذه الخيرية لها علة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾   لو أن المؤمنين قصروا فيما أمرهم الله به من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فقدوا خيريتهم، فإذا فقدوا خيريتهم أصبحوا أمة كأية أمة خلقها الله، أصبحوا أمة كأية أمة خلقها الله لا شأن لها عند الله إطلاقاً:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾

[  سورة المائدة ]

 فبين أن تكون أمة خيّرة لها خصائص ولها ميزات، وبين أن تكون أمة كأية أمة، فالمؤمنون إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فقدوا خيريتهم. فلذلك الله -عز وجل- قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ لذلك النبي الكريم في بعض أحاديثه يقول لصحابته الكرام:

(( كيف بكمْ أيُّها النَّاسُ إذا طَغى نِساؤُكم، وفسَقَ فِتيانُكم؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟ ))

[ الطبراني في الأوسط وفيه ضعف ]


تبدل القيم أخطر شيء بحياة المجتمع :


 أخطر شيء بحياة المجتمع تبدل القيم، أنا أضرب مثلاً بسيطاً، تعلمنا في الجامعة في كلية الآداب أن أهجا بيت قالته العرب:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها  واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

[ الحطيئة ]

 أما الآن فهذا البيت شعار كل إنسان، همه دخله فقط، ما دام دخله كبيراً، وبيته واسعاً، وزوجته جميلة، وحياته فيها متع كثيرة جداً، فهو الرابح، وهو الشاطر، بالمصطلح اليومي، فلذلك تبدل القيم خطير جداً، من هنا الله -عز وجل- يبين من هم المؤمنون، قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ مرة ثانية: المؤمنة قد تصل إلى أعلى درجة يصلها المؤمن، ونقول دائماً: النساء يساوون الرجال في التكليف، والتشريف، والمسؤولية، هن مكلَّفات كما يُكلَّف الرجال، وهنّ مُشرَّفات كما يُشرَّف الرجال، وهن مسؤولات كما يُسأَل الرجال، المرأة مساوية للرجل تماماً في التكليف والتشريف والمسؤولية. 


ارتقاء مجتمع الإيمان من خلال التناصح :


﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الآية في الدرس قبل الماضي ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي متشابهون، أما المؤمنون: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص المؤمن، فإذا رأى في أخيه خللاً، أو خطأ، أو تقصيراً، بشكل مؤدب جداً، وفيما بينه وبين أخيه فقط ينصحه، هذا المؤمن يستجيب لهذه النصيحة فيرتقي بعمله، فمجتمع الإيمان يرتقي دائماً من خلال التناصح، لذلك هناك رجل حلل سرّ المودة بين المؤمنين، لأن الله -عز وجل- قال المودة التي بين المؤمنين هذه من خلق الله عز وجل:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾  

[ سورة آل عمران  ]

 المودة بين المؤمنين:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) ﴾

[  سورة الروم  ]

 هذه مودة.

﴿  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً(96)  ﴾

[  سورة مريم ]

 هذا الود إما أنه بينهم وبين الله، أو بينهم وبين المؤمنين.


الأمة الإسلامية إن تخلت عن رسالتها فقدت خيريتها :


 أيها الإخوة، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ هناك تناصح، وتعاون، وتكاتف، وتناصر، هذا المجتمع يعلو، يقوى، يتماسك، يرقى باستمرار بسبب الأمر بالمعروف، وينبغي لهذه الأمة العربية التي شرفها الله بهذا الدين أن تعلم علم اليقين أنه في الوقت الذي تتخلى فيه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفقد خيريتها، إذاً هي أمة كأية أمة والمعنى الدقيق قوله تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾

[  سورة الأنفال ]

 أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن يُعذَّب المسلمون وفيهم رسول الله، ما معنى فيهم رسول الله، طبعاً في حياة النبي الآية لها معنى، لكن بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى الآية لها معنى آخر، أي ما دامت سنة رسول الله مطبقة في حياة المسلمين هم في مأمن من عذاب الله، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ هذه المعاني مأخوذة من قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الولاية، أنت وليّ، أي تنصحني، أنت وليّ ترشدني، تساعدني، تأخذ بيدي، تتعاون معي، التناصح، والتناصر، والتعاون، هذه صفات المؤمنين، فمجتمع المؤمنين يرقى، يرقى باستمرار، يرقى بأدب، أي لا يوجد تناصح علني، فيما بينك وبينه، ما دام هذا الأخ مؤمناً وأنت مؤمن رأيت فيه خللاً، تنصحه بينك وبينه، فيدع هذا الخلل، ولك أجر وله أجر. 

 إذاً مجتمع المؤمنين مجتمع ينمو، مجتمع يسمو، مجتمع يعلو، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ أما الآية التي قبل درسين شُرحت: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ فمن شيء وأولياء شيء آخر.


الفطرة و الصِبغة :


 هم: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما المعروف؟ الله -عز وجل- أودع في فِطَرنا، أنت بالفطرة تحب الخير، تحب الصدق، تحب الأمانة، هذا بالفطرة، لكن هناك صبغة أيضاً، الفطرة أن تحب الأمانة ولو لم تكن أميناً، الفطرة أن تحب العدل ولو لم تكن عادلاً، الفطرة أن تحب الصدق ولو لم تكن صادقاً، أما الصبغة فأن تصطبغ نفسك بالصدق، والعدل، والرحمة، فالصبغة نتيجة حتمية لاتصالك بالله، لأن 

(( إِنَّ محاسِنَ الأخلاقِ مخزونَةٌ عند اللهِ ، فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا ))

[ الألباني وفي سنده ضعف ]

الله -عز وجل- حينما أثنى على نبيه الكريم، هو نبي، ورسول، ويوحى إليه، والله أجرى على يديه المعجزات، ومع كل ذلك حينما أثنى عليه قال:

﴿  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)  ﴾

[  سورة القلم ]

 فالأب عندما يمنح ابنه مركبة، أو يشتري له داراً، لا معنى أن يقيم له حفل تكريم لأنه اشترى له مركبة، أما إذا نال الدرجة الأولى في الامتحان فيقيم له حفلاً تكريمياً، التكريم يكون من جهد ذاتي.

 فالله -عز وجل- يبين بهذه الآية أن مجتمع المؤمنين مجتمع مختلف كلياً عن مجتمع المنافقين، الاختلاف الكلي التناصح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟) فإذا القيم الأخلاقية عُدت ضعفاً، مرة قرأت كلمة مؤلمة جداً، قال: أنت ضعيف لأنك أخلاقي، وأنت أخلاقي لأنك ضعيف، هذه الكلمة كالسم في الدسم تماماً، أنت أخلاقي لأنك بطل وبطل لأنك أخلاقي.


العبادة الشعائرية لا نقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية :


﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ مجتمع التناصح، مجتمع التعاون، مجتمع التناصر، مجتمع التواضع، والحقيقة المؤلمة أن الطرف الآخر الغرب لا يقنع بهذا الدين من خلال الكتب والمحاضرات، يقنع بهذا الدين من خلال مجتمع إسلامي يطبق هذا الدين.

 كما قيل: القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي الكريم قرآن يمشي، والآن الذي يؤثّر في الناس أن يروا بأم أعينهم إنساناً مسلماً صادقاً أميناً، فالنجاشي عندما سأل سيدنا جعفر عن الإسلام  قال له:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء  ))

[ أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب  ]

 قيم أخلاقية، هذه العبادة أنا أسميها العبادة التعاملية، عندنا عبادة شعائرية، كالصلاة والصوم، والحج، والزكاة، وعندنا عبادة تعاملية، وأنا إيماني القاطع في هذا الموضوع أن العبادة الشعائرية كالصلاة والصيام والحج لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية، النبي الكريم سأل:

(( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار  ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 هذا المفلس.

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا  ))

[ أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد ]

 لذلك قالوا: من لك يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله.


أحد أسباب راحة المؤمن أنه اصطلح مع فطرته :


 إذاً دقة بالغةٌ بالغة في قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ هذا التناصح، هذا التعاون.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾

[  سورة المائدة  ]

 البر صلاح الدنيا والتقوى صلاح الآخرة، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ المعروف تعرفه الفِطَر السليمة ابتداءً.

 إذا إنسان أمه جائعة، واشترى طعاماً وأكله وحده، من دون أي توجه، أو توجيه، أو إرشاد، أو تعليم، يشعر أنه بحق أمه مجرم، هي جائعة وهو يأكل وحده، فالفِطَر السليمة متوافقة مع الحق، أحد أسباب راحة المؤمن أنه اصطلح مع فطرته، كل شيء أمرك الله به أودعه في فطرتك، والدليل التطابق التام بين منهج الله وبين الفطرة في قوله تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) ﴾

[  سورة الروم  ]

 إذاً: يأمرون بالمعروف ما تعرفه الفطر السليمة ابتداءً، لا يوجد كلمة أدق من كلمة معروف، كل إنسان يعرف هذا المعروف ابتداءً من دون توجيه، هذه الفطرة، ويقولون: الإسلام دين الفطرة.


مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى :


﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والمنكر تنكره الفطر السليمة، سمى الله المنكر منكراً لأن البشر جميعاً ينكرون هذا المنكر، حتى الهرة أحياناً إذا خطفت قطعة اللحم تأكلها بعيدة عنك، أما إذا أطعمتها إياها فتأكلها أمامك، إذاً هي مُركَّز في فطرتها أيضاً أنها الآن ارتكبت عملاً غلطاً.

 لذلك الأمر بالمعروف ما تعرفه الفطر السليمة، والنهي عن المنكر تنكره الفطر السليمة، أما ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ فأن تقيم وجهك للدين حنيفاً، هذا يشبه تماماً فطرتك التي فطرت عليها، لذلك المؤمن عنده راحة نفسية ناتجة أنه اصطلح مع فطرته، المعاصي والآثام كالجبال جاثمة على صدره، فإذا استقام على أمر الله واصطلح معه رجع إلى الله -عز وجل-، أكرمته فطرته براحة ما بعدها راحة.

﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ هنا، هذا الموقف الأخلاقي، الإنسان صادق، الإنسان المؤمن أمين، الإنسان المؤمن منصف، الإنسان المؤمن متواضع، مكارم الأخلاق هذه من أين جاءت؟ قال:

(إِنَّ محاسِنَ الأخلاقِ مخزونَةٌ عند اللهِ ، فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا) الله -عز وجل- حينما وصف النبي الكريم قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ بمعنى الشيء الذي يعد ثمن دخول الجنة هذا السلوك الأخلاقي الذي تسلكه من صدق، وأمانة، وإنصاف، وتلبية للمستغيث، وطهر، وعفاف، هذه الأخلاق التي هي محصلة الإيمان، والله -عز وجل- مدح النبي بخلقه العظيم.


من ذكر الله أدى واجب العبودية و من ذكره الله منحه الرضا و الطمأنينة :


 إذاً: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ هناك تعاون، وتناصح، وتناصر، ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما تعرفه الفِطر السليمة، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ هنا السر، هذا الاتصال بالله -عز وجل- أنت حينما تتصل بالله، الله قال:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) ﴾

[  سورة طه ]

 وهناك آية كريمة دقيقة جداً:

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

 قال بعض علماء التفسير: ذكر الله أكبر ما فيها، لكن الله -عز وجل- في معنى آخر قال: أيها المسلم المصلي ذكر الله لك وأنت تصلي أكبر من ذكرك له:

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ﴾

[  سورة البقرة  ]

 ذكر الله لك أيها المصلي وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الرضا، إذا ذكرك منحك الحكمة، إذا ذكرك منحك القوة، إذا ذكرك منحك الكرم، منحك الشجاعة، هذه المكارم الأخلاقية من خلال اتصالك بالله تشتقها أنت، فالفرق بين المؤمن وغير المؤمن فرق نوعي ليس فرقاً بسيطاً، فلان يصلي، لا، الإيمان أكبر من أن تصلي، الصلاة طريق لمكارم الأخلاق، (إِنَّ محاسِنَ الأخلاقِ مخزونَةٌ عند اللهِ ، فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا) الحكمة من اقتران الصلاة بالزكاة في القرآن الكريم.

 إذاً: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما تعرفه الفطر السليمة، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ما تنكره الفطر السليمة، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ الصلاة طريق هذا الكمال الذي وصلوا إليه، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ من أدق التعريفات أنك إذا اتصلت بالله سعدت، جارك الفقير كي تعينه على أن يتصل بالله ينبغي أن تساعده، فإن ساعدته توازن واتصل بالله -عز وجل-، فأنت ينبغي أن تسعى كي تقيم هذه العلاقة مع الله أولاً، وأن تعين على إقامة هذه العلاقة عند الآخرين، عند الآخرين أن تلبي حاجاتهم، لذلك جاءت الصلاة والزكاة في معظم كتاب الله مقترنتين، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أي ما زاد عن أموالهم، بالمناسبة الله -عز وجل- قال:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103) ﴾

[ سورة التوبة  ]

 الزكاة تطهر الغني من الشح، تطهر الفقير من الحقد، تطهر المال من تعلق حق الغير به، هذه: ﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ الزكاة تنمّي نفس الغني، يرى أثر إنفاقه بين الناس يصبح محبوباً، يصبح من حوله حراساً له من محبتهم، فتزكي نفس الغني، وتزكي نفس الفقير حينما يشعر أن مجتمعه لا ينساه، هناك تشريع في هذا الدين لمعاونة الفقير، والشيء الثالث تزكي هذا المال فيزداد هذا المال بالإنفاق:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾

[ سورة البقرة  ]


منهج الله منهج شمولي واسع جداً :


 إذاً قال: ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في ماذا؟ في تفاصيل الحياة، لأن منهج هذا الدين العظيم منهج قويم، منهج واسع جداً، يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، منهج الله منهج شمولي، واسع جداً، لا كما يتوهمه بعض الناس، أداء عبادات شعائرية ليس غير، في كل حركاتك وسكناتك هناك حكم شرعي.

 فلذلك: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي تعرفه الفطر السليمة، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الذي تنكره الفطر السليمة ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ هذا الكمال الذي يتمتعون به اشتق من اتصالهم بالله -عز وجل-، والدليل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي أنت حينما اتصلت بنا يا محمد امتلأ قلبك رحمة بهم، هذه الرحمة انعكست ليناً، هذا اللين جعلهم يلتفون حولك، لو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة، ولانعكست هذه القسوة غلظة وفظاظة، فانفضوا من حولك، والآية دقيقة جداً: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

 إذاً: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أي يعينون الآخرين على إقامة الصلاة من خلال تلبية حاجاتهم، إنسان فقير جداً ليس عنده ما يأكل، عنده مشكلة، فأنت حينما اتصلت بالله وشعرت بهذا الفضل العظيم، تحاول أن تعين أخاك على أن يتصل بالله من خلال تأمين حاجاته ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ وأما في التفاصيل الشراء، والبيع، والسفر، والإقامة، والطلاق، والزواج، والإنجاب، فهناك ملايين ملايين القضايا، قال: ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي يطبقون منهج الله في الكتاب، والسنة، المنهج ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾.

الإنسان خلق لجنة عرضها السموات والأرض ثمنها طاعة الله عز وجل :

 قال: ﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ سيرحمهم، ورحمة الله في قممها دخول الجنة، وفي تفاصيلها أن تكون في الدنيا سعيداً بطاعة الله، أن تكون موفقاً، أن تكون منصوراً من قبل الله -عز وجل-.

﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ هو عزيز، ومع أنه عزيز حكيم، هناك قوة ومع القوة كمال:

﴿  تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(78)  ﴾

[  سورة الرحمن ]

 بقدر ما هو عظيم بقدر ما هو رحيم، لذلك الرد الإلهي:

﴿  وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 هناك جنة فيها بساتين، فيها أنهار، فيها أشياء جميلة جداً، فيها حور عين، لكن ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر﴾ أكبر من هذه التي ذكرها الله عز وجل، ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ بمقياس الآخرة هذا هو الفوز، إذاً الإنسان خلق لجنة عرضها السموات والأرض، ثمنها طاعة الله -عز وجل-.


زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين :


 والله -عز وجل- بالمناسبة ما أودع فينا شهوة إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور  ]

 نحن لسنا مُستخلَفين، ولسنا مُمكَّنين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ ولسنا آمنين، ما السبب؟ قال: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ فإذا أخلّ الفريق الآخر بما عليه من عبادة فالله جل جلاله في حل من وعوده الثلاث.

 إذاً: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومرة ثانية: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.


على الإنسان المؤمن أن يعتمد مقاييس الفوز التي عند الله عز وجل :


﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ هناك نيل مستمر، كإنسان راكب قطاراً والمناظر متبدلة باستمرار، فهو يركن لهذا المنظر الجميل باستمرار، أما لو جلس في غرفة القطار وأغلق النوافذ فبعد حين يمل من هذه الغرفة، مهما كانت فخمة، فالجنة فيها تبدل مستمر.

﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ لكن فوق كل هذا، إنسان دعاك إلى طعام طبعاً الطعام طيب، وكل شيء من الدرجة الأولى، لكن ترحيبه الشديد بك يفوق متعة الطعام ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾   أكبر من كل ما في الجنة من متع حسية، الله قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ البطولة أن تعتمد مقاييس الفوز التي اعتمدها الله -عز وجل-، هناك مقاييس فوز في الدنيا، أن تكون غنياً هذا فوز، أن تكون في منصب رفيع هذا فوز، أن تتمتع بمباهج الدنيا هذا فوز، لكن هذا فوز ليس عظيماً، لكن المؤمن يعتمد مقاييس الفوز التي عند الله -عز وجل-، الله -عز وجل- يقول: ﴿ذَلِكَ﴾ أن تكون مؤمناً، وأن تسعى لمرضاة الله، وأن تصل إلى الجنة، ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والعظيم إذا قال عظيم، يعني إذا إنسان سأل طفلاً كم معك من المال؟ فأجابه: معي مبلغ عظيم، يكون صغيراً، لكن عنده مبلغ الألف عظيم جداً، عقب العيد جمع ما أخذه من أقاربه، وسماه مبلغاً عظيماً، أما إذا قال إنسان يحتل منصباً رفيعاً في دولة قوية: أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً، قد يكون مئتي مليار دولار، فإذا قال ملك الملوك ومالك الملوك: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ هذا شيء يصعب تصوره، فالله -عز وجل- يقول: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ هناك إنسان يشتري أرضاً تتضاعف مئتي ضعف، وإنسان يجمع ثروة طائلة جداً، وإنسان يبلغ أعلى منصب مثلاً، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾  لذلك هذه الآيات:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور