وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات إسلامية عامة - الدرس : 21 - مرض الغفلة وطول الأمل ينسيان يوم الآخرة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من تذكّر الآخرة فهذا أكبر عطاء له :

 أيها الأخوة المؤمنون؛ بعد الحديث الطويل عن الأنبياء الكرام والمرسلين الكرام ذكر الله عز وجل هذه الآية قال:

﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾

[ سورة ص:45 ]

 أي خصصناهم بمزية، أكرمناهم بشيء، ذكرى الدار، فالإنسان لو دقق بحياته اليومية يوماً بيوم، في اليوم كم مرة تخطر في باله الآخرة؟ يستيقظ ويذهب إلى عمله، ويشتري ويبيع، ويعود إلى البيت، ويأكل وينام، ويلتقي مع أصدقائه، وآلاف الخواطر المادية، وتحقيق مصالحه، وتوسيع بيته، وتأمين حاجاته، في اليوم الواحد، أو في الأسبوع الواحد، أو في الشهر كم مرة يخطر له الدار الآخرة؟ وأنه سيذهب إليها ويترك الدنيا بأكملها؟ فهذه خالصة، أي عطاء نفيس جداً، يقابل هذا العطاء النفيس مرضان خطيران جداً أول مرض الغفلة عن الله، وثاني مرض طول الأمل، يخطط لثلاثين سنة، وهناك شواهد كثيرة، إنسان يموت بحادث لا يخطر في باله أبداً أنه سيموت في هذا الوقت، كل إنسان يتصور أنه بعد الستين، بعد السبعين يعمر، لا، يأتي حادث لم يكن بالحسبان ينهي حياته، أما إذا الإنسان تذكر الآخرة دائماً وسعى لها، قال تعالى:

﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 158]

 آية دقيقة جداً، إن أخلصناهم، أي أكبر عطاء لهم أنهم ذكروا الدار الآخرة.

ضرورة تذكر الموت دائماً لأنه أخطر حدث مستقبلي :

 مرة طالب نال الدرجة الأولى على القطر بالبكالوريا في الثانوية الشرعية، فسئل مرة في الصحيفة: ما سبب هذا التفوق؟ فأجاب إجابة طيبة قال: لأن لحظة الامتحان لم تغادر ذهني ولا دقيقة طوال العام الدراسي، فإذا إنسان تذكر الامتحان، وكيف يدخل إلى الامتحان، وسيأتيه سؤال كيف يجيب على هذا السؤال؟ كيف يرتقي أمام أهله وأمام أصدقائه؟ كيف يحقق نجاحاً ينعكس مستقبلاً باهراً؟ فإذا الطالب من أجل شهادة ثانوية الآن لا تقدم ولا تؤخر لم تغادر مخيلته ساعة الامتحان، فهذه الحياة الأبدية، إنسان يسمع إعلان بالمئذنة أن فلاناً توفي، هذا غادر ولن يعود، منح فرصة لسعادة أبدية وانتهت الفرصة ولم يستطع أن يصلح شيئاً، الإنسان أحياناً يسافر سفرة مدة شهر، يعد لها شهراً، يلزمني أن آخذ الحاجة الفلانية، والحاجة الفلانية، والوثيقة الفلانية، والثياب الفلانية شهر لشهر، أما للأبد.
 تصور إنساناً يعمل في التجارة، ويربح أموالاً طائلة، ثم أمر أن يغادر بلده دون أن يأخذ معه درهماً واحداً، وفي هذا البلد عملة أخرى لا تعترف بما عنده في بلده إطلاقاً، فكل شيء جمعه ملايين مملينة أصبحت ورقاً بالنسبة إليه، ورق، ذهب إلى بلد له عملة ثانية، وهذا ما يحصل للإنسان عند الموت، في الدنيا المال له قيمة، الذي يملك رصيداً كبيراً، الذي يملك عملات أجنبية، وطنية، منقول وغير منقول، أوراق طابو، وأبنية، ومحلات تجارية، ومركبات، وشركات، كل هذه الأموال لا تنفعه شيئاً في الآخرة، العملة المتداولة العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾

[ سورة القصص :24]

 لما سقى للمرأتين - ابنتا سيدنا شعيب- يا ترى الإنسان اليوم الآخر كيف يذكره؟ هل يذكره كل يوم؟ هل هناك عمل في اليوم ترجو به الله والدار الآخرة؟ لا ترجو منه سمعةً ولا مديحاً ولا تألقاً أبداً، ترجو به الله واليوم الآخرة.

﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾

[ سورة ص:45 ]

 والأولى أن يكون للإنسان وقت يومياً لتذكر الموت، لأنه أخطر حدث في المستقبل، مغادرة نهائية، مغادرة من دون عودة.

الغفلة عن الله أكبر مرض يصيب الإنسان :

 الآن يكون الإنسان مقيماً ببلد، يعيش ببحبوحة، وراتبه كبير، أحياناً يأخذ مغادرة بلا عودة، يكاد الدم يتجمد في عروقه إذا رأى مغادرة بلا عودة، معنى هذا أن إقامته انتهت، وعنده محل كلفه خمسين أو ستين مليوناً، انتهى مغادرة بلا عودة، أما هذه المغادرة بلا عودة فسوف تكتب على جوازنا جميعاً عند الموت، يوجد إنسان مات سألوا أهله مساءً: لماذا لم يأتِ إلى الآن؟ لم يأتِ، ذهب ولم يعد، يوزعون حاجاته حتى لا يتذكرونه، لا يبقون شيئاً من آثاره حتى لا يتذكرونه، هذه اللحظة لحظة المغادرة.

﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾

[ سورة ص:45 ]

 لاحظ طالباً لا تغيب عن مخيلته ساعة الامتحان، حينما تأتي الساعة مستعد، أعصابه مرتاحة، هو أعدّ لكل سؤال عدته، الإنسان العاقل لا يفاجأ، الأحداث المستقبلية التي لابد من أن تأتي وقد تأتي سريعاً أو بعيداً، هذه الأحداث المستقبلية مستعد لها، لذلك أكبر مرض الغفلة عن الله.

طول الأمل مرض ثان يصيب الإنسان :

 ثاني مرض طول الأمل، أشخاص كثيرون لهم آمال عريضة، أنا ذكرت قصة أعدتها مئات المرات يمكن أن تنتقدوني على إعادتها، قال لي شخص: أريد أن أسافر إلى الجزائر وأبقى خمس سنوات، وسوف أزور خمس دول؛ مرة فرنسا، ومرة إنكلترا، ومرة إسبانيا.. وأريد أن أنظر إلى متاحف هذه البلاد، ومعالمها، وآثارها، وأعود إلى الشام وأفتح محلاً تجارياً، وأجعله للتحف لأن هذه الأشياء لا تخرب، وليس لها مشكلات مع التموين، يكبر أولادي أضعهم في المحل وأنا آتي صباحاً أطلّ عليهم، قال كلاماً لعشرين سنة، والله في اليوم نفسه قرأت نعوته، حدثني هذا الحديث الساعة الحادية عشرة مساءً، أنا ذاهب إلى بيتي قرأت نعوته، قلت: سبحان الله! إلى أين؟ إلى عشرين سنة.
 مرة جالس في مكان بين اثنين أسمع قصة قال له: لقد أتعبنا فلان هل يمدد الشوفاج بشكل داخلي أم خارجي؟ الداخلي له ميزات أقدر، والخارجي أدفأ، خاف أن يعمله داخلياً فيفسد البلاط، وبعد عشرين سنة الأنابيب تفسد، ونحن ثلاثة أشهر ننتظره، داخلي أم خارجي؟ بعد هذا أخذ قراراً بأنه سيتركه داخلياً، وعندما تفسد الأنابيب بعد عشرين سنة يجعله خارجياً، وبعد سنة قد مات، ترى شخصاً اشترى شقتين في طابق واحد، والبيت ذو إكساء جيد و منته من الكسوة، أعاده على العظم، قلع السيراميك والنوافذ مدة سنتين، وبعد أن سكن بأسبوع توفي، الإنسان يسير في طريق مسدود، طريق مخيف إذا ما عرف الله، إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار.
 مثل آخر؛ إنسان مقيم في بيت أجرة، لو فرضنا نظام الآجار في بلد معين أن مالك البيت يطرد المستأجر لأي سبب، وبأي ثانية، الساعة الثالثة بالليل يخرجه، افرض هذا النظام افتراضاً، وهذا المستأجر معه دخل كبير، فكل دخله صبه في هذا البيت، غيّر السقف، النوافذ، ركب بلاطاً جديداً، في أي لحظة يقول له: اخرج، وكل شيء دفعه بالبيت بقي، وله بيت خارج المدينة على العظم، هذا الدخل الذي يملكه الأولى أن يضعه في البيت المستأجر، أما الأصلي فهذه القصة كلها.
 المؤمن يعمل للدار الآخرة، يعمل للآخرة، يعمل لجنة عرضها السماوات والأرض، قال تعالى:

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[ سورة الصافات : 61]

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطفيفين : 26]

 من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وآتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له.

العاقل من أعدّ للدار الآخرة عدتها :

 أيها الأخوة الكرام: يجب أن نذكر الآخرة، والنبي قال:

(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللّذّاتِ، مفرق الأحباب، مشتت الجماعات ))

(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))

.

[ أخرجه الشيرازي، و الحاكم، والبيهقي، عن علي ]

.

 والعاقل هو الذي لا يندم، فإذا إنسان كل شيء جعله للآخرة لا يندم عند الموت، بالعكس يكون أعقل العقلاء، فهذه الآية عبارة عن كلمتين:

﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾

[ سورة ص:45 ]

 كم مرةً في اليوم تذكر الدار الآخرة؟ وكم عملاً تعمله للآخرة؟ وهل هناك عمل تفعله خالصاً لوجه الله لا ترجو ثواباً ولا سمعةً ولا مديحاً ولا ثناءً؟ المؤمن الصادق له عمل يبتغي به وجه الله، يعمل بصمت ولا يرجو من أحد أي مديح، أي الله أعلم قد يكون العمل بسيطاً والإخلاص شديداً يتألق به الإنسان عند الله، وأكبر مرض يقابل ذكرى الدار الغفلة وطول الأمل، أي الخالصة هذه الميزة الرائعة ذكرى الدار، المرض الغفلة وطول الأمل.
 النبي صلى الله عليه وسلم رسم مستطيلاً بقضيب على الرمل، ورسم خطاً ضمن المستطيل، مدده حتى خرج من المستطيل، فقال: هذا أمل الإنسان وهذا أجله.
 فالإنسان يكون دقيقاً، قال تعالى:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 63]

 النبي كان يمشي مسرعاً، كان إذا مشى كأنه ينحط من صبب، رحم الله عمر ما رأيت أزهد منه، كان إذا سار أسرع، السنة السرعة بالمشي، وفي الآية البطيء في المشي، كيف نوفق بينهما؟ يمشي هوناً لا يسمح للدنيا أن تأخذه، لا يسمح لمشاغل الدنيا أن تستهلكه، لا يسمح لأعباء المعاش أن تنهي رسالته، لا يسمح لهموم البيت أن تلغي دينه، يوجد شخص منفعل، أسير هموم البيت، يوجد عنده مشكلة في البيت، أسير هموم العمل، أسير أولاده، أسير زوجته، هذا مستهلك، هذا منفعل، أما المؤمن ففاعل، يغير بيئته، بدل أن يكون متقيداً بالبيئة، خاضعاً لها، تهمه المظاهر، هو ينتصر على بيئته ويغير معالمها، فالإنسان كلما تقيد بالبيئة المنحرفة المتخلفة الشاردة يكون ضعيف النفس، وكلما انتصر على نفسه يكون قوي النفس.
 مثلاً ممكن نحن أن نعتني بالمظاهر إلى أقصى درجة، ولكن هذه المظاهر سوف تحجبنا عن الله عز وجل، كم زواج معطل! كم من شاب على أعلى درجة من الأخلاق والدين، وكم من شابة على أعلى درجة من الخلق ما الذي يمنع من الزواج؟ المظاهر، لا تسكن بالريف، بل بالمدينة، وفي المدينة لا يوجد بيت إلا ثمنه خمسة ملايين انتهى الزواج، الريف مثل المدينة، وبالعالم كله الريف أرقى من المدينة، ولا تسكن إلا بالمدينة انتهى الزواج، تريد أن تفعل حفلة وهو لا يوجد عنده إمكانية، متى هذه المظاهر نحطمها ونكون واقعيين.

النجاح و الفلاح لمن يعدّ للحظة الموت عدتها :

 أيها الأخوة الكرام؛ مرة ثانية: أكثروا ذكر هادم اللذات حتى نتذكر الآخرة دائماً، لا أحد يتصور إذا دُفن ميت أمامه كيف وضع في القبر، وضعت البلاطة، أهيل التراب، انتهى، أي ملف وانطوى، الآن أسير عمله في الدنيا إلى الأبد، كلمة دقيقة، أسير عمله في الدنيا إلى الأبد، ممكن لا يستطيع أن يصلح مادامت هذه النزلة إلى القبر لابد منها، مرة قرأت كلمة في المغرب: صلِّ قبل أن يصلى عليك، كل مرة ندخل إلى المسجد بشكل قائم، ندخل إلى البيت بشكل قائم، مرة سوف نخرج بشكل أفقي، وهذه مرة واحدة، وهذه لابد منها، فالعقل، والذكاء، والبطولة، والنجاح، والفلاح أن تعد لهذه اللحظة، أنت حينما تولد كل من حولك يضحك، وتبكي أنت وحدك، فإذا جاء الأجل كل من حولك يبكي، الآن بطولتك أن تضحك، وأن تنطبق عليك الآية الكريمة:

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة يس : 26]

 تصور النجاح، النجاح مسعد، النجاح في الدنيا مسعد، نجاح اللسانس مسعد، النجاح بعملك مسعد، والنجاح إلى الأبد، قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران : 185]

 هذا كلام خالق الكون.

تحميل النص

إخفاء الصور