وضع داكن
29-03-2024
Logo
أحاديث ليلة القدر - الدرس : 2 - حقيقة ليلة القدر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

حقيقة ليلة القدر :

 أيها الأخوة الكرام؛ سورة القدر:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

[ سورة القدر :1-5]

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ﴾

 الهاء تعود على القرآن الكريم، أي إنّا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، قال بعض العلماء: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وقال بعضهم: نزل به جبريل عليه السلام جملةً واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا إلى بيت العزة، وقال بعضهم: كان جبريل ينزله على النبي صلى الها عليه وسلم نجوماً نجوماً بحسب المناسبات، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، وقال بعضهم: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر في ليلة مباركة، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

 أما ليلة القدر أي ليلة التقدير هكذا قال القرطبي في تفسيره، أي سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القادمة، من أمر الموت، والأجل، والرزق، وسميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، أو لأن الطاعات فيها لها قدر عظيم، أو لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، أو لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة، أو لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين، أما كلمة

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾

 العلماء قالوا: إذا قال الله وما أدراك فقد أدراك، أما إذا قال الله تعالى: وما يدريك، أي لن تعلم ذلك في كل آيات القرآن، وما أدراك ما القارعة، القارعة كذا وكذا هاهو ذا يدريك، أما وما يدريك هذا للاستمرار، هذا علم استأثر الله به.
 أما معنى

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

 فيقسم فيها الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، أو أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، أو ليلة القدر خير من ألف شهر لا يكون فيه ليلة القدر، أو الألف تعني كل الدهر، الرقم المألوف في اللغة العربية في الجاهلية الألف أعلى رقم أي كل الدهر، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة البقرة :96]

 أما الألف شهر فتساوي ثلاثاً وثمانين سنةً وأربعة أشهر، وعبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها لله عز وجل.

بعض ما في التفاسير عن هذه السورة العظيمة :

 أنقل لكم ما في التفاسير عن هذه السورة العظيمة؛ تنزل الملائكة أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى ومسكن جبريل إلى وسطها فينزلون إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، أما الروح فأشرف أنواع الملائكة وأقربهم لله تعالى، أو إنهم جند من جند الله عز وجل،

﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾

 أي ليلة القدر هي سلامة وخير كلها لا شر فيها.
 قصة قد تناسب هذه الليلة، يمكن قبل عامين أو قبل عام لا أذكر اليهود أرادوا أن يعتقلوا المسلمين من المساجد في جنوب لبنان، فذهبت طائرتان، فيهما مئة وخمسة وعشرون ضابط كوماندوس، وهؤلاء مدربون تدريباً عالياً جداً بالسلاح الأبيض، ويتكلمون اللغة العامية، ويجيدون استخدام الأسلحة المختلفة، والصراع الياباني وما إلى ذلك، والخطة أن يعتقلوا آلاف أو مئات من هؤلاء المسلمين في مساجد لبنان في ليلة القدر، لي صديق كان في الحرم المكي، دعا إمام الحرم على اليهود دعاء زاد عن ربع ساعة وبكى كثيراً، في هذه الربع ساعة بالتوقيت الدقيق في هذه الليلة سقطت الطائرة العليا على السفلى وسقطتا فوق مزرعة مستعمرة، ولم تمنَ إسرائيل بهزيمة في تاريخها منذ أن أسست، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً، كل فرد مكلف خمسة ملايين.
 لأنها سلام هي حتى مطلع الفجر، أنت في عبادة، والله عز وجل شيء طبيعي جداً أنه يدافع عنك، سلام هي حتى مطلع الفجر، سلامة وخير كلها لا شر فيها، أو هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة، وأما تحديدها ففي العشر الأواخر في رمضان.
 يوجد شيء لطيف جداً في هذا الموضوع، قال: إنها مستورة وهي قد تأتي في أي يوم من أيام السنة، بعد قليل سوف أشرح لكم الآية من خط آخر، مستورة في جميع السنة ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي، أو مستورة في جميع رمضان ليجتهد المؤمن في إحياء ليالي رمضان كلها، أو مستورة في العشر الأواخر، العبرة أن هذا الستر مهمته هو أن تجتهد، كيف أن الله أخفى الصلاة الوسطى لكي تجتهد في كل الصلوات، وكيف أن الله أخفى اسمه الأعظم من أسمائه الحسنى كي تظن أن كل اسم من أسمائه اسم أعظم، وكيف أنه أخفى ساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل من أجل أن تجتهد في الإقبال على الله في كل ساعات الجمعة/ وساعات الليل، وكيف أنه أغفل غضبه في بعض المعاصي لتجتنب كل المعاصي، وكيف وضع رضاه في بعض الطاعات كي تقبل على كل الطاعات، وقيام الساعة في كل الأوقات، هذا كله حكمة من أجل أن تجتهد:

(( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة؛ أيضاً من صلى المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظّ من ليلة القدر رحمةً بالمؤمنين:

(( عَنْ مَالِك أَنَّه بَلَغَهم أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا ))

 والسيدة عائشة سألت: ماذا ندعو في هذه الليلة؟ فقال عليه الصلاة والسلام قولي: " اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا كريم " لعل هذه الليلة فيها عتق من النار.
 أيها الأخوة الكرام؛ هذا ما ورد في التفاسير، ولكن القرآن حمّال أوجه ولا حدود لمعاني القرآن الكريم مادامت ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، وروح الدين الإسلامي.

تفاوت المؤمنين عند الله بقدر معرفتهم به :

 الآن التقدير يأتي من قوله تعالى:

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 67]

 أي أنت كلما ارتفعت في سلم معرفة الله كلما قدرته حق قدره، كلما جاءك المدد من الله سبحانه وتعالى، أعلى إنسان قدر الله عز وجل، وعرف رحمته، وعرف عظمته، وعرف جلاله، وعرف غناه، وعرف قدرته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرد الإلهي على هذه المعرفة العالية أن الله أنزل عليه القرآن، أي أنت ترتفع في سلم القرب من الله بقدر معرفتك بالله، فلذلك فرق كبير بين العابد وبين العالم، عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، من هنا كما قلت في الدرس الأول إن الله عز وجل جعل في القرآن الكريم مئة ألف وثلاثمئة واثنتين وعشرين آية كونية من أجل أن تكون هذه الآيات عناوين لموضوعات التفكر، كي نتعرف إلى الله من خلال خلقه، ومن خلال كلامه، ومن خلال أفعاله، من خلال خلقه بالتفكر، ومن خلال كلامه بالتدبر، ومن خلال أفعاله بالنظر والتأمل، فالمؤمنون يتفاوتون عند الله بقدر معرفتهم بالله، وأصل الدين معرفته، وكلما ازدادت معرفتك بالله جاءك المدد الإلهي، والمدد منوع.

حالة التقدير ومعرفة الله وتعظيمه هو ما تعنيه ليلة القدر :

 إن النبي عليه الصلاة والسلام كان قمم البشر في معرفة الله، نزل عليه القرآن وأصبح سيد الأنبياء والمرسلين، المؤمنون بقدر معرفتك بالله يأتيك من الله سمّه السكينة هذه واردة، سمّه التجلي، يتجلى الله على عبده المؤمن، سمّه التوفيق، على كل القدر هنا من معرفة قدر الله عز وجل، ففي اللحظة التي تعرف بها قدر ربك قال تعالى:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾

[ سورة نوح : 10-14]

 الذي لا يرجو لله وقاراً هو الجاهل، والذي يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية هو الجاهل، والذي يسيء الظن بالله عز وجل لأن حسن الظن بالله ثمن الجنة هو الجاهل، أي محور هذه السورة بالقدر الذي تقدر فيه الله عز وجل تقديراً عظيماً، بالقدر الذي يأتيك فيه المدد،

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

  هذا المعنى واسع، في أي يوم من أيام السنة يمكن أن تشرق نفسك، وتزداد معرفةً بربك، وتزداد خشوعاً له، فهذه ليلة القدر التي جاءت في يوم من الأيام، لأن السنة الشمسية والقمرية تتفاوتان، معنى ليلة القدر خلال ألف سنة مرت في كل يوم من أيام السنة الشمسية لأن رمضان ينزلق، معنى هذا أنها ليست قضية يوم بالذات، لو كان اليوم شمسياً كان ثابتاً، أما اليوم فقمري واليوم القمري ينزلق مع اليوم الشمسي، معنى هذا أن ليلة القدر في أي يوم من أيام أشهر السنة خلال ألف سنة جاءت ليلة القدر، أي ليس زماناً محدداً، حالة معينة، الآن انتقلنا من زمان إلى حالة، حالة التقدير ومعرفة الله عز وجل وتعظيم الله عز وجل هو ما تعنيه ليلة القدر.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾

[ سورة المدثر : 38-47]

 ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نكن من المصلين...

﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

[ سورة الحاقة : 30-33]

 فليلة القدر من أجل أن تؤمن بالله العظيم، لذلك الإنسان ينطلق إلى التعرف لله عز وجل في معظم بقاع العالم الإسلامي، أي الدين اختصر إلى العبادات مع أن معرفة الله عز وجل هي أصل الدين، وجوهر الدين، وأنت بقدر معرفتك بالله تطيعه، بقدر معرفتك بالله تتقي سخطه، بقدر معرفتك بالله تتصل به، بقدر معرفتك بالله تعرف الرسالة التي أناطها الله بك.

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾

  هذه الكلمة تشرح بقوله تعالى:

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾

ثمار ليلة القدر :

 الآن بعد أن عرفت الله، وعرفت سرّ وجودك، وغاية وجودك، وبعد أن انطلقت إلى الله، وفررت إليه، وأقبلت عليه، وسعدت بقربه يوجد حالة رائعة جداً، الآن الله عز وجل يحوطك بالملائكة، يحفظونه من أمر الله، وفي آية أخرى أنه يوجد ملائكة يحفظون المؤمن من أمر الله، فالملائكة يلهمون المؤمن السداد والرشاد، ويحفظونه من كل مكروه، وهذه أحد ثمار ليلة القدر.

﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾

  الروح قد تفهم هنا أن السكينة التي تتنزل على قلب المؤمن، والمعونة التي يتلقاها من الملائكة أحد الثمار اليانعة لهذه الليلة الرائعة، إذاً تتعرف إلى الله فيأتيك من الله الرد الكريم.
 الآن النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف كذب، وسخر منه، وبعضهم يقول: أوذي، أين ردّ الله عز وجل؟ الإسراء والمعراج، أي يا محمد سمعنا دعاءك في الطائف:" اللهم إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي " هذا الدعاء، وحينما جاءه جبريل وقال يا محمد:" أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده "، إذاً هذا الموقف العظيم الذي وقفه النبي الكريم الموقف الإلهي أنه عرفه بالإسراء والمعراج، أنه سيد الأنبياء والمرسلين، أي كلما ازددت معرفة به نور الله قلبك، وألقى في قلبك السكينة والطمأنينة، وأحاطك بعناية فائقة من ملائكته المقربين، هذا محور السورة تعرفه فتقبل عليه، فتسعد بقربه، فيأتيك من الله المدد، ومن الملائكة العون والسند، وهذا إلى نهاية العمر مادمت في هذا التقدير.
لذلك ورد في الأثر أن تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً، وفي رواية سبعين عاماً.

معرفة الله ثمنها المجاهدة لا المدارسة :

 إذاً هذه السورة تحضنا على أن نعرف الله، يمكن أن تعرف أمره ولا تعرفه، يمكن أن تعرف خلقه ولا تعرفه، لابد من أن تعرف الله، لأن معرفة الله ثمنها المجاهدة لا المدارسة، معرفة أمره ومعرفة خلقه معرفة ثمنها المدارسة، أي الأستاذ، والسبورة، والقراءة، والكتابة، وأداء الامتحانات، ونيل الشهادات، هذه المدارسة، لكن معرفة الله أساسها غض البصر، وضبط اللسان، وضبط الجوارح، والعمل الصالح، والبذل، والتضحية، وإنفاق الأموال، وخدمة الأيتام والفقراء، أي العمل الذي يرضي الله عز وجل هذه المجاهدة، مجاهدة النفس والهوى تنتهي إلى معرفة الله، بدليل قوله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 69]

 هذه السورة محورها ينبغي أن تعرف الله لأنك إذا عرفته، واتصلت به، وسعدت بقربه، فإن وصلت إلى هذا المستوى جاءك العون من الله سكينة في القلب، ومعونة من الملائكة من كل أمر، أي إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع، أن يسأله ملح طعامه، أن يسأله حاجته كلها، فأنت مدعو في هذه الليلة ومن خلال هذه السورة إلى مزيد من معرفة الله، هذا الشيء الذي تفقده الدعوات الإسلامية، أي قضية الشرع هذه الهيكل الأساسي للدين، لكن هذا الهيكل لا يسكن، لابد من كسوة داخلية، ولابد من أثاث، معرفة الله عز وجل هي التي تعطي الدين هذه الحيوية، وهذا الإشراق.

ضرورة التفكر في خلق الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام؛ كما قلت في اللقاء الأول حينما يقول الله عز وجل:

﴿ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾

[ سورة الطارق : 5]

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

[ سورة الغاشية : 17]

 هذه موضوعات في التفكر، وكل إنسان حجمه عند الله بحجم تفكره بخلقه، والنبي عليه الصلاة والسلام صلى قيام الليل وبكى، حتى سالت دموعه على الأرض، قالت السيدة عائشة: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟

(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رِجْلاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ))

[متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ]

 ثم تلا قوله تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 164]

 يقول عليه الصلاة والسلام: " الويل لمن لم يتفكر في هذه الآية " لذلك أيها الأخوة يوجد نقطة مهمة جداً؛ هذا الكون له مهمتان كبيرتان، إحدى مهماته كبيرة جداً والثانية أصغر، المهمة الثانية أن تنتفع به، وهذا النفع في الدنيا فقط، فإذا جاء ملك الموت انتهى هذا النفع، تأكل الفواكه والخضراوات، تستمتع بأشعة الشمس، تستنشق الهواء، تشرب الماء العذب الفرات، تتزوج، تنجب، كل ما في الكون من نعم له مهمتان؛ المهمة الأقل أن تنتفع بها، والمهمة الأكبر أن تتعرف إلى الله من خلالها، فالذي يستمتع بالكون ولا يتفكر فيه عطل أكبر مهمة لهذا الكون، النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلالاً كان يقول: هلال خير ورشاد:

(( عن قَتَادَةُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلالَ قَالَ: هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ))

[ أبو داود عن قَتَادَةُ]

 وأنا من باب توضيح الحقيقة ذكرت أن إنساناً دخله محدود جداً لا يسمح له بأكل العسل، لكنه قرأ كتاباً عن النحل، فبكى خشوعاً لعظمة هذه الآية ولم يذق العسل، نقول: هذا الإنسان مع أنه لم يذق طعم العسل حقق الهدف الأكبر من خلق العسل والنحل، لأنه عرف الله من خلالهما، والذي أكل عسلاً إلى درجة غير معقولة هذا عطل أكبر هدف من خلق النحل والعسل. فيا أيها الأخوة: قال تعالى:

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾

[ سورة التكاثر : 1-8]

 قال العلماء: شربة الماء البارد هل فكرت بها؟ هذا الماء الذي كان مالحاً كيف صار محلى؟ هذه المسطحات المائية التي تزيد عن أربعة أخماس الأرض، وهذه الشمس التي تبعد عن الأرض مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، والتي يمتد لسان لهبها إلى مليون كيلو متر، والتي تبخر مياه البحار، وتصعد سحباً في السماء، وتأتي الرياح فتسوقها مطراً إلى البلاد الجافة، هذه الآية هل فكرت بها؟ قال تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة يونس : 101]

 أيها الأخوة الكرام؛ لابد من أن تضع يدك على عظمة الكون، لأنه من دون تعظيم لله تعصيه، كنت أقول دائماً: إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من أمره، أي كل واحد منكم له حجم معرفة عن الله عز وجل؛ حجم معرفته عن الله يحدد مساره في الحياة، فالذي يتساهل في بعض الطاعات ويقول: هذه لم نستطع أن نفعلها، الزمان صعب، معنى هذا أن حجم معرفته بالله قليل جداً، بدليل لو أن هناك إنساناً إذا قال فعل، ويجوز أن يسبب لك متاعب كبيرة جداً، تنفذ أمره بحذافيره، أو إذا كنت تطمع في عطائه العطاء الكبير تنفذ أمره بحذافيره.
 لذلك قال الإمام الغزالي: يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلة تحبينها لاشك أنك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ إذاً ما أجهلكِ! أو ما أكفركِ! أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلكِ!
 فكل إنسان يعصي الله هو إنسان مدفوع بالجهل أو بالكفر، فهذه السورة على صغرها تحضنا على معرفة الله، معرفة به، ومعرفة بأمره، ومعرفة بخلقه، بخلقه كليات العلوم في العالم في الجامعات، معرفة بأمره كليات الشريعة، معرفة به أن تسلك في طريق معرفته، وأن تحمل نفسك على طاعته، فإذا قدرته حق قدره أقبلت عليه، وجاءك المدد من الله سكينة في قلبك، ومعونة من ملائكته المقربين في كل أمر وإلى نهاية الحياة.

تحميل النص

إخفاء الصور