وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 57 - من سورتي الزمر ونوح - الرزق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

الله عز وجل نسب الإنسان إلى ذاته العليا نسبة تشريف وتكريم :

 قد تقول مثلاً : هذا إنسان دمشقي ، فهذه (الياء) في اللغة اسمها ياء النسَب ، أن ينسب إلى دمشق ، وقد تقول : حمصي ، وحلبي ، وحموي . . إلخ ، فإذا قال الله عزَّ وجل :

﴿ قل يا عبادي﴾

[سورة الزمر : 53 ]

 فهذه الياء أيضاً ياء النسب ، أي هؤلاء العباد نسبوا إلى الله عزَّ وجل ، أما النسب الأول ؛ دمشقي ، حمصي ، حموي ، حلبي فهذا نسب حقيقي ، أي فلان يعيش في دمشق ، ويعيش في حمص ، أو ولِد في دمشق ، أو في حمص ، أو في حماه ، أو في حلب ، أما حينما نقول :

﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾

[سورة الزمر : 53 ]

 هذا نسب تشريف ، وتكريم ، وتقريب ، لأن الإنسان هو المخلوق الأول الذي قَبِلَ حمل الأمانة ، وقال : أنا لها يا رب ، فلما قبل حمل الأمانة سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، ولاشكَّ أن المسخَّر له أفضل ألف مرة من المسخَّر ، فكل الكون مُسَخَّر لهذا الإنسان ، فهذا الإنسان المخلوق الأول الذي نسبه الله إلى ذاته العليا نسبة تشريف وتكريم ، هو الذي يغفل عن الله عزَّ وجل ، بينما ما من مخلوقٍ على وجه الأرض ، بل ما من مخلوقٍ في الكون إلا ويسبِّح الله سبحانه وتعالى ، فربنا عزَّ وجل يقول :

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾

[ سورة نوح : 10-14]

 فالإنسان حينما يتعامل مع الله كقوةٍ وحيدةٍ في الكون ، فعالٍ لما يريد ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، أكبر آفة في الدين هي الشرك ، أكبر آفة في الدين أن تعزو الأمر إلى غير الله ، أكبر آفة في الدين أن ترى مع الله آلهةً عديدين يتحرَّكون ، أما إذا رأيت إلهاً واحداً بيده مقاليد السماوات والأرض ، وهو قريبٌ منك ، أقرب إليك من حبل الوريد فلن تعبد غيره .

 

الحكمة من تثبيت أشياء و تحريك أشياء :

 لماذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يثبِّت أشياء ويحرِّك أشياء ؟ الفَلَك ثابت ، الشروق ثابت ، الغروب ثابت ، ممكن أقول لك : بعد ألف وثمانمئة سنة تشرق الشمس في السادس من شباط الساعة الخامسة وثلاث دقائق . الله ثبَّتها ، لا تحتاج إلى دعاء شروق ، ولا دعاء غروب ، ولا دعاء تحريك ، لكن حرَّك الرزق .
 قبل أسبوع التقيت مع شخص ، لم يفسر جفاف الأمطار أنه تأديب إلهي ، تضييق ، قال لي : خط المطر عندنا خط جاف ، وهذا الخط سيتبدل ، ورسم الأمر على أنه مجرَّد جفاف ناتج عن حركة الأرض غير المعروفة ، هناك حركات متعددة ، وانتهى الأمر .
 أحياناً ربنا عزَّ وجل يفاجئ هؤلاء الذين عزوا هذا التقنين إلى أنه شيء طبيعي ، ليس له علاقة بالتربية الإلهية ، لكن أحياناً الإنسان يفسر التقنين تفسيراً إلهياً ؛ أن الله عزَّ وجل أراد هذا التقنين كي نتوجَّه إليه بالدعاء .
 الآن أحد أخواننا سافر إلى منطقة خارج دمشق ، وقد قلقت عليه ، فأخبرته فلم أجده البارحة ، الآن أخبرته بالسحور قال لي : ارتفاع الثلج خمسة وعشرون سنتيمتراً في الزبداني ، واستغرق الطريق ساعتين ، معنى هذا الله عزَّ وجل أعطى ، وإذا أعطى أدهش ، وهذا بفضل الدعاء ، وبفضل ليلة القدر ، أي لا يوجد إنسان بالقُطر - من دون استثناء - إلا يدعو الله بالسُقيا مرات ومرات ، وهناك أناس دعوا واللهِ بإخلاص ، وبتوجه إلى الله ، وبافتقار إلى الله ، فقال العلماء : الدعاء يقوي العقيدة .

الدعاء يقوي العقيدة :

 أنت في ظرف صعب جداً وتخاطب خالق الكون ، وإذ الأمر يتبدَّل على خلاف المألوف ، فالإنسان يجب أن يعرف أن الله عزَّ وجل جعلك أقوى مخلوق بالدعاء .
 الآن من دون دعاء تصور أن الهيئات الحاكمة بالقارات الخمسة - أعتقد توجد مئتان وعشرون دولة بالعالم - بهذه الدول كلهم اجتمعوا بمؤتمر قمَّة ، وقرروا إنزال المطر ، هل تنزل المطر ؟ فأقوى قِوى ، الأشخاص الذين هم في بلادهم أقوياء ، واتخذوا قراراً بإنزال المطر ، المطر لا ينزلها إلا خالق السماوات والأرض ، فهذا الدرس لنا ، درس قوي ، لكن كي لا يُغش الإنسان ما كل استجابة دليل تقدير ، هناك استجابة تشجيع .
 ذكرت لكم من قبل أن في بعض البلدان في مصر يوجد جوائز للدولة تقدمها للمتفوقين ، فعندهم نوعان من الجوائز ؛ نوع تقديري ، ونوع تشجيعي ، فقد يكون الإنسان أديباً كبيراً ، أو عالِماً كبيراً يعطونه جائزة تقديرية ، وهناك إنسان ناشئ ، عوده فتيّ ، يعطونه جائزة تشجيع ، فنحن دعونا الله عزَّ وجل ، وافتقرنا ، وتذللنا ، وتضرعنا ، لكن يبدو لسنا على ما ينبغي أن نكون ، ومع ذلك الله عزَّ وجل استجاب استجابة تشجيع ، هذا يجب أن يحملنا على مزيد من الطاعة لله عزَّ وجل ، فقد كان السلف الصالح كل إنسان يراجع حساباته ، يراجع بيته ، يراجع عمله ، إذا عنده معصية ، مخالفة ، تقصير ، تجاوز ، شيء لا يرضي الله في بيته ، شيء لا يرضي الله في عمله ، يوجد دخل مشبوه ، إنفاق مشبوه ، علاقة مشبوهة ، ظُلم ، تجاوز :

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 82]

الأدب مع الله أثناء الدعاء :

 الدين كله يلخَّص بالتوحيد ؛ ألا ترى مع الله أحداً ، ألا ترى مع الله فعَّالاً ، ألا ترى مع إرادة الله إرادةً ، لا يوجد إلا الله عزَّ وجل ، فإذا أيقنت أنه لا إله إلا الله توجهت إليه وحده .
 أنا من يومين أو ثلاثة التقيت مع أحد العلماء ، قلت له : واللهِ أنا راضٍ بقضاء الله وقدره ، وموقن بحكمته التي لا حدود لها ، ولكن كنت أتمنى على الله عزَّ وجل ألا يُشْمِتَ بنا الطرف الآخر لأننا دعونا الله ، وصلينا صلاة استسقاء ، وعملنا ابتهالاً ، وبكينا ، وخشعنا ، فالطرف الآخر يستهزئ بنا ، فلمَ لم يستجب الله لنا في الوقت الذي توقعنا أن يستجيب به ؟ كأن هناك الطرف الآخر شمت ، أي سخروا من الاستسقاء ، وسخروا من الدعاء ، ولكن يبدو أن حكمة الله شاءت أن تكون الاستجابة في ليلة القدر ، فاشكروا الله عزَّ وجل من أعماقكم .
 وقد اطلعت البارحة على أحوال الطقس ، حسب ما وجدت حتى أربعة أيام قادمة توجد أمطار تقريباً ، إن شاء الله ، وهذا حسب ما قرأت ، فاشكروا الله عزَّ وجل على هذه النعَم ، وعاهدوه على التوبة النصوح ، ولا يوجد أجمل من مؤمن له علاقة مع الله عامرة ، خطه مع الله ساخن ، الواحد يرفع السماعة فلا يجد صوتاً ، فبقدر ما يكون جهاز غالياً وليس فيه هذا الصوت فليس له قيمة ، أما هذا الجهاز من ثلاثين سنة ولكن به صوت ، تخبِّر فيه ، فيا ترى الخط مع الله حار أم مقطوع ؟ بالاستقامة والدعاء يصبح الخط حاراً ، إذا توجَّه الإنسان إلى الله بالدعاء والإخلاص ، وتوجَّه له بالإنابة والتوبة ، فالله عزَّ وجل لا يخيِّب ظنه .
 هناك دعاء في حديث شريف إذا الإنسان تأمَّله يقشعر بدنه ، أنا سأمهد له بمثل تكلمت عنه سابقاً ، هكذا مثل تركيبي : شخص الدنيا شتاء يلبس قميصاً ، وفوق القميص كنزة جديدة ، كمها ماسك ، وفوق الكم كم الجاكيت ، وكم المانطو ، ولابس الكفوف ، ويحمل حقيبتين بيده ، فسأله طفل : كم الساعة يا عم ؟ أغلب الظن أنه سيضع الحقيبتين على الأرض ثم يرفع يخلع كم المانطو ، وكم الجاكيت ، وكم الكنزة ، وكم القميص ويقول له : واللهِ الساعة السابعة يا عم . رجل كبير لم يستطع ألا يستجيب لطفل صغير ، لسؤال ، إن الله حيي كريم ، الحياء من الإيمان ، والله عزَّ وجل حييٌ ، النبي وصف ربنا فقال :

(( إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما خائبتين ))

[ الدر المنثور في التفسير المأثور عن أنس ]

 الله يستحي من عباده إذا سألوه ولم يستجب لهم ، فهذا الشيء يعلمنا الأدب مع الله عزَّ وجل ، أنت اسأله بأدب ، وبإخلاص ، ويجب أن تعرف أننا عبيد لله عزَّ وجل لا نملك شيئاً، نملك الدعاء فقط ، إذا استجاب يكون قد أكرمنا ، وإذا ما استجاب تكون هناك حكمة بالغة لا نعلمها نحن إلا بعد حين .

 

الدعاء المستمر والشكر الدائم لله :

 أنا أردت أن أنطلق من قوله تعالى :

﴿ قل يا عبادي﴾

[سورة الزمر : 53 ]

 أي أن الله عزَّ وجل نسبنا إلى ذاته نسبة تشريف ، إذا قلت : فلان دمشقي ، هذه نسبة حقيقية ، هو وُلِدَ في الشام ، ويعيش في الشام ، أما :

﴿ قل يا عبادي﴾

[سورة الزمر : 53 ]

 الله عزَّ وجل خصَّ الإنسان من بين كل المخلوقات فنسبه إلى ذاته العليَّة ، فلا يليق بنا أن نعصيه ، ولا يليق بنا أن نغفل عنه ، ولا يليق بنا ألا نطيعه ، فقد قال الله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 102]

 حق التقوى أن تطيعه فلا تعصيه ، وأن تذكره فلا تنساه ، وأن تشكره فلا تكفره .
 فماذا يمنع إذا أكرم الله عزَّ وجل الإنسان بشيء أن يسجد مباشرة لله سجود الشكر ؟ النبي علَّمنا صلاة الشكر ، هذه تكون بينك وبين الله عزَّ وجل ، نجحت بامتحان ، صفقة بيعت ، مشكلة انحلَّت ، عقبة تذللت ، شخص مخيف الله صرفه عنك ، شبح مصيبة الله أنجاك منه ، فكلما وجدت نفسك في خطر ثم نجوت منه صلّ صلاة الشكر ، لقوله تعالى :

﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾

[سورة إبراهيم : 7 ]

 والله عزَّ وجل يقول :

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

[سورة النساء : 147 ]

 الله ليس نداً لنا .

((لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم ، وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحدِ منكم ، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً ، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ ، يا عبادي إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ، ثم أُوفّيكم إيَّاها ، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ))

[ مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

 فنموا العلاقة مع الله عزَّ وجل ، اجعل الدعاء مستمراً .

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾

[سورة المعارج : 23]

 معقول الإنسان يصلي دائماً ؟ هكذا الآية ، دائماً يتوضأ ويصلي ، يريد أن يذهب إلى عمله ، عنده ثماني ساعات عمل ، أين بقيت الآية ؟ العلماء فسَّروها بالدعاء ، هو مع الله بالدعاء ، متصل مع الله بالدعاء ، حتى الإنسان ممكن أن يدعو الله عزَّ وجل وهو ساكت ، وهو مطبق الشفتين تماماً .

﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾

[ سورة مريم : 3]

 وربنا عزَّ وجل أقرب إليك من حبل الوريد ، يحول بين المرء وقلبه ، فعوِّد نفسك الدعاء ، قبل أن تقوم بعمل ، قبل أن تسافر ، قبل أن تواجه شخصاً ، قبل إنجاز عمل قل : يا رب تبرأت من حولي وقوتي وعلمي ، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك يا ذا القوة المتين .

 

التولي والتخلي :

 والله أيها الأخوة يكاد يكون ملخص الملخص أنك أنت دائماً بين حالتين ، إذا قلت : الله مفتقراً ، تولاك الله ، وإذا قلت : أنا معتداً بنفسك ، تخلَّى الله عنك . وقد يكون الإنسان ذكياً جداً ، ومتفوقاً جداً ، الله يجعل تدميره في تدبيره ، يفكر ، يفكر ، يفكر ، يجمع ، يطرح ، يقسِّم ، يضرب ، يخطط ، فيهلك بهذا التدبير ، إذا تخلى الله عن إنسان يجعل تدميره بتدبيره ، يجعل عقله سبب هلاكه ، يجعل خبرته سبب بلائه ، وإذا إنسان أكرمه الله وتولاه يخدمه عدوه ، يخدمه أقرب الناس له ، يخدمه أبعد الناس عنه ، يخدمه المُحِب ويخدمه العَدو ، فالعبرة أن نكون معه ، وأن يكون بيننا وبينه خطٌ ساخن .
 يوجد أخ من أخواننا - والله لا أراه هذه الأيام - قال لي : أنا كنت شارداً شروداً شديداً، أي لا توجد معصية إلا واقترفها ، وبعد سن معينة أصيب بأزمة قلبية ، فأخذوه إلى العناية المشددة ، قال لي : أنا أيقنت بالموت ، وليس لي عمل ، ولا صلاة ، ولا صوم ، ولا استقامة ، ولا شيء إطلاقاً . أي أنه خاف خوفاً شديداً ، فقال لي : أنا تكلمت مع ربي فقلت : يا رب سأقابلك وأنا خالي اليدين ، هو يقصد أن يعطيه مهلة عدة أيام لكي يتوب ويعمل عملاً صالحاً ، الله أعطاه مهلة ، يبدو أنه ذاق حال أهل القرب ، صلى ، تاب ، بكى في الصلاة ، قال لي : كأن جبالاً أزيحت عن صدري ، شعرت حالي خفيفاً وكأني أطير طيراناً ، أنا ألمحه بالدرس يبكي كثيراً ، لزم الدروس كلها ، لم يترك درساً لم يحضره ، من الطاغوسية ، للأحمدية ، يوم السبت ، للأحد ، للاثنين ، للجمعة ، للخطبة ، قال لي : أنت تغيب ثلاثة أيام عنا وأنا لا أتحمل ، يريد لقاءات أكثر ، فكلما كانت لدي سهرة أو موعد أدعوه إليه ، فقال لي كلمة : أنا أناجي ربي أنه يا ربي كل هذه السعادة بالقرب منك ، لماذا لم ترسل لي هذه الجلطة قبل عشر سنوات ؟ معنى هذا أن الله أذاقه طعم القُرب ، طعم القرب لا يقدَّر بثمن ، أنه أنت قريب من الله ، العلاقة بينك وبينه متينة ، هذا معنى قول الشاعر :

فليـتك تحـلـو والـحيـاة مـريــــــــــــرةً  وليتك ترضـى والأنـامُ غضاب
ولـيت الـذي بيـني وبيـنك عـامــــــرٌ  وبيـني وبين العالميـن خـرابُ
إذا صحَّ مـنك الوصـل فالـكل هينٌ  وكـل الذي فوق الترابِ تـرابُ
***

من أقام علاقة متينة مع الله وجدها في قبره نوراً :

 أيها الأخوة ؛ ليس لنا إلا الله عزَّ وجل ، وكل إنسان يقيم علاقة متينة مع الله عزَّ وجل هذه يلقاها في قبره نوراً ، القبر لا أحد يحسب حسابه أبداً ، يقول لك : والله بيتي واسع ، رتبته ، عملت تدفئة مركزية ، عملت تكييفاً ، فهذا القبر هل كيفته ؟ عملت له تكييفاً مركزياً ؟ ماذا في القبر ؟ من كل شيء إلى لا شيء ، إلى متر ونصف ، وقد يكون القبر حفرة من حُفَر النيران ، هذا القبر يعمَّر بالعمل الصالح ، يعمر بالتوبة ، يعمر بالإنابة ، فالقضية أخطر من أنه حضرنا درساً والأستاذ تكلم كلمة حلوة ، القضية أعمق بكثير ، القضية قضية مصير أبدي . والله كلَّما أرى جنازة أقول : هذا انتهى خُتِمَ عمله ، يا ترى إلى أين ذاهب ؟ هل كان يعدّ لهذه الساعة؟ لا أحد يستطيع أن ينكر الموت ، ولكن الناس يتفاوتون بمدى الاستعداد له ، يا ترى هذا الميت عليه ذمم ؟ أكل مالاً حراماً بزمانه ؟ يا ترى كانت له علاقات مشبوهة مع النساء ؟ كانت له تطلعات لا ترضي الله عزَّ وجل ؟ كان عنده أساليب ، بنى مجده على أنقاض الناس ؟ ضحك على الناس ؟ احتال على الناس ؟ الآن صار أسير عمله ، أما الإنسان الذي يموت طائعاً ، والله يوجد ميتة شهد الله الإنسان يتمنى أن يكون مكان صاحبها ، وهو ساجد ، وهو في جامع ، وهو في عبادة ، بأعلى درجة من القرب من الله ، الله قبضه ، يوجد حالات بالموت شيء لا يوصف، فنحن لنجتهد أيها الأخوة ، لأن الله لم يكلِّفنا فوق طاقتنا ، ما أودع فينا شهوة قوية وقال لك : هذه ممنوعة ، كل شيء أودعه فيك له قناة نظيفة ، قال لك : هذه مسموحة ولكن بهذا الشكل ، لا تتجاوز ، الله يلهمنا الصواب ويلهمنا الشكر .

الإنسان أسير عمله :

 إذا صار صفاء برمضان ، إذا صار قرب برمضان ، البطولة أن يستمر معك طوال العام ، لا تضيِّع ، فإسلامنا ليس إسلام مناسبات ؛ والله برمضان أصحاب دين بعدما انتهى رمضان رجعت حليمة لعادتها القديمة ، هذه ليست واردة على الإطلاق ، الذي حققته برمضان يجب أن يستمر ؛ صلاة الفجر ، قراءة القرآن ، غض البصر ، ضبط اللسان ، ضبط الدخل ، ضبط الإنفاق ، تربية الأولاد ، الذي حصل برمضان يجب أن يستمر طوال العام ، فأساس رمضان أن الله قوَّى لك إراداتك على الطاعة من أجل أن تألف الطاعة إلى آخر العمر ، فرمضان شحنة ، والآن انتهى رمضان .
 تكلمت البارحة أننا كنا نقول : رمضان الأربعاء أم الخميس ؟ جاء الخميس ، الآن نقول : العيد الجمعة أم السبت ؟ الحياة مثل الحُلم ، أول يوم صلينا ثم الثاني فالثالث صار لنا خمسة أيام ، وبعدها عشرة أيام ، خمسة عشر ، عشرون ، خمسة وعشرون ، ثلاثون ، انتهى رمضان ، والعمر كله هكذا ، الوقت يمضي سريعاً كلمح البصر ، فجأةً بين يدي الله عزَّ وجل ، انتهى كل العمل ، ختم العمل ، فأنت صرت أسير عملك .
 قلت لكم مرة : شخص باع أرض ، وأخذوها منه بعض الظُّلام بربع قيمتها ، ضحكوا عليه وهو لا يعرف ، الذين عمروا الأرض ثلاثة أشخاص ؛ واحد منهم مات بحادث ، والثاني وقع من البناء فوقع ميتاً ، عمروا بناء ارتفاعه حوالي اثني عشر طابقاً في جدَّة ، الثالث انتبه للقصة أن الموضوع خطير جداً ، بحث عن البدوي فوجده و أعطاه ثلاثة أمثال الثمن ، برَّأ ذمته ، قال له البدوي : ترى أنت لحقت حالك .
 فكل واحد يلحق نفسه الآن ، مادام القلب ينبض فليدرك نفسه ، إذا عليه ذمة قديمة ، حتى لو كان هناك ذمة صاحبها مات تصدق بها ، كل شيء يتعدَّل ، مادام القلب ينبض فكل شيء يحل ، عندما يقف القلب لم يبق أي حل ، صار الإنسان رهين عمله ، وعنده القبر ، إذا كان فرعون

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾

  هذه القصة من ثلاثة آلاف سنة والخير إلى الأمام .

﴿ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾

[سورة غافر : 46]

 هل من السهل أن تقول :

﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ ﴾

[سورة القصص : 4 ]

(( دَخَلت امْرَأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ ربطتها ، فلم تُطْعِمها ، ولم تَدَعْها تأْكُل مِن خَشاشِ الأرض ))

[البخاري عن عبد الله بن عمر ]

 فاستحقت دخول النار ، هذا الذي يغتصب بيت إنسان ، الذي يظلم إنساناً ، يضحك على إنسان ، يحتال على إنسان ، يأخذ منه محله التجاري غصباً ، يأخذ ماله ، يزني بزوجته ، يشعر أنه فهيم ، وشاطر ، وبطل ، ويعرف كيف يعيش ، ومبسوط ، وهو يضحك على الناس كلها ، هذا أحمق ، في أي لحظة هو في قبضة الله عزَّ وجل ، فكل بطولتك أن تكون مطيعاً لله، وكل الغرور والحمق أن يغتر الإنسان بقوته ، أو بماله فينسى الله عزَّ وجل .
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ، وأن يسلمنا ، وأن يعطينا سؤلنا .

 

تحميل النص

إخفاء الصور