وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 53 - من سورة ق - التكذيب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الكون هو الثابت الأول في قضية الدين :

يقول الله عز وجل في سورة " ق " :

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾

[سورة ق: 5]

أمر مضطرب، بماذا ردَّ الله عليهم؟ هم حينما كذبوا بالحق، ربنا عز وجل بماذا أجابهم؟ قال:

﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ﴾

[سورة ق:6-11]

بقضية الدين ما هو الثابت الأول؟ أنت تناقش ملحداً، بماذا تثبت له الدين؟ تقول له: قال الله تعالى. يقول لك: أنا القرآن كله لا أصدق أنه كلام الله، تقول له: قال عليه الصلاة والسلام، يقول لك: أنا لا أعتقد بنبوّته، عندما تريد أن تقنع إنساناً بأصل الدين، بماذا تبدأ؟

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾

[سورة ق: 5]

كيف ردّ الله عليهم؟ ما ذكر نصاً، ولا نبوةً، ولا كتاباً، ولكن بدأ بالكون قال:

﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾

[سورة ق:6]

معنى هذا أن الثابت الأول في قضية الدين هو الكون، التسلسل، لأن الإنسان أحياناً يتناقش مع شخص، لو كان بعيداً عن منهج البحث، الشخص الملحد أو المنكر يعمل اضطراباً، تقول له: الله قال، يقول لك: هذا القرآن من صنع محمد، هكذا يقول لك. أما لو أردت أن تجيبه إجابةً مقنعةً قاطعة الدلالة فعليك أن تبدأ بالكون، الكون هو الثابت الأول.

 

العقل مصمم على مبادئ السببية والغائية وعدم التناقض :

الله عز وجل أودع بالإنسان عقلاً، هذا العقل جهاز من أعلى مستوى، بل يعدُّ أعقد جهازٍ خُلِقَ في الكون، فلا يوجد بالكون جهاز أعقد من العقل، بل إن العقل عاجزٌ عن فهم نفسه، هذا الجهاز مصمم ألا يفهم المحيط الخارجي إلا بثلاثة مبادئ: السببية، والغائية، وعدم التناقض. الكون مصمم على أن لكل شيءٍ سبباً، وكل شيء له غاية، والتناقض مرفوض في الكون.
لو أن الإنسان فكر بما يرى؛ فكل العناصر بالأرض على التبريد تنكمش، وعلى التسخين تتمدد، بل إن قانون التمدد أساسه أن العنصر الصلب عندما تسخنه يصير لزجاً، ثم مائعاً، ثم سائلاً، ممكن بحرارات عالية جداً الصخر البازلتي يصير سائلاً، والبراكين تصبح سائلاً، في بعض الأماكن في سورية مثل اللجاة، هي أساساً فوهة بركانية، اندلع منها سائل فصار صخور، فالتسخين يباعد بين الذرّات، فكل شيء إذا سخنته يتمدد، إذا بردته ينكمش إلا الماء، إذا بردته إلى الدرجة ( +4 ) يتمدد، لولا هذه الظاهرة لما كنا في هذا المسجد، لانعدمت الحياة على سطح الأرض.
طبعاً ليس هناك مجال لتعداد الأدلة، أما الكون بنظامه، بإعجازه، بآياته؛ في الفلك، في السماء، في الأرض، فهو شيء مقنع وقناعة قاطعة، فكل إنسان تريد أن تبدأ معه بإقناعه بالدين تبدأ بالكون، فإذا استنبط بعقله أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، هذا الإله العظيم كل خلقه كامل، من لوازم كماله أن يبيّن، من لوازم كمال الله أن الله عز وجل يبين لمخلوقاته لماذا خلقهم؟ يأتي القرآن من خلال إعجازه تؤمن أنه كلام الله، فمن جاء بهذا القرآن؟ رجل اسمه محمد، لأنه جاء بشيء معجز فهو رسول الله، هذا الدور العقلي، العقل آمن بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، وآمن بكتابه من خلال إعجازه، وآمن برسوله من خلال كتابه، هذا التسلسل المنطقي.

الدليل العلمي من آيات الله الدالة على عظمته :

الآن انتهى دور العقل وجاء دور النقل، فكل شيءٍ عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، قال لك: يوجد جن، لا يوجد دليل عقلي على وجود الجن، لكن يوجد دليل إخباري، الله أخبرنا، لأنك آمنت أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، وهذا الإله العظيم له كتاب، ودليل كتابه إعجازه، ولهذا الإله العظيم رسولٌ كريم، ودليل رسالته الكتاب، الآن أخبرك القرآن أن هناك جناً، وهناك ملائكة، وهناك يوماً آخر، وهناك صراطاً، وهناك حَوْضاً، وهناك حساباً، وهناك جنَّة، وهناك ناراً، وأن البشرية بدأت بآدم، وهكذا. ففي بالقرآن أخبار هذه لا معنى لها إن لم تؤمن بالله، وإن لم تؤمن بأنه أنزل هذا الكتاب، وإن لم تؤمن بأنه أرسل هذا الرسول، بهذا التسلسل صار الدين منظومة متماسكة.
أما لو فرضنا أخاً من أخواننا الكرام بدأ يقنع إنساناً بالملائكة، يوجد مَلَك، سيقول له: أين المَلَك؟ لا يمكن أن تبدأ مع الإنسان بهذا، أصل الإيمان مهتز عنده بأدلة إخبارية، الأدلة الإخبارية لا تنفع إلا من آمن بالقرآن، أما قبل أن يؤمن الإنسان بالقرآن فلا ينفعه إلا الدليل العلمي فقط، الدليل من آيات الله الدالة على عظمته.

الله كامل و من لوازم كماله أنه أرسل لخلقه منهجاً يسيرون عليه :

ملمح لطيف جداً:

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾

[سورة ق: 5]

ماذا قال الله لهم؟ ما ذكرهم برسوله ولا بكتابه، قال:

﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾

[سورة ق:6-7]

فأنت حينما ترى الأزهار، بالتأكيد لا تؤكل، فلماذا خُلِقَت؟ و لا يوجد حيوان يستمتع بها، شخص أعطى الدابة فلة فأكلتها، لا يوجد حيوان يستمتع بالأزهار إلا الإنسان، وهذه قضية ثانوية، ليست قضية أساسية، الأزهار ليست قوتاً، معنى هذا أن الإنسان عند الله مكرم أعلى تكريماً، أعطاه أشياء ليستمتع بها في الأرض، وهناك مليون دليل ودليل على وجوده، ووحدانيته، وكماله، دليل عقلي، فإذا أيقنت أن الله كامل، من لوازم كماله أن يرسل لخلقه منهجاً يسيرون عليه، ومن لوازم كماله أن يأتي نبيٌ كريم يطبِّق هذا المنهج كقدوة، الآن انتهى دور العقل جاء دور النقل، النقل أخبرك الله عن الأمم السابقة، وعن الأنبياء السابقين، وعن أصل خلق الإنسان، وعن مصير العالم، وعن الدار الآخرة، هذا كله إخباري، لا تبدأ بالإخباريات، الإخباريات رقم أربعة.

 

التفكر في آيات الله في الكون :

إذا آمن بالله خالقاً ومربياً ومسيراً، وآمن به واحداً وكاملاً وموجداً، وآمن بكتابه المُعْجِز، وآمن برسوله المؤيّد بالمعجزات، الآن تنتقل إلى المرحلة الرابعة تبلغه عن الإخباريات، فهذا الملمح التكذيب بالحق، الرد عليه:

﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾

[سورة ق:6]

فكل نجم تراه بعينك المجرَّدة هذه نجوم درب التبابنة، في الإحصاء حوالي عشرة آلاف، درب التبابنة فيه قريب من مئة ألف مليون نجم، هذا رقم دقيق، عندنا بالكون مئة ألف مليون مجرة، وفي كل مجرة من مئة ألف مليون إلى مليون مليون نجم، وإذا كان هناك نجوم بعيدة جداً هذه تمثل مجرات، فهناك مجرة أضخم من مجرتنا بسبع وعشرين مرة، ترى من عندنا كنجم صغير، كلها نجم.

﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾

[سورة الواقعة:75]

نحن وصلنا ضوء من نجم، يبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية، أيْ قبل عشرين مليار سنة كان النجم في هذا المكان، في هذا الموقع، وانطلق الضوء منه، واستمر سيره إلينا عشرين مليار سنة، الآن وصل، أين النجم؟ فالله قال: موقع. لم يقل نجماً، ولا يعرف قيمة هذه الكلمة إلا عالم فلك، قال:

﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾

[سورة الواقعة:75]

النجم يمشي بسرعة عالية، يوجد أدلة في الكون.

 

 

آيات الله في خلق الإنسان :

في خلق الإنسان، ممكن من أجل أن تشم، عملية بسيطة جداً، شخص يعطرك بعطر الياسمين، جزاه الله خيراً، هذه كلمة ياسمين جزاه الله خيراً، هل تعرف ما فيها؟ عندك عشرون مليون نهاية عصبية شمِّية، كل نهاية تنتهي بسبعة أهداب، كل هُدب مغَمَّس بمادة مخاطيّة، هذه المادة المخاطية تتفاعل مع الرائحة تفاعلاً كيماوياً، يتشكل من التفاعل شكل هندسي، الشكل الهندسي يُنقل إلى الدماغ إلى ذاكرة شمّية فيها عشرة آلاف بند، هذا الشكل الهندسي الذي هو الرائحة يمر على البنود كلها واحدة واحدة، أينما تطابق، تقول له: هذا ياسمين، هكذا الإنسان.
أنت تمشي بالطريق سمعت بوق سيارة، تأتي إلى اليمين، بهذه البساطة؟! بل العملية بمنتهى التعقيد، يوجد جهاز بالدماغ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الدماغ، أنت تمشي يوجد أذن وأذن أخرى، السيارة على اليمين، وصل الصوت إلى هنا قبل هنا بزمن قدره واحد على ألف وستمئة وعشرين جزءاً من الثانية، أيْ أن الثانية قسمناها ألفاً وستمئة وعشرين جزءاً، وصل الصوت إلى هذه الأذن قبل هذه الأذن بهذا الزمن، الجهاز بالدماغ يحسب تفاضل الصوتين، أين وصل الصوت أولاً؟ هنا، معنى هذا أن السيارة على اليمين، يعطي أمراً فيأتي إلى اليسار، هذا إذا شخص سمع بوق سيارة وأتى إلى اليسار.
الغدة النخامية وزنها نصف غرام، تفرز اثني عشر هرموناً، كل هرمون لو اختل إفرازه تصبح حياة الإنسان جحيماً، واحد من الهرمونات هو هرمون النمو، لولاه الإنسان يبقى قزماً، أحد هذه الهرمونات هرمون توازن السوائل، أنت تشرب بالنهار خمسة لترات من الماء، لو اختل هذا التوازن، يمكن الإنسان يقضي عمره كله إلى جانب صنبور الماء والمرحاض، ممكن أن يشرب عشرين صفيحة ماء كل يوم، أما هذا الهرمون فيعمل توازناً لاستهلاك السوائل، شيء لا يصدق.
فبالدماغ، بالأعصاب، بالقلب، شخص مستلق أراد أن يقف، بحسب قانون الجاذبية، الدم كله مستقر بالشرايين، عندما وقف يجب أن ينزل الدم للأسفل، الدم ينزل من الدماغ إلى الأسفل، فالإنسان يجب أن يدوخ ويقع فوراً، فالشيء الذي لا يصدق، الإنسان إذا أراد أن يقوم، شيء عجيب، كل الشرايين العلوية تضيق لمعتها، تحبس الدم بالرأس، هذه من يفعلها؟
الإنسان بالسبعين أو الثمانين هذه الشوارد تضعف، إذا وقف يقع على الفور، يجب أن يقوم على مهله بالتسلسل، ينصحون الآن كل إنسان متقدّم بالسن ألا يستيقظ من الفراش فجأة، تكون هذه الآلية ضعفت، شيء لا يصدق عندما نصل إلى الدقائق.
غدة التيموس غدة صغيرة إلى جوار القلب، لا أحد يعلم قيمتها، أنا التقيت منذ يومين بأخ طبيب، قال: نحن في الجامعة درسنا على أنه ليس لها وظيفة، غدة بجانب القلب، هذه الغدة كلية حربية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، الكريات البيضاء المقاتلة، هذه كريات يسمونها هَمَجِيَّة، معها سلاح فتاك وهي جاهلة، فتضرب من؟ تقتل من؟ تدخل هذه الكريات إلى داخل الغدة لتتعلم من هو الصديق ومن هو العدو؟ تبقى سنتين، والغدة مع التكبير الشديد على شكل مدرج، وكأن هناك نوعاً من المحاضرات، والطفل بهذه السنتين كل شيء يضعه بفمه ليتعرف على الأجسام المضادة، بعد سنتين يوجد فحص، تمر كل كرية بين الفاحصين، تعطى عنصراً صديقاً، إذا قتلته يقتلونها، تعطى عنصراً عدواً، إذا لم تقتله يقتلونها، فالرسوب هو القتل، فتتخرج هذه الكريات البيضاء مثقفات، كانت كريات همجية أصبحت مثقفة.
ثم كل كرية تعلم حفيداتها من هو الصديق ومن هو العدو، هذه الغدة تضمر بعد سنتين، خرجنا مئة ألف ضابط، وهذه كفايتنا، أغلقنا الكلية، تضمر، الآن عرفوها، في الجسم آيات دالة على عظمة الله لا تنتهي.
لذلك الثابت الأول في الدين هو الكون؛ بآياته في الآفاق، وفي النفس، من يستطيع أن يطعم طفلاً صغيراً؟ الحليب يتبدل تركيبه بالرضعة الواحدة، من يقدر؟ بالرضعة الواحدة يبدأ الماء ستين بالمئة ينتهي أربعين بالمئة، بين أولها وآخرها يوجد تبدل بتركيب الحليب، وكل يوم يتبدَّل تركيب الحليب مع تبدُّل نمو الجسم، فالحليب ساخن في الشتاء، بارد في الصيف، فيه كل مقوّمات مناعة الأم، فيه مواد مذهلة.
الآن الثديان:

﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[ سورة البلد: 10 ]

﴿ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾

[ سورة البلد الآية : 11-12 ]

هذا أول ملمح.

 

الضّال عنده رغبة و استعداد للضلال :

الملمح الثاني: تأكدوا أيها الأخوة أنه لا يوجد إنسان يضل إنساناً، هذه حقيقة، لو فرضنا صفاً يوجد به خمسون طالباً، وفيه طالب فاسد جرّ صديقه إلى دور السينما، هذا الصديق الذي قَبِلَ أن ينجر معه فاسدٌ مثله، لكنه فاسد بالقوّة، عندما جاء وسحبه صار فاسداً بالفِعل، عنده استعداد للفساد، الآية هنا:

﴿ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾

[ سورة ق : 27 ]

أيْ أنه لا يوجد إنسان يضل إنساناً، لكن الذي بدا لنا أنه أضله، الذي أُضِلّ عنده استعداد للضلال، وعنده رغبة في الضلال..

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾

[سورة إبراهيم: 22]

﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 21 ]

سائقٌ يسوقها إلى الحساب، وشهيدٌ يشهد عليها ما فعلته في الدنيا؟

﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 21 ]

الدنيا محسوسة والآخرة موعودة :

 

﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾

[ سورة ق : 32-34 ]

أيْ أنَّ الدنيا محسوسة، والآخرة موعودة، الآخرة خبر، الآخرة كلام في القرآن، نص في الحديث، بالتعبير: مادة ملوَّنة على ورق، هذه الآخرة، أما الدنيا فأمامك طعامها، وشرابها، ونساؤها، ومباهجها، ومسرّاتها، وشهواتها، فالذي يترك المحسوس تصديقاً بالخبر هذا يستحق الجنَّة..

﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾

[ سورة ق : 33-34 ]

ثمن الجنة، لو كانت الجنَّة محسوسة أقبل الناس جميعاً عليها من دون تردد حتى الكفَّار، وحتى الملحدون والفسقة والفجاَّر، أما الجنة فهي غيب إخباري، والدنيا محسوسة، فمن ترك المحسوس تصديقاً لما في الخبر فقد استحق الجنَّة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلَّم.

***

عقيدة الجبر تسيء الظن بالله عز وجل :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة؛ ما من عقيدةٍ تشلُّ الإنسان، وتلغي عمله، وتيئّسه، وتحمله على أن يسيء الظن بالله عز وجل كعقيدة الجَبر، أن الله عزَّ وجلَّ خلق الكافر كافراً، وأجبره على المعصية، ثم يضعه في جهنَّم إلى أبد الآبدين، لا يمكن أن تقبل هذه الفكرة، ولا يمكن أن تحب الله على هذا، ولا يمكن أن تستقيم هذه الفكرة مع الأمر والنهي، لأنه يوجد أمر ونهي، معنى هذا أنت مخيَّر.
إذا خطر على بالك لثانيةً واحدة أن الله ألغى اختيارك، وأنه قدَّر عليك كل شيء، وأنه انتهى كل شيء، وكل إنسان مصيره محدد قبل أن يولَد، هذه العقيدة تصيب الإنسان بالشلل، ويقعد، ولا يتوب، ولا يعمل، ولا يفعل، ولا يرقى، ولا يحبُّ الله عزَّ وجل، ما من عقيدةٍ أثَّرت في صُلب عقيدة المسلمين، وانعكست خمولاً، وقعوداً، وسوء ظنٍ بالله كعقيدة الجَبْر.
أولاً أيها الأخوة؛ علماء الأصول قالوا: لو أن ألف آيةٍ متشابهةٍ، يُشَمُّ منها رائحة الجبر، إنها كلها تحمل على آيةٍ واحدةٍ قطعية الدلالة في أن الإنسان مخيَّر، هذه قاعدة ثابتة.
أقول لك: القمح مادة خطرة. هل أعني بهذا أنه مدمِّر؟ ممكن مدمر، ممكن نافع، كلمة خطرة كلمة احتمالية، أقول لك بعد قليل: القمح مادة أساسية في حياة الإنسان، إذاً تفهم كلمة خطرة على أنها أساسية، انتهى الأمر، الآيات المتشابهات مهما كثُرت تحمل على الآيات المُحكمات مهما قلَّت.
في هذه السورة التي قرئت اليوم، وجزى الله عنا الإمام خيراً، قال:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾

[سورة يس :8-9]

معنى هذا ليس له ذنب، الله عزَّ وجل جعل في أعناقهم أغلالاً إلى النار، وجعل..

﴿ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾

[سورة يس :9]

آية ثانية:

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾

[سورة السجدة:13]

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾

[سورة الكهف: 29 ]

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة التكوير: 29]

هذه الآيات المتشابهات، التي يُشَمُّ منها رائحة الجبر، تحمل على الآيات المحكمات التي تعني دلالةً قطعيةً في أن الإنسان مخير:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا﴾

[سورة الأنعام: 148 ]

هذه عقيدة مَنْ؟ عقيدة أهل الشرك..

﴿ وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ﴾

[سورة الأنعام: 148 ]

قرار كل إنسان تجسيد لرغبته :

سأحاول توضيح هذه الآية التي هي مسار جدل عند المسلمين، إذا الله عزَّ وجل قنَّن، أي خلق القانون، قانون أرخميدس معروف، الجسم يطفو على سطح الماء إذا كانت كمية الماء المزاح أقل من وزنه، ويغوص في أعماق الماء إذا كانت كمية الماء المُزاح أكثر من وزنه، إذا كان وزنه أكثر من كمية الماء المزاح، أنت ائت بقطعة حديد، ضعها في الماء، تسقط فوراً، ائتِ بصحن سطحه واسع، أزاح ماء أكثر من وزنه فيطفو، الآن البواخر العملاقة تحمل مليون طن وهي من الحديد، لأنها مصممة بشكل واسع، بشكل صحن، أو بشكل جرن، تزيح ماء أكثر من وزنها إذاً تطفو، ولو كانت حاملة مليون طن، ائتِ بمسمار ألقه في الماء يغوص، لأنه أزاح من الماء وزناً أقل من وزنه، إذاً يغوص، فإذا أنت ألقيت قطعة حديد في الماء وأنت كنت مقنناً القانون، قلت: لقد أرسلنا هذا المسمار، لأنك أنت المقنن، انطبق عليه القانون، فقد سقط، لا أكثر ولا أقل، لأن الله عز وجل هو واضع القانون، لأنه هو الذي سَنَّ هذا القانون، هو الذي خَلَق هذا القانون فإذا قال:

﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً﴾

[سورة يس :8]

أيْ هم حينما اختاروا الشهوة، الإنسان مخير إذا اختار الشهوة، الشهوة غلٌ في عقنه تقوده إلى هلاكه، وحبك الشيء يعمي ويصم، هؤلاء الذين أحبوا بعض الشهوات وقعوا في الفواحش، ولم يعرفوا ولم يقدروا النتائج، حينما ثارت شهوته عَمِيَ عن نتائجها، إذاً حينما يقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾

[سورة يس :8-9]

أي أن قوانين الشهوة انطبقت عليه، قوانين الشهوة التي سنها الله عز وجل، والتي قننها الله عز وجل انطبقت عليهم، فبحكم قانون الشهوة، أيْ أن الشهوة تقود إلى الهلاك، وأن الشهوة تعمي وتصم، إذاً هكذا كان مصيره، عبَّر عنه علماء العقيدة بكلمة: " تحصيل حاصل "، أيْ يوجد قوانين.
أنت حينما ترى نملة صغيرة تمشي على سطح، وأمامها قطعة مربى، وتعلم أنها إذا وضعت أقدامها الصغير في المربى بقيت فيه، فإذا قلت: إن هذه النملة سوف يكون حالها كذا وكذا، هل أنت الذي أجبرتها على أن تكون كذا؟ لا.. لكن أنت تعرف قانوناً أن المربى لزج، وأرجلها خفيفة، فهذا تحصيل حاصل، فأيّة آيةِ يُشَمُّ منها رائحة الجبر، يجب أن تؤول تأويلاً يليق بكمال الله عز وجل.

﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾

[سورة الكهف: 28]

إذا إنسان ضعيف باللغة يفهم أن الله خلق فيه غفلة، " أَغْفَلْنَا " أيْ جعله غافلاً، أما لو كنت قوياً باللغة، درست اللغة العربية، تجد العكس، أجبنته وجدته جباناً، أبخلته وجدته بخيلاً..

﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا ﴾

أي وجدناه غافلاً، إذا عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري..

﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾

[سورة الصف: 5 ]

الأمثلة توضح تماماً: طالب جامعي رفض الدوام، وتأدية الامتحان، وشراء الكتب، قدم له إنذار واثنان وثلاثة وخمسة، ورفض أن يقابل أمين سر الكلية، أصدر قرار بترقين قيده، هذا القرار تجسيد لرغبته بعدم الدراسة، فإذا قال: منعوني، خربوا بيتي، هم السبب، رقنوا قيدي، وهذا كله غير صحيح، لأنه حينما أصرّ على عدم الدراسة، وعدم أداء الامتحان، وعدم شراء الكُتُب، وعدم الاتصال بالمسؤولين، ولم يرد على أول إنذار والثاني والثالث والرابع والخامس، فلما صدر قرار ترقين قيده، هذا القرار تحصيل حاصل، هذا القرار تجسيد لرغبته.

 

حسن الظن بالله ثمن الجنة :

لذلك يا أيها الأخوة؛ حسن الظن بالله ثمن الجنة، أحياناً الإنسان يكون في غفلة..

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[سورة الشمس :7-8]

يقول لك: يا أخي الله ألهمه أن يكون فاجراً. ألهمها أي جبلها جبلةً عالية جداً، جبلة راقية جداً، بحيث أنها إذا فجرت تتعذَّب، تعلم أنها فجرت فتتعذب، هذا عذاب الضمير، الشعور بالنقص، الشعور بالذنب، الكآبة، هذه كلها تعذيب الفطرة، فإذا فرضنا أن الفطرة غير سليمة إذاً عندنا مشكلة؛ يأتي إنسان يقتل أولاده، ثم ينام مرتاحاً، لم يفعل شيئاً، قرأت خبراً في جريدة عن شخص بشمال حلب، يبدو كان مخموراً، وكان عنده مشكلة مالية، دخل للبيت قتل كل أولاده، فلما صحا قتل نفسه، لم يتحمل، فلو أن الإنسان فطرته سيئة تجد أكبر مجرم ينام مرتاحاً.
حدثني أخ بلبنان، ساكن بحي من أحياء بيروت بظاهر بيروت، يبدو أن إنساناً يقود سيارته الساعة الواحدة ليلاً، وهو مسرع، أب أرسل ابنه لشراء علبة سجائر، الساعة الواحدة من البقالية، هذه السيارة دهست الطفل ومات فوراً، كون الساعة الواحدة مساء، ولا يوجد أحد، ولا يوجد أحد أخذ رقم السيارة، نجا، وكتب الحادث ضد مجهول، هذا الإنسان لم يستطع النوم ليلاً، لا يوجد أحد سأله، ولا إنسان حاسبه، ولا إنسان عاقبه، ولا إنسان أدانه، ولا إنسان عرف مَن هو الذي فعل هذا، لكن عذبته فطرته، يقول: عشرون أو ثلاثون يوماً لم أنم دقيقة واحدة، التقى مع طبيب نفسي، قال له: ادفع ديَّة الطفل إلى أهله من أجل أن تنام، لكي ينام فقط.
الله عز وجل فطر النفس فطرة عالية جداً لو أخطأت، أحضر لك مثلاً أوضح: دخلت إلى البيت الساعة الواحدة، قالت لك الوالدة: يا بني رأسي يؤلمني أريد حبة مسكن، قلت لها: الآن كل الصيدليات مغلقة، سأحضره لك غداً، وأنت تعلم أنه يوجد صيدليات مناوبة، ويمكنك أن تأخذ سيارة أجرة، ثم نمت، لا ترتاح بالنوم أبداً، لو كنت إنساناً آخر، تخرج من البيت، تأخذ سيارة أجرة إلى الصيدلية المناوبة، إن قال لك: والله لا يوجد، تذهب للثانية: لا يوجد، للثالثة أيضاً لا يوجد، الرابعة لا يوجد، عدت ولم تحضر معك الدواء، لماذا أول يوم لا تنام، وثاني يوم تنام؟ أول يوم عذبتك نفسك لأنها أمك، وطلبت منك دواء، وكان من الممكن أن تجد الدواء ولم تذهب، أما في اليوم الثاني فالذي عليك أديته، بالحالتين أنت لم تحضر الدواء، لكن مرة نمت ومرة لم تنم، هذه معنى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[سورة الشمس :7-8]

مرة أجروا استبياناً وزعوه على ألف زوج: لماذا لا تخون زوجتك؟ - بالطبع المجتمع غربي - فكان الإجابات متفاوتة، أدنى إجابة كانت: لا أستطيع، لأنها تعمل معه في البقالية، هذه أقل إجابة أخلاقية، كان يتمنَّى ولكنه لا يستطيع، الإجابة الأرقى منها: لا أحتمل الشعور بالذنب. الذنب ضاغط، الإنسان عندما يخطئ، أو عندما يكذب، أو عندما يدجِّل، أو عندما لا يكون عادلاً يتعذب، يقول لك: متضايق، وأي إنسان يسألك سؤالاً فقهياً أغلب الظن كان متضايقاً، لو كان عمله صحيح مئة بالمئة لا يسألك، ما دام يسأل معنى هذا أنه متضايق، المستوى الأرقى: لا أحب الخيانة.
أول شخص غير قادر، الثاني لا يحتمل الشعور بالذنب، يتمنى لكن الشعور بالذنب ضاغط، أما الثالث فيكره الخيانة.
فكلما مرَّت آية يشم منها رائحة الجبر، ينبغي أن تؤول تأويلاً يليق بالله عز وجل، لأن حسن الظن بالله ثمنه الجنة:

(( وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعالى فَيَغفِرُ لَهُمْ ))

[ من الأذكار النووية عن أبي هريرة ]

أيضاً هذا الحديث يجب أن يكون له تأويل، وإلا على ظاهره مشكلة كبير جداً، على ظاهره اعملوا ذنباً يا أخوان، أما على حقيقته، أنت إذا عملت ذنباً و لم تشعر بشيء، وقلت: ماذا فعلنا؟ ماذا حدث؟ خربت المسكونة؟ هل سنأكلها؟ قعدنا سهرنا معها، لا أكلناها ولا أكلتنا، إذا الإنسان لا يوجد عنده شعور بالذنب أبداً معنى هذا أنه ميت، منته عند الله، لذهب الله بكم، وأتى بقومٍ، إذا أذنب لا ينام الليل، تعذبه نفسه النقية الطاهرة.
فيا أيها الأخوة؛ أردت أن يكون هذا اللقاء- ولا أريد أن أطيل عليكم بآخر رمضان- أن حسن الظن بالله ثمنه الجنة، أية آيةٍ يشم منها رائحة الجبر ينبغي أن تؤوَل تأويلاً يليق بكمال الله عز وجل.

***

مشكلة المسلمين الأولى أنهم عرفوا منهج الله ولم يعرفوا خالق الأكوان :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة الكرام؛ ليلة القدر في رمضان، ورمضان على النظام الهجري، والنظام القمري والشمسي يتسايران، أيْ في أي لحظة أو بأي ليلة على مدى العام الشمسي يوجد ليلة قدر، خلال حِقَب طويلة، معنى ذلك أن ليلة القدر ليست ليلةً بعينها، يأتي في الصيف، وفي الربيع، وفي الخريف، وفي الشتاء، فرمضان على مدى حِقَب طويلة، ليلة القدر تكون في أي يوم من أيام السنة الشمسية، هذا الكلام يفهم منه أنه ليس هناك وقت محدد لها بقدر ما هي حالة مع الله، ليست ليلة محدَّدةً ولكنها حالة مع الله، والدليل قول الله تعالى:

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾

[سورة الأنعام: 91 ]

فمشكلة المسلمين الأولى أنهم عرفوا منهج الله، أو عرفوا الحلال والحرام، ولم يعرفوا خالق الأكوان، فلم يلتزموا، والذي أقوله دائماً: إذا عرفت الآمر، ثم عرفت الأمر، تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر، ولم تعرف الآمر، تفننت في التفلت من هذا الأمر، مشكلة المسلمين الأولى أنهم يعرفون الحلال والحرام ولكنهم ما عرفوا الآمر، لذلك ضعف التزامهم، فلما ضعف التزامهم تخلَّى الله عنهم.

 

ليلة القدر هي الليلة التي تقدِّر الله فيها حق قدره :

إذاً يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ - القرآن الكريم- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

[سورة القدر: 1]

أيْ حينما وصل النبي إلى درجة عاليةٍ جداً من تقدير الله له، استحق أن ينزل عليه القرآن، والمؤمن حينما يقدر الله حق قدره يفتح الله عليه بطريقةٍ أو بأخرى، يفتح الله عليه بحسب إيمانه، وإخلاصه، وتقديره لله عز وجل.

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[سورة الزمر: 67 ]

هذه آية أخرى، ليلة القدر هي الليلة التي تعرف حق الله عليك، الليلة التي تقدِّر الله فيها حق قدره، الليلة التي تعرف فيها أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، إذاً هي حالة، هي درجة نُضج معيَّنة في المعرفة.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

[سورة القدر: 1]

الإسلام الحقيقي منهج مستمر :

هناك نقطة ثانية أود أن أعلِّق عليها: الإسلام الحقيقي منهج مستمر، أما الناس شاؤوا له أن يكون منهجاً متقطعاً، منهج مناسبات، تجد حياته حياة غربية، لكنه يهتم بالسابع والعشرين من رجب، وبالخامس عشر من شعبان، وبليلة القدر، وبعاشوراء، دين مناسبات، وليس دين منهج مستمر، الأصح أن الإسلام دين منهج مستمر، أيْ هذه مناسبات يحتفل بها، أما الأصل فأن يطبق منهج الله طوال حياته في الصيف والشتاء، وفي الربيع والخريف، وفي كل أيام العام.
بل إن الله عز وجل حينما اصطفى- كما قلت في خطبة سابقة- شهر رمضان من بين الشهور كلها، ليكون هذا الصفاء الذي في رمضان مُنْسَحِباً على كل شهور العام، وحينما اصطفى بيت الله الحرام بالذات، ليكون الصفاء في هذا المكان منسحباً على كل مكان، وحينما اصطفى سيد الأكوان النبي عليه الصلاة والسلام ليكون قدوة لكل بني البشر، فالله عز وجل ما أراد أن نفهم الدين فهم مناسبات؛ نصوم، ونصلي، ونقوم، وانتهى الأمر، فإذا دخلت عليه في غير هذه الأوقات تجده إنساناً عادياً، تجد سلوكه عادياً، يعيش حياة ليست إسلامية كما ينبغي أن يكون، هذه واحدة.
إذاً ليلة القدر حالةٌ مع الله، حالةٌ معرفيةٌ مع الله، وحالةٌ نفسية فيها إكبارٌ لله عز وجل، حالة معرفية عقلية، وحالة نفسية، فكلما جهدت في معرفة الله عز وجل كلما قدَّرته التقدير الأعلى، ومعرفة الله عز وجل لها وسائل، من وسائلها التفكر في خلق السماوات، من وسائلها تدبر آيات القرآن الكريم، من وسائلها النظر في أفعال الله في الأرض.

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا﴾

[سورة الأنعام: 11 ]

﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾

[سورة محمد: 24]

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[سورة آل عمران :190-191]

العبرة ليست في العبادة المستمرة بل في الرقي المستمر :

أيها الأخوة؛ أنا حينما أقرأ بعض الآيات لا أقصد أن أشرحها شرحاً أصولياً، أنا أذكر خواطر إيمانية حول الآيات:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾

[سورة القدر: 1-2]

فهل تدري عظمتها؟

﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

[سورة القدر: 3]

ففي أصح التفاسير أنك إذا عبدت الله ثمانين عاماً متتاليةً دون أن تُقَدِّر الله حق قدره، ما حصَّلت الفائدة التي تُحَصِّلها لو قدَّرت الله حق قدره، فالعبرة ليست في العبادة المستمرة بل في الرقي المستمر، لذلك فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، بالمنظور الطبيعي، فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، لعالمٌ واحد أشد من الشيطان من ألف عابد، فالعالم أدرك ليلة القدر، أما العابد فطَبَّق الأمر والنهي ولم يفقه حقيقة الأمر والنهي.

﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر﴾

[سورة القدر: 3]

من ألف شهرٍ تعبد الله من دون تقدير، ليلة واحدة أفضل من عبادة ثمانين عاماً.

 

من عرف الله وطبق أمره فهو في سلام إلى نهاية الحياة :

الآن:

﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾

[سورة القدر: 4]

الملائكة في الإلهام، والروح في السعادة، ربنا عز وجل يملأ قلبك أمناً ورضاً وسعادة، والملائكة تلهمك وتسددك، لأنك قدَّرت الله حق قدره، وهذا يؤكده:

(( ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه))

[ مجمع الزوائد عن أبي أمامة ]

هكذا حال المؤمن ..

﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

[سورة القدر: 4-5]

أيْ إن فهمت الفجر الحقيقي، أو فهمت فجر الآخرة، فأنت حينما عرفت الله وطبقت أمره ؛ أنت في سلام إلى نهاية الحياة، هذه بعض الخواطر الإيمانية حول هذه السورة.
قبل سنوات عديدة، هؤلاء اليهود لعنهم الله أرادوا أن يأخذوا المسلمين من المساجد ليلة القدر، بخطةٍ خبيثة ماكرة، وقد أعدوا لهذا مئة وخمسة وعشرين ضابطاً من أعلى مستوى - كوماندوس - وركبوا طائرتي هليكوبتر، وقعت الأولى فوق الثانية، ووقعتا على مستعمرة، فمنيت بخسارةٍ لم تتحمَّلها، ولم تمن بها منذ أن أُسست، قال بعض الذين علَّقوا على هذا الحادث: هذه الليلة سلامٌ هي حتى مطلع الفجر.
قال بعضهم: لقد استجاب الله لدعاء المسلمين. وفتحوا الصندوق الأسود، فإذا بالطيار الأعلى الذي فوق يقول آخر كلمة قبل أن يموت: أنا أسقط ولا أدري لم أسقط؟! فقد أرادوا أن يأخذوا المسلمين من المساجد ليلة القدر، وهم مجتمعون، أعدوا خطة غاية في الإحكام، ولكن الله خيَّب مسعاهم ودمَّرهم.

﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

[سورة القدر: 5]

أيْ أنت في ذمة الله، وأنت في رعاية الله، وأنت في عين الله ما دمت قد عرفت الله، إنك إن عرفته ألهمك الصواب، ألهمك الحِكمة، ألهمك رُشْدَك.

 

ضرورة تدبر كل آية من آيات القرآن الكريم :

أخواننا الكرام؛ المصحف ستمئة صفحة، وقد استمعنا إليه كله بفضل الله تعالى في هذا الشهر الفضيل، لكن أعرابياً سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يعظه وألا يطيل عليه فتلا عليه آيةً واحدة:

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾

[سورة التكاثر : 7-8]

فقال هذا الأعرابي: لقد كفيت. فقال عليه الصلاة والسلام: " فقُه الرجل "ديننا بسيط ولكننا عقدناه كثيراً، آية واحدة، أن كل شيء محاسب عليه، ولو فعلت فعلاً بأقل من ذرة..

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾

[سورة التكاثر : 7]

فهذا القرآن فيه آيات كثيرة، كل آية وحدها تكفي..

﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾

[سورة النساء :1]

فلذلك أيها الأخوة لو أننا تدبرنا هذا القرآن أو بعض آياته لكُفينا.
الإمام الشافعي يقول: في القرآن سورةٌ لو تدبرها الناس لاكتفوا بها، إنها سورة العصر،

﴿وَالْعَصْرِ﴾

يقسم الله بالزمن لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن، والذي هو رأسماله الزمن، والذي أثمن شيءٍ يملكه هو الزمن..

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾

، مُضِيُّ الزمن يستهلكه، ولابدَّ من نهاية يخسر فيها كل ما جَمَّعَهُ في عمرٍ مديد، قال:

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

، أي أنت إذا أنفقت الزمن إنفاقاً استهلاكياً، فأنت خاسر، أما إن أنفقته إنفاقاً استهلاكياً، ففعلت في الزمن ما ينفعك بعد مضي الزمن؛ آمنت، وعملت، ودعوت، وصبرت، هذه أركان النجاة في الدنيا.
في سورة ألهاكم التكاثر:

﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 8]

العلماء قالوا: نعيم الكفاية، ونعيم الأمن، ونعيم الصحة، ونعيم الفراغ، أربعُ نِعَمٍ سوف نسأل عنها، أربع نعمٍ يجب أن توظَّف في معرفة الله، وفي طاعته.

 

تحميل النص

إخفاء الصور