1997-12-31
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحديث التالي أصل من أصول الدين :
أيها الأخوة الكرام؛ مع بداية الدرس الأول من الحديث الشريف.((عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
قال شراح الحديث النبي عليه الصلاة والسلام خطب بهذا الحديث، هذه خطبة للنبي مختصرة حينما قدم المدينة، والسبب أن رجلاً أحبّ امرأة في مكة، وطلب الزواج منها، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر إلى رسول الله، فهاجر إلى النبي من أجل أن يتزوجها، وتزوجها فصار اسم هذا الرجل: مهاجر أم قيس؛ ما ترك مكة إلى المدينة إلا للزواج من هذه المرأة .عبادة الأعضاء :
أولاً: الأعضاء لها عبادة؛ العين عبادتها غض البصر، والأذن عبادتها سماع الحق، واليد عبادتها العمل الصالح، والرجل عبادتها أن تقودك إلى بيوت الله، واللسان عبادته ذكر الله، والقلب ما عبادته؟ الإخلاص؛ عبادة القلب الإخلاص، قال تعالى:﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾
الجوارح تنصاع لأمر الله، والقلب يخلص له، وقد قال العلماء في قوله تعالى:﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾
بماذا وصى نوحاً ؟ قال: وصاه بالإخلاص في العبادة .من يعبد ربه بإخلاص يكون قد حقق ثلث الإسلام :
أيها الأخوة؛ قال بعض العلماء: إن أول هجرة للنبي عليه الصلاة والسلام لم تكن من مكة إلى المدينة بل كانت إلى الله حينما توجه إلى غار حراء، والإنسان حينما يخلو مع ربه هذا نوع من الهجرة إليه، حينما تأوي إلى بيت من بيوت الله لتطلب العلم، أو حينما تقبع في غرفة من بيتك تذكر الله عز وجل فهذه هجرة إلى الله، أول هجرة هاجرها النبي عليه الصلاة والسلام إلى غار حراء، هاجر إلى الله، ألم يقل الله عز وجل:﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
كيف تفر إليه؟ تفر إليه من مشاغل الدنيا إلى كهف، تأوي إليه إلى بيت من بيوت الله؛ إلى غرفة قصية في بيتك تذكر الله، إلى جلسة مع نفسك تحاسب بها نفسك، قال العلماء: هذا الحديث ثلث الإسلام؛ السبب: الإنسان له نوايا محلها القلب، وله كلام ينطق به، وله أعمال يقوم بها، فحينما يعبد هذا القلب ربه بإخلاص له يكون قد حقق ثلث الإسلام؛ هذا الحديث يساوي ثلث الإسلام.النية عبادة مستقلة :
النية عبادة مستقلة بينما أي عبادة أخرى تحتاج إلى نية؛ هي لا تحتاج إلى شيء، سيدنا زيد الخير كان اسمه زيد الخيل، وكان من أجمل الرجال في الجاهلية، قدم على النبي عليه الصلاة والسلام فلفت نظر النبي، دعاه إليه قال: من أنت ؟ قال: أنا زيد الخيل، قال: بل أنت زيد الخير؛ لم يمضِ على إسلامه ربع ساعة أعطاه النبي وسادة تكريماً له ليتكئ عليها، فقال هذا الرجل: والله يا رسول الله لا أتكئ في حضرتك .
الدين كله أدب؛ لا أتكئ في حضرتك، قال: يا زيد ما وصف لي رجل فرأيته إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت؛ لله درك أي رجل أنت؟! قال له: يا رسول الله أعطني ثلاثمئة فارس لأغزو بها الروم؛ وغادر النبي عليه الصلاة والسلام وفي الطريق مات.
إنسان عاش في الإسلام يومين أو ثلاثة، وهو من أجلِّ أصحاب رسول الله، ماذا فعلت نواياه الطيبة؟ فقط النية لا تحتاج إلى شيء، بينما أي عمل آخر يحتاج إليها؛ فالنية عبادة القلب .
حتى يتوضح الأمر تماماً نحن سوف نضع خمس ليرات ذهبية في الطريق، ونهيئ مصوراً، إنسان يمر يرى هذه الليرات الذهبية فينحني ويلتقطها ويضعها في جيبه، صورنا؛ في اليوم التالي نأتي بخمس ليرات أخرى نضعها في الطريق ونأتي بمصور، ويأتي شخص آخر ينحني ويأخذها ويضعها في جيبه؛ الأول نوى أن يبحث عن صاحبها، والثاني نوى أن يأخذها، وشتان بين الاثنين، العمل واحد، التصوير واحد، الحركات واحدة، والمبلغ واحد، والمبلغ وضع في الجيب، ليس هناك أدنى فرق بين عمل الأول وعمل الثاني في الظاهر؛ لكن واحداً يرقى بهذا العمل لأنه نوى أن يبحث عن صاحبه .
مثل آخر: إنسان أخذ مالاً من إنسان، من أخذ أموال الناس يريد أداءها، ما فعل شيئاً إلا أنه نوى أن يؤديها إلى صاحبها، أدى الله عنه، الله ييسر له، ويغنيه، ويرزقه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ ليت الحديث أتلفها الله؛ أتلفه هو، والنية واضحة جداً .
ذكر لي شخص كنت في سفر وجدت في طريقي جامعاً جميلاً جداً حديثاً في منطقة بعيدة عن العمران، صليت في هذا المسجد، دعاني رجل إلى غرفة ضخمة لأشرب فنجان قهوة، وقال لي: أنا الذي بنيت هذا المسجد؛ ثم قال لي: أنا أنهيت خدمتي الإلزامية وأقسم بالله وبكى لا أملك من الدنيا قرشاً، أخذت سوار أختي وبعتها، واشتريت بثمنها بطاقة طائرة، وسافرت إلى دول الخليج، وأنا في الطائرة - وأقسم بالله مرة ثانية- ما تحركت شفتاي إلا أنني بقلبي قلت: إذا أكرمني الله عز وجل فسأبني في هذا المكان مسجداً، هذا خاطر في قلبه ورد إليه؛ قال: وأقمت عشر سنوات وأكرمني الله عز وجل بفضل هذه النية، ولما عدت إلى هذا البلد اشتريت أرضاً وعمّرت بيتاً لنفسي، وشرعت بإنشاء مسجد، ومنعت لأنها منطقة زراعية وهي منطقة في الصيف يرتادها مصطافون كثيرون، قال لي: لم يُسْمَحْ لي والقوانين لا تَسْمَحُ إلا في المدن والتجمعات السكنية، قال لي: ذهبت إلى المحافظ وقلت له ببساطة أنا نويت أن أبني في هذا المكان مسجداً، فقال لي: بكل بساطة رفع الهاتف وطلب رئيس البلدية وقال له: غض بصرك عن هذا المسجد وأنشئ هذا المسجد، هذه قصة نموذجية أن إنساناً ما فعل شيئاً إلا أنه نوى أن يبني لله مسجداً؛ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شرّ من عمله :
أيها الأخوة؛ نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله. المؤمن إذا أطعم عشرة يتمنى أن يطعم مئة، وإذا بنى مسجداً يتمنى أن يبني ألف مسجد، وإذا هدى إنساناً يتمنى أن يهدي مليون إنسان، وإذا أنفق مئة ليرة يتمنى أن ينفق مليون ليرة؛ دائماً نية المؤمن خير من عمله، وأما نية الكافر فإذا ارتكب معصية يتمنى أن يرتكب كل يوم معصية، وإذا أوقع الأذى بإنسان يتمنى أن يوقع الأذى بمليون إنسان، ونية الكافر شر من عمله .(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؟ فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسـَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
وقال في حديث آخر: " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، ومن غزا..." هل هناك أعظم من الجهاد؟ الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأعلى شيء في الإسلام الجهاد، والمجاهد لا يضع ماله يضع حياته ويضع روحه؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من غزى وهو لا يريد إلا عقالاً فله ما نوى " .إذا كان في نيته أن يكسب بعض الغنائم أقلها عقال، وعقال بعير أي زمام بعير؛ أو درع أو سيف فله ما نوى، هذا كل أجره من الجهاد .تعلق النية بالإخلاص و الإخلاص بالتوحيد :
أيها الأخوة؛ قد يسأل سائل كيف ننوي نيات طيبة ؟ الجواب الدقيق: النية متعلقة بالإخلاص، والإخلاص متعلق بالتوحيد، وكلما ازداد توحيدك ازداد إخلاصك فارتقت نواياك؛ التوحيد يزداد، الإخلاص يزداد، ترتقي النية؛ أنت الآن إذا علمت يقيناً أن هذه الدائرة الحكومية فيها أربعة طوابق، وفي كل طابق مئة موظف، وأن مشكلتك لا يحلها إلا المدير العام، وأي موظف آخر ليس من صلاحيته توقيع الموافقة فهل تسأل غير المدير العام؟ هل تبذل ماء وجهك لغير المدير العام؟ إطلاقاً، هذا في حياتك الدنيا، وأنت حينما توقن أن الأمر بيد الله وحده، وأن حياتك ورزقك وسعادتك ورقيك وعطاءك ومنعك وزوجتك وأولادك ومن حولك ومن فوقك ومن تحتك وأعضاءك الداخلية وصمام القلب وتوسع الأوعية والشريان التاجي بيد من هذا عندما يضيق تصبح حياة الإنسان جحيماً؟ كل إمكانيتك وشطارتك وكل ذكائك منوط بأن تبقى الشرايين التاجية التي تغذي القلب واسعة؛ إذا ضاقت تحتاج إلى قسطرة، ومن ثم إلى عملية، وهناك احتمال بعد العملية أن يدفع أربعمئة ألف ثم يعطون القلب صعقة فلا يعمل، كل إنسان منجزاته منوطة بفتحة شرايين القلب؛ معنى هذا أنه كله بيد الله عز وجل، لذلك النية الطيبة تأتي من الإخلاص، والإخلاص يأتي من التوحيد، فكلما نما توحيدك نما إخلاصك وارتقت نيتك .
وجوب مصاحبة النية الطيبة للعمل و أن تكون شرطاً له :
أولاً: إنما الأعمال بالنيات؛ إنما تفيد الحصر أي قيمة العمل منوطة حصراً بنيته، لذلك الأعمال العظيمة بنوايا سيئة قال تعالى:﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾
والله عز وجل قال:﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
ويوجد آية ثانية توضحها تماماً قال تعالى:﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
إنما تفيد ما زائد الاستثناء، لم يحضر إلا خالد، هذا تركيب ما والاستثناء بمعنى إنما الذي حضر خالد، فالمعنى نفسه، فإنما تفيد الحصر.﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
لماذا لم يقل: ربي اجعلني صادقاً؟ لأنه يمكن أن تدخل إلى عمل بنية طيبة وفي وسطه تأتيك مغانم كثيرة فتتشبث بهذه المغانم، وتحرص على تنميتها، وتنسى نيتك الطيبة، ممكن إنسان يصاب بالجلطة من فاتورة المستشفى وليس من مشاكل أخرى، والمستشفى عمل إنساني، ممكن أن ندخل دخولاً طيباً لكن لا نخرج خروجاً طيباً .﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
إذاً النية الطيبة يجب أن تصاحب العمل طوال العمل، ويجب أن تكون شرطاً له، أي أن تنطلق منه .النية هي القصد و هي الدين كله :
النية هي القصد، وهي عزيمة القلب، وركن في أول العمل، وشرط مصاحبته طوال العمل.
إنما الأعمال بالنيات، أخواننا المتخصصون في اللغة أين تعلق باء الجار والمجرور، يوجد فعل محذوف يتعلق به الجار والمجرور، قال: إنما الأعمال بالنيات تصح، أو إنما الأعمال بالنيات تقبل، أو إنما الأعمال بالنيات تكمل، أو إنما الأعمال بالنيات تعتبر، فلابد من فعل تعلق به الجار والمجرور، وإنما الأعمال بالنيات تصح .
التعريف العام للنية: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالاً أو مآلاً .
التعريف الشرعي: الإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء مرضاة الله وامتثال حكمه.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: " لا عمل إلا بنية" ليس معنى هذا أنه نفى العمل لكن نفى صحة العمل أو نفى كماله؛ العمل فعل الجوارح حتى اللسان.
أخواننا الكرام أقوالك من أفعالك، والعلماء أجمعوا على أن القول من العمل، فالعمل فعل الجوارح حتى اللسان، وبعضهم أدخل بالعمل الترك، رجل غض بصره هذا عمل؛ ضبط لسانه هذا عمل؛ فالضبط عمل، والقول عمل، والحركة عمل .
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: " لا عمل إلا بنية" النبي لم ينف أصل العمل؛ نفى صحته وكماله .
أيها الأخوة؛ النية موضوع طويل جداً هي الدين كله، أو هي نصف الدين، أرجو الله سبحانه وتعالى في وقت آخر أن يتاح لنا متابعة هذا الموضوع .
الحديث الشريف:
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))