1998-01-06
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التفكر بالموت و إدخاله في الحسابات اليومية :
أيها الأخوة الكرام؛ مع بداية الدرس الثالث من دروس الحديث النبوي الشريف في رمضان.(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))
وقد ورد في الأربعين النووية التي وعدت أن أشرح بعض أحاديثها في رمضان.(( عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))
أو ماذا تعني؟ أو تعني الشك؛ هذا هلال أو وميض، كلمة أو وميض أنت تشك إذا كان هلالاً أو وميض برق، وهنا ليست للتخيير، ولها معنى آخر التخيير أو الإباحة؛ كن من هذا أو هذا، اختر أحدهما، فكلاهما مباح لك، وكلمة التخيير أولى، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل؛ وهناك معنى ثالث؛ أو: بمعنى بل، الغريب قد يستوطن، وقد يسكن في بيت، أما عابر السبيل فليس له مأوى، يبحث عن هدفه ولا يقعد لحظة واحدة، فهذه تفيد معنى بل، فهي ليست للشك ولا للتخيير، بل بمعنى بل؛ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.الدار الآخرة مصير وجزاء بآن واحد :
الشيء الدقيق في هذا الحديث أن الحياة لا تخلو من صحة، أو مرض، والإنسان إذا كان صحيحاً واجتهد وسار إلى الله المرض لابد من أن يأتي، وكل إنسان لابد من أن يموت، وموته له سبب، فقبل أن يموت يأتي مرض من جهة أو من أخرى، فالإنسان إذا كان في صحته لا يعمل عملاً صالحاً، وجاءه المرض يتألم ألماً لا يوصف، أما إذا استغل صحته وهو يمشي على رجلين بإمكانه أن يأتي بيوت الله، وبإمكانه أن يصلي، وبإمكانه أن يفعل الخير، النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه فمروا على قبر قال عليه الصلاة والسلام: " صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم أنفع له من كل دنياكم ".﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾
فهي مصير وجزاء كل إنسان، والعاقل هو الذي يهيئ جواباً عن كل ما يفعله في الدنيا، لأن الله عز وجل لو سألك: لماذا طلقتها؟ لماذا أخذت هذا البيت؟ لماذا منعت هذا الحق؟ لماذا لم تنصح المسلمين؟ ما جوابك؟ قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾
الإنسان في الدنيا له جماعة، وله أصدقاء، وأقرباء، ومعارف، وله اتصالات بأشخاص أقوياء يستعين بهم أحياناً، فإذا اتهم بتهمة، أو وقع في مشكلة، هناك من يخلصه بسند كفالة، أو اتصال هاتفي، أما في الآخرة:﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " كن في الدنيا كأنك غريب " اجعل وطنك الأساسي الدار الآخرة، هؤلاء الذين يعتنون بالدنيا إلى درجة كأنهم لا يموتون، أي يؤسسون أشياء لا تفنى ويفنون قبل فنائها بمئات السنين وهي لا تفنى؛ فكن في الدنيا كأنك غريب، والغريب مؤونته خفيفة، ومشاعره في وطنه، أنت لاحظ نفسك إذا كنت في بلد و دخلت إلى فندق ورأيت خللاً هل تتألم؟ لا، لأن هذا الفندق ليس بيتك، يقول: ليلة وتمضى، فالإنسان إذا وطن نفسه على أن هذه الحياة سريعاً ما تنقضي؛ رجل هنا في شارع برنية، اشترى بلاطة بكاملها عبارة عن بيتين وكساهما بإتقان يفوق حدّ الخيال، بالطابق الثاني عشر، و لم يكن في البناء مصعد، سنتان طالع ونازل؛ أنواع الرخام، وأنواع الكسوة الراقية جداً، فلما انتهى البيتان من كسوتهما وافاه الأجل بعد أسبوع واحد.﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
العاقل من يعلم لآخرته :
من هو العاقل؟ هو الذي لا يندم إذا كان هناك ندم، أي يوجد خلل؛ أية حالة ندم تصيب الإنسان معنى ذلك أن عمله غير صحيح، لو فرضنا إنساناً - وهذه وقعت - إنسان معه عملة أجنبية، جمع وطرح وقسم وفكر و فكر وسأل واستشار بعد هذا باع الدولار واشترى العملة اللبنانية قبل انهيارها، فهبطت ثروته مئة ضعف، انتهى، ألا يتألم أشدّ الألم؟
وهناك قصة وقعت في سوريا غريبة جداً، إنسان ذهب إلى بلد أجنبي، وضاقت به الأمور، فباع سيارته ومعمله ومحله التجاري وكل ممتلكاته، وأرسلها إلى بلد - وهي قصة طويلة -ولكن ملخصها صار هناك خطأ في إيداع الأموال، وضعها باسم صديقه حتى يأخذ الإقامة، والصديق قال له: ليس لك عندي شيء؛ إنسان يفقد كل شيء يملكه في ثانية واحدة، الموت أشدّ من ذلك، كل شيء جمعناه في الحياة عندما القلب يقف عظم الله أجركم، لا يملك القلم الذي في جيبه، ولا سن الذهب الذي في أسنانه، كل شيء فقده، وهذه المغادرة سريعة، والمغادرة صاعقة، والإنسان إذا ما حضّر نفسه لهذه الساعة يكون ليس عاقلاً.
أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً؛ أرجحكم عقلاً أكثركم لهذه الساعة استعداداً، والمنهج متوازن، ولا يوجد حرمان في الإسلام؛ والله ما حرمك الأساسيات، تتزوج وتسكن في بيت، وتنجب أولاداً، وتربي أولادك، وكن مطبقاً لمنهج الله عز وجل، وأدّ عباداتك، لا يوجد تناقض بين الحياة الواقعية والحياة الذي وعدنا الله بها في الآخرة؛ بالعكس المؤمن عنده حالة نادرة، صدقوني الحالة النادرة أن نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، وهذه حالة نادرة جداً، وأكثر الناس خطه البياني صاعد صعوداً حاداً ثم يسقط سقوطاً مريعاً؛ المؤمن صعوده مستمر حتى لو مات، لأن الموت نقطة على الخط الصاعد، والصعود مستمر، وهذه قضية ينخلع لها القلب، والإنسان إذا لم يجلس مع نفسه، ويدرس أموره، ويدرس بيته، هل يوجد مخالفات عند بناته وزوجته وأولاده وعمله؟ هل يوجد شيء يؤدي إلى القلق؟ فإذا استقام أمره في بيته وعمله، واتصل بالله عز وجل، وأدى حقه، وأدى العبادات، وأنفق من ماله، وعمل لآخرته، فقد فاز؛ لاحظ إنسان حوّل أمواله إلى بلد آخر، ما الذي يحصل معه؟ يسره اللحاق بها، وإذا كل أمواله في بلد آخر يتمنى ساعة المغادرة، لأنه سيذهب إلى هناك، ويوجد عنده ملايين مملينة في البنك، وينزل في أجمل فندق، ويقتني أجمل مركبة، ويسكن أجمل بيت، لأن أمواله أمامه؛ إذا إنسان كل مكتسباته أمامه، وجاءت المغادرة شيء ينخلع له القلب، إذا كل مكتسباته في الدنيا وجاءت المغادرة الإجبارية ينخلع قلبه؛ أما إذا كل مكتسباته دفعها أمامه إلى الآخرة؛ أعمال صالحة، استقامة، دعوة إلى الله، خدمة، عبادات، وجعل حياته قائمة على خدمة الخلق، وقدم كل مكتسباته أمامه، أجمل شيء أن يلحق بها، لذلك الشيء الذي لا يصدق اقرأ تاريخ أصحاب رسول الله؛ أنا أتحدى أن تجد واحداً منهم وهو يفارق الحياة إلا و كان في أسعد لحظات الحياة، كلهم جميعاً.
وأوضح شيء؛ وا كربتاه يا أبت، قال: لا كربة على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
الموت عرس المؤمن :
تصور إنساناً الموت الذي نعده مصيبة، المصائب عنده تحفة، وعنده عرس، وكلما كان عملك طيباً كانت استقامتك جيدة، وعلاقتك بالله متينة، الموت صار مسعداً لأنه قطف الثمرة، والإنسان بالموت يكشف مقامه عند الله، وكلما كان التعلق بالدنيا والمعاصي كان الخروج منها أصعب، عندنا قاعدة لو شخص أراد أن يتزوج، يؤسس البيت، ويحتاج إلى عمل يعيش منه، هل هذا من حبّ الدنيا؟ الجواب لا، الدنيا التي لا تشغلك عن الله ليست من حب الدنيا؛ إذا أنت عبادتك صحيحة، ومنهجك صحيح، وأنت ملتزم، هذه ليس من الدنيا، هذه مطية للآخرة؛ طبعاً المأوى ضروري، والزواج ضروري، وتأمين دخل شهري ضروري، وهذه الأمور ليست من الدنيا، لكن تستعين بها على الدنيا؛ أما الدنيا التي تشغلك عن فريضة، تشغلك عن طلب العلم، تشغلك عن عمل صالح، تشغلك عن شيء ثمين، الخسيس إذا شغلك عن النفيس فهذا خطأ كبير، والخسيس هي الدنيا.الموت ينهي كل شيء :
عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، هناك كلمة أقولها دائماً: الموت ينهي غنى الغني، وينهي فقر الفقير، وينهي قوة القوي، يوجد أباطرة وطغاة في العالم، وينهي ضعف الضعيف، وينهي وسامة الوسيم، وينهي دمامة الدميم، وينهي صحة الصحيح، وينهي مرض المريض؛ الموت ينهي كل شيء ويبقى العمل الصالح؛ إما عمل صالح وإما عمل سيئ.((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))
أو عابر سبيل، ليس لك مأوى، وأنت حقق مهمتك وارجع إلى بيتك؛ قصة تعرفونها جميعاً كنت مرة عند مدير ثانوية جلست ساعة من الزمان، حدثني عن مشاريع إلى عشرين سنة، يريد أن يسافر إلى أوروبا، ويريد أن يقيم خمس سنوات؛ سنة في إسبانيا، وسنة في فرنسا، وسنة في إيطاليا، ويتأمل معالم هذه البلاد، وريفها، وتراثها، ومتاحفها، وحياتها الاجتماعية، وقد كره هذه البلد، وبعد خمس سنوات يريد أن يتقاعد ويفتح محل تحف، ليس لها اشكاليات، ولا أسعار تموينية، ولا تخرب، ويكبر أولاده فيسلمهم المحل، ويصير المحل منتدى لأصدقائه، ولو استمرت الجلسة عنده لتكلم لي عن مشاريع لأربعين سنة، فانتهى اللقاء، وأنا انصرفت لعملي، وعندي مساءً عمل في الشام في المدينة، وأنا ذاهب إلى بيتي سيراً، والله الذي لا إله إلا هو رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه، هذه الدنيا مغادرة سريعة، هيئ نفسك، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾
أي لا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون.