وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 22 - سورة آل عمران - تفسير الآية 77 الكافر محجوب عن رؤية الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا بما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية السابعة والسبعين ، وهي قوله تعالى :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

(سورة آل عمران)

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

1 ـ الله أخذ على البشر ميثاقهم بتصديق الأنبياء :

 أيها الإخوة ، إن الله عهد للبشر ، وأخذ عليهم الميثاق أنهم إذا جاءهم رسول مؤيد بالمعجزات ليؤمنن به ، وليصدقونه ، هذا هو العهد الذي أخذ من بني آدم يوم خلقوا ، وقد يكون عهداً خاصاً ، لأن أهل الكتاب حلفوا أيماناً معظمة أنه إن جاء رسول في آخر الزمان ، وقد ورد عندهم في كتبهم أن هناك نبياً اسمه أحمد سيأتي ليؤمنن به ، عهد فطري ، أو عهد كسبي ، وأيمان منعقدة على الإيمان برسول من عند الله .

2 ـ كيف يشتري الإنسان بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا :

 هذا العهد وهذه الأيمان قد يشترى بها ثمناً قليلاً ، كيف ؟ بعض من المسلمين على ضعف منهم قابلوا أحد أغنياء المدينة ، وكان من اليهود ، يسألونه شيئاً ، فقال لهم : أنتم مؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام ؟ قالوا : نعم ، قال : لا شيء لكم عندي إن كنتم قد آمنتم به ، عادوا بعد أيام ، وقد كفروا بمحمد ليأخذوا من هذا الرجل الثري طعاماً ، وحاجات ، وما إلى ذلك ، طبعاً هذه حادثة تتكرر إلى يوم القيامة ، هذا الذي يؤذي مسلماً لينال شيئاً ، هذا الذي يقول كلاماً غير صحيح ليصل إلى هدف مادي ، هذا الذي يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، هذا الذي يقول بخلاف قناعاته ، إرضاءً لقوي ، هذا الذي ينكر الحق تقرباً من غني ، هذا الذي يقول الباطل تملقاً لإنسان بيده مقاليد الأمور ، كل هذه النماذج تنطبق عليهم هذه الحالة :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾

 القاضي الذي يحكم بخلاف الحق ، لأن أحد الأطراف أعطاه مبلغاً كبيراً ، وأيّ إنسان في أيّ مكان ، في أيّ موقع ، إذا تنكر لمبادئه وقيمه ، وفعل شيئاً نال به مغرماً دنيوياً فهو ممن تنطبق عليهم هذه الآية .
 يكفي ألا تصلي أمام أناس ، لأنك لا تحب أن يعرفوا أنك تصلي ، اشتريت بعهد الله ، وأيمانك ثمناً قليلاً .
 يكفي أن تذم مؤمناً إرضاءً لمنافق ، اشتريت بعهد الله ، وأيمانك ثمناً قليلاً .
 يكفي أن لا تنصف مسلماً تتملق به جهة ما ، اشتريت بعهد الله ، وأيمانك ثمناً قليلاً ، أي إنسان يتنكر لمبادئه ولقيمه فقد اشترى بعهد الله ، وأيمانه ثمناً قليلاً .
 يكفي أن تؤمن قدر واحد على عشرة ، وفيهم من هو أرضى لله من هذا ، فقد خنت الله ورسوله ، اشتريت بعهد الله ، وأيمانه ثمناً قليلاً ، آية واسعة جداً .
 حينما تتحرك لمصالحك لا لقناعاتك ، حينما تؤثر الدنيا على الآخرة ، حينما تؤثر المال على كلمة الحق ، حينما تكون كلمة الحق صعبة عليك فتسكت ، حينما يكون النطق بالباطل تمهيداً لمصالحك ، تنطق بالباطل .
 والله لو ذهبنا بالحديث عن حالات استخدام هذه الآية لوجدناها لا تعد ولا تحصى ، وما أكثر المسلمين الذين وقعوا في هذه الحالة ، وتنطبق عليهم هذه الآية .
 لمجرد أن تختار إنساناً في عمل ، وفي رعيته من هو أرضى لله منه ، فهذه خيانة ، هذا الإنسان لك منه بعض المنافع ، آثرته على إنسان كفء ، حينما لا تأتي بأفضل أنواع المعامل ، تختار أسوأها ، من أجل مكسب مادي ينالك فقد خنت الأمانة ، الآية واسعة جداً ، أنت خنت القيم ، خنت المنهج الإلهي ، خنت المبادئ التي ينبغي أن تؤمن بها ، هذا المعنى العام :

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾

 هناك قيم ، ومبادئ ، ودين ، ودنيا ، ومصالح ، إن آثرت المصلحة على المبدأ ، إن آثرت الشهوة على القيمة ، إن آثرت الدنيا على الآخرة ، فهذا معناً موسع لهذه الآية ، لكن هنا :

 

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ﴾

 الإنسان يشتري سلعة فينتفع بها مباشرة ، أما حينما يشتري ثمناً فهذا مغبون مائة بالمائة ، لأن الثمن لا يباع ، ولا يشترى ، الإنسان في سابق العصور كان يقايض سلعة بسلعة ، منافع بمنافع ، يأخذ قماشاً ، ويعطي قمحاً ، هذه مقايضة ، أما الشراء فتشتري القمح بالمال ، وتبيع القماش بالمال ، فالمال وسيط ، المال ثمن ، وليس سلعة ، ففي أصل التشريع الإسلامي الثمن لا يمكن المتاجرة به ، لا يمكن أن يعامل كالمنافع يتاجر بها ، عندئذٍ يلد المالُ المالَ ، وحينما يلد المالُ المالَ تهلك الأمة ، لأن الأموال سوف تجتمع في الأيدي القليلة ، وسوف تحرم منها الكثرة الكثيرة .
 حينما يجعل الإنسان من الثمن سلعة يبيعها ، ويشتريها ، ويربح منها ، ويثمرها ، وحينما يلد مرة ثانية المالُ المالَ ، فهو ثمن وليس سلعة ، الفرق بين الثمن والسلعة أن السلعة ينتفع بها مباشرة ، الرغيف تأكله ، والقميص تلبسه ، والبيت تسكنه ، والمركبة تركبها ، لكن حينما تستخدم هذه الرموز ، العملة الورقية أو الذهبية تستخدمها سلعة تتاجر بها ، وتنتفع بها أنت فقد فعلت شيئاً يخالف منهج الله .

 

3 ـ مهما كان الثمن فهو قليل :

 هذا تعليق جانبي على الآية ، هؤلاء الذين اشتروا بآيات الله وعهده ثمناً ، ويا له من ثمن كبير ، هو ثمن قليل .
 كم من إنسان باع دينه بعرض من الدنيا قليل ، وكم من إنسان حلف يمينا على القرآن الكريم كاذبة ليقتطع حق امرئٍ مسلم ؟
 إن أيّ إنسان يحلف يمينا غموساً ليقتطع به حق امرئٍ مسلم فقد اشترى بعهد الله وآياته ثمناً قليلاً ، وأيّ إنسان يعصي الله ليرضي مخلوق من بني البشر فقد اشترى بعهد الله وآياته ثمناً قليلاً ، وأيّ إنسان يرضي زوجته ويغضِب ربه فقد اشترى بعهد الله وآياته ثمناً قليلاً .
 لو أردنا أن نتوسع في هذه الآية فهي واسعة جداً ، مثل : لو معك ورقة نقدية بمائة ألف دولار ، وقلبت على وجهها الأملس الأبيض ، فظننتها ورقة عادية ، وكتبت علها رقم هاتف ، ثم مزقتها ، ورميتها في سلة المهملات ، ولم تدر أن هذه ورقة مالية بمائة ألف دولار ، كيف تصاب بخيبة أمل ، ولا تعوض أبداً .
 ورقة مالية موضوعة على الطاولة على وجهها الآخر الأبيض ظننتها ورقة عادية ، استخدمتها كورقة عادية لا تساوي قرشاً واحداً استخدمتها ، ثم مزقتها ، ورميتها في سلة المهملات ، وهي ورقة مالية تحل لك كل مشكلاتك المالية .
 هذا مثَلٌ للتقريب ، أيّ دين من أجل أن تسعد في الدنيا والآخرة بعته بمائة ألف ليرة ، إذا حكم إنسان بين اثنين ، وتلقى مبلغ مائة ألف ليرة مقابل أن يحكم لغير الحق ، الذي يضع يده على المصحف ، ويحلف يميناً كاذبة من أجل خمسة آلاف ليرة يأخذها كشاهد زور ماذا فعل هذا ؟ اشترى بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً .
 الأمثلة كثيرة جداً ، وأينما تحركت ، وأينما اتجهت تجد مسلمين يشترون بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً ، أي هذا الذي يؤثر متابعة عمل ساقط على حضور مجلس علم ، أي اشترى هذا المجلس بمتعة آنية مثلاً ، اشترى بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً .
 أسباب نزول هذه الآية صارخ ، فإن هؤلاء كانوا قد آمنوا برسول الله عليه الصلاة والسلام ، فلما تضاربت مصالحهم مع إيمانهم تخلوا عن إيمانهم ، ونطقوا بالكفر ، من أجل مساعدة تنالهم من هذا الثري في عهد النبي .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾

( سورة النساء : من الآية 77)

 لو أنك ملكت الدنيا بأكملها ، لو أنك ملكت القارات الخمس ، لو أنك مهيمن على القارات الخمس معاً ، لو أن أموال الدنيا كلها في حوزتك ، ولو أن الدنيا جلبت لك من أطرافها ، لو أنك وصلت إلى المجد من كل جوانبه ، وخسرت الآخرة فقد اشتريت بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً .
 هؤلاء الذين بلغوا قمم النجاح في الدنيا قد يكون نجاحًا ماليًا ، أو علميًا ، أو إداريًا ، وخسروا الآخرة ، اشتروا بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلا ، الدنيا قصيرة .

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾

 

( سورة التوبة )

 هذا الذي لا يلتفت إلى الدين إطلاقاً ، بل يلتفت إلى بناء نفسه ، وكسب المال الوفير ليشتري بيتاً مريحاً ، ويقترن بامرأة جذابة ، ويتمتع بكل مباهج الدنيا ، ولا يعبأ لا بكتاب ، ولا سنة ، ولا مجلس علم ، ولا طاعة ، ولا انضباط ، ولا سلوك فقد اشترى بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلا .
 أيها الإخوة ، إن عرفت الله ، وفاتتك الدنيا بأكملها فأنت الرابح الأول ، وإن ملكت الدنيا بأكملها ، وفاتتك معرفة الله فأنت الخاسر الأول .

 

4 ـ ينبغي لهذه الآية أن تفعل فعلها في نفوس المؤمنين :

 أيها الإخوة ، هذه الآية ينبغي أن تفعل فعلها في نفوس المؤمنين ، لا يبيع دينه ولو أعطي أموال الدنيا تحت قدمه ، أعرف والله مؤمناً عُرض عليه مائة مليون ظنوا أنه يمتنع عن تسجيل مائة بيت أنشأها ، وباعها يمتنع عن تسجيلها لهم طمعاً بالمال ، فلما عرض عليه هذا المبلغ قال : لا أنا أخذت حقي ، وقبضت الثمن ، وربحت ، وليس لي عندكم شيء ، لم يبع دينه بمائة مليون ، والله المؤمن لا يبيع دينه ولا بمليار ، ولا بألف مليار ، لأن دينه يعني الأبد ، سعادة الأبد ، أما الدنيا فتنتهي ، عش ما شئت فإنك ميت ، هؤلاء الذين كسبوا أموالاً بالحرام ، وسكنوا بيوتاً رائعة ، وعاشوا حياة مترفة ، وأكلوا ، وشربوا ، وتنعموا ، وسافروا ، وركبوا أجمل المركبات ، وسكنوا أجمل البيوت ، وطافوا أطراف الدنيا ، ثم جاءهم الموت ، ونسوا ربهم .
 والله سمعت عن إنسان عاش في بلد الحرمين ما صلى فرض صلاة خمساً وثلاثين عاماً ، ولا حج ، ولا اعتمر ، وقد جمع ما يزيد على أربعة آلاف مليون ! مات بسكتة في فندق في أوروبا في الخامسة والخمسين ، هذا اشترى بعهد الله وإيمانه ثمنا قليلا ، هذا الذي ينكب على الدنيا ، ولا يعبأ بالدين ضيع آخرته من أجل الدنيا ، هذه الآية واسعة جداً يمكن أن تفهمها فهماً موسعاً جداً بعموم القصد ، وقد تفهمها فهماً ضيقاً بأسباب النزول ، لكن حينما تؤثر الدنيا على الآخرة ، حينما تكسب من الدنيا وتضيع من الآخرة فأنت ممن تنطبق عليك هذه الآية .
 هذا الذي يروق له أن يبقى في بيت ليس له ، وعنده بيت آخر ، ولا يعبأ بعهده الذي عاهد عليه ، فقد اشترى بعهد الله وإيمانه ثمنا قليلا .

قصة وعبرة :

 سمعت هذه القصة ، وهي قديمة جداً ، قال تاجر من تجار البيوت : أعندك بيت للأجرة قال : لا ، أنا لا أؤجر ، أنا أبيع فقط ، ألح عليه مرتين أو ثلاثا فأجره بيتاً كاسداً ، قال : عهد الله علي إن طلبته مني لأسلمك إياه في أربع وعشرين ساعة ! مضت السنوات ، وارتفعت أسعار البيوت إلى درجة كبيرة ، وجاء من يشتري البيت بعشرة أمثال ثمنه في السابق ، فجاء هذا المؤجر للمستأجر الذي قطع عهداً على نفسه أن يسلم البيت في أربع وعشرين ساعة ، قال : أنا البيت بعته ، وأنا لا أطالبك بعهدك أن تسلمني إياه في أربع وعشرين ساعة ، معك ستة أشهر ، بعد ساعات لا تزيد على العشرين طرق باب المالك ، وقدم له مفتاح البيت ، صعق ، ودهش ! انطلق إلى البيت فوراً ، فإذا هو في أحسن حال ، التقى بأحد الجيران ، قالوا له : كم أخذ منك ؟ قال : واللهِ لم يأخذ شيئاً ، إلا أنه عاهدني أن يقدم لي البيت حينما أطلبه ، وقد طلبته ، فقالوا : لقد باع كل أثاثه بأبخس الأثمان ، وسكن في الفندق !
 لو يوجد مسلمون بهذا المستوى فلن تجد أزمة سكن في بلدنا إطلاقاً ، لأنه عاهد ، اشتروا بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا ، هذه قصة لها تتمة فيها غرابة ، أن هذا الذي وجد هذا العهد من هذا المسلم كأنه استثار كل قيمه ، فذهب إليه ، وأعاده إلى البيت ، وباعه إياه بالثمن الذي سكن فيه أول مرة ، وجعل أجرته التي دفعها من ثمن البيت ! وتكفّل بتأثيث البيت على حسابه ، العهد ، ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له .
 لو أن كل مسلم وقف عند عهوده ومواثيقه لكنا في حالة غير هذه الحالة ، لو أن المسلم فهم الدين وفاء بالعهد ، وإنجازاً بالوعد المسلم القديم الذي كان في زمن التألق فهو مستعد أن يخسر الدنيا بأكملها ، ولا ينقض عهده ، والمسلم المعاصر مستعد أن ينقض عهده ألف مرة ، ولا أن يخسر درهماً واحداً ، قيل لأحدهم في المحكمة : أتحلف ؟ وهو شاهد زور ، قال : أحلف ، فلما دخل إلى مجلس القاضي رأى مصحفاً على الطاولة ، فقال له القاضي : ضع يدك على المصحف قال : لحظة ، فعاد إلى الذي كلفه أن يشهد شهادة زور وقال : أريد عشرة آلاف ، وكان طلب منه خمسة آلاف ، قال : لأنه هناك يمينًا !

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾

 والله هناك مؤمنون لو تعطيه مليارا لا يحلف كاذبًا أبداً ، هذا دين .
 قد يكون الإنسان في أمسّ الحاجة إلى المال ، ويعرض عليه مال وفير تحل به كل مشكلاته ، لكن هذا المال ليس حلالاً فيركله بقدمه ، إن الله هو الغني ، حينما تجد مسلمين هكذا فلا يستطيع عدو أن يتحدى المسلمين ، حينما تجد مسلمين عند عهدهم ، ووعدهم ، ودينهم أغلى عليهم من حياتهم ، حينما تجد مسلماً لا يمكن أن يخون العهد ، ولا يخلف الوعد لكنا في حالة غير هذه الحالة ، لأسبغ الله علينا هيبة ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( ... نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ...))

( متفق عليه )

 أما أمته من بعده فحينما خانت العهود ، ونقضت المواثيق هزمت بالرعب مسيرة عام ، قد تجد بلادًا أخرى تتحدى هذه القوة الغاشمة بالعالم تصمد وتواجه ، لكن المؤمن حينما يكون مع الله يكون قوياً ، أما حينما يعصي الله يضعف مركزه ، حينما يخون العهد ، ويخلف الوعد يصبح خائفاً ، يخاف من ظله ، هذه الآية وإن كانت في الأصل تعني أهل الكتاب ، لكنها تعني كل المسلمين اليوم ، حينما يكون دينك في المكان الأول ، ولا تساوم على دينك ، ولا على مبادئك .

 

5 ـ الحكم ظلما هو من اشتراء بعد الله والأيمان ثمنا قليلا :

 موقف مرن جداً لو سئلت عن إنسان ، وتوهمت أنك إذا ذممته تنال مكانة عند فلان تذمه ، وقد يكون الذي تنال عنده مكانة سيئاً فاسقاً منحرفاً بعيداً عن الدين ، الأمثلة لا تعد ولا تحصى ، لمجرد أن تقول غير الحق ، وأن تسكت عن الحق ، وتنطق بالباطل ، لمجرد أن تحكم حكماً جائراً لمصلحة ما ، كم من إنسان يحكم في أقربائه ؟ يكون ثمة خلاف زوجي ، حينما ينحاز الإنسان لابنته ، أو لأخيه ، أو لقريبه انحيازًا أعمى فقد خان الأمانة ، ينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾

 أحياناً الثمن يكون قليلاً ، من أجل أن تتناول طعام الغداء بالمطعم ، أو في مكان جميل لا تصلي ، لا يروق لك أن يقال عنك : إنك ملتزم ، فلا تصلي ، وقد تجلس على مائدة فيها خمر طلباً للسلامة ، أنت دينك رخيص .

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾

أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

1 ـ الخَلاَق :

 الخلاق أيها الإخوة ، من الخلق ، وهو ثمن الجنة ، أنت في الدنيا تقلد الكرماء تتكرم إلى أن تصبح كريماً ، وذا خلق كريم ، تعطي براحة من دون صراع من دون شد ، وجذب ، هناك تكرم ، وهناك كرم ، هناك تحلم وحلم ، فالخلق الكريم ثمن الجنة ، أن تكون عفواً متواضعاً كريماً أميناً ، أن تكون صادقاً بلا جهد ، أصبح الكرم طبعاً من طباعك ، أصبح الصدق خلقاً ثابتاً عندك ، تصدق دون أن تدخل في مناقشة مع نفسك ؛ أصدق أم لا أصدق ؟ هذه في البدايات ، لأنه يكون هناك مجاهدة للنفس والهوى ، لكن بعد أن تنضج ، وتصبح مؤمناً ثابتاً تصدق ، لأنك تحب الصدق ، تكون حليماً لأنك تحب الحلم ، تكون منصفاً لأنك تحب العدل ، هذا الخلق الكامل الثابت العفوي الفطري هو ثمن الجنة ، وثمة إنسان يكون ذكيًا جداً ، وإنسان يأخذ موقفاً لطيفاً جداً خارج البيت ، أما إذا دخل البيت فهو الوحش الكاسر ، هذا كله تخلّق ، وليس خلقاً ، أما ثمن الجنة فهو الخلق الحسن .

(( وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ))

[ ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو ]

(( بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ ))

[ مالك في الموطأ ]

 هؤلاء الذين يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً خسروا ثمن الجنة ، أي خسروا الجنة .

 

2 ـ أهمية الأخلاق :

 لا شيء يمهد لك السبيل لدخول الجنة ، والتمتع بها إلى أبد الآبدين ، كأن تكون ذا خلق ؛ أمين ، صادق ، عفيف ، متواضع ، رحيم ، الكمال الإنساني إذا كان فيك طبعاً مع الثبات والاستمرار ، في البدايات الكمال تصنع ، لكن في النهايات الكمال طبع ، إنسان له باع طويل في الإيمان لا يمكن أن يكذب ، وحينما يُسأل ليس هناك شيء اسمه صراع ، أصْدق أم لا أصدق ؟ ألم يقل الله عزوجل :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

(سورة القلم: الآية 4)

 ( على ) أي متمكن من هذه الأخلاق ، ثمن الجنة أن تكون الأخلاق الكاملة طبعاً ثابتاً فيك ، فهذا الذي يشتري بعهد الله وإيمانه ثمنا قليلا هذا خسر ثمن الجنة .

 

﴿ أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ ﴾

أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ

1 ـ تكليم الله للمؤمن وعدم تكليمه للكافر يوم القيامة :

 إبعاداً لهم عن ذاته العليا ، هم أحقر من أن يكلمهم الله عز وجل ، أما المؤمنون حينما يساقون إلى الجنة وفداً وزمراً تنقل لهم الملائكة سلام ربهم لهم !

 

﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾

(سورة الزمر : من الآية 73)

2 ـ الله لا ينظر للكافر ، والكافر محجوب عن رؤية الله :

 هؤلاء يكلمهم الله يوم القيامة ، يسمح لهم أن ينظروا إلى وجهه الكريم ، وقد أجمع العلماء على أن قوله تعالى :

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾

(سورة يونس : من الآية26)

 الزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم ، والحسنى هي الجنة ، وما الذي فوق الزيادة أن يرضى الله عنهم .

 

﴿ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ ﴾

 

(سورة آل عمران : من الآية 15)

 فثمة دخول الجنة ، ثم النظر إلى وجه الله الكريم ، ثم إن الله الكريم يرحب بهم ، ويمنحهم رضوانه ، ويكلمهم ، فهؤلاء نالهم أشد عقاب في تاريخ البشر .

 

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ ﴾

 أضرب مثلاً للتقريب .

 

﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾

 

(سورة النحل : من الآية 60)

 لو أن إنسانًا عظيمًا ، في أعلى مستوى ، وعنده حاجب ، لو أنه قال لهذا الحاجب : كيف حالك اليوم ، هل أنت مسرور ؟ هل تحتاج إلى شيء مني ، هذا الحاجب يبقى سنة مترنمًا بهذه المودة من سيده ، أو إنسان عنده منصب خطير ، وعنده سائق ، والسائق مؤدب جداً ، هذا السائق حينما يخاطبه سيده بكلام لطيف ؛ كيف حالك اليوم يا بني ، هل أنت مسرور ؟ أهلك بخير ؟ أولادك بخير ؟ يلزمك شيء ؟ مثلاً ، يبقى هذا ثملاً بهذه الكلمات الطيبة :

 

﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾

(سورة النحل : من الآية 60)

 فكيف إذا كنت في الجنة ، وخاطبك الله عز وجل ؟ وسمح لك أن تنظر لوجهه الكريم ، وفي بعض الآثار أن المؤمنين يغيبون عن الوعي خمسين ألف عام من نشوة النظرة :

 

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

(سورة القيامة : 22-23)

 أما الطرف الآخر والعياذ بالله :

 

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾

(سورة المطففين : 15)

 والله أيها الإخوة ، عندنا قصص كثيرة في القرآن ، سيدنا إبراهيم ، وهو في النار كان في قمة السعادة ، لأنه حظي بالسكينة ، وجدها إبراهيم في النار ، وجدها أهل الكهف في الكهف ، تركوا الدور والقصور ، ولجؤوا إلى الكهف .

 

﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾

(سورة الكهف : من الآية 16 )

 وكل واحد مؤمن إذا جاء إلى بيت الله ، وجلس يحضر درس علم ، ثم ذهب إلى بيته ، والتقى بأولاده ، وكان مع الله قد يكون البيت صغيرًا ، ضيقًا ، بعيدًا ، لا يوجد مرافق عالية ، ولا أجهزة كهربائية ، لكن يوجد اتصال بالله ، يوجد أنس بالله ، ورضوان منه ، قد يتجلى الله على سكان بيت متواضع ، وربما لا يتجلى على سكان بيت فخم جداً ، الأولون في سعادة ما بعدها سعادة ، والآخرون في شقاء ما بعده شقاء .

 

﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾

وَلَا يُزَكِّيهِمْ

 لا يطهرهم من أدناسهم ، لو أنهم أقبلوا عليه لطهرهم ، ونمّى إمكاناتهم ، وأعطاهم من عنده شيئاً كثيراً ولقربهم .

﴿ أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾

 قال رجل لسيدنا عمر ، وكان عمر لا يحبه : << أتحبني ؟ قال : والله لا أحبك ، لا تلزم المجاملة ، فهو صريح ، قال : وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ؟ قال : لا والله ، حقك يصلك ‍! فقال هذا الإنسان السفيه : إنما يأسف على الحب النساء >> ، ما دام حقي يصل إلي فلا تهمني محبتك ، قال : لك ما تريد ، هنا قد يقول أحد : لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، خير إن شاء الله أكمل :

 

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

 عذاب لا ينفد ، إذا كان زاهداً في الكلام ، والقرب ، والنظر ، وبالتزكية ، لكن له عذاب أليم ، بربك من هو الناجح في الحياة ؟ من هو الذي ؟ من هو العاقل ؟ من هو المتفوق ؟ من هو الموفق ؟ من هو المفلح ؟ من هو الذي له يوم القيامة مقام عند الله ؟

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾

(سورة القمر: 54-55)

 هؤلاء الذين لهم عند الله حظوة هم الأذكياء ، هم ملوك الدار الآخرة ، هؤلاء الذين لهم عند الله مكانة ورفعة ، هؤلاء الناجحون ، لذلك دخل على رسول الله صحابي فقير جداً ، فوقف له النبي ، ورحب به ترحيبًا غير معقول ، وقال : أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال : أو مثلي ؟ من أنا ؟ قال : يا أخي خامل في الأرض ، علم في السماء .
 قد يكون الإنسان ضارب آلة كاتبة في دائرة ، أو حاجبًا .
 والله مرة كنت في مؤتمر ، والإقامة من أرقى فندق ببلد في المغرب ، سمعت عند صلاة الفجر آذنًا أو عاملا يصلي الفجر بصوت ندي ، والله شعرت أن هذا الذي يصلي بصوت ندي ، ويتلو كتاب الله ، ويتغنى به في الصلاة قد تكون قلامة ظفره خيراً من كل من في الفندق ، مقاييس الله غير مقاييسنا ، نحن عندنا المقاييس بالمال ، والمراتب الاجتماعية ، رجل يفتخر بمتاع الدنيا فقط ، قد يفتخر برقم على مركبته ستمائة ، وليس مائتين وثمانين ، قد يفتخر بمنطقة سكنه ، ومن تخلف المسلمين يفتخرون بمتاع الدنيا فقط ، مكانته من نوع بدلته بيار كاردان ، انتهى ، مكانته من حذائه ! فقط ، هذا حال المسلمين اليوم ، أما أن نفتخر بمعرفتنا لله ، وبطاعتنا له بالمال الحلال الذي نكسبه فقط ، الحرام يركل بقدمنا .

 

خاتمة :

 أيها الإخوة ، هذه الآية يحتاج المسلمون إلى فهمها فهماً دقيقاً ، وإلى العمل بها أيما حاجة ، فالدين هو الأول ، والمبادئ هي الأولى ، والقيم هي الأولى ، وأي شيء على حساب مبادئك ، ودينك ينبغي أن تركله بقدمك ، وما ترك عبد شيئًا لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور