وضع داكن
20-04-2024
Logo
شرح الحديث الشريف - الدرس : 3 - كن في الدنيا كأنك غريب ....
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التفكر بالموت و إدخاله في الحسابات اليومية :

 أيها الأخوة الكرام؛ مع بداية الدرس الثالث من دروس الحديث النبوي الشريف في رمضان.

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))

[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

 وقد ورد في الأربعين النووية التي وعدت أن أشرح بعض أحاديثها في رمضان.
 أيها الأخوة؛ مغادرة الدنيا سريعة وقد تكون فجائية، أحد أخوتنا الأكارم أصيب والده بمرض عضال ألزمه الفراش وهو في حالة سبات زاره زوج ابنته في المستشفى، نظر إلى عمه وجده ملقى على السرير بلا حركة، فقال: مسكين على نومته تلك، وفي اليوم التالي مات، من الذي مات؟ الذي زار المريض ولا يشكو شيئاً؛ المغادرة قد تكون سريعة جداً، وتكون فجائية، فلابد من أن نستعد لها، والعاقل من يستعد لهذه المغادرة التي لا عودة فيها؛ في بعض بلاد النفط عندهم عبارة إذا وضعت على الجواز انخلع قلب المقيم، والعبارة: مغادرة بلا عودة؛ إذا معه إقامة يغادر ويعود، يأتي إلى بلده ويعود، أما إذا كتب على الجواز: مغادرة بلا عودة، فهذه شيء مزعج جداً، وجميعاً نحن لابد من يوم نغادر بلا عودة.
 إذا إنسان توفي هل يقول أهله مساء: أين فلان؟ دفن وانتهى الأمر؛ هل ينتظرون عودته؟ أبداً بالعكس، أي شيء يذكر به يتلفونه، أو يخفونه، أو يخرجونه من البيت، والحديث عن ابن عمر:

(( عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))

[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

 أو ماذا تعني؟ أو تعني الشك؛ هذا هلال أو وميض، كلمة أو وميض أنت تشك إذا كان هلالاً أو وميض برق، وهنا ليست للتخيير، ولها معنى آخر التخيير أو الإباحة؛ كن من هذا أو هذا، اختر أحدهما، فكلاهما مباح لك، وكلمة التخيير أولى، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل؛ وهناك معنى ثالث؛ أو: بمعنى بل، الغريب قد يستوطن، وقد يسكن في بيت، أما عابر السبيل فليس له مأوى، يبحث عن هدفه ولا يقعد لحظة واحدة، فهذه تفيد معنى بل، فهي ليست للشك ولا للتخيير، بل بمعنى بل؛ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
 أي إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء؛ أحد علماء دمشق رحمه الله تعالى اشترى قبراً قبل أن يموت بخمس سنوات، وكتب اسمه عليه، وكان يزور هذا القبر كل يوم خميس ويقول لمن حوله: هنا المصير؛ وكل النعوات؛ وسيشيع فلان إلى مثواه الأخير، موضوع إدخال الموت في الحسابات اليومية مهم جداً، وهذا الحساب لا يعني التشاؤم بل يعني الانضباط؛ أي أن كل كلمة تقولها تحاسب عنها، وكل عمل تفعله؛ وكل شيء تنفقه؛ وكل مبلغ تأخذه محاسب عليه، فالتفكر في الموت، وإدخال الموت في الحسابات اليومية، والأصح الساعية أي بكل ساعة حركاتك، و سكناتك، ومواقفك، وعطاؤك، ومنعك، وصلتك، وغضبك، ورضاك، يجب أن يكون ضمن حسابات دقيقة، لأن الله سوف يسألك عن هذا الشيء كله.

 

الدار الآخرة مصير وجزاء بآن واحد :

 الشيء الدقيق في هذا الحديث أن الحياة لا تخلو من صحة، أو مرض، والإنسان إذا كان صحيحاً واجتهد وسار إلى الله المرض لابد من أن يأتي، وكل إنسان لابد من أن يموت، وموته له سبب، فقبل أن يموت يأتي مرض من جهة أو من أخرى، فالإنسان إذا كان في صحته لا يعمل عملاً صالحاً، وجاءه المرض يتألم ألماً لا يوصف، أما إذا استغل صحته وهو يمشي على رجلين بإمكانه أن يأتي بيوت الله، وبإمكانه أن يصلي، وبإمكانه أن يفعل الخير، النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه فمروا على قبر قال عليه الصلاة والسلام: " صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم أنفع له من كل دنياكم ".
 الدنيا فيها شركات، وفيها ملايين مملينة، فيها قصور، وفيها نساء، وفيها شيء جميل، قال: " صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم أنفع له من كل دنياكم " لذلك الغريب والإنسان يجب أن يشعر بغربة وطنه الحقيقي؛ فالآخرة وطن ومصير؛ الدار الآخرة مصير وجزاء بآن واحد، وكلنا إلى هذه الدار، قال تعالى:

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾

[سورة الغاشية: 25-26]

 فهي مصير وجزاء كل إنسان، والعاقل هو الذي يهيئ جواباً عن كل ما يفعله في الدنيا، لأن الله عز وجل لو سألك: لماذا طلقتها؟ لماذا أخذت هذا البيت؟ لماذا منعت هذا الحق؟ لماذا لم تنصح المسلمين؟ ما جوابك؟ قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾

[سورة الأنعام : 94]

 الإنسان في الدنيا له جماعة، وله أصدقاء، وأقرباء، ومعارف، وله اتصالات بأشخاص أقوياء يستعين بهم أحياناً، فإذا اتهم بتهمة، أو وقع في مشكلة، هناك من يخلصه بسند كفالة، أو اتصال هاتفي، أما في الآخرة:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾

 فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " كن في الدنيا كأنك غريب " اجعل وطنك الأساسي الدار الآخرة، هؤلاء الذين يعتنون بالدنيا إلى درجة كأنهم لا يموتون، أي يؤسسون أشياء لا تفنى ويفنون قبل فنائها بمئات السنين وهي لا تفنى؛ فكن في الدنيا كأنك غريب، والغريب مؤونته خفيفة، ومشاعره في وطنه، أنت لاحظ نفسك إذا كنت في بلد و دخلت إلى فندق ورأيت خللاً هل تتألم؟ لا، لأن هذا الفندق ليس بيتك، يقول: ليلة وتمضى، فالإنسان إذا وطن نفسه على أن هذه الحياة سريعاً ما تنقضي؛ رجل هنا في شارع برنية، اشترى بلاطة بكاملها عبارة عن بيتين وكساهما بإتقان يفوق حدّ الخيال، بالطابق الثاني عشر، و لم يكن في البناء مصعد، سنتان طالع ونازل؛ أنواع الرخام، وأنواع الكسوة الراقية جداً، فلما انتهى البيتان من كسوتهما وافاه الأجل بعد أسبوع واحد.
 لنا صديق وقريب عنده محل مفروشات، قال لي: جاءني رجل من أندر الرجال يريد غرفة نوم بدئاً من الأصول، أخذنا له خشب جوز وعتقناه مدة سنتين حتى جفّ تماماً ودخل في موضوع النماذج أعطيناه كتلوجات ستة أشهر هذه أحلى بل هذه أحلى؛ هذه مجذبة، وهذه لونها غامق، قال لي: تعبنا جداً حتى استقر على نوع، بدأنا بتصنيع الغرفة، وهو يراقب إتقان التصنيع، ويأتي فجأة حتى يرى ماذا يعمل بها، قال لي: مرة انبطح تحت السرير لكي يرى هل في قدم السرير عقدة من الداخل، تابع الأمر، وبعد ستة أشهر دخلنا في متاهة المسكات، أيضاً أخذ كتلوجات وشاهد، شهر وشهران حتى استقر، انتهت الغرفة، عنده صالة، والغرفة جميلة جداً، ويوجد زبائن أقوياء، وأصحابه يريدونها، فاتصل به وقال له: تعال خذ غرفة النوم، قال له: الآن أدهن ستة وجوه معجون، وستة وجوه دهان، أيضاً أكثر من شهر أو شهرين حتى انتهى من موضوع الدهان، وصار ضغط كبير على صاحب الصالة، وقال له: إذا لم تأخذها سوف أبيعها، قال له: سوف أخذها وأعطاه وعداً الخميس، والخميس قال له: الخميس الثاني، قال لي: الخميس الثاني اتصلت به وسمعت ضجيجاً في البيت جاءت الزوجة قله لها: غرفة النوم ألا تريدون أن تأخذوها؟ فقالت: مات صاحبها، لم ينم عليها ولا ليلة، أنت وطن نفسك على أنك غريب، إذا وطنت أنك مقيم إقامة دائمة تتفاجىأ، والمغادرة قد تكون سريعة، وقد تكون بثانية واحدة، وهناك آلاف القصص، وأنت إذا آمنت بالله، واستقمت على أمره؛ الموت إذا جاء ترحب به، لأنه موعدك مع الله، وهذا مصير كل حيّ، والموت عرس المؤمن، وهو تحفة المؤمن، والموت تماماً كطالب يدرس في بلد أجنبي، ويعمل عملاً شاقاً ليأكل ويدرس وهو موعود إذا وصل إلى بلده ومعه الدكتوراه بأعلى منصب، وبأجمل بيت، وأجمل زوجة، فحينما ينال الدكتوراه ويصدقها ويضع رجله على سلم الطائرة ما معنى ذلك؟ هذه أسعد لحظة في حياته لأنه انتهى التعب، وجاء التكريم؛ لذلك الموت تحفة المؤمن، والإنسان كلما عمق جذوره في الدنيا تصبح المغادرة صعبة، وكلما أهمل طاعة الله عز وجل يصبح الندم أشد؛ لاحظ إذا أب توفي، وعنده ولدان من يبكي أكثر؟ الذي قصر بحق والده يبكي بكاء يكاد يموت من البكاء، أما الذي لم يقصر فيقول لك: هذا أجله، يتأثر لكن حزنه معتدل، أما الذي قصر فيتألم أشدّ الألم، والإنسان يعيش في بحبوحة، وعندما يأتي المرض لا سمح الله أو الموت إذا كان هناك تقصير يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا؛ قال تعالى:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[سورة الكهف : 103-104]

العاقل من يعلم لآخرته :

 من هو العاقل؟ هو الذي لا يندم إذا كان هناك ندم، أي يوجد خلل؛ أية حالة ندم تصيب الإنسان معنى ذلك أن عمله غير صحيح، لو فرضنا إنساناً - وهذه وقعت - إنسان معه عملة أجنبية، جمع وطرح وقسم وفكر و فكر وسأل واستشار بعد هذا باع الدولار واشترى العملة اللبنانية قبل انهيارها، فهبطت ثروته مئة ضعف، انتهى، ألا يتألم أشدّ الألم؟
 وهناك قصة وقعت في سوريا غريبة جداً، إنسان ذهب إلى بلد أجنبي، وضاقت به الأمور، فباع سيارته ومعمله ومحله التجاري وكل ممتلكاته، وأرسلها إلى بلد - وهي قصة طويلة -ولكن ملخصها صار هناك خطأ في إيداع الأموال، وضعها باسم صديقه حتى يأخذ الإقامة، والصديق قال له: ليس لك عندي شيء؛ إنسان يفقد كل شيء يملكه في ثانية واحدة، الموت أشدّ من ذلك، كل شيء جمعناه في الحياة عندما القلب يقف عظم الله أجركم، لا يملك القلم الذي في جيبه، ولا سن الذهب الذي في أسنانه، كل شيء فقده، وهذه المغادرة سريعة، والمغادرة صاعقة، والإنسان إذا ما حضّر نفسه لهذه الساعة يكون ليس عاقلاً.
 أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً؛ أرجحكم عقلاً أكثركم لهذه الساعة استعداداً، والمنهج متوازن، ولا يوجد حرمان في الإسلام؛ والله ما حرمك الأساسيات، تتزوج وتسكن في بيت، وتنجب أولاداً، وتربي أولادك، وكن مطبقاً لمنهج الله عز وجل، وأدّ عباداتك، لا يوجد تناقض بين الحياة الواقعية والحياة الذي وعدنا الله بها في الآخرة؛ بالعكس المؤمن عنده حالة نادرة، صدقوني الحالة النادرة أن نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، وهذه حالة نادرة جداً، وأكثر الناس خطه البياني صاعد صعوداً حاداً ثم يسقط سقوطاً مريعاً؛ المؤمن صعوده مستمر حتى لو مات، لأن الموت نقطة على الخط الصاعد، والصعود مستمر، وهذه قضية ينخلع لها القلب، والإنسان إذا لم يجلس مع نفسه، ويدرس أموره، ويدرس بيته، هل يوجد مخالفات عند بناته وزوجته وأولاده وعمله؟ هل يوجد شيء يؤدي إلى القلق؟ فإذا استقام أمره في بيته وعمله، واتصل بالله عز وجل، وأدى حقه، وأدى العبادات، وأنفق من ماله، وعمل لآخرته، فقد فاز؛ لاحظ إنسان حوّل أمواله إلى بلد آخر، ما الذي يحصل معه؟ يسره اللحاق بها، وإذا كل أمواله في بلد آخر يتمنى ساعة المغادرة، لأنه سيذهب إلى هناك، ويوجد عنده ملايين مملينة في البنك، وينزل في أجمل فندق، ويقتني أجمل مركبة، ويسكن أجمل بيت، لأن أمواله أمامه؛ إذا إنسان كل مكتسباته أمامه، وجاءت المغادرة شيء ينخلع له القلب، إذا كل مكتسباته في الدنيا وجاءت المغادرة الإجبارية ينخلع قلبه؛ أما إذا كل مكتسباته دفعها أمامه إلى الآخرة؛ أعمال صالحة، استقامة، دعوة إلى الله، خدمة، عبادات، وجعل حياته قائمة على خدمة الخلق، وقدم كل مكتسباته أمامه، أجمل شيء أن يلحق بها، لذلك الشيء الذي لا يصدق اقرأ تاريخ أصحاب رسول الله؛ أنا أتحدى أن تجد واحداً منهم وهو يفارق الحياة إلا و كان في أسعد لحظات الحياة، كلهم جميعاً.
 وأوضح شيء؛ وا كربتاه يا أبت، قال: لا كربة على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

الموت عرس المؤمن :

 تصور إنساناً الموت الذي نعده مصيبة، المصائب عنده تحفة، وعنده عرس، وكلما كان عملك طيباً كانت استقامتك جيدة، وعلاقتك بالله متينة، الموت صار مسعداً لأنه قطف الثمرة، والإنسان بالموت يكشف مقامه عند الله، وكلما كان التعلق بالدنيا والمعاصي كان الخروج منها أصعب، عندنا قاعدة لو شخص أراد أن يتزوج، يؤسس البيت، ويحتاج إلى عمل يعيش منه، هل هذا من حبّ الدنيا؟ الجواب لا، الدنيا التي لا تشغلك عن الله ليست من حب الدنيا؛ إذا أنت عبادتك صحيحة، ومنهجك صحيح، وأنت ملتزم، هذه ليس من الدنيا، هذه مطية للآخرة؛ طبعاً المأوى ضروري، والزواج ضروري، وتأمين دخل شهري ضروري، وهذه الأمور ليست من الدنيا، لكن تستعين بها على الدنيا؛ أما الدنيا التي تشغلك عن فريضة، تشغلك عن طلب العلم، تشغلك عن عمل صالح، تشغلك عن شيء ثمين، الخسيس إذا شغلك عن النفيس فهذا خطأ كبير، والخسيس هي الدنيا.
 مرة كنت في حلب مضيفنا أحبّ أن يرينا معالم حلب، أخذنا إلى شارع يعد من أرقى شوارعها، فيها قصور، والقصور حالاتها نادرة جداً، مهندسون جاؤوا من أطراف الدنيا، وبنوا هذه القصور على النمط الإغريقي، والنمط الروماني، فشاهدت فيلا على النمط الصيني، لونها بيضاء، بلغني وقتها - والقصة عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين- أن فيها رخاماً شفافاً، وهو أغلى أنواع الرخام بخمسة ملايين ليرة، وكان الدولار بثلاث ليرات، شيء لا يصدق من أناقتها، وفخامتها، شاهدناها من الخارج، عمر صاحبها اثنتان وأربعون سنة، توفي وهو طويل القامة، والقبر كان قصيراً، فالحفار وضعه في القبر ودفعه بصدره فجاء رأسه ملتوياً، هذا هو المصير.

 

الموت ينهي كل شيء :

 عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، هناك كلمة أقولها دائماً: الموت ينهي غنى الغني، وينهي فقر الفقير، وينهي قوة القوي، يوجد أباطرة وطغاة في العالم، وينهي ضعف الضعيف، وينهي وسامة الوسيم، وينهي دمامة الدميم، وينهي صحة الصحيح، وينهي مرض المريض؛ الموت ينهي كل شيء ويبقى العمل الصالح؛ إما عمل صالح وإما عمل سيئ.
 اجلس في مجلس واطرح اسماً؛ أول كلمة تقال في حق فلان: وفقه الله، معنى هذا أن عمله طيباً، والثاني: الله لا يوفقه، معنى هذا أن عمله سيئ، أبداً وأنت لك هوية، وعملك هويتك؛ ويوجد أعمال فيها عطاء، وأعمال فيها خير، وهناك إنسان محسن، وإنسان عفيف وصادق، وهو في خدمة المجتمع، وليس عبئاً عليه، فلذلك ابحث عن عمل يرضي الله، وهذا الحديث عن ابن عمر من الأحاديث الأربعين النووية التي هي من أصول الدين، وأنا إن شاء الله في كل درس سأشرح حديثاً في رمضان، أختار حديثاً من هذه الأحاديث وأشرحها.

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))

[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما]

 أو عابر سبيل، ليس لك مأوى، وأنت حقق مهمتك وارجع إلى بيتك؛ قصة تعرفونها جميعاً كنت مرة عند مدير ثانوية جلست ساعة من الزمان، حدثني عن مشاريع إلى عشرين سنة، يريد أن يسافر إلى أوروبا، ويريد أن يقيم خمس سنوات؛ سنة في إسبانيا، وسنة في فرنسا، وسنة في إيطاليا، ويتأمل معالم هذه البلاد، وريفها، وتراثها، ومتاحفها، وحياتها الاجتماعية، وقد كره هذه البلد، وبعد خمس سنوات يريد أن يتقاعد ويفتح محل تحف، ليس لها اشكاليات، ولا أسعار تموينية، ولا تخرب، ويكبر أولاده فيسلمهم المحل، ويصير المحل منتدى لأصدقائه، ولو استمرت الجلسة عنده لتكلم لي عن مشاريع لأربعين سنة، فانتهى اللقاء، وأنا انصرفت لعملي، وعندي مساءً عمل في الشام في المدينة، وأنا ذاهب إلى بيتي سيراً، والله الذي لا إله إلا هو رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه، هذه الدنيا مغادرة سريعة، هيئ نفسك، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 102]

 أي لا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون.

 

تحميل النص

إخفاء الصور