وضع داكن
28-03-2024
Logo
تأملات قرآنية - الدرس : 59 - من سورة مريم والملك وق - الأنبياء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تحرك الإنسان وفق اختياره :

 قال الله تعالى:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾

[سورة مريم:41-45]

 أبٌ يعبد الأصنام، بيت وثنيّ ينشأ فيه نبي كريم، ماذا يعني ذلك؟ نوّسع الدائرة. بيت أصله الجهل ينشأ فيه عالم كبير، بيت منحرف ينشأ فيه تقي ورع، بيت فيه علمٌ و تقى ينشأ فيه ولد منحرف، هؤلاء الذين يتوهمون أن الإنسان ابن بيئته فقط يجعلون الإنسان جماداً، فالجماد محكوم بالظروف المحيطة به، أمسك بحجر، وألقه في منحدر، يستقر في قعر الوادي، أي حجر في أي مكان وزمان، أمسك كأس ماء وضعه في منحدر الماء يسيل نحو الأسفل، نقول: الجماد منفعل، إذا أردنا أن يكون الإنسان كالجماد يتأثر بالبيئة ألغينا اختياره، وألغينا أنه فعّال وليس منفعلاً.
 أيها الأخوة؛ أستاذ في علم النفس كبير قال هذه الكلمة قال: إذا صح أن الإنسان ابن بيئته، وابن وراثته، وابن أبويه، وابن محيطه، إن الأصح من هذا كله أنه ابن نفسه، قد ينشأ إنسان في أعلى درجة من العلم في بيت جهل، أنا سمعت عن فتاة والدها يدير عدة ملاه، لو طلبت منه مليونين يعطيها بلا سؤال، تعمل معلمة، وتطبخ في غرفتها، وتأكل من دخلها، إنسان آخر عنده دور لهو، له زوجة مؤمنة محجبة لم تحضر حفلة من حفلاته، ولا حفل زواج ابنها وبناتها، امرأة فرعون أكفر كفار الأرض كانت صدّيقة، أي الإنسان ابن نفسه، سيدنا إبراهيم نشأ في بيت وثني، ومع ذلك كان نبياً مرسلاً، فكل إنسان يحتج بالبيئة هو كالنعامة تماماً تغمس رأسها في الرمل، الإنسان يستطيع أن يتحرك وفق اختياره.
 أحد الأدباء: قال إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان، أنت إذا آمنت بالله عزّ وجل تفعل المستحيل، لأن الله معك، لذلك ضعفاء الناس يتأثرون بالبيئة، الآن الخط العريض في المجتمع يسمون الدهماء، سوقة الناس، هؤلاء يتأثرون بالبيئة أشدّ التأثر، يلهثون وراء صرعات العصر، يلهثون وراء التقليد، يلهثون وراء ما يأتي من الخارج، أما الأشخاص العقلاء فلا يتأثرون بالبيئة، لو أن مجتمعهم سقط هم لا يسقطون، بل إن العظماء يؤثرون في البيئة.

على الإنسان ألا يعزو تقصيره إلى البيئة :

 الأنبياء جاؤوا من بيئة فيها ظلم، وفيها بغيٌ، وفيها عدوان، وفيها شرب خمور، وفيها قمار، وفيها ربا، وفيها أن الزوجة تتقلب بين عشرة رجال، ماذا فعل النبي؟ جعل من رعاة البقر، أو من رعاة الغنم قادة للأمم، إياكم أن تظنوا أن البيئة تصنع الإنسان هو يصنعها، هو يؤثر فيها، هذه حقيقة الإنسان، حينما يقصّر يميل ويرتاح إلى أن يعزي تقصيره إلى غيره، ما رأيت مقصراً في حياتي إلا عزا تقصيره إلى شيء آخر.
 إذاً لماذا يوضع إنسان آخر في البيئة نفسها ويتفوق؟ معنى هذا أن العلة ليست من البيئة، رجل في قرية متخلفة إلى درجة لا تصدق، جاء إلى قضاء تابعة له مشياً على قدميه، من قضاء إلى مركز محافظة إلى أن وصل إلى الشام، وعمل في بعض المطاعم، وتقلب من عامل في مطعم إلى عامل في مطعم آخر إلى طالب علم ليلي إلى مدرس لوجبة واحدة وما مات إلا رئيس الجامعة، كيف هذه البيئة الفقيرة الجاهلة أنتجت عالماً كبيراً؟ الإنسان إذا أراد شيئاً يفعل المستحيل، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان، والحقيقة المكان الذي وصل إليه هذا هو صدقه، والمكان الذي لم يصل إليه هي تمنياته، والله سبحانه وتعالى لا يتعامل بالتمنيات أبداً، الشيء الذي أردته وصلت إليه، والشيء الذي تمنيته لم ولن تصل إليه.

﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ﴾

[سورة النساء:123]

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف: 110]

 سلمان الفارسي ابن عابد نار، كيف انتقل من بلدة في بلاد فارس وصار صحابياً جليلاً؟ قال عنه النبي: سلمان منا آل البيت.
 فلا أحد يحتج بالبيئة، أنا لا أريد أن أكون غير واقعي، البيئة لها تأثير، ولكن ليس كل التأثير، لها بعض التأثير، ولكن الإنسان إن اختار شيئاً يغير معالم البيئة.
 دهماء الناس، سوقتهم، المستويات الدنيا منهم، يتأثرون بالبيئة، بل يعزون تقصيرهم إلى البيئة، والأشخاص الأعقل من هؤلاء لا يتأثرون، والعباقرة يؤثرون، يتركون بصمات كبيرة جداً في بيئتهم.
 إنسان واحد نشأ في مكة، خمس قارات بعد ألف وخمسمائة عام تتأثر بدعوته، هذه البلدة كانت بيد الرومان من جعلها مسلمة؟ ألم يستقبل سيدنا عمر رسول عامله في أذربيجان؟ أين هي أذربيجان؟ في بلاد روسيا الآن، ألم يستقبل عامله في الصين؟ ألم تصل جيوش عبد الرحمن الغافقي إلى مشارف باريس؟ ماذا فعل هذا الإنسان بأخلاقه وقيمه ودعوته الصادقة؟ فعل المستحيل..
 وأنت أيها الأخ الكريم؛ بإمكانك أن تفعل المستحيل، يوجد علماء عاشوا أقل من خمسين سنة، تركوا مؤلفات هي بركة وخير إلى يوم القيامة، عاش أقل من خمسين سنة، الأذكار، رياض الصالحين، مغني المحتاج، كتب في الفقه، وفي الحديث، وفي الذكر، الإمام الشافعي، هؤلاء الذين تركوا بصمات واضحة، الإمام الغزالي هؤلاء لم يتأثروا ببيئتهم بل أثروا فيها، وبإمكانك أن تكون متفوقاً، لماذا أنت في الدنيا تريد الأكمل؟ أكمل بيت، أكمل مركبة، لِمَ لا تريد الكمال في الآخرة؟
 لذلك إياك أن تعزو تقصيرك إلى البيئة، يقول لك إنسان: نحن بيتنا غير مناسب للدراسة، أنا حدثني أخ أخذ شهادة هندسة عليا، وهو مهندس متفوق جداً، قال لي: أنا كنت في سقيفة البيت، ليس له غرفة خاصة، فيها تدفئة خاصة، وفيها كمبيوتر، وفيها مراجع، أبداً لا يوجد شيء، وصار متفوقاً في عمله، بينما تجد بيوتاً كل وسائل الرفاه مؤمنة للطفل ولا يدرس، هل يحق للمقصر في الدراسة أن يحتج؟ ليس له غرفة خاصة، هذا شيء مضحك، أنا أعرف أناساً في الخمسينات أبوهم يمنعهم من أن يدرسوا، يدرسون تحت السرير على شمعة، كان السرير عالياً قديماً، هذا السرير العثماني عبارة عن حديد عال، يقرأ تحت السرير على ضوء الشمعة، أعرف رجلاً والده غير قانع بالدراسة، أخرجه من الابتدائية، ووضعه في مكتبة، ثماني سنوات عنده درس الابتدائية بالتهريب من أبيه، والكفاءة، والثانوية، ودخل الجامعة أخذ ليسانس حقوق، ويحمل الآن دكتوراه في الحقوق، وله مؤلفات كثيرة، أين بيئته؟ بيئته ضد العلم، الأب غير قانع بالعلم، قانع بالعمل، فأخرجه من الصف الرابع ووضعه في المكتبة، كيف نال الدكتوراه؟ قس على ذلك كل شيء.
 أيها الأخوة؛ سبحان الله إذا الإنسان تفوق يقول لك: أنا عصامي، أنا درست، أنا تعبت، إذا قصّر يقول: بيئتي بيتي، أهلي وتربيتي، لماذا لا تعزو التفوق إلى أهلك؟ لا التفوق هو، هو المتفوق، هو العصامي، هو الذي درس، هو الذي بنى نفسه، أما إذا قصّر صار أبوه المسؤول، والبيت مسؤول، وأبوه دخله محدود، ليس له غرفة خاصة، عزا هذا كله إلى غيره، الإنسان أحياناً يرتاح عندما يعزو أخطاءه إلى الآخرين، برأ نفسه لكن هذه التبرئة لا قيمة لها إطلاقاً، ولا أحد يستمع إليها، هذه نقطة.

مشكلة الإنسان يوم القيامة مشكلة رؤية فقط :

 النقطة الثانية: عندما قال ربنا عزّ وجل:

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[سورة مريم: 38]

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾

 هذه أسمع صيغة تعجب، يوجد عندنا صيغتان نظاميتان، ما أفعله! وأفعل به! ما أعظمه! وأعظم به! ما أرحمه! وأرحم به!

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾

 أي ما أشدّ سمعهم يوم القيامةّ وما أشد بصرهمّ معنى هذا أن المشكلة مشكلة سمع وبصر، مشكلة علم،. أنا مرة ذكرت لكم عن سيارة قديمة جداً، فيها مشكلات كثيرة جداً، هوت بصاحبها وأردته قتيلاً، وسيارة ثانية عالية جداً من أعلى ماركة، تقول المشكلة مشكلة كفاءة، هذه السيارة كفاءتها ضعيفة جداً قتلت صاحبها، أما إذا كانت السيارتان من أعلى مستوى لكن صاحب أحد السيارتين أطفأ المصباح، والطريق فيه منعطفات، هل هي أزمة كفاءة أم هي أزمة رؤية؟ أزمة رؤية، لو أطفأ المصباح باختياره، والطرق متعرج، وظلام، وهناك واد على اليمين وقع في الوادي، تقول بأن مركبته قديمة؟ لا، هي جديدة جداً، وفيها كل وسائل الضمان، لأنه أطفأ المصباح وقع في شر عمله، مشكلة الإنسان مشكلة رؤية، وهو في النار ماذا يقول:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[سورة الملك: 10]

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾

 أي ما أشدّ سمعهم! وما أشدّ بصرهم !

خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط :

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾

[سورة ق: 22]

 أخواننا الكرام؛ فكرة ذكرتها كثيراً لكنها خطرة جداً، خيارك مع الإيمان خيار وقت، عند الموت الذي رآه الأنبياء تراه أنت، الذي رآه كبار المؤمنين تراه أنت، الذي رآه الصديقون تراه أنت، كما لو أن طالباً دخل الامتحان، وقد نال درجة الصفر بجدارة لا يعلم شيئاً، رجع إلى البيت، وقرأ الكتب، فهم الجواب، فقدم كتاباً للوزارة أنه عندما خرجت من الامتحان، واطلعت على الإجابات الصحيحة عرفتها، يرجى إدراج اسمي مع الناجحين،. يضعون هذا في القصير، أن تعرف الحقيقة بعد فوات الأوان شيء مضحك، أوانها الآن، أوانها وأنت في الدنيا، أوانها والقلب ينبض، أوانها وأنت تمشي على قدميك وأنت في بحبوحة، أوانها وأنت شاب، أوانها وأنت قوي، أوانها وأنت غني، أما وهو على فراش الموت لفلان ألف، لفلان خمسة آلاف، فالمال لم يعد له قيمة، هذه الخمسمئات لا قيمة لها وأنت على فراش الموت.
 درهم تنفقه في حياتك خير من ألف مئة درهم تنفقه بعد مماتك، فنحن خيارنا مع الإيمان ليس هناك خيار قبول أو رفض، خيار وقت، لابد من أن نذعن للحق شئنا أم أبينا، ولكنا إذا عرفنا الله مختارين هذا الذي يرفعنا عند الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور