وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الطلاق - تفسير الآيتان 6-7
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مستوى السُكنى للزوجة يجب أن يكون في مستوى السكنى للزوج :

 أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الخامس من سورة الطلاق، ومع الآية السادسة، وهي قوله تعالى:

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾

 أي أن مستوى السُكنى للزوجة هو مستوى السكنى للزوج:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

[ سورة البقرة: 286 ]

 يجب أن يطعمها مما يأكل، وأن يلبسها مما يلبس، وأن يسكنها في بيتٍ يسكنه، أما أن يكلَّف ما لا يطيق في السكنى أو في الإنفاق فهذا ظلمٌ للزوج.

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ﴾

 لست مؤاخذاً أبداً أن تسوِّيها بنفسك، أما أن تتفضل عليها؛ أن تسكن أنت في مكانٍ فخمٍ، أو أن تسكن زوجتك الأولى في مكانٍ فخمٍ جداً، والثانية في مكانٍ قميء فهذا ظلم.

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾

حظوظ الدنيا موزَّعةٌ بين الخلق توزيعاً مؤدَّاه واحد :

 الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل بين الناس فروقاً، قال تعالى:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 هذه الآية لها معنى دقيق جداً، فمن هم بعضهم؟ كلنا بعضهم، وكلنا الآخر بعض، لولا هذا التفضيل لما انطلقت الحياة، ولما حصل الانسجام، هناك أناس يحبُّون الأعمال اليدوية، فضَّله الله عليك بهذا الاختصاص، هناك أناس يحبون الأعمال العلمية، فضله الله عليك بهذا الاختصاص، هناك إنسان يعمل بعقله، هناك من يعمل بيديه، هناك من يعمل بمشاعره، هناك من يقدِّم خدمات، هناك من يبيع، هناك من يشتري.

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 هذه الآية تشير في النهاية إلى أن المجموع ثابت، لو أمكن أن نعطي لكل حظٍ من حظوظ الدنيا علامات؛ فالزوجة الناجحة الصالحة لها علامة، والابن البار له علامة، والصحة لها علامة، والرزق الوفير له علامة، وراحة البال لها علامة، والوسامة لها علامة، لو أعطينا لكل حظوظ الدنيا علامات لفوجئنا أن المجموع ثابت، يعطي المال ويأخذ الصحة، يعطي الصحة ويأخذ المال، يعطي الصحة والمال ويأخذ الأولاد، يعطي الأولاد ويقلّ المال، لو أردت أن تبحث بشكلٍ موضوعي لوجدت أن حظوظ الدنيا موزَّعةٌ بين الخلق توزيعاً مؤدَّاه واحد، خُذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً، كل إنسان عنده ميزات يقابل هذه الميزات مشكلات، كل إنسان عنده مغانم يقابلها مغارم، كل إنسان عنده دنيا واسعة تقابلها هموم واسعة، فمبدئياً:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

الله عز وجل يسّر لكل إنسان عملاً يتفوق به :

 ألا تجد الذي يملك الملايين يقف أمام إنسان خبير لإصلاح المركبة يقف أمامه متأدِّباً ولا يعرف كيف يشكره إذا أصلحها له؟

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 يعطي المال بدرجات، يعطي القوة بدرجات، يعطي الصحة بدرجات، يعطي الوجاهة بدرجات، يعطي الوسامة بدرجات، يعطي طلاقة اللسان بدرجات.

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 هناك خدمات لا يمكن أن تفعلها أنت، لأنك لا تحسنها، أو لا ترضى بها، هناك إنسان يحب أن يعملها، وهي ضمن رغبته وطموحه، فكيف وزَّع الله الاختصاصات والقدرات والملكات والإمكانات؟ وكيف ألهم كل إنسانٍ أن يتقن عمله؟ سبحان الله! كلما اطلعت على عمل يقوم به إنسان في غاية التعقيد، صعب أحياناً، أو فيه مخاطرة، أو فيه منظر دماء، فالجراح مثلاً؛ قد يفتح البطن، وقد يفتح الصدر، وقد يخرج القلب، وهو طبيعي جداً، أنا أقول: كلما رأيت إنساناً يتقن عمله، وعمله يبدو لنا جميعاً أنه فوق المستطاع، أقول: سبحان من يَسَّرَ لكل إنسانٍ عمله! هذا يعمل في بناء الأبنية، هذا يعمل في تأمين الطعام للناس، هذا يعمل في صُنع الألبسة، هذا يعمل في التعليم، هذا يعمل في القضاء، وكل حرفة لها ملابساتها، ولها دقائقها، ولها خصائصها، وكل إنسان بالممارسة يتقن عمله يصبح متفوقاً فيه، يصبح مُفَضَّلاً فيه:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

مراتب الدنيا لا تعني شيئاً :

 لعلي في هذا الدرس مَهَّدت هذا التمهيد لكلمة:

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾

 فممكن أن تشتري بيتًا بمئتين وخمسين ألفًا في أطراف دمشق، وهناك صنبور ثمنه يقدر بمئتين وخمسين ألفًا، يفتح على الضوء، ومُعَيَّر.

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 لكن أيها الأخوة:

﴿ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾

[ سورة الإسراء: 21 ]

 أريد أن أقف وقفةً متأنيةً لعلها ضعيفة الصلة بالآيات، مراتب الدنيا لا تعني شيئاً.
 ثانياً: مؤقَّتة، فمرتبة المال، قارون من أغنى الأغنياء، هل كان الله يحبه؟ لا، فرعون هل أحبه الله؟ لا.. سيدنا سليمان كان ملكاً، وأحبه الله، سيدنا عبد الرحمن بن عوف كان غنياً، وأحبه الله، مراتب الدنيا لا تعني شيئاً، فالله يحب إنسانًا غنيًّاً، ويكره إنسانًا غنيًّاً، معنى ذلك أن المحبة والكراهية لا علاقة لها بالغنى، ما دام يحب عبد الرحمن بن عوف الغني الذي أنفق ماله، يحب سيدنا عثمان بن عفان الغني الذي أنفق ماله، ويبغض قارون الذي تاه بماله على الناس:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾

[ سورة القصص: 79 ]

 إذا كان الله يحب غنياً، ويبغض غنياً، ألا ينبغي أن نستنبط أن الغنى لا علاقة له بالحب والكراهية، يحب ملكاً كسليمان الحكيم، ويكره فرعوناً، لأنه طغى، وبغى، ونسي المبتدى والمنتهى، إذاً حظوظ الدنيا في الدنيا لا تعني شيئاً..

﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾

[ سورة الدخان: 25-29]

ليس عطاء الله إكراماً ولا منعه حرماناً :

 إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين، مراتب الدنيا لا تعني شيئاً، لأنها مؤقتة، هي مؤقتة ولا تعني شيئاً، أما أنها مؤقتة، فالموت ينهي الغنى، ينهي غنى الغني، لا يوجد قبر خمس نجوم، القبر قبر، ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير، ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي صحة الصحيح، ينهي مرض المريض، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، ينهي فصاحة الفصيح، ينهي عَي العَي، الموت ينهي كل شيء، المراتب مؤقتة، أولاً.
 وثانياً: لا تعني أن من تفوَّق في هذا يحبه الله، الله يحب المؤمن فقيراً كان أو غيناً، قوياً كان أو ضعيفاً، صحيحاً كان أم سقيماً، وسيماً كان أم دميماً، كان عليه الصلاة والسلام يضع أسامه بن زيد على فخذه ويقول: "اللهم إني أحبه فأحبه"، وكان يسمَّى عند أصحاب النبي حبَّ رسول الله، وكان أسود اللون، أفطس الأنف، فهذه قضية دقيقة جداً، مراتب الدنيا وحظوظها لا تعني شيئاً، لا تعني أن الله يحبّك، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

[ سورة الفجر: 15 ]

 هذه هي مقولته..

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾

[ سورة الفجر: 16 -17]

 أي أنتم واهمون يا عبادي، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، فالإنسان الذي لا يجد المال الكافي، الصحة الكافية، أحياناً حظه من بعض المجالات قليل، لا ينبغي أن يشعر أنه مهان عند الله، لا:

(( يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال: بل نبياً عبداً، أجوع يوماً فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره))

[شرح السنة للبغوي قريبا من هذا اللفظ]

حظوظ الدنيا متفاوتة :

 إذاً وصلنا إلى أن حظوظ الدنيا متفاوتة، أول حقيقة هي في المجموع واحدة، في المجموع، أما في التفاصيل فليست واحدة، قد يوفق الإنسان إلى زوجة صالحة جداً نعطيه تسعة، وإلى أولاد غير أبرار نعطيه واحداً، مجموعهم عشرة، عنده زوجة صالحة جداً، أولاد غير جيدين، أو أولاد تسعة وزوجة واحدة، أو أولاد خمسة وزوجة اثنان، ومال ثلاثة، بالنهاية مجموع واحد .

﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾

[ سورة الفجر: 15 -17]

 - كَلا -، أداة نفيٍ وردع، أي يا عبادي، أنتم واهمون، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء.

العبرة بالنتائج :

 أيها الأخوة الكرام... كلامٌ دقيقٌ دقيقٌ أسوقه لكم، بيدك مال، لا تقل: هذا نعمة، ولا تقل: هذا نقمة، متزوج، لا تقل: الزواج نعمة، ولا الزواج نقمة، لك شأن، لا تقل: هذا الشأن نعمة أم نقمة؟ هذا المال إذا وظَّفته في طاعة الله فهو نعمة، فإن أنفقته في المعاصي والآثام فهو نقمة، هذه الزوجة إن دللتها على الله فهي نعمة، أما إن تركتها جاهلةً وعاثت في الأرض فساداً فهي نقمة، هذا الشأن العالي إن وظَّفته في إحقاق الحق وإزهاق الباطل نعمة، أما إن لم توظفه في الحق فهو نقمة.
 لا تسمِّ العطاء نعمةً إلا إذا وظِّف في طاعة الله، لا تسمِّ الذكاء نعمةً إلا إذا وِّظف الذكاء في طاعة الله، لا تسمِّ طلاقة اللسان نعمةً إلا إذا وظِّفت في طاعة الله، لا تسمِّ المال نعمةً إلا إذا أنفق في طاعة الله، إيَّاك أن تسمّيَ حظوظ الدنيا نعماً إن استهلكتها في المعاصي والآثام، وَّإياك أن تسميَ الحرمان نقماً إن كان الحرمان سبب رجوعك إلى الله عزَّ وجل، فإذا انكشفت لك عين حكمة المنع انقلب المنع عين العطاء، ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك.
أحياناً تجد في بعض البلاد دنيا عريضة- شيئًا لا يوصف- مالاً وفيراً، بيوتاً جميلة، منطقة جميلة خضراء، دخلاً كبيرًا، أموراً ميسَّرة، تأمينًا صحيًّاً كاملاً، الإنسان يُجري أي عملية مجاناً، هناك تعويضات مجزية له ولأولاده، الذي لا يعمل له ثمانون بالمئة من معاشه، وهو يعمل، هذه الدنيا العريضة قد تكون حجاباً بين هؤلاء وبين الله، وأحياناً الشدائد تدفعهم إلى باب الله، فالعبرة بالنتائج، الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 128 ]

 زوج فقير قد يكون أعلى عند الله ألف مرة من زوجٍ غني، وإنسان يسكن بيتاً واسعاً قد يكون أقلّ شأناً عند الله من إنسان يسكن بيتًا صغيراً، لا اتساع البيت يعني شيئاً ولا ضيقه، النبي عليه الصلاة والسلام كانت غرفته لا تتسع لصلاته ونوم زوجته، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، فالعبرة بالمؤدَّى، العبرة بالنهاية، أنت إنسان مجموعة أيام، بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك، مفهوم الزمن عند الناس غير واضح، أنت بين يومٍ مضى لا تملكه، وبين يومٍ سيأتي لا تملكه، ولا تملك إلا الساعة التي أنت فيها، فلذلك: "ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها".

من حملت زوجها على معصية الله فهي أكبر عدوةٍ له يوم القيامة :

 أردت هذا التمهيد، قد لا يعبأ الناس بإنسان دخله محدود لجهلهم، ولضعف إيمانهم، فأحياناً حاجب في فندق مستقيم فرضاً، يقرأ القرآن، قد يكون أقرب إلى الله من نزلاء الفندق الأغنياء، لا تعرف مقام الناس عند الله إلا عرضت أعمالهم على كتاب الله وسُنَّة رسوله، لذلك هل نكلف زوجاً فقيراً أن يسرق من أن أجل أن يسكن زوجته منزلاً واسعًا؟ هل نكلف زوجاً أن يقبل الدخل الحرام من أجل أن يطعم زوجته طعاماً نفيساً؟ أن يلبسها ثياباً فخمة؟ أبداً، لا أحد يحتج أنه يوجد عنده ضغط من الداخل، هذا وضعي، وهذا دخلي، وهذا مستوى معيشتي، فإن شئتِ أن تعيشي معي بهذا أهلاً وسهلاً، ولك صدر البيت.. كما يقولون.. أما إن ضغطت عليه لتحمله على كسبٍ حرام أو على معصيةٍ، فهذه الزوجة ينبغي ألا تطاع، فلو أطعتها كانت أكبر أعدائك يوم القيامة..

﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ﴾

[ سورة التغابن: 14 ]

 إن حملتك الزوجة على معصية الله فهي أكبر عدوةٍ لك يوم القيامة، لأن شقاء الإنسان يراه بسبب هذه الزوجة التي دفعته إلى معصية الله، كانت الصحابيَّات الجليلات يقفن يودِّعْنَ أزواجهن قبل الذهاب إلى العمل ويقُلن لهم: يا فلان، اتق الله فينا، فنحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام.
 الآن لسان حال النساء المتفلتات يدفعن أزواجهن إلى توسيع البيت، إلى تغيير الأثاث، إلى شراء الألبسة الفاخرة، إلى تأمين الطعام الطيِّب، ولا يعبأن من أين يجيء هذا الزوج بهذا المال الكثير، دخله محدود، من أين جاء بهذا المال الكثير؟ هي تعبأ أن تأكل، وأن تشرب، وأن تلبس، وأن تسكن، ولا تعبأ بدين زوجها، فلذلك: " اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الدنيا لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أضحي بهن من أجلك ".

الإنسان السوي لا يسعده إلا أن يرى أهله وأولاده في حالة طيِّبة :

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ﴾

 هذا المسكن الذي أستطيع أن أسكنه، تسكنين معي.

﴿ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾

 ما تجدون.

﴿ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾

 الإنسان أحياناً يقيم الشرع في بيته، وأحياناً يستخدم مواد الشرع للتضييق على زوجته، من يعلم هذا؟ لا يعلم هذا إلا الله، الله وحده يعلم ما إذا كنت تضيِّق عليها، قد تدعي أنك لا تملك، والله يعلم أنك تملك، قد تدعي أنك لا تجد، والله يعلم أنك تجد:

((لذلك ليس منا من وسَّع الله عليه ثم قتر على عياله))

[الجامع الصغير عن جبير بن مطعم بسند ضعيف]

 والبخيل إنسان شاذ، إنسان مريض، والأب السوي لا يسعده إلا أن يرى أهله وأولاده في حالة طيِّبة، لذلك:

((إنك يا سعد، لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تجعلها فِي فيّ امرأتك))

[متفق عليه عن سعد]

طلب الحلال فريضة بعد الفريضة :

 لذلك هذا الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه يستيقظ باكراً إلى عمله، فقال بعض الأصحاب: ليته كان هذا في سبيل الله، فتعجب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال:

((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))

[الجامع الصغير عن كعب بن عجرة]

 إذا خرج الإنسان من بيته ليعمل فيأتي بمال ليسعد زوجته وأولاده فهو في سبيل الله، الإنسان عمله من عبادته، وإن الله عزّ وجل جعل طلب الحلال فريضةً بعد الفريضة، هذا الكلام كله:

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾

النبي عليه الصلاة والسلام استوصى بالنساء خيراً :

 الزوجة المؤمنة العاقلة لا تحمِّل زوجها ما لا يطيق، لا تطالبه إلا بما يجد، لذلك ورد في بعض الأحاديث أن من بركة المرأة قلة مؤونتها:

((أعظم النساء بركةً أيسرهن مؤونةً))

[الجامع الصغير عن عائشة]

((أعظم النساء بركةً أقلهن مهراً))

[الجامع الصغير عن عائشة]

 هذه المرأة حينما تقيس نفسها بحجم مهرها لا تعرف شيئاً، المرأة لا تقدَّر بثمن، المهر تعبير رمزي، ولكن ليس تعبيراً حقيقياً، فإذا حَمَّلَتْ المرأة زوجها ما لا يطيق فقد عصت الله ورسوله.

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾

 أحياناً هناك تقنين هدفه الإضرار، أحياناً هناك تضييق هدفه إيقاع الأذى بالمرأة، وليس من شِيَم المؤمن أن يوقع الأذى بزوجته، لأن النبي عليه الصلاة والسلام استوصى بالنساء خيراً قال:

((أكرموهن، فوالله ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهم كل لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً))

[ورد في الأثر]

 وقال:

((إنهن المؤنسات الغاليات))

[الجامع الصغير عن عقبة بن عامر]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

((خيركم خَيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))

[الترمذي عن عائشة، وابن ماجه عن ابن عباس]

المرأة العاقلة لا تُحمّل زوجها ما لا يطيق :

 أما الآية الثانية:

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾

[ سورة التحريم: 4 ]

 المرأة إذا طالبت بحقها فلا شيء عليها، إنما إذا أرادت أن تَحْمِلَ زوجها على ما لا يطيق، وأن تكلفه ما لا يستطيع، وأن ترهقه، وأن تجعل حياته نكداً، ومعيشته ضنكاً، فهذه امرأةٌ لا تعرف الله، ولا ترقى عند الله.

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾

 بعض علماء التفسير قال: كيف تضاروهن؟ يطلقها، هو ينوي أن يفارقها نهائياً، يطلقها طلقةً أولى في طهرٍ لم يمسَّها فيه، فإذا انقضى أول قرءٍ شهر، وثاني قرء شهر، وثالث قرء شهر، قبل يومين يراجعها، فتعود إليه، وبعد أن تطهر يطلِّقها، هدفه إزعاجها، هدفه إبقاءها في بيته مُهانة بعيدة عنه، وبعيد عنها، وهذا نوعٌ من أنواع التضييق، فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
 يا أبا أمية، إنني امرأةٌ غريبة، لا أعرف ما تحب ولا ما تكره، فقل لي ما تحب حتى آتيه وما تكره حتى أجتنبه؟ ويا أبا أمية قد كان لك من نساء قومك من هي كفء لك، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي، ولكن كنت لك زوجةً على كتاب الله وسُنَّة رسوله ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فاتق الله فيَّ، وامتثل قوله تعالى:

﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾

[ سورة البقرة: 229 ]

 هذا كلام ربنا عزَّ وجل، إما أن تمسكها كزوجة، أو أن تسِّرحها سراحاً جميلاً، فأنا لا أتكلم من هراء، أتكلم من شكاوى كثيرة، لا هي زوجة، ولا هي مطلقة، ولا هي معلَّقة، لكن فمن هي؟ زوجة، فلما لا تأتي إلى بيتها، هجرها، يسكن مع زوجة أخرى، زوجة يأتيها، ويؤتي نصيبها من اللقاء، فلمَ تعطي تلك المبالغ الطائلة وهذه تحرمها؟

على الزوج أن ينفق على زوجته الحامل و إن كانت مطلقة :

﴿ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾

 أي أن المطلَّقة إذا كانت حاملاً تبقى في بيت زوجها فعلى زوجها أن ينفق عليها حتى تضع حملها، لأن المرأة تحمل الغلام وَهْنَاً، حملته وهناً، ووضعته كرهاً، قال:

﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ﴾

 هذه بعد أن طلقتها طلاقاً مبتوتاً، بعد أن بانت منك البينونة الكُبرى، إن كانت حاملاً فيجب أن تنفق عليها، وإن كانت غير حامل فيجب أن تُمْضي العدة في بيتك دون أن يكون هناك لقاء إطلاقاً، أو نظر.

﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ﴾

 كلمة [ معروف ]دقيقة جداً، هناك معروف في كل مجتمع، وهناك عمل شاذ وعمل بالمعروف، أنا سمعت عن امرأة توفي عنها زوجها، تسكن في بيت زوجها، زوجها متزوِّج من زوجة سابقة، وكانت قد توفيت، وله منها أولاد، ماذا فعل الأولاد بزوجة أبيهم؟ أول شيء هذا الزوج ترك مالاً في البيت، أول شيء أعطوها نصيبها من هذا المال حباً وكرامة، دون أن يخفوا شيئاً، قالت لهم: إن زوجي وعدني بالمال الفلاني الذي عند فلان أنه لكِ، كلاماً شفهياً، قالوا: هو لكِ إذاً، أعطوها تنازلاً، ثم جاؤوا بمهرها، مبلغ عشرة آلاف ليرة، بعد أن أعطوها المهر عادوا عليها بعد يومين أعطوها تسعين ألفًا، قالت: لمَ؟ قالوا: لأننا سألنا العلماء فقالوا: هذا المهر بعملة قيمتها قديماً تساوي شيئاً ثميناً، أما الآن فلا تساوي شيئاً، فحسبوها على الذهب، هذا هو المعروف.

﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾

[ سورة البقرة: 229 ]

التُهَم التي تلقى إذا وُجِد خلاف زوجي كلها من الشيطان :

 نحن إذا كان هناك خلافاً يوكلون المحامين، وكل طرف يحاول أن ينَكِّل بالطرف الثاني، يحاول أن يتفنن بإيقاع العذاب والخسارة بالطرف الثاني، ألا يمكن أن نتفارق بالمعروف؟ ألا يمكن أن نطلق بالمعروف؟ ألا يمكن أن نعطي حقوق الزوجة بالمعروف؟ ألا يمكن أن نضبط ألسنتنا؟ قل: لا يوجد نصيب، إذا صار الطلاق تنشر الفضائح، وينشر الغسيل القذر على السطوح، وفي الشرفات، فلا يوجد نصيب، المسلم بحاجة إلى كمال، فإذا كان الوفاق كان المديح غير معقول، أيضاً إن صار خلاف كان الذم غير معقول، فيكون الزوج ولي من أولياء الله الصالحين، ثم بعد ذلك يقولون عنه: إنه يقع بالساعة، الحمد لله، خلصنا الله منه، رأساً يتهمونه بصحته، يتهمونه بشرفه، أو بالعكس، هذا كله من الجاهلية، هذه التُهَم التي تلقى إذا وُجِد عدم وفاق زوجي، أو صار الطلاق، هذا كله من الشيطان.

﴿ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ﴾

[ سورة المائدة: 91 ]

مهمات الشيطان :

 أخواننا الكرام، الشيطان له مهمات وضحها لنا ربنا، أول مهمة: التفريق بين المرء وزوجه، وصدقوني أيها الأخوة، إن الله لا يرضى عن الزوجين إلا إذا كانا متفاهمين، وإلا إذا كانا متعاونين، وإلا إذا كانا متضامنين، وإلا إذا كانا متسامحين، وإلا إذا كان متباذلين، هو يبذل، وهي تبذل، هو يسامح، وهي تسامح، مهمة الشيطان عكس ما يرضي الله عزَّ وجل، الخصومة، والكلمة القاسية، والنظرة القاسية، والعبارة النابية لها ولأهلها، والعبارة النابية له ولأهله، هذا من عمل الشيطان، كل إنسان يمتحن إيمانه في بيته، هل هو مطواع؟ هل هو سلس القِياد؟ رحيم، يقول عليه الصلاة والسلام:

((خيركم خَيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))

[الترمذي عن عائشة، وابن ماجه عن ابن عباس]

من يرفض أن تنصحه زوجته إنسان جاهل :

 الآن طلق:

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾

 هناك عُرف، والعُرف مأخوذ من الفطرة، في بعض البلاد الأجنبية شيء في القضاء اسمه المحلَّفين، خمسون شخصاً من قارعة الطريق تعرض عليهم قضية بحسب إدراكهم السليم وفطرتهم السليمة يعطون رأياً صحيحاً، العُرف قلما يخطئ، ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾

 - وَأْتَمِرُوا - فيها معنى المشاركة، أي هذا الذي يرفض أن تنصحه زوجته إنسان جاهل:

﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾

 أي عليك أن تأمرها بالمعروف، وعليها أن تأمرك بالمعروف، ائمرها بالمعروف واقبل أمرها بالمعروف.. أحياناً عندنا فكرة جاهلية، أن الحق دائماً مع الرجل، لا، أحياناً يكون الحق مع المرأة، فكما أنه يجب أن تصغي إلى أمرك بالمعروف، الله عزَّ وجل يأمرك أن تصغي إلى أمرها بالمعروف، هناك امرأة مظلومة، والمرأة المظلومة قد يستمع الله إلى شكواها من فوق سبع سموات، إيَّاك أن تستضعف مخلوقاً، إيَّاك أن تقل: هذه الزوجة أهلها مسافرون، والدها متوفى، أخوها مسافر، ليس لها من يحميها، أنا أتحكم فيها، هذا كلام الجاهلية، كلام إنسان جاهل، الله ربها، وهو يدافع عنها، وقد يسوق الله الشدائد تلو الشدائد لمن يظلم زوجته.

﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾

 أي مرها بالمعروف، فرضاً الزوج ضعفت صَلاته، إن نصحته زوجته هل عليه أن يغضب؟ نصحته أن يصلي الفجر في وقته، فقال لها: جزاك الله خيراً، هذه من أعظم النعم، أن تكون لك زوجة تأمرك بالمعروف، إن رأت دخلاً غير مشروع فسألتك: من أين هذا الدخل؟ أنا لا أرضى أن تكسب الحرام، هذه زوجة عظيمة، كما أنه مأمورٌ أن يأمرها بالمعروف، ومأمورٌ أيضاً أن يصغي إلى أمرها بالمعروف إن كانت صاحبة حق، لا تكن جاهلياً، كن رحمانياً، لا تكن مستبداً، كن خَيرِيَّاً.

القرآن الكريم جعل بديل حليب الأم مرضعة :

﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ ﴾

 أي لو أن المرأة المطلقة التي أنجبت مولوداً جاء من يخطبها إلى بلدٍ بعيد، هل يستطيع الزوج أن يمنعها من الزواج والسفر؟ لا يستطيع، قال:

﴿ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾

 لا توجد مشكلة، أما هنا فهناك مشكلة الآن، والشيء العجيب أن القرآن الكريم جعل بديل حليب الأم مرضعة، الآن في العالم كله بديل حليب الأم الإرضاع الاصطناعي.

لا شيء يعادل حليب الأم و هو أروع هدية من الرحمن :

 أحدث بحث اطلعت عليه وهو بحث مترجم، هناك علاقةٌ وشيجةٌ جداً بين الذكاء والإرضاع الطبيعي، هذا البحث كلَّف سنوات، أخذت عيِّنات من الأطفال من شتى بقاع العالم، وفي بلد، وهو جزيرة في المحيط الهادي وجد أن نسبة الذكاء بين أطفالها أعلى نسبة في العالم، أمريكا التي تدعي أنها في قمة المجتمع البشري، ترتيبها سبعة عشر في الذكاء، الأطباء عزوا ذلك إلى الإرضاع الطبيعي، لأن حليب القوارير هو حليب البقر أو الغنم، فيه مواد بروتينية لا تستطيع أجهزة الطفل تحمُّلها إطلاقاً، لا تستهلك منها إلا الخمس، والأربعة أخماس لا تستهلك، هذه المواد البروتينية، والأحماض الأمينية، تصبح عبئاً على جهاز الهضم والدوران في الطفل الصغير، بينما حليب الأم.. ودققوا فيما أقول: يتبدل تركيبه في أثناء الرضعة الواحدة، في أول الإرضاع نسب الماء ستون بالمئة، في نهاية الإرضاع أربعون بالمئة، حليب الأم يتبدَّل كل رضعة، وفي أثناء الرضعة الواحدة، وفيه مواد تمنع التصاق الجراثيم بالأمعاء، وفيه مناعة الأم كلها، وفيه مواد تعين على الهضم، وقد ثبت أن بعض الآفات القلبية والوعائية والكلوية في مستقبل حياة الإنسان تُرَدُّ إلى أنه رضع من حليبٍ صناعي، ولم يرضع من ثدي أمه.
 أنا أقول لكم حقيقة: لو أن أماً طلقت، وأنجبت ولداً، وسافرت مع زوجها الجديد، ماذا نفعل؟ البديل ما هو؟ البديل مرضعة أخرى، بهذا أمر القرآن، هذا كلام الله عزَّ وجل، لأن لا شيء يعادل حليب الأم، وفي بعض البلاد الأجنبية، بل في أكثرها كل شركات حليب الأطفال أُمِرَتْ أن تكتب: " لا شيء يعادل حليب الأم "، في الدرجة الأولى، بل إن بعض أمراض الثدي، ومنها الأمراض الخبيثة.. الورم الخبيث.. سببه عدم الإرضاع، فالأم التي لا تُرضع طفلها لتحافظ على شكلها قد يتسبب ذلك في إصابتها بسرطان الثدي، لأن هذا من حق ابنها..

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[ سورة البلد: 8-10 ]

 هذه هدية الله، هذا الحليب حليب الثديين يجده الطفل الصغير جاهزاً، معقماً، بارداً صيفاً، ساخناً شتاءً، متوازناً، متعادلاً، متدرجاً في نسبه، فأروع هدية لهذا الطفل الصغير حليب الأم.

منعكس المص من آيات الله الدالة على عظمته :

 رأيت في بحث علمي مصوَّر أن بعض الحيوانات ولدت مولوداً صغيراً، بعد ثانيتين التقم حلمة الثدي ورضع منها، من علَّمه ذلك؟ هناك شيء لا يغيب عن أذهانكم أن في الإنسان ما يسمى منعكسَ المَص، هذا المنعكس لولاه لما كنا في هذا المسجد، تصور مولوداً جديداً لا يستطيع أن يأكل إلا الحليب، ولا يعرف كيف يمص ثدي أمه، يموت، لا توجد طريقة، قد يقول أحدكم: نعلمه، الآن هو ولد، نقول له: انتبه أيها الطفل، ضع فمك على حلمة ثدي أمك، وأحكم الإغلاق، واسحب الهواء، مستحيل، هذا المنعكس منعكس المص يولد مع الإنسان، فقضية الحليب، وقضية منعكس المص، شيء لا يكاد يصدق، يقال لك: الآلة بشحمها، فالطفل حينما يولد الله جلَّ جلاله لحكمٍ بالغة يجعل في كل جهازه الهضمي مواد شحميّة لتمنع التصاق الأوعية ببعضها، فالمواد الشحمية لابدَّ من أن تزول قبل أن يأكل، فالأربع والعشرين ساعة في أول إرضاع الطفل الصغير لا يرضع حليباً، يرضع مواد مذيبة شَّفافة صفراء، أول أربع وعشرين ساعة يخرج منه شيء أسود هو الشحم الذي كان في الجهاز الهضمي، تخطيط من؟ صُنع من؟ صنع الله عزَّ وجل، فلذلك:

﴿ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾

 معنى ذلك أن إرضاع الإنسان من قِبل أمه أو من قبل مرضعة.

ليس منا من كلَّف نفسه ما لا يطيق :

 ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾

 لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله))

[مسند الشهاب للقضاعي عن عائشة]

 بالمقابل، ليس منا من كلَّف نفسه ما لا يطيق، أي أكل مالاً حراماً ليوسع على عياله، الله لم يأمرك بهذا، وما كلفك ما لا تطيق.

﴿ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾

المظاهر لا قيمة لها إطلاقاً :

 أحياناً تجد عرساً.. طبعاً أنا لا أقول هذا لأنني موافق عليه.. كلف ستين مليونًا، وتجد عرساً فوق سطح منزل، وفيه تجلٍّ، وفائدة، ووفاق زوجي، و سعادة كبيرة.
 في الحياة جوهر، وفيها ظواهر، المظاهر لا تقدِّم ولا تؤخِّر، قلنا لكم مرة: فندق من الفنادق الكبيرة في دمشق التي تجرى فيها عقود القران، والمبالغ بالملايين، عشرون، ثلاثون، إلى الستين، أعلى رقم: ستون مليونًا، أراد هذا الفندق أن يجمع الذين أجروا عقداً فيه خلال ستة أشهر كي يكافئهم، أجري إحصاء، كانت العقود ستة عشر عقداً، فدعوا أصحاب العقود ليقيموا لهم حفلاً تكريمياً، ففوجئوا أن ثلاثة عشر عقداً من هذه العقود قد آلت إلى الطلاق، فلذلك المظاهر لا قيمة لها، العبرة بالمخبر.
 أحياناً تجد حفلاً فخماً يكلف الملايين، لكن لا يوجد فيه وفاق زوجي، وأحياناً تجد وفاقًا زوجيًّاً في حفل متواضع جداً لم يكلف شيئاً، واللهِ سمعت أن بعض المساجد تجري فيها عقود القران، فيها تجلٍّ و سرور، وإلقاء كلمات، ومديح لرسول الله، وتوزَّع ضيافة، بكل بساطة، إذاً:

﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾

 لا أحد يتشاءم.

أحد أنواع التربية الإلهية أن يضيِّق على الإنسان ثم ييسر له :

﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾

 العسر مقصود، والعسر تربوي، والعسر يهذِّب المشاعر، إذا اغتنى إنسان بعد افتقار تجده متواضعاً، ويعرف قيمة الناس، وقيمة الفقراء، وقيمة الأخلاقيين، الملاحظ أن الإنسان إذا اغتنى بعد فقر عنده تواضع شديد، إنسان ويعرف قيمة المال، ويعرف قيمة المحرومين، بالعكس إنسان قد يكون من أسخى الناس، أما الذي ينشأ في الغنى، ولم يذق طعم الفقر فهذا قد لا يحتمل، فأحد أنواع التربية الإلهية أن يضيِّق إنسان ثم يفتح.

﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾

بطولة الإنسان أن يتزوج امرأةً لا يحتاج إلى تطليقها :

 أيها الأخوة هذا منهج الله في العلاقة الزوجية، لكن كما قلت في بداية أول هذه السورة: تزوجوا ولا تطلقوا، فالبطولة أن تتزوج امرأةً لا تحتاج إلى تطليقها، ألم أقل لكم مرةً: إن سيدنا معاوية سأل سيدنا عمرو بن العاص: ما بلغ من دهائك؟ قال له: والله ما دخلت مُدْخَلاً إلا أحسنت الخروج منه، قال له: لست بداهية، أما أنا والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه.
 الإنسان يوفق بزوجة صالحة، فلا يحتاج إلى تطليقها، أما إذا كانت الدراسة سريعة، والقرار تمّ على عجل، دون تمحيص، في الأحيان الكثيرة يحتاج الإنسان إلى أن يطلق زوجته، أما البطولة فأن تتزوج ولا تطلق، أي أن تدرس الأمر دراسة متأنية، وأن تبحث ملياً عن الأسرة، وعن أخلاقها، وعن مستواها، وعن دينها، وعن علاقاتها الاجتماعية، وعن طيبها، وعن دخلها، حتى يكون الاختيار صحيحاً.
 وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نتحدث كيف أن الله بعد هذه الآيات التشريعية هناك آيات ردعية، أو فيما يسمى في القوانين المؤَيِّد القانون الذي يحمل الناس على طاعة الله..

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا*فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور