- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات
العطاء هو السمة الأساسية الجامعة المانعة للإنسان المؤمن :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة والخمسين وهي قوله تعالى:
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56) ﴾
الحقيقة التي لابد من التمهيد بها في هذا الموضوع ولهذه الآية أن البشر عند الله صنفان لا ثالث لهما، في قوله تعالى:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4) ﴾
الآن الصنف الأول:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) ﴾
الحسنى هي الجنة، صدق أنه مخلوق للجنة، وبناء على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، وبناء على إيمانه بالجنة جعل همه الأول العمل الصالح، والعمل الصالح عطاء، تعطي من وقتك، من مالك، من جهدك، من شأنك، من حكمتك.
إذاً: البشر عند الله على اختلاف مِلَلهم، ونِحَلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، هم عند الله صنفان لا ثالث لهما، الصنف الأول صدق أنه مخلوق للجنة، وبعد هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، طبق منهجه والتزم الأمر والنهي، وهذا الإنسان بعد أن آمن هذا الإيمان بنى حياته على العطاء، أعطى مما أعطاه الله، لذلك قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
فإذا أردت أن تسألني عن سمة أساسية جامعة مانعة للإنسان المؤمن هي العطاء.
البشر عند الله صنفان لا ثالث لهما :
1 ـ رجل عرف الله فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة :
لذلك أحد كبار المؤلفين في السيرة ألّف كتاباً عن حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- وقدّم له بمقدمة رائعة قال:
لذلك قالوا: يقع على رأس الهرم البشري زمرتان؛ الأقوياء والأنبياء، الأقوياء: أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء: أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء: ملكوا الرقاب، والأنبياء: ملكوا القلوب، الأنبياء: عاشوا للناس، والأقوياء: عاش الناس لهم، وكل إنسان على وجه الأرض لابد من أن يكون تابعاً لقوي أو نبي، فالبطولة أن تكون تابعاً لنبي، لذلك الآية الكريمة:
2 ـ و رجل غفل عن الله فتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فهلك في الدنيا والآخرة
الصنف الثاني:
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) ﴾
لماذا استغنى عن طاعة الله؟ لأنه آمن بالدنيا ولم يؤمن بالآخرة، لماذا بنى حياته على الأخذ؟ لأنه آمن بالدنيا ولم يؤمن بالآخرة، فهذا الذي بخل، واستغنى، وكذب، العقيدة تكذيب، السلوك أخذ، الإساءة واضحة في سلوكه، أنا أرى ولن تجد على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة صنفاً ثالثاً:
هذا الذي كذب بالآخرة، وصدّق الدنيا، هذا الذي بنى حياته على الأخذ سيموت، وقد يترك ثروات طائلة، بعد أن قال الله -عز وجل-:
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)﴾
لذلك أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، فالبطولة ألا تندم، لأن الإنسان حينما يخطئ سوف يندم.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36) ﴾
﴿
مستحيل، فلابد من يوم يُحاسَب فيه الإنسان عن كل عمل عمله في الدنيا.
بطولة الإنسان أن يعيش المستقبل وأخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا :
البطولة لا أن تعيش الماضي، كنت، وسافرت، وأنفقت، واشتريت، وبعت، ولا أن تعيش الحاضر، لكن البطولة أن تعيش المستقبل، وأخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا. ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لذلك الآية التي سبقت هذه الآية هي قوله تعالى:
﴿
الإنسان إذا ابتعد عن الله مقاييسه مادية، فإذا رأى إنساناً غنياً، قوياً، له بيت فخم جداً، مركبة فارهة، يتمتع بسيطرة على الآخرين، يقول: هنيئاً له، لكن إذا عرفت الله لا تقل هنيئاً إلا للمؤمن: إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله. لا يمكن أن تصح التهنئة الحقيقية إلا إذا عرف الله.
ضعاف الإيمان ينافقون للمؤمنين لابتغائهم الدنيا :
الآية دقيقة جداً:
طبعاً من بديهيات اللغة أنه إذا سألك إنسان كم الساعة؟ تقول له: الساعة السابعة، متى تقسم له؟ إذا أنكر عليك، معقول الساعة السابعة؟ تقول: والله الساعة السابعة، مثلاً، فالإنسان يحلف حينما يقع في موقف إنكار، فهؤلاء المنافقون، والمنافق في الأساس كافر، لكن حياته مع المؤمنين فاضطر أن ينافق للمؤمنين، عندنا بالأساس:
التفكر في خلق السموات والأرض أقصر طريق إلى الله :
لكن القرآن الكريم في أول البقرة بيّن أصنافاً ثلاثاً؛ هناك مؤمن واضح وضوح الشمس:
(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))
الأمور في الإسلام واضحة، لا يوجد أقبية أبداً، العمل تحت ضوء الشمس، جِهَاراً نَهاراً، هذا دين الله، دين الله لا يُستحيَا به، ولا يخاف إنسان أن يطبقه، منهج الله -عز وجل-، السبب أن الإنسان أعقد آلة في الكون هذا تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، الإنسان يتمتع بخصائص حتى في جسمه لم يصل أحد إلى نهايتها، إذا بالدماغ مئة وأربعون مليار خلية سمراء استنادية لم تُعرَف وظيفتها بعد، إذا كان هناك أربعة عشر مليار خلية قشرية، إذا كانت الذاكرة مكانها في الدماغ القشرة حجمها بحجم حبة العدس، تتسع لسبعين مليار صورة، فالإنسان معجِز في خلقه، والله عز وجل قال:
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21) ﴾
الله جعل جسمك أقرب آية إليك، لأن التفكر في خلق السموات والأرض هو في الحقيقة أقصر طريق إلى الله، بل هو أوسع باب ندخل منه على الله، لأن التفكر في خلق السماوات والأرض يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله.
برأس الإنسان ثلاثمئة ألف شعرة تقريباً، لكل شعرة وريد، وشريان، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية، وغدة صبغية، بعينه هناك الطبقة القرنية هذه شفافة شفافية تامة، ما معنى شفافة شفافية تامة؟ أن هذه الطبقة القرنية تتغذى بطريقة تنفرد بها، الخلية الأولى تأخذ غذاءها وغذاء جارتها، وينتقل الغذاء من خلية إلى خلية عبر الغشاء الخلوي، فلو كان الغذاء بالعين عالشبكية على أساس أوعية دموية لرأيت ضمن شبكة، لكن الله -عز وجل- قال:
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)﴾
فالإنسان إن أراد أن يعرف الله فليتفكر في خلق السموات والأرض، وليتفكر في جسمه.
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) ﴾
إلى شرابه، مم خلق؟
﴿ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) ﴾
تداول الأيام بين الناس :
إذاً: أنت حينما تؤمن الإيمان الذي أراده الله لابد من أن تستقيم على أمر الله، أما المنافق فليس على أمر الله، مع مصالحه، وشهواته، ومكانته، لكن وُجِد في مجتمع الإسلام قوي فينافق، عامة الناس إما أن ينافقوا لأهل الحق إذا كان الحق قوياً، أو ينافقوا لأهل الباطل إذا كان الباطل قوياً، والحقيقة الآية الكريمة:
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ
شاءت حكمة الله المطلقة أن يكون تداولاً بين الحق والباطل، لو كان الحق مسيطراً دائماً لارتفعت نسبة المنافقين إلى درجة مذهلة، لو كان الباطل مسيطراً الإيمان يضعف، فالله لحكمة بالغةٍ بالغة جعل الحق والباطل يتداولان القوة، مرة يكون القوي هو المؤمن، ومرة يكون غير المؤمن هو القوي، على كلٍّ الإنسان يُمتَحَن في الحالتين.
صيغة ليس منا من أشد صيغ الردع في سنة النبي عليه الصلاة والسلام :
لذلك أريد أن أبين أن في بعض الأحاديث النبوية أحاديث كثيرة تبدأ بقول النبي الكريم:
(( من غشنا فليس منا ))
ما قولكم أيها الإخوة أن الإنسان إذا غش بنص كلام النبي الصحيح ليس من أمة محمد.
(( من غشّ فليس منا ))
أنت تغش هناك كذب، المؤمن لا يكذب، تعلن عن بضاعة من مصدر معين غالية جداً هي ليست كذلك، فأنت إذا أردت أن تفرز الناس وفق هذه الأحاديث فهناك مشكلة كبيرة جداً.
الغاش كاذب، الغاش يقدم بضاعة سيئة تحت مسمى بضاعة جيدة، الغاش يؤذي المسلمين، الغاش يسرق أموالهم بطريقة احتيالية:
وأنا أتمنى على الإخوة المشاهدين أن ينتبهوا إلى نصوص كثيرة تبدأ بليس منا، ما بعد كلمة "ليس منا" كلام خطير جداً، النبي الكريم ينفي الإيمان أصلاً عن الإنسان إذا غش.
(( ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن ))
كلام الله، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قرآن يمشي.
عظمة الأنبياء تنبع من انعدام المسافة بين أقوالهم وأفعالهم :
أنا أرى الآن أن الإسلام لا ينتشر ولا يقوى عُودُه إلا إذا رأى الناس مسلماً يمشي أمامهم على قدمين، مسلم يمشي أمامهم، صادق، أمين، متقن لعمله، لأن هذه القيم الأخلاقية لا تعيش في الكتب.
مرة أديب من أدباء مصر الكبار، قال: هناك أدب الكتب، وهناك أدب الحياة، أدب الكتب ينبع من كتب ويصب في كتب، أما أدب الحياة فأنت حينما تلتقي بإنسان صادق وقد صدق فدفع ثمن صدقه غالياً، أو إنسان أمين، هذا له تأثير في حياتك أكثر من ألف كتاب أخلاقي، الإنسان يحب أن يرى القيم ممثلة في إنسان، لذلك:
﴿
عظمة الأنبياء تأتي من أين؟ الناس حينما عايشوهم لم يجدوا في حياتهم مسافة بين أقوالهم وأفعالهم، والآن أي داعية إذا حرص حرصاً لا حدود له على ألّا يرى الناس مسافة بين الأقوال والأفعال هذه الدعوة تنجح، والآية الكريمة دقيقة جداً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)﴾
المؤمن واضح أما المنافق فنراه مع المؤمنين بجسمه لا بأخلاقه ولا بكسب ماله
الحقيقة الآية الكريمة: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ لكن الله ينفي عن هؤلاء أن يكونوا من المؤمنين لأنه يبدو في ظرف معين المؤمنون أقوياء، المنافقون يتقربون إليهم بالنفاق، هؤلاء ليسوا مؤمنين.
﴿
لماذا؟ لأن المنافق أخذ ميزات المؤمنين المادية، وتمتع بوهمه بالتفلت من منهج الله -عز وجل-، جمع بين ميزات المؤمنين المادية وبين التفلت الكامل من منهج الله -عز وجل-، هذا في الدرك الأسفل، أما مع الأسف الشديد فالكافر واضح وضوح الشمس، والمؤمن واضح، من هو الذي يسبب إشكالاً كبيراً في المجتمع؟ المنافق، تراه مع المؤمنين بجسمه لكن ليس معهم بأخلاقه، ولا بكسب ماله، ولا بإنفاق ماله، فهذا أخذ ميزات المؤمنين، وتحرك وفق هوى نفسه من دون ضوابط، فلذلك:
اختلاف مقاييس المؤمن عن مقاييس أهل الدنيا :
إخواننا الكرام، كأن هذه الآية تكمّل آية سابقة، الله -عز وجل- قال:
(( فَأصْلحُوا رِحَالَكُم، وأصلحوا لِبَاسَكُم، حتى تكونوا كأنَّكم شَامَةٌ في النَّاسِ ))
مطلوب، لكن المؤمن مع هذه الأناقة الظاهرة، والنظافة الواضحة هو أخلاقي، هو طاهر من الداخل أيضاً، لا يوجد عنده حقد، ولا احتيال، ولا مخاتلة، ولا مخادعة، لا يوجد عنده موقف معلن، وموقف حقيقي، لا يوجد عنده ظاهر وباطن، عنده شيء للاستهلاك الخارجي، وشيء يعيشه خطأ، هذا شيء دقيق جداً.
فلذلك الله -عز وجل- ينهى المؤمنين،
كل مخلوق يموت ولا يبقـــى إلا ذو العزة والــجبروت
* * *
والليل مهما طــــــــال فلابد من طلوع الـــفجر
والعمر مهما طـــــــال فلابد من نزول الـــقبر
* * *
علة وجود الإنسان في الدنيا أن يعرف الله عز وجل :
البطولة أن تعيش المستقبل، والله -عز وجل- قال:
﴿
إذاً ينهانا الله -عز وجل- عن أن نُعجَب بأموالهم وأولادهم، الفخامة، والأناقة، والغنى، والإنفاق الفلكي، والدخل المتميز،و، و... إلى آخره، أنت في الحياة بمهمة.
إذا كان في صف بمدرسة البطولة الدراسة، والاجتهاد، والنجاح، أما مقعد على النافذة مسلٍّ، فهذا المقعد لا يقدم ولا يؤخر في مستقبل هذا الطالب، فإذا هو حرص على مقعد إلى جانب النافذة كي يتسلى أثناء الدرس، أو أتى بطعام نفيس جداً، شطائر مثلاً، أو لعبَ ألعاباً أمامه على كمبيوتر مثلاً، والدرس قائم، يكون قد ابتعد عن علة وجوده، فالبطولة أن تعرف علة وجودك في الدنيا، أنت في الدنيا من أجل أن تعبد الله،
الله -عز وجل- في آية سابقة قال:
الحكمة من جعل القرآن الكريم عربياً :
إخواننا الكرام، من لقطات اللغة العربية، لماذا الله -عز وجل- جعل هذا القرآن عربياً؟ قال:
﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195) ﴾
طبعاً علماء اللغة يؤكدون أن اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية، كلام موضوعي ليس لأننا عرب، لا، من أرقى اللغات الإنسانية.
مثلاً، أنت تقول باللغة نظر، وهناك رأى، ولمح، ولاح، وحدّج، وحملق، وبحلق، ونظر شزراً، وشَخَصَ، هناك مئة كلمة للنظر، شخصَ: النظر مع الخوف، حدّجَ: النظر مع المحبة، "حدِّث القوم ما حدّجوك بأبصارهم"، رنا: النظر مع المتعة، منظر جميل، بحر صافٍ مثلاً، فكل كلمة نظر معها فعل ثان، معها خاصة ثانية، فاللغة العربية متسعة بالتعبير، والذين درسوا اللغة العربية كاختصاص يأتون بأقوال لكبار علماء اللغة في العالم، يقولون: هذه اللغة من أرقى اللغات الإنسانية، لأنها لغة متصرِّفة، لغة متصرفة أي عندك فعل ثلاثي عرف، اسم الفاعل عارف، اسم المفعول معروف، صيغة المبالغة عرّاف، المصدر معرفة، اسم فاعل، اسم مفعول، اسم آلة، اسم زمان، اسم مكان، صيغة تفضيل، اللغة العربية لغة اشتقاقية، يمكن أن تولّد من كلمات محدودة آلاف الكلمات، لغة اشتقاقية، تنفرد بها، مثلاً: كتاب، هذا مكتب، الآن كتب: فعل ثلاثي كتب، كتب فعل ماض، الطاولة مكتب، هذا كتاب، من لغة واحدة، باللغة الأجنبية: "تيبل، بوك، رايت" هذه من فعل، وهذا من فعل، وهذا من فعل، فاللغة العربية لغة اشتقاقية، إذا الإنسان تبحر في خصائص هذه اللغة يعلم لماذا اختارها الله لغة لكلامه، والحقيقة المؤلمة جداً، والله سافرت إلى بلاد كثيرة، لكن مرة سافرت إلى أستراليا، وزرت أضخم مدرسة فيها، مكلفة عشرات الملايين من الدولارات جمعوا لي الطلاب في قاعة كبيرة، وأنا حينما أبلغوني أنه سنأتيك بمترجم لأن أبناء الجالية الإسلامية لا يعرفون اللغة العربية إطلاقاً، بينما أعداؤنا أي طفل من أطفالهم يتقن اللغة التي نشأ عليها آباؤهم، وهذه مشكلة كبيرة جداً.
فاللغة هي وعاء الثقافة، والنبي أشار إلى هذا المعنى، وهذه النظرية تتفق مع أحدث نظرية في القومية، كلام النبي الكريم: "
(( ليست العربية بأحدكم من أب و لا أم، ولكن من تكلم العربية فهو عربي". ))
إذا الإنسان تكلم هذه اللغة أخذ ثقافة الأمة، أخذ قيمها، أخذ مبادئها، أخذ مقاييسها الجمالية:
اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية :
نحن كمسلين قد تعيش مع كتاب البخاري عشرات السنين، ولا يخطر على بالك لثانية واحدة أنه ليس بعربي، لأن الإسلام جمعنا جميعاً، ودائماً حينما نريد أن نقوى يجب أن نعلن انتماءنا لمجموع المسلمين، الآن أحدث رقم للمسلمين مليار وثمانمئة مليون، يتربعون على مناطق أولى في العالم إستراتيجياً، يملكون ثروات لا يعلمها إلا الله، لكن لو أنهم تعاونوا وتناصروا وتناصحوا لكانوا أقوى قوة في الأرض، والذين ابتعدوا عن الدين أقاموا مجتمعات موحدة، العملة موحدة، لا يوجد قيود في السفر، ينتمون إلى عشرات القوميات، واللغات، وهناك حروب طاحنة بينهم، ومع ذلك اقتضت مصلحتهم أن يجتمعوا، فالأَولى بنا أن نجتمع.
﴿
القاعدة في اللغة القرآنية أن كل أمر يقتضي الوجوب
قال لك إنسان: أمعك مال كي ننشئ شركة تجارية رأس مالها مليون؟ قلت لك: ما معي مال، أي ما معه النصف مليون، الكلفة مليون، والشركة بين اثنين كل واحد نصف مليون، ما معه النصف، أما إذا قال له: ما معي من مالٍ ولا قرش، إذا قال "من" فلها معنى، ما معي من مالٍ، ولا قرش، ولا درهم، أما ما معي مالٌ كافٍ لهذا المشروع، فهذه "من" لاستغراق أفراد النوع.
ومن دقة اللغة: قد تأتي "من" بمعنى في، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
يعني في الأرض، وقد تأتي بمعنى "إلى"، اقتربت منك، أي اقتربت إليك، وقد تأتي بمعنى الباء، أمسكت من يده أي بيده، وقد تأتي بمعنى "عن" لا تبتعد من المكان، وقد تأتي بمعنى "على"، لعل الله ينصرنا من القوم الكافرين، هذه دقة اللغة، قالوا: لولا الحذف والتقدير لفهم كلام العرب الحمير، هذه اللغة من أرقى اللغات الإنسانية.
من أخطر الموضوعات في حياة المؤمن أن يعرف هل هو مؤمن أم لا ؟
لذلك كلمة:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ
الصغير يحتاج إلى أن ترحمه و تعطف عليه :
(( لَيْسَ مِنا مَن لم يَرحَمْ صغيرَنا، ويُوِّقرْ كَبيرنا ))
الصغير يحتاج إلى أن ترحمه، يحتاج إلى أن تعطف عليه، يحتاج إلى أن تحسن إليه، لأن الصغير كما قيل:
مرحلة ملاعبة حتى يتحبب إليك، مرحلة تأديب هذا غلط، هذا حرام، هذا لا يجوز، مرحلة مراقبة، المراهق وضعه صعب جداً، إن عاملته ككبير يخيّب ظنك، وإن عاملته كصغير لا يحتمل ذلك، فيحتاج معالجة حكيمة جداً:
(( (لَيْسَ مِنا مَن لم يَرحَمْ صغيرَنا، ويُوِّقرْ كَبيرنا) ))
في بعض الروايات:
(( ويعرف لعالمنا حقه ))
(( ليس مِنَّا من لم يرحمْ صغيرنا ، ويُوَقِّرْ كبيرنا ، ويأمرْ بالمعروفِ ، ويَنْهَ عن المنكرِ ))
لماذا؟ لأن الله -عز وجل- حينما قال:
﴿
علة هذه الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كفّ الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقدوا خيريتهم كلياً.
علة خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
لذلك:
(( كيف بكم إذا طغَى نساؤُكم وفسق شبَّانُكم وتركتم جهادَكم قالوا وإنَّ ذلك لكائنٌ يا رسولَ اللهِ قال : نعم والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ قالوا وما أشدُّ منه يا رسولَ اللهِ ؟ قال : كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهَوْا عن منكرٍ قالوا وكائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ ؟ قال: نعم والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ قالوا وما أشدُّ منه ؟ قال : كيف أنتم إذا رأيتم المعروفَ منكرًا والمنكرَ معروفًا قالوا وكائنٌ ذلك يا رسولَ اللهِ ؟ قال : نعم والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ , قالوا وما أشدُّ منه ؟ والَّذي نفسي بيدِه وأشدُّ منه سيكونُ , يقولُ الله تعالَى : بي حلفتُ لأُتيحنَّ لهم فتنةً يصيرُ الحليمُ فيها حيرانَ . ))
وقد وصل المسلمين إلى هذا المستوى، فكان عجبهم أشد قالوا:
هذا الزمن زمن تبدل القيم، هذا البيت الذي قاله شاعر في الجاهلية، وعدّه العلماء أهجا بيت قالته العرب:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
هذا الآن شعار كل إنسان، البيت الذي كان أهجا بيت قالته العرب شعار كل إنسان الآن.
ما دام دخله قوياً، ودخله كبيراً، وبيته واسعاً، وعنده سياحة، وسفر، وغارق في الملذات الدنيوية، هذا يعد عند الناس ناجحاً نجاحاً كبيراً، لذلك:
الدنيا لم يسمح الله لها أن تمدَّ الإنسان بسعادة دائمة بل بسعادة متناقصة :
(( ليس مِنا مَن تَشبَّه بغيرنا ))
باي، ما هذه باي؟ السلام عليكم،
(( لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ))
والله مرة قابلني شاب في الشام آلمني جداً، بنطاله فيه ثلاثة ثقوب كبيرة، والله تألمت جداً، كتبت عندي في دفتري الخاص- وكنت مسافراً إلى أستراليا- بعد أن أعود أقدم له بنطالاً جديداً، هناك في أستراليا تفاجأت أن شباباً، أولاد أغنياء كبار أيضاً هناك ثقوب ببنطالهم، إذا كان الغربيون باعوا بنطالاً فيه ثقوب فصار هذا شيء مقدس عند الناس، شاب يرتدي ثوباً فيه رقع أحياناً، فيه تقطيع غير نظامي، شيء مزعج، هذا من ضعف إيمان الإنسان، حياته ملّ منها، الحياة تُمَل بكل شيء، إذا لم يكن هناك هدف كبير، ما السبب؟ هذا موضوع دقيق جداً، الموضوع الدقيق أن الإنسان خلُق لمعرفة الله، فالله زوده بنفس لا نهائية، أي هدف نهائي يملّ منه، أي هدف محدود هو مُصمَّم لمعرفة الله -عز وجل-، إذا اختار هدفاً محدوداً يمل منه، اجلس مع إنسان كبير، مع إنسان غني، تجده ملّ من حياته، هذه الدنيا ما سمح الله لها أن تُمدَّك بسعادة دائمة بل بسعادة متناقصة.
لذلك الآية الكريمة:
الوصف الدقيق للمنافقين :
والتي بعدها:
﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57) ﴾
إذاً خوفهم دفعهم إلى أن يلجؤوا إلى شيء، إلى حصن حصين، إلى ملجأ، إلى مغارة، إلى نفق، خوفهم من الخسران، وأن يُكشَف أمرهم، هم يكذبون، المؤمن لا يكذب، المنافقون يكذبون، يدّعون أنهم مؤمنون ليأخذوا من مكاسب المؤمنين، هم في الحقيقة ليسوا مؤمنين، لذلك هذا الموقف الازدواجي أخلّ بتوازنهم، وكل إنسان يرتكب عملاً سيئاً، أو ينافق، أو يكذب، أو يعبّر عما ليس في نفسه يختل توازنه، فإذا اختل توازنه لجأ إلى -كما يسمى في علم النفس الدفاع عن النفس-، فيلجؤون إلى ملجأ يحتمون به، والملجأ رمز.
والحمد لله رب العالمين.