وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الحشر - تفسير الآيات 1- 5
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة الحشر.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

 سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

 1 ـ معنى التسبيح:

 التسبيح هو التنزيه، والتسبيح التمجيد، التنزيه أن تنزِّهَ الله جلَّ جلاله عن كل ما لا يليق به، والتمجيد أن تجول في كماله، وأن تتحقق من أسمائه الحُسنى ومن صفاته الفُضلى، أن تنزهه، وأن تمجده.

 2 ـ كلُّ المخلوقات تسبِّح اللهَ:

 الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الأولى من سورة الحشر يبيِّن أن كل المخلوقات من دون استثناء تسبح الله، ولكن لا نفقه تسبيحها، وكلمة لا نفقه تسبيحه هي قرينةٌ مانعةٌ من أن نفهم التسبيح إتقان صنعتها، الشيء المتقن كأنه يتقن، ويقول: سبحان الذي صنعني ! المعنى أعمق من ذلك، إن هذه المخلوقات من دون استثناء تسبح الله على نحوٍ لا نعرفه، فإذا كانت المخلوقات التي سخَّرها الله للإنسان تسبّح وتنزه وتمجد بطريقةٍ لا نفقهها، فلأن نكون نحن المسبِّحين من باب أولى حينما سخَّر الله لنا الكون بأكمله:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾

( سورة الجاثية: الآية 13 )

 نحن أولى بالتسبيح، ونحن أولى بالتنزيه، ونحن أولى بالتمجيد، فكيف إذا غفل هذا الإنسان المخلوق المكرم المكلف، وتنبَّه الذين سُخروا له فسبحوا، ونَزَّهوا ومجّدوا.

 3 ـ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

 ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

 أي عزيزٌ قويٌ، متفردٌ بالقوة، فَعَّالٌ لما يريد، قاهرٌ، إرادته هي النافذة، وحكيمٌ في أفعاله، والحكمة من أولى ومن أبرز دلائل عظمته، فهو عزيزٌ لا يُنال جانبه، فإذا كنت مع العزيز فأنت العزيز، وإذا كنت مع القوي فأنت القوي، وإذا كنت مع الفعَّال لما يريد ودعوتَه كان ما تريد، وأنت بالدعاء أقوى إنسان، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ ))

 

[ الترمذي عن أنس ]

 تلازمُ عزة الله مع الحكمة المطلقة:

 

 هو عزيزٌ، ومع أنه عزيز هو حكيم، كل أفعاله فيها حكمةٌ مطلقة، لذلك قالوا: " كل ما أراده الله وقع، وكل ما وقع أراده الله، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة "، ومعنى الحكمة المطلقة أن الشيء الذي وقع إن لم يقع على النحو الذي وقع فهذا نقصٌ في حكمة الله، لأن حكمته مطلقةٌ، فكل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادته متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق.

﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة آل عمران )

 لم يقل: بيدك الخير والشر، بل قال:

 

﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾

 

 

﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾

 قال:

 

﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾

 معنى ذلك أن إيتاء الملك خير، ونزع الملك خير، الإعزاز خير، والإذلال خير، فالله سبحانه وتعالى نافعٌ وضار، لكن يضرُّ لينفع، ويخفض ليرفع، ويأخذ ليُعطي، ويبتلي ليجزي، وقال النبي الكريم في إحدى خطبه:

 

 

(( وإن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح برخاء، ولم يحزن بشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقْبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ))

 

[ ورد في الأثر ]

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

( سورة الحشر )

 قصة إجلاء بني النضير من المدينة النبوية:

 1 ـ إجلاء بني النضير كان في السنة الرابعة:

 هذه الآية في سورة الحشر تشير إلى حدثٍ وقع في عهد النبي حينما أجلى النبي عليه الصلاة والسلام بني النضير، أجلاهم في السنة الرابعة للهجرة، وفي إجلائهم قصةٌ يحسن أن نتطلع عليها قبل أن نتابع تفسير الآية.

 2 ـ سببُ إجلاء بني النضير:

 ففي السنة الرابعة للهجرة بعد غزوة أُحد، وقبل غزوة الأحزاب ( الخندق ) يذكُرُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذهب مع عشرةٍ من كبار أصحابه، فيهم أبو بكرٍ وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ذهبوا إلى محلة بني النضير، يَطْلُبُ منهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم من عهدٍ في أول مدة مَقدَمِه إلى المدينة، النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة قبل أربع سنوات أبرم العهود مع جيرانه بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير.

 3 ـ يهود بني النضير يدبِّرون لاغتيال النبي:

 لما ذهب النبي مع كبار أصحابه إلى محلة بني النضير ليطالبهم بإنجاز العهد الذي بينه وبينهم المشاركة في أداء دية قتيلين، بحكم ما كان بينه وبينهم من عهدٍ في أول مقدمه إلى المدينة، فاستقبله يهود بني النضير بالبِشر والترحاب، ووعدوه بأداء ما عليهم، بينما كانوا يدبِّرون أمراً لاغتيال النبي عليه الصلاة والسلام ومَن معه، وكان صلى الله عليه وسلم جالساً إلى جدارٍ من بيوتهم، فقال بعضهم لبعضٍ: " إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله تلك.. أي أنها فرصة لا تعوض.. فمن رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرةً فيريحنا منه ؟ "
 فانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحد بني النضير فقال: " أنا لذلك "، فصعد ليلقي عليه الصخرة كما قال، فأُوحِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يبيِّت هؤلاء ضده، فقام كأنه ليقضي أمراً، فلما غاب، واستبطأه أصحابه خرجوا من المحلة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة، جاءه الوحي، وأخبره بما تآمر عليه اليهود.
 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للتهيُّؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف من بني النضير في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأليبه الأعداء عليه، وما قيل من أن كعباً ورهطاً من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصالَ تآمرٍ وتحالفٍ وكيدٍ ضد النبي صلى الله عليه وسلم، مع قيام ذلك العهد بينه وبينهم، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن في قتل كعب بن الأشرف، فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بي النضير لم يبق مفرٌ من نبذ عهدهم إليهم، وفق الآية الكريمة:

﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾

( سورة الأنفال )

 4 ـ المنافقون يوالون اليهود ويدافعون عنهم:

 فتجهَّز النبي صلى الله عليهم وسلم، وحاصر محلة بني النضير، وأمهلهم ثلاثة أيام، وقيل: عشرة، ليفارقوا جواره، وليذهبوا عن محلتهم، على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم، ولكن المنافقين في المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق أرسل إليهم يحرضهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم: " أن اثبتوا، وتمنَّعوا فإنا لم نسلمَكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتكم خرجنا معكم ". المنافقون الذين حول النبي تواطئوا مع بني النضير، وفي هذا يقول الله عزَّ وجل:

﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) ﴾

( سورة الحشر )

 تحصن اليهود في الحصون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وتحريق بعضها، فنادوا: "أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بالك تقطع النخيل وتحرِّقُها ؟"، وفي الرد عليهم قال الله تعالى:

﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾

( سورة الحشر )

 5 ـ اليهود يزلون على حكم النبي عليه الصلاة والسلام:

 ولما بلغ الحصار ستاً وعشرين ليلةً يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم، وقذف الله في قلوبهم الرُعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، وأن يكف عن دمائهم، كما سبق أن جلى بني قينقاع، على أن لهم ما حَمَلَت الإبل من أموالهم، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلَّت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبةٍ من أجل أن يأخذها معه، أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا، وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصوناً في أيام الحصار.

 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

 يقول الله عزَّ وجل:

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾

 هو: أي أن الله عزَّ وجل تولى إخراجهم بذاته، وأحياناً الله عزَّ وجل يفعل فعله، لكن من خلال جهاتٍ أرضية، وأحياناً يتولى بذاته مباشرةً فعل أفعاله، فهذه الآية تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى تولَّى أمر إخراجهم مباشرةً:

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾

 هذه الآية أيها الإخوة تعطينا الشيء الكثير، الله بيده كل شيء، وكل الخلق بيده، وفي الأثر: " إن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن هم عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة "، فالأمر كله بيد الله.

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب ﴾

 يبدو أن بني النضير كانوا بأعلى درجة من القوة والتَحَصُّن، فما كان يخطر في بال المسلمين أن هؤلاء يخرجون من حصونهم، وما كان يخطر ببالهم إطلاقاً أن هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم، فالله عزَّ وجل له آيات، أحياناً الإنسان يؤتى من داخله، قد يكون من خارجه قويًا جداً، ومحصنًا جداً، ولكن إذا قذف الله في قلبه الرعب يؤتى من داخله.

 صراع الحق والباطل من حكمة الله:

 هذه الآية تفيدنا أشياء كثيرة، مما تفيدنا به أن المؤمن لا يخشى إلا الله، لأن الخلق كلهم بيد الله، فإذا كان مع الله كان الله معه، وإذا كان الله معه فمن عليه ؟ وإن لم يكن مع الله لم يكن الله معه، وإذا لم يكن الله معه فإن أضعفَ الخلق يتطاول عليه، وأقرب الناس إليه يكيد له، فهذه الآية تعلمنا الشيء الكثير.
 شاءت حكمة الله أن يكون في الأرض مؤمنون وكفار، أهل حقٍ وأهل باطل، مستقيمون منحرفون، محسنون ومسيئون، هذا من حكمة الله، وكان من الممكن أن يخلق الله المؤمنين في قارة والكفار في قارة، وبينهما بحارٌ شاسعة، ولكن اختلاط الكفار بالمؤمنين من حكمة الله العظيمة، أن هذا الاختلاط هو الذي يضاعف أجر المؤمنين، أي أن الطريق إلى الله ليست مفروشةً بالورود والرياحين، بل لابد‍َّ من أن تتحمل، لابدَّ من أن تصبر، هناك أعداءٌ للحق، هناك مناوئون للحق، هناك من يريد أن يطفئَ نور الله عزَّ وجل.

﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) ﴾

( سورة آل عمران )

 أليس بقدرة الله عزَّ وجل أن يخلق النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام الذين تفانوا في محبته وحدهم من دون أبو لهبٍ ومن دون أبو جهلٍ، ومن دون صفوان بن أمية، هذا شيء كان من الممكن أن يفعله الله، ولكن من أجل أن يظهر صدق النبي، أن يظهر حرصه على الحق.

 

(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

 

[ السيرة النبوية ]

 أحياناً المناوئ، الطرف الآخر الذي يشوش عليك، والذي يزعجك، والذي يكيد لك، والذي يقف لك بالمرصاد، هذا من تقدير الله لك، وهذا مما يرفع قدر المؤمن، ويظهر صدقه، وإصراره، وثباته، فالحزن خلاَّق، وحياة النبي عليه الصلاة والسلام مفعمةٌ بالمتاعب.

 

﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾

 

( سورة طه )

 كان النبي ينتقل من غزوةٍ إلى غزوة، ومن سريةٍ إلى سرية، ومن مشكلةٍ إلى مشكلة، من أجل أن يظهر صدق النبي وثباته، وأن تظهر محبته لله عزَّ وجل، معنى ذلك أن المؤمن إذا عانى من بعض المتاعب ممن حوله، أحياناً من أسرته، من أولاده، ممن حوله، من جيرانه، هذه المتاعب مقدَّرة، لتظهر صدق إيمانه، ولتظهر ثباته على مبدئه، ولتظهر محبته لله ورسوله.
 أيها الإخوة.

 

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب ﴾

 أحياناً تستمع إلى أقوياء وضعفاء، وأناس انتصروا، وأناس انهزموا، يجب أن تعلم علم اليقين أن الأمر بيد الله، هو مكَّن هؤلاء من هؤلاء، هو سلَّط هؤلاء على هؤلاء، هو قوَّى هؤلاء على هؤلاء، الأمر بيده، يقوِّي لحكمةٍ، ويضعِّف لحكمةٍ، وينصر لحكمة، ويقدِّر الهزيمة لحكمة، من أجل أن يكشف حقيقة عباده لأنفسهم ولمن حولهم، هو يعرفهم، فالأمر بيد الله، وهذا هو التوحيد.
 الآية واضحة جداً:

 

 

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب ﴾

 

 بحسب القواعد الدنيوية بنو النضير لن يخرجوا من المدينة أبدا:

 أحياناً الإنسان بحسب القواعد، بحسب ما يبدو له من قوانين، يقول: فلان مستحيل أن يضعف، فإذا به يهوي كبيت العنكبوت، وهذه من آيات الله الدالة على عظمته، وقد قيل: " عرفت الله من نقض العزائم ".
 يبدو فيما يروي التاريخ أن بني النضير كانوا من أقوى الناس، لهم حصون منيعة، وأموال وفيرة، وبساتين غنَّاء، كل شيء بيدهم، ما كان يصدِّق المؤمنون، وما كان يخطر في بالهم أن هؤلاء يخرجون من حصونهم، ما كان المؤمنون ليصدِّقوا أن هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم، هذه الآية مطمئنة فلا تخف إلا الله، وأقوى قوى الأرض بيد الله، أقوى الأقوياء في قبضة الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك، وكنت أقوى من كل قوي، وإذا تخلَّى الله عنك تطاول عليك كل ضعيف من أجل أن تثق بوحدانية الله، وبقدرة الله، وبنصر الله.

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ﴾

 مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ

 هؤلاء بنو النضير ظنوا أن هذه الحصون تمنعهم، وأحياناً الإنسان يظن أن ماله يمنعه من كل المسلمين، فيسوق الله له مشكلةً لا تحل بالمال، يظن أن الذي حوله يمنعونه، فيضعه الله في مأزقٍ لا يستطيع أن يعلم أحداً ممن حوله بما هو فيه، لله آياتٌ باهرات، آياتٌ جليَّات، كل شيءٍ تتكئ عليه يخليه الله من تحت يدك، فإذا أنت على هواء، لذلك: " ما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه، وما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت من بيد ذلك مخرجاً ".

 هذا ما يجب أن تعتقده وتفعله:

 العبرة من هذه الآية أن تعتصم بالله، وأن تثق بالله، وأن تتوكل على الله، وألا ترى مع الله أحداً، أن توحِّدَهُ، أن لا تشرك به، أن تؤمن أنه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، أن تؤمن أن الأمر كله بيده:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

( سورة هود: آية " 123 )

 أن تؤمن أن يد الله فوق أيديهم، أن تؤمن أنه ما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، أن تؤمن أنَّه:

 

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26) ﴾

 

( سورة الكهف )

 أن تؤمن أن الله يحكم، ولا معقِّب لحكمه، أن تؤمن أن الله خالق لكل شيء، وهو على كل شيءٍ وكيل، أن تؤمن أن الله له الخلق وله الأمر، أن تعبده، هو الفعال لما يريد، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، هذه كلمات الإيمان، هذه الكلمات التوحيدية تلقي في قلبك طمأنينة ما بعدها طمأنينة، تلقي في قلبك سكينة ما بعدها سكينة، تلقي في قلبك أمناً ما بعده أمن، لأن الله معك، أنت عبدٌ له تطيعه وتخطب وده، فماذا تنتظر منه ؟ كل الخير:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾

( سورة التوبة: الآية 51)

 إذا كنت تخطب ود الله عزَّ وجل ؛ تتقرب إليه بالطاعات، بالأعمال الصالحة، بالتوبة النصوح، ماذا تنتظر منه ؟ كل خير، لذلك ربنا عزَّ وجل طمأن المؤمنين.
 علاقتنا بهذه الآية: إذا كان هناك خصوم أقوياء جداً فهؤلاء عند الله ضعفاء، فإذا كنا مع الله كان الله معنا، ونصرنا على أعدائنا، لذلك الله عزَّ وجل ما كلَّفنا أن نعد لأعدائنا القوة المكافئة، بل كلفنا أن نعد لهم القوة المتاحة، وهو يرمم ما بقي، قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال: الآية 60 )

 المؤمن يجب أن لا يضعف أمام ما يقال، يقولون لك: تفوق، وتكنولوجية، وأقمار صناعية، يقولون لك مثلاً: سلاح ذكي، قنابل عنقودية، هذه كلها عند الله لا شيء، إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك، لا تخف إلا الله، ولا تخش إلا الله، ولا تتكل إلا على الله، وهذه الآية:

 

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ﴾

 بحسب المُعطيات، بحسب ما يبدو لكم، بحسب القوانين المادية، هم أقوياء جداً، وأنتم ضعفاء، لكنهم خرجوا من بيوتهم، وخرَّبوها بأيديهم.

 

 

 

﴿ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ﴾

 

 

﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ ﴾

 وأنت ترى بأم عينك كلما ادعت قوةٌ أنها الأقوى في العالم تهاوت كبيت العنكبوت، والتاريخ القريب يؤكِّد هذه الحقيقة، قلعةٌ من قلاع الكفر تهاوت كبيت العنكبوت.

 

 

﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ ﴾

 

 

 إذا أردتَ أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله:

 أحياناً الإنسان يَتَّكئ على ماله، فإذا المال لا شيء، يتكئ على مكانته، فإذا مكانته لا شيء، يتكئ على مَن حوله، فإذا مَن حوله لا شيء، يتكل على علمه، فإذا علمه لا شيء، يتكل على أعوانه، فإذا أعوانه لا شيء، كلما اتكلت على شيءٍ، وقد أشركت بالله عزَّ وجل زلزل الأرض من تحت قدمك، فإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله.

 غزوة بدرٍ وحُنينٍ درسانِ بليغان في حياة المسلمين:

 لا تبتعدوا كثيراً، فهؤلاء أصحاب النبي، وهم صفوة الله من خلقه في بدرٍ قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

( سورة آل عمران )

 هُم هم، في حنين قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

( سورة التوبة )

 معنى ذلك أن في حياة كل مؤمنٍ يومين، يومَ بدرٍ ويوم حنين، في بدر إذا قلت: الله، وأنا لا شيء، تولاَّك الله بالرعاية والحفظ والنصر، والتأييد والتوفيق، وفي حنين إذا قلت: أنا، ذكاء، علم، خبرة، قوة، إذا قلت هذا تخلَّى الله عنك، فأنت بين أن يتولاَّك الله وبين أن يتخلى عنك.
 نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى هذا الدرس، وكلكم يعلم أن المسلمين يواجهون أعداءً لهم في شتَّى بقاع الأرض، فإذا آمن المسلمون أن الله وحده بيده كل شيء، وأنه مع المؤمنين، عندئذٍ لا تضعف عزائمهم، ولا تخور قواهم.

﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾

 مِن مَأمَنه يُؤتَى الحذِرُ: فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا

 يؤتى الحذر من مَأمنه، يؤتى القوي من نقطة ضعفه، يؤتى الإنسان من داخله، أحياناً يلقي الله في قلبك الرُعب، فتخور قواك، وترتعد فرائسك، وتنهار من الداخل، وينتهي الأمر، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ))

[ متفق عليه عن جابر ]

 فإذا عصت أمته ربها، أو خالفت سنة نبيها، ربما تخافُ، وتهزم بالرُعب، النبي في صدر الإسلام نصر بالرعب.

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

( سورة مريم )

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي ﴾

( سورة النور: الآية 55 )

 وعدُ الله يتحقَّق بتحقق شروطه:

 هذا قانون ربنا عزَّ وجل، والتاريخ يؤكِّد هذه الحقيقة، ففي بدر كان عددهم ثلاثمائة غلبوا ألفاً بإذن الله، كل معارف المسلمين، كانوا قلَّةً لكن قوتهم في إيمانهم، وفي اعتمادهم على ربهم، وفي تطبيقهم لمنهج ربهم، فإذا خالفوا منهج ربهم، وآثروا الشهوة على المبدأ عندئذٍ تخلَّى الله عنهم، الله تخلى عن أصحاب رسوله في حنين، فمن نحن إذاً إذا تخلَّى الله عن أصحاب رسوله ورسوله بين أظهرهم:

﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾

( سورة التوبة )

 فمن نحن ؟
 لذلك أيها الإخوة، نحن أقوياء بالله:

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة آل عمران )

 أنت بإيمانك بالله تشعر أن الله معك، وإذا كان الله معك فلا أحد يجرؤ أن ينال منك.

﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ﴾

 فالله عزَّ وجل يمكن أن يقوي خصمك، ويمكن أن يضعف خصمك، يمكن أن يضعفك من الداخل، فيصبح خصمك الضعيف أقوى منك إذا أضعفك من الداخل، لأن الأمر بيده، وقلبك بيده، وعزيمتك بيده، ورؤيتك بيده.

﴿ إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ﴾

( سورة الأنفال: الآية 43)

 أن ترى رؤيتك بيد الله، قلبك بيد الله، ثباتك بيد الله، كن مع الله، ولا تخشَ أحداً.

 

﴿فَأَتاَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾

 

 إلقاءُ الرعب في قلوب الكفار قانونٌ إلهي مطَّرد في كل زمان ومكان:

 إخواننا الكرام، هذا الرُعب الذي يقذف في قلب المشرك هو قانون، في آيةٍ أخرى:

﴿ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ﴾

( سورة آل عمران: الآية 151 )

 قال تعالى:

 

﴿ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

 

(سورة الشعراء )

 الإنسان بمجرد أن يدعو مع الله إلهاً آخر يدخل في الخوف، فقانون الخوف متعلقٌ بالشرك، إن وَحَّدْت فلا تخف، وإن أشركت تخف.

﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

( سورة الحشر )

 والإنسان قد يجد في حياته، أو في عصره، أو فيمن حوله الدلائل الكثيرة، الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

( سورة النحل )

 الله عزَّ وجل يقول:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

( سورة الأنعام )

 المؤمن أكبر ميزة يمتاز بها عمن سواه أن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلبه الأمن، والسكينة، والطُمأنينة، والسعادة، والتوازن، والاستقرار، وأن المبتعد عن الله، الشارد عن منهجه، المنقطع عنه، المرتكب للمعاصي والآثام، أول ضعف يصيبه أن الله يلقي في قلبه الخَوْف، فنعمة الأمن خاصةٌ بالمؤمنين، ومشكلة الخوف من لوازم المشركين، فهؤلاء اليهود ألقى الله في قلوبهم الخوف، لذلك لا يقاتلون إلا في قرى محصنة، وبأسهم بينهم شديد.

 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ ﴾

 

( سورة الحشر: الآية 3 )

 معنى قوله: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ

 هذه الآية لها معنى دقيق: أي أن الله عزَّ وجل كتب عليهم أن يخرجوا من ديارهم، كتب عليهم الجلاء، لو لم يفعل ذلك لعالجهم بطريقةٍ أخرى.
 إن الإنسان أحياناً الله يسوق له مرض فيعالجه به، وهناك طريقة ثانية، تأتي مشكلة أخرى، المشكلة لابد من تعالَج، فإن لم تعالج بهذا العلاج تعالج بعلاج آخر، فأنت في قبضة الله، وقد يقول لك قائلٌ: لو لم آكل هذه الأكلة لما أصابني هذا الجرثوم، لا، لا تقل هكذا، لا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، أي إن لم يقدر لك العلاج من هذا الطريق فعند الله ألف طريقٍ وطريق.

﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ ﴾

 بطريقة أخرى، معنى ذلك أن هؤلاء لأنهم خانوا عهد رسول الله، و ائتمروا على قتله، وخانوا العهد الذي بينهم وبينه، استحقوا من الله العقاب، فكان من عقاب الله لهم أن أجلاهم عن بلادهم، ولو لم يكتب عليهم الجلاء لعذَّبهم بطريقةٍ أخرى، فالله عنده من أنواع البلاء ما لا يعد ولا يحصى، والجسم البشري وحده فيه أمراض تصيب القلب، أمراض تصيب الرئتين، أمراض الأعصاب، العضلات، الدماغ، خثرة بالدماغ، خثرة بالقلب، أحياناً بالبصر، أحياناً بالسمع، أحياناً بالجلد، مليون طريق وطريق بجسمك فقط، بمالك، إذا نفذ الإنسانُ من شيء قد يقع في شيء آخر، الآية دقيقة جداً.

﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ ﴾

 قد كان من تقدير الله أنه عاقبهم بأن أجلاهم عن بلادهم.

﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ﴾

 طرق المعالجة الربانية كثيرة متنوِّعة:

 بطريقةٍ أخرى، فإذا أخذ الإنسانُ الاحتياط، اعتنى بصحته اعتناء شديدا، ولم يكن مستقيما، يقول لك: أنا رياضي، وهو كذلك، إذا اعتنى بصحته أبلغ عناية، ولم يكن مستقيماً على أمر الله فهناك ألف طريق وطريق لمعالجته من طريق آخر، حَصَّن ماله، هناك طريق ثالث، حَصَّن حاجاته الأساسية، يقول لك: كل أَمَّنت عليه، يأتي من طريق رابع.
 فهذه النقطة:

﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ ﴾

( سورة الرعد: الآية 11 )

 مهما تحَّصنوا، إن حصنوا أموالهم من طريق آخر، إن حصنوا ممتلكاتهم من طريق آخر، إن حصنوا أنفسهم من طريق آخر.

﴿ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(3) ذَلِكَ ﴾

( سورة الحشر )

 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

 لماذا عذَّبهم ؟ لماذا أجلاهم من بلادهم ؟ لماذا أذلَّهم ؟ لماذا أخزاهم على يد النبي عليه الصلاة والسلام لماذا ؟

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾

( سورة الحشر: الآية 4 )

 معنى مُشاقّة الله ورسوله:

 من أوجه المعاني هذه الآية: أنهم اتخذوا شقاً آخر غير شق الله، أي أنهم ناوؤوا الله، لم يكونوا مع الله، أرادوا أن يطعنوا في دينه، أرادوا أن يطفئوا نوره، أرادوا أن يفعلوا شيئاً يطفئ نور الله بأفواههم.

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾

 إن الإنسان إذا كان من السُعداء لا يفكر إطلاقاً أن يقف ضد الحق، كن مع الحق، ولا تكن ضده، كن مع أهل الحق، ولا تكن ضدهم، كن مع إحقاق الحق، ولا تكن مع ترسيخ الباطل، وحينما يتخذ الإنسان له موقفاً يناوئ به أهل الحق يستحق عذاب الله عزَّ وجل.

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾

 أحياناً يطرح الإنسان فكرا مناوئًا للدين، فيلقي الشبهات، يلقي في قلوب الناس التُرُّهات، النقاط السلبية، الأشياء الخلافية، من أجل أن يزلزل ثقة الناس بالدين، هذا يشاقق الله ورسوله، أحياناً ينقِّب في السيرة عن أشياء، يقول لك: النبي تزوج تسع نساء، يريد أن يقول لك: إنه زير نساء.

 

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾

 أحياناً يقال لك: لماذا المرأة نصف الرجل ؟ هي تعمل مثله ؟ يريد أن يطعن في هذا الشرع العظيم، أو في التاريخ، أو في نبوة النبي، أو في عصمة النبي، أو في كمال أصحاب النبي، وحينما يقف الإنسان الموقف المعارض، الموقف المناوئ، الموقف الذي يطعن، ويربك، ويشوِّش..

 

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾

 كن مع المؤمنين، كن دعماً لهم، كن مؤيِّداً لهم، كن ناصراً لهم، كن مدافعاً عنهم، من أجل أن يدافع الله عنك، من أجل أن يرفعك الله عزَّ وجل.

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

 وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

 هل تقوى على أن تقف في وجه خالق الكون ؟ أنت لا شيء، فحركتك بيد الله، سمعك وبصرك بيد الله، نقطة دم كرأس الدبوس لو تجمَّدت في أحد شرايين الدماغ الفرعية يقول لك: خثرة دماغية، وانتهى الإنسان، إما أن يفقد حركته، وإما أن يفقد سمعه أو بصره، وإما أن يفقد ذاكرته، وإما أن يفقد عقله، من أجل نقطة دمٍ لا تزيد على رأس دبوس، تجمدت في أحد فروع شرايين الدماغ.

 مَن أنت أيها الإنسان حتى تتعالى على الله:

 من أنت ؟ كل من يقول: أنا، فهو جاهل، وقد قالها إبليس فأهلكه الله، قال:

﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾

( سورة الأعراف: الآية 12 )

 قالها فرعون:

 

﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾

 

( سورة الزخرف: الآية 51 )

 فأهلكه الله.. قالها قارون:

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾

( سورة القصص: الآية 78 )

 فأهلكه الله.
 قالها بنو سبأ:

﴿ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾

( سورة النمل: الآية 33 )

 فأهلكهم الله، فكلما ارتقى علم الإنسان يتواضع، كلما ارتقى علمه يوحِّد، كلما ارتقى علمه يفتقر لله عزَّ وجل، وإذا افتقر إلى الله نصره الله.
 إن الله عزَّ وجل علَّمنا من خلال التاريخ أن المسلمين على ضعفهم كانوا سادة الدنيا، الإسلام جعل من رعاة الغنم رعاةً للأمم، جعل من سُكَّان البوادي قادةً للأمم، بفضل طاعتهم لله عزَّ وجل، والله موجود هو هوَ، والآن نحن المسلمين إذا أطعنا الله عزَّ وجل، وأنبنا إليه، واصطلحنا معه أظهر لنا من آياته الدالة على عظمته وأيَّدنا، ونحن والحمد لله نعيش في إكرام من الله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل لن يضيِّعنا، ولن يسلمنا، ولن يخذلنا، ما دمنا معه.

 

كن مع الله ترَ الله معك  و اترك الكل وحاذر طمعك
و إذا أعطاك من يمنعه ثم  من يعطي إذا مـا منعك
***

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

 الإنسان أحياناً يروِّج فكرة باطلة، يلقي شبهة في النفوس، يزعزع ثقة الناس في أحكام الشرع، أحياناً يتَّهم الدعاة إلى الله باتهامات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، يفتري عليهم، وهو يعلم علم اليقين أنهم بريئون من هذا، هذا كله يشاقق الله ورسوله..

 

﴿ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

 كمؤمن كن مع المؤمنين، كن مؤيِّداً لهم، كن دعماً لهم، كن ناصراً لهم، كن مدافعاً عنهم، حتى يكرمك الله برحمته التي هي كل شيء.

 

 مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ

 ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾

( سورة الحشر: الآية 5 ) 

 النبي يقطع نخيل بني النضير:

 النبي عليه الصلاة والسلام تحرَّك بوحيٍ من الله، ما فعل شيئاً كما وصفه أعداؤه، وهذا النخل تعلَّقت نفوسهم به، وقد أحرق بعضها، قالوا: ستة من النخيل فقط أحرقها النبي، فتزلزلوا، وخرجوا من حصونهم، ورضخوا لأمره، فنجاح الدعوة هو المَّقدم على كل شيء، قال:

﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّه ﴾

 العلماء استنبطوا من هذه الآية حكم: أن ممتلكات العدو إذا كان بإمكانك أن تستفيد منها، وأن تهزمه فدعها قائمةً، أما إذا كانت قوةً له، وهو يتقوَّى بها عليك خرِّبها عليه من أجل يضعضع.

 

﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾

 

 وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ

 1 ـ غنائم المسلمين من بني النضير نوع من الفيء:

 ثم ذَكَر الله عزَّ وجل أن هذه الغنائم التي غنمها المسلمون من بني النضير بعد أن أجلوهم عن ديارهم، هذه الغنائم لم تكن بعد حرب ضروس، إنما كانت من دون حرب، فالغنيمة التي يأخذها المسلمون من دون حرب هي فيء أفاء الله به عليهم، لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾

( سورة الحشر: الآية 6 )

 2 ـ معنى: مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ

 أوجف بمعنى أسرع، أي أنتم لم تتحملوا المشاق لنيل هذه الغنائم، هذه جاءتكم سائغةً، هم تضعضعوا، وانهاروا من داخلهم، وخرجوا من ديارهم، وحمَّلوا متاعهم على جمالهم، وانتهى الأمر، أورثكم أرضهم وديارهم، هذه ليست غنائم كانت عقب حربٍ ضروس، إنما هي من الفيء الذي اختص الله به النبي عليه الصلاة والسلام، لهذا قال تعالى:

﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة الحشر)

 الغنائم التي تأتي بعد حربٍ سِجَالٍ بين المسلمين وأعدائهم هذه خُمُسُها لله عزَّ وجل ولرسوله وأربعة أخماسها للمقاتلين، أما الفيء فكله لله ورسوله يوزعه النبي عليه الصلاة والسلام بحكمةٍ من حكمه على الفقراء والمهاجرين، لذلك:

﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾

( سورة الحشر: الآية 7 )

 قاعدتان مهمتان مستنبطتان من الآية:

 

 1 ـ قاعدة اقتصادية عظيمة: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ

 النبي عليه الصلاة والسلام خَصَّ بهذا الفيء المهاجرين، لأنهم تركوا بلادهم وأوطانهم وأموالهم، وجاءوا إلى المدينة فقراء من كل شيء، مع أن الأنصار استقبلوهم، ورحَّبوا بهم، وعرضوا عليهم نصف ممتلكاتهم، إلا أن التاريخ الإسلامي لم يسجِّل أن مهاجراً أخذ نصف مال الأنصاري، كان أحدهم من الأنصار يقول للمهاجر: " يا فلان، دونك نصف مالي فخذه، لي بستانان خذ أيهما شئت، لي داران خذ أيهما شئت "، وكان هذا المهاجر العفيف يقول للأنصاري: " بارك الله لك في مالك، ولكني دُلَّني على السوق ".
 على كلٍ، هؤلاء المهاجرون تركوا بلادهم، وديارهم، وأموالهم، وتجارتهم، وأعوانهم، وجاءوا مع رسول الله ابتغاء وجه الله، لذلك النبي ارتأى أن تكون هذه الغنائم للمهاجرين وحدهم، والنبي عليه الصلاة والسلام انطلق من هذه القاعدة في كتاب الله:

﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾

 أي أن هذه الكتلة النقدية يجب أن تكون متداولةً بين أيدي الناس جميعاً، هذا هو الوضع الصحي الطبيعي، إذا تداول الناس المال جميعاً عاشوا في بحبوحة وفي كفايةٍ وعدل ؛ أما إذا تجمَّعت الأموال بأيدٍ قليلة، وحرمت منها الكثرة الكثيرة اختل التوازن الاجتماعي، ومع اختلال هذا التوازن تنشأ المُشكلات، فلذلك يقول الله عزَّ وجل:

﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

 ففي هذه الآية قاعدتان أساسيتان في حياة المؤمنين، القاعدة الأولى أن المال يجب أن يكون متداولاً بين الجميع، إذاً الاحتكار حرام، والربا، المال يلد المال، الربا من خصائصه أن يجمِّع الأموال في أيدٍ قليلة، المال يجب أن يتولَّد من الأعمال لا من المال، إذا ولد المالُ المالَ تجمّع المال في أيدٍ قليلة، أما إذا ولدت الأعمال المال توزَّعت بين الكثرة الكثيرة.
 قم بفتح محل تجاري، تحتاج لتشغيل مئة إنسان، أو مئتي إنسان دون أن تشعر، أنت بحاجة إلى دفتر فواتير، تحتاج لورق، ومطبعة، وخطاطين، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى وسائل نقل، وأنت لا تشعر اشتغل بسببك مئات عديدة، فإذا أردت أن تكسب المال من الأعمال فهذا المال توزَّع.
 أنشأت مزرعة، تحتاج إلى مهندس زراعي، تحتاج إلى معالجة بعض الأمراض، إلى خبرة معينة، فحينما تفكر أن تكسب المال من الأعمال ف

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور