وضع داكن
20-04-2024
Logo
رمضان 1421 - دراسات قرآنية - الدرس : 51 - من سور آل عمران والمطففين والصافات - تعليمات الصانع .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

علامة عقل الإنسان أن يعمل للآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ حين تسرب الأسئلة ، الطالب الذي سربت إليه يحضر تحضيراً جيداً ، هذا هو السؤال ، يبحث عن إجابته ويحفظها جيداً ، فكيف سألنا الله سبحانه وتعالى قبل أن نموت ونحن أحياء ؟ الإنسان حينما يموت ماذا يقول ؟ وهو في النار ماذا يفعل ؟ ماذا يتمنى؟ ماذا يريد ؟ كل هذه المشاهد مع تفصيلاتها وكأنها تسريب للأسئلة ، وبيان لما سيكون قبل أن يكون ، سيدنا خالد عندما أسلم وتأخر في إسلامه قال له النبي عليه الصلاة والسلام : عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً .
 قالوا : علامة عقل الإنسان أن يعمل للآخرة ، ومما ورد في الأثر ألم يقل عليه الصلاة والسلام : " إن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وأحذركم أشدكم استعداداً له ".
 ألا إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزود لسكنى القبور ، والتأهب ليوم النشور ، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ...))

[سنن الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]

 الأماني أيها الأخوة هي بضاعة الحمقى ، ما من أحد إلا ويقول : اللهم أدخلنا الجنة، يا رب ارحمنا . يتمنى رحمة الله ، يتمنى المغفرة ، يتمنى دخول الجنة ، لكن لا يعمل لها، من شدة أدب النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول :

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ... أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ))

[سنن الترمذي]

 لم يسأل الله رحمته بل سأله موجباتها ، وهذا من أدبه ، فليس من المعقول أن يقول ابن لأبيه الملك : اجعلني أستاذاً للجامعة ، قد يعطيه سيارة ، أو قصراً ، وقد يعطيه أشياء كثيرة ، أما أستاذ جامعة فهذه بحاجة إلى شهادة ، هذه ليست عليّ ، بل عليك يا بني ، لابد من أن تنال هذه الشهادة حتى أعينك في هذا المنصب ، فالنبي من شدة أدبه يقول :

(( أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ ))

كلما ارتقى ذكاء الإنسان كلما كان عاقلاً يعيش المستقبل :

 أيها الأخوة ؛ الدول المتقدمة جداً بالمقياس المادي تخطط دائماً لخمس وعشرين سنة قادمة للمستقبل ، أما الدول النامية فكل حركاتها ردود أفعال ، يأتي الفعل فترد عليه ، أحياناً يكون الرد عشوائياً ، أحياناً انفعالياً ، أحياناً غير مدروس ، أحياناً غير ناجح ، يأتي الفعل ورد الفعل ، والدول المتخلفة تعيش الماضي فقط ، يتغنون في الماضي ، كلما تخلف الإنسان يعيش الماضي فقط ، وألهى بنو تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم أحد الشعراء الجاهليين قال قصيدة :

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا  فنجهل فوق جهل الجاهلينا
***

 قصيدة رائعة جداً مدح فيها بني تغلب ، فارتاح بنو تغلب ، بعد المديح عاشوا على فتات هذه القصيدة ، والأمة العربية لها ماض مجيد ، فأخطر شيء بحاضرها أن تكتفي بالتغني بماضيها فقط ، نحن فتحنا العالم ، ذهبنا إلى المشرقين ، كنا قادة الأمم ، أنا أريد الآن الماضي قد مضى ، والحديث عنه لا يجدي ، يجب أن تفتخر بواقعك ، بما أنت عليه ، فلذلك كلما ارتقى ذكاء الإنسان كلما كان عاقلاً يعيش المستقبل ، المستقبل البعيد ، ما هو الآن قد انتهى ، وعندما تجد يوم القيامة ملايين مملينة ، تجد شعوباً بأكملها تاهت وشردت ، تعبد الشجر ، تعبد الحجر ، تعبد الشمس والقمر ، تعبد شهواتها ، تعبد مصالحها ، تعبد الجنس أحياناً ، تعبد المال ، أحد كبار علماء المشرق كان بأمريكا جلس بحديقة ، وجلس إلى جانبه شخص أمريكي ، تعارفوا قال له : أنا مسلم . قال : ما الإسلام ؟ قال له : أتحب أن أبين لك ما الإسلام ؟ قال له : أحب . قال له : كم معك من الوقت؟ قال : ساعة ، هذا العالم صاحب تفسير كبير وكتب وهو من كبار علماء المسلمين بيّن له بشكل مكثف واضح أنيق الإسلام بما يكفي بخمسين دقيقة ، وترك عشر دقائق للمناقشة ، بعد أن انتهى أخرج من جيبه دولاراً وقال له : أنا أريد هذا من دون الله . هذا إلهي فقط !
أصبح حال الناس يعبدون المال ، يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل ، يبيع وعده ، يبيع عهده .

العبرة أن يعيش الإنسان أخطر حدث في المستقبل ألا وهو الموت :

 فيا أيها الأخوة ؛ الإنسان المتخلف يعيش الماضي فقط ، نحن أمة عظيمة ، نحن فتحنا العالم ، قدنا الدول ، أريد الآن ، الآن أين أنت ؟ أنت لست كالماضي ، وإذا تلقى الرجل ردود فعل ورد عليها باستمرار فهو ضعيف ، أما العبرة فأن تعيش المستقبل ، أخطر حدث فيه ما هو ؟ الموت ، ليس معنى هذا أن الموت نهاية ، هنالك خطأ كبير يقولون : الفقيد ، لا يوجد فقيد، الإنسان يعيش حياة أخرى بعد الموت :

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[سورة آل عمران : 169]

 حياة كاملة ولكن بنظام آخر ، هذه الساعة ساعة رقمية ويوجد ساعة بيانية عقارب ، ساعة العقارب عبارة عن مسننات وعجلات وبعض المعادن الثمينة ، أي فيها أشياء دقيقة ، بينما الرقمية نظام آخر ، قضية إلكترون وساحة وزئبق ، هذه نظام وهذه نظام ، الإنسان يعيش بعد الموت بنظام آخر ، ليس فقيداً ، يعيش الحياة بكل تفاصيلها ، يعيش حياة متعلقة بحياته في الدنيا، فالنقطة الدقيقة الإنسان عندما يعيش المستقبل ، يوجد حديث والله يقصم الظهر ورد في الأثر قال : " بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا "؟ رجل لا يريد الآخرة بل يريد الدنيا ، حسناً ، انكب عليها بكل إمكاناته ، بكل طاقته ، بكل ذرة من مشاعره ، بكل قطرة من دمه ، بكل خلية من جسمه ، يريد الدنيا ، يريد المال ، يريد الفخر ، يريد زوجة جميلة ، يريد سيارة فارهة ، حسناً ، ماذا بعد ذلك ؟ هؤلاء الناس أمامكم ، النعوات تملأ الطرقات ، تصل لأعلى مرتبة مالية ، يموت ، أعلى منصب إداري ، يموت ، أعلى مرتبة علمية ، يموت ، والله يا أخوان الآن خطر بالي مثل ، لو كان عندنا طريق عريض جداً ، ويجري عليه سباق سيارات ، والسيارات منوعة بشكل عجيب ، من كبيرة إلى صغيرة ، من قديمة إلى حديثة ، من قوية إلى ضعيفة ، من موديل حديث إلى موديل قديم ، الكل يتسابق ، والطريق ينتهي بواد عمقه حوالي خمسين متراً ، فأسرع واحدة سقطت هي وصاحبها ، و الأبطأ سقطت وانتهت هي وصاحبها ، وأحدث واحدة سقطت وانتهت هي وصاحبها ، وأقدم واحدة سقطت وانتهت هي وصاحبها ، وأكبر واحدة سقطت وانتهت ، والأصغر !! هل هذا سباق ؟
 ما علاقته بدرسنا ؟ الناس يتسابقون في الدنيا ، هذا أخذ جانب المال ، مرة حضرت تعزية أحدهم وقد جمع أربعة آلاف مليون ، لم يصل لله ركعتين في حياته ، وبينما كان في نزهة باسطنبول مات باحتشاء ، فالغني يموت ، والفقير يموت ، و القوي يموت ، والضعيف يموت ، والأعلى منصباً يموت ، والأقل منصباً يموت ، وعامل التنظيفات يموت ، والملك يموت ، والكل يموت ، هذا ليس بسباق ، لا يوجد شيء بعد الوصول ، لو وصلت أولاً تسقط ، ولو وصلت متأخراً تسقط .

السباق الحقيقي في الآخرة :

 ماذا قال ربنا عز وجل ؟ قال :

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[سورة المطففين : 26]

 السباق الحقيقي في الآخرة :

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[سورة الصافات : 61]

 بطولتك أن تتسابق في الآخرة ، من أطاع الله أكثر ؟ من قدم للناس خيراً أكبر ؟ من أرشد الناس أكثر ؟ من أنفق ماله أكثر ؟ فماذا يوجد في المستقبل ؟ يوجد موت ، بعد الغنى يوجد موت ، بعد القوة يوجد موت ، بعد أن تكون في رأس مجتمع يوجد موت ، بعد أن يكون لك أتباع بالملايين يوجد موت .

السعادة تأتي من تطابق حركة الإنسان مع هدفه :

 و :

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))

[سنن الترمذي ]

 الغنى المطغي مصيبة من أكبر المصائب ، غنى حملك على معصية الله ، فأنت لا ترتاح ، ولا تتوازن مع نفسك إلا في حالة واحدة ، أن تعمل للآخرة ، في الدنيا تتزوج ، وتعمل ، وتكسب المال ، وتتاجر وفق منهج الله ، فينشأ عندك طمأنينة ، ينشأ عندك استقرار نفسي ، توازن نفسي ، لأنك في الحركة الصحيحة .
 مرة ذكرت طالباً على أبواب الامتحان للتخرج ، وعنده مادة أساسية جداً ، وبقي أربعة أيام ليحضرها ، وإذا نجح يحقق مرتبة رفيعة ، وإذا تعين يتزوج ، جاء إليه رفاقه وأخذوه إلى مكان جميل جداً ، مطل على البحر ، وأطعموه أطيب الطعام ، لماذا أنت منزعج ؟ هكذا . هذه الحركة لا تتناسب مع هدفه القريب أن عنده بعد أربعة أيام امتحاناً ، هذا الطالب ضعه في غرفة مظلمة واتركه يقرأ الكتاب المقرر ويفهمه يرتاح ، غريب يرتاح وهو في غرفة قميئة وانزعج وهو في مكان جميل !!
 أنت لا ترتاح ولا تسعد إلا إن كانت حركتك اليومية متناسبة مع هدفك ، انظر إلى التاجر ، إن لم يوجد بيع وشراء ، والبضاعة إلى السقف ، وعليه دفعات ، ولا أحد يشتري ، يأتيه الصانع بكأس من الشاي ، ثم فنجان من القهوة ، ثم جريدة ، دمه يغلي من الجريدة والقهوة والشاي ، يريد أن يقف ويبيع ، ويتناقش مع الزبائن ، ويخرج قطعة من المستودع ويسلمها ، ويكتب فواتير ، إن عمل عشر ساعات ولم يرتح لدقيقة فهو في أسعد لحظة ، وإن أرحت له جسده من دون بيع ولا شراء ينزعج ، معنى هذا أن السعادة تأتي من تطابق حركتك مع هدفك ، فانظر إلى المؤمن عندما يعلم بوجود الآخرة ، ويوجد إله أعطاه منهجاً ، وأنا الآن مطيع له ، ينشأ عنده راحة والله لو وزعت على أهل بلد لكفتهم ، والله المؤمن يتمتع بنوع من الراحة النفسية ، بنوع من الاستقرار ، بنوع من التوازن ، نوع من الرضا ، الشعور بالتفوق ، الشعور بالسلامة ، لا يعرفها إلا من ذاقها ، لأنك تسير بشكل صحيح ، أما عندما يخطئ الإنسان ، ويأكل المال الحرام، ويزداد حجمه المالي ، وتعلو مكانته أحياناً ، والناس كلها تهابه ، تجد عنده من الداخل غياراً داخلياً يعرف أن لديه عدواناً وظلماً .
 رجل كان يركب سيارته قرب الحجاز ، فجأة سقط على المقود ، يبدو أن معه أزمة قلبية ، زوجته إلى جانبه صرخت ، ومن غرائب الصدف أن صديقه كان وراءه في السيارة الثانية، فتح الباب وحمله ، ثم أخذه إلى الشارع ، هذا رأى نفسه قد انتهى ، فطلب مسجلة وشريط كاسيت وقال : المحل الفلاني ليس لي بل لأخوتي ، أنا مغتصبه ، الأرض الفلانية لأخي فلان ، يبدو أنه كان أكبر أخوته ، وقد أخذ كل المال له ، وجعل أخوته فقراء وهو قوي ، معه وكالة عامة من أبيه ، أجرى ترتيبات معينة ، لكن لديه انهيار داخلي ، متى ظهر ؟ في الأزمة القلبية ، فبين كل شيء بالكاسيت ، أن هذا لأخي ، وهذه لأختي ، ثم بعد ذلك ذهبت الخثرة ، وأعطي مميعاً للدم ، سأل أين الكاسيت ؟ فكسره ، رجع إلى القديم ، بعد ثمانية أشهر جاءت القاضية ، وهذه كانت إنذاراً مبكراً .

إشارات من الله تنبه الإنسان إلى قرب لقاء ربه :

 بالمناسبة أخواننا ؛ أليس الله بقادر أن يبقى الإنسان كثيف الشعر ، ونظره حاداً ، وأسنانه كلها بفمه ، وسمعه مرهفاً ، وليس عنده ألم مفاصل ، و ليس لديه مشكلة ؟ يبقى هكذا حتى يأتي أجله ، لماذا لدينا شيب بالشعر ؟ ضعف بصر ؟ تحشية أسنان ؟ التهاب مفاصل ؟ آلام الظهر ؟ أسيد أوريك عال ؟ كولسترول عال ؟ ضغط وسكر عال ؟ لماذا ؟ هذه كلها بشارات من الله لطيفة أن يا عبدي اقترب اللقاء بيننا هل أنت مستعد له ؟ ليس من نور ساطع لظلام دامس ، نخفف ضوءاً وراء ضوء ثم يأتي الظلام متناسباً مع ما سبقه .

الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف :

 فيا أيها الأخوة ؛ هذا الشهر انتهى ، لكن رمضان في كل شهر ، أرجو الله سبحانه وتعالى كما قلت لكم عند الفجر أن نخطط برنامجاً تعبدياً ، برنامجاً سلوكياً ، برنامجاً علمياً ، دروس العلم من جهة ، دروس تحضرها ثابتة ، تلخصها تعمل دعوة إلى الله مبسطة ، الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، فرض عين لابد منه ، نقرأ القرآن ، نتدبره ، نفهم آياته ، نطبقها ، نبحث عن أوامره وعن نواهيه ، وعن مشاهد القيامة ، عن الحلال والحرام والواجب والأمم السابقة ، هذا القرآن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، تريد أن تجاهد جاهد به :

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

[سورة الفرقان : 52]

 تريد أن تعلم علمه ، فخيركم من تعلم القرآن وعلمه ، تريد أن تتحرك طبق منهجه ، هذا كتاب الله عز وجل منهجنا ، هذه تعليمات الصانع وأنت أعقد آلة في الكون .

تحميل النص

إخفاء الصور