وضع داكن
24-04-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 19 - إقرأ 2 التأمل والتفكر يتكامل مع الوحي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع:

 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحييكم عبر القناة الفضائية السورية من هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وأستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة، أهلاً ومرحباً بكم.
 بيّنتم في الحلقة السابقة أن الإنسان مكون من مادة وروح، إنما هي في مجموعها يمكن أن تنقسم إلى أقسام ثلاثة، العقل، والقلب، والجسم، ولكل غذاؤه الخاص به، وإذا اختل غذاء قسم بالنسبة لوجود الإنسان حيث نقص أو طغى على موضوع آخر، فإنه يختل توازن هذا الإنسان، ويكون التوازن موجوداً عندما تتكامل الأمور لديه من خلال الشرع الإسلامي الذي وجهه إليه هذا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المطهرة، وبينتم أصول أن يبدأ الإنسان في موضوع أن يتعلم، ويكون علمه باسم الله تعالى، وباسم الإله الأكرم،

 

﴿ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 ثم تأتي بعده أشياء تبين عظمة هذا الخالق وكرمه، وكيف يكون الإنسان تجاه هذا الخالق، ووصلتم كما أذكر إلى موضوع:

 

 

﴿ اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

 ونتحدث إن شئتم عن:

 

 

﴿ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 

الأستاذ:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً، في الحلقة السابقة بينت كما تفضلتم أن هناك قراءة إيمانية، وقراءة أخلاقية، وأن هناك قراءة بحث وإيمان، وأن هناك قراءة شكر وعرفان، بقيت قراءة ثالثة، وهي قراءة وحي وإذعان، العقل مهما أوتي من قدرات فائقة محدود في الذي يشاهده، والذي يقع تحت حواسه، فالماضي السحيق لا يعرفه، والمستقبل البعيد لا يعرفه، وطرف من حقيقة الذات الإلهية لا يعرفها، وحقيقة النبوات والرسالات لا يعرفها، وماذا بعد الموت لا يعرفه، فيوجد قضايا وموضوعات كبيرة جداً مهما كان الإنسان عاقلاً وذكياً لا يستطيع أن يصل إليها من عنده .
أنا مثلاً: لو زرت جامعة، فرأيت البناء فخمًا، والقاعات واسعة، فيها عزل للصوت، والمخابر جيدة، وسكن الطلاب متوازن، والحدائق غناء، يمكن أن أستنبط أن لهذه الجامعة إدارة حكيمة، وهناك مهندسون أكفاء، لكن مهما كنت ذكياً في تأملاتي فلن أستطيع أن أعرف من هو رئيس الجامعة، ولا نظامها الداخلي، ولا طريقة النجاح والرسوب، ولا عدد الكليات، ولا أسماء الأساتذة، هذا لا يمكن بالتأمل والتفكر، هذه لا تأتي إلا بكتاب اسمه التقويم الجامعي، فيه كل شيء، فالإنسان يتفكر في خلق السماوات والأرض، وهذا التفكر يقوده أن لهذا الكون إلهاً، أما قضية الجنة والنار، وبدء الخليقة، وأسماء الله الحسنى، هذه لا بد من أن نتلقاها تلقياً من الوحي، لذلك حينما قال الله عز وجل:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)﴾

 جاءت القراءة الثالثة:

 

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾

ما كان له أن يعلم لولا أن الله علمه، فكأن التأمل والتفكر يتكامل مع الوحي، تتأمل فيما تسمعه وتشاهده، وقد تستنبط منه حقائق كثيرة.
 وهذا يقودنا إلى حقيقة دقيقة جداً، أن هناك ثلاث دوائر، دائرة المحسوسات، ودائرة المعقولات، ودائرة الإخباريات، ففي دائرة المحسوسات الحواس الخمس أداة اليقين الحسي، شيء محسوس أراه بعيني، أسمع صوته بأذني، ألمسه بيدي، أشم رائحته بأنفي، فالمحسوسات أداة اليقين بها الحواس الخمس، المحسوسات ظهرت عينها، الدائرة الثانية المعقولات، أشياء كثيرة بقيت آثارها، وغابت عينها، أنا حينما أرى دخانًا وراء جدار أقول: لا دخان بلا نار، أنا ما رأيت النار، ولكن حكمت على آثار النار من الدخان، دائرة المعقولات دائرة تعتمد على استنباط المغيب بشيء محسوس، لذلك الله عز وجل كل شيء في هذا الكون يدل عليه، فذات الإله غابت عنا، لقوله تعالى:

 

 

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾

 

(سورة الأحزاب)

 ولكن آثار الإله بين أيدينا، لذلك العقل هو الأداة الأولى لمعرفته من خلال خلقه، ولمعرفة أن هذا القرآن كلامه من خلال إعجازه، ولمعرفة أن هذا الإنسان الذي قال هو رسول الله هو رسوله من خلال قرآنه، لكن في الدائرة الثالثة أشياء غابت عينها وآثارها، الماضي السحيق، كالمستقبل البعيد، كبدء الخليقة، كحقيقة النبوة، هناك موضوعات كثيرة جداً موضوعات إخبارية، سماها العلماء وعلماء آخرون موضوعات سمعية، هذه لا دور للعقل فيها، بل كأن العقل حصان تركبه إلى باب السلطان، فإذا دخلتَ دخلت وحدك، أنا بعد أن أصل إلى الله بعقلي أتلقى منه بالوحي، الله عز وجل أمرني أن أصلّي، وأكون صادقاً، وأغضّ بصرر، يوجد أوامر ونواهٍ.
لذلك قضية بدء الخليقة، وفلسفة الكون، والحياة، والإنسان، وسر وجودي، وغاية وجودي، وماذا بعد الموت، وما قبل الموت، هذه كلها إخباريات، لذلك قال تعالى:

 

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾

 شيء دقيق جداً، مستحيل أن الله على كماله يدع خَلقه من دون توجيه، فلذلك من لوازم كمال الله عز وجل إنزال الكتب، وإرسال الرسل، فالكتب والرسل من لوازم إرسال الله عز وجل، لأن الله عز وجل رحيم، والأب حين يرى ابنه يقترب من المدفأة، لابد من أن يتحرك، إما أن ينهاه، وإن كان لا يفهم الكلام يقوم من مكانه ويمسكه، فإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب من لوازم كمال الله، وهناك قاعدة تقول: كمال الخلق يدل على كمال التصرف.
 القراءة الثالثة: أن نقرأ القرآن، ونفهم ما فيه من أوامر ونواهٍ، فالقرآن أوامر ونواهٍ، وتاريخ الأمم السابقة، نهاية الأمم مشاهد يوم القيامة، أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، هذه قراءة وحي وإذعان، وهي كلمة تعني أن العقل ليس له دور في هذه الموضوعات، وأكبر خطا يقع فيه المسلمون حينما يحاورون الطرف الآخر في موضوعات غيبية، هذه الموضوعات لا تؤمن بها إلا إذا آمنت بالذي أخبرك عنها، فإذا كان الذي أخبرك عنها موضع شك فلا معنى للحديث عنها إطلاقاً، لا ينجح داعية في طرح قضايا غيبية على الطرف الآخر، لا يقنع بها، والطرف الآخر يملك حجة قوية على إنكارها، بدليل أنه كيف يمكن أن تقنع إنسانًا بوجود الجن ؟ لا دليل ! إلا الدليل الإخباري السمعي القرآني، كيف أقنع إنسانًا بوجود الملائكة ؟ هكذا أخبرني الله عز وجل، فهنا يقف العقل أمام الإخبار، فعليه أن يذعن، فقراءة البحث والإيمان هذه أساسها العقل، وقراءة الشكر والعرفان أساسها القلب، وقراءة الوحي والإذعان أساسها الدائرة الثالثة السمعية، التصديق الذي أخبرنا أن هناك جنة ونارًا.
الحقيقة أننا قد نتوهم أن هذه هي القراءة، لا، هناك قراءة خطيرة جداً، قراءة الطرف الآخر، قراءة نفعية من أجل المال، الذين يعبدون المال يقرؤون ما في الكون قراءة نفعية، يريدون تجميع الثروات، والهيمنة على بقية الشعوب، وتحقيق مصالحهم بأعلى درجة، لذلك قال تعالى:

 

﴿ كَلاَّ ﴾

 أي ابقَ في هذه القراءات، ابقَ في قراءة الإيمان والإذعان والعرفان، ولا تتعدَّ هذه القراءات إلى قراءة نفعية هدفها العدوان والطغيان.

 

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾

 الطرف الآخر إذا قرأ يقرأ من أجل السيطرة، من أجل صناعة أسلحة تدمر البشرية والقيم والتجمعات، فلذلك قال تعالى:

 

 

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾

 هناك بعض الأدعية:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو

 

 

(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَرْبَعٍ، مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ))

 

(سنن النسائي)

 بالمناسبة، لئلا يفهم الإخوة المشاهدون هذا الموضوع فهماً ما أردته، المؤمن مطالب أن يقرأ ما في الكون قراءة قوة، ولكن بعد أن يؤمن، لأن في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ... ))

 

(صحيح مسلم)

 والله عز وجل يقول:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 

(سورة الأنفال)

 أنا ينبغي أن أقرأ لأتعرف إلى الله، ينبغي أن أقرأ لأشكره، ينبغي أن أقرأ لأعرف سر وجودي، وغاية وجودي، وينبغي أن أكون قوياً، هؤلاء في الطرف الآخر يؤمنون أنك إن كنت قوياً فأنت على حق، القوة تعني أنك على حق ‍‍‍‍!! هذه قوة مرفوضة، ولكننا كمؤمنين نؤمن أن الحق ما جاء به الوحي، ولكن الحق يحتاج إلى القوة، يحتاج إلى قوة تدعمه، لذلك النبي أثنى على المؤمن القوي، والعلم قوة، والمال قوة، وأن تكون متمكناً أيضاً قوة أخرى، لذلك الإنسان إذا غفل عن الله، وغفل عن سر وجوده، وغفل عن غاية وجوده، وغفل عن رسالته يقرأ ما في الكون قراءة نفعية، لذلك يتفنن في صنع أسلحة هدفها أن ترغم الإنسان على ما يريده القوي.

 

المذيع:

لذلك الإسلام والسلطان أخوان شريكان في قرار.

 

 

الأستاذ:

 

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ﴾

 ولئلا يكون الكلام نظرياً لابد من تطبيق عملي، الله عز وجل ضرب لنا مثلاً في القرآن قوم عاد، فقال:

 

﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)﴾

 

(سورة الفجر)

 أي تفوقت بقراءة الكون تفوقاً شاملاً.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾

 أستاذ عدنان، عاد تفوقت في الناحية العمرانية، قال تعالى:

 

 

﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)﴾

 

(سورة الشعراء)

 فيوجد تَفوّق عمراني مذهل، تفوق منشآت، تفوق أبنية، تفوق جسور، تفوق ناطحات سحاب، تفوق مذهل، هذا لهو التفوق الأول، التفوق العمراني، ويوجد تفوق آخر، هو التفوق العسكري، قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)﴾

 ويوجد تفوق ثالث ورابع، تفوق علمي.

 

 

﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)﴾

 تفوق شمولي، لم يخلق مثلها في البلاد، يوجد تفوق عمراني، منشآت جسور، ويوجد تفوق ثالث، تفوق عسكري:

 

 

﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)﴾

 

 وتفوق علمي:

﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)﴾

 ماذا فعلت عاد ؟ قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)﴾

(سورة الفجر)

 عدوان وإفساد، وإذا أردت أن تلخص عمل الطرف الآخر لا يزيد على نشاطين، عدوان على الحرمات، وعدوان على الممتلكات، عدوان على الثروات، ثم إفساد للقيم، وانحلال للأخلاق.

 

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)﴾

 وهناك إشارة في القرآن الكريم دقيقة جداً، هي أن الله عز وجل بين أن عاداً ما كان فوقها إلا الله، لأنه ما أهلك قوماً إلا بين أنه أهلك من هم أشد منهم قوة، إلا عاداً لما أهلكها قال:

 

 

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾

 

(سورة فصلت)

 شيء آخر في عاد، كأنهم ليسوا قوماً وجدوا ثم أهلكوا، عاد نموذج متكرر لكل أمة تنهج نهج عاد، بدليل لفتة رائعة في القرآن، في قوله تعالى:

 

﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50)﴾

 

(سورة النجم)

 أي إذا قلت لك: هذه دفعة أولى، فانتظر دفعة ثانية !!

 

المذيع:

 وقد تكون دفعات.

 

 

الأستاذ:

 فعاد الأولى نموذج لأمم طاغية، بنت مجدها على أنقاض الآخرين، بنت غناها على إفقارهم، بنت أمنها على خوفهم، بنت عزها على ذلهم، بنت حياتها على موتهم، هذه عاد:

 

 

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)﴾

 بماذا أدبها الله عز وجل ؟

 

 

﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)﴾

 

(سورة الحاقة)

 هذه الأعاصير التي تأكل الأخضر واليابس، وتكلف أموالاً طائلة، هذا من تأديب الله لقوم عاد.
شيء آخر، أن عاداً ماذا كان مصيرها ؟ قال تعالى:

 

﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

 

(سورة الفجر )

 والذي يلفت النظر في هذه الآية أن الله بالمرصاد لعاد، ولكل أمة سلكت مسلك عاد، فالله عز وجل ذكر أن هناك قراءة إيمانية، وقراءة عرفان وشكر، وقراءة وحي وإذعان، وقراءة عدوان وطغيان، فالإنسان حينما يقوى ينسى ربه، طغى، وبغى، ونسي المبتدى والمنتهى، ونسي الجبار الأعلى، إذاً نحن أمام هذه القراءات الأربعة، قراءة إيمان، وقراءة عرفان، وقراءة إذعان، وقراءة طغيان، من هنا كان العلم قيمة موقوفة على طريقة الانتفاع به، وقد يستخدم العلم للعدوان، إذاً هو علم مرفوض عند الواحد الديان.
 أستاذ عدنان، الإنسان مخير، ولأنه مخير فكل شيء أمامه حيادي، بل إن شهواته حيادية، بل إن حظوظه حيادية، لو أوتي الإنسان طلاقة في اللسان، هذه قوة حيادية، يمكن أن تسخر لنشر الحق، أو لإفساد الناس، لو أن الإنسان أوتي وسامة، الوسامة قد تستخدم لشكر الله على نعمة الخلق التام، أو لإغواء الطرف الآخـر، فقضية الحظوظ قضية واسعة جداً، بل أقول: إن الحظوظ، والشهوات، والقدرات التي أودعت في الإنسان كلها حيادية لأنه مخير.

 

المذيع:

 أي أستطيع أن أقول من خلال ما ذكرتم دكتور: إن على الإنسان ضمن هذا الإطار الذي وضحتموه عليه أن يدرك مواضع أقدامه، ليعلم أنه كيف يسير، وإلا فإنه قد يضل، وقد يكون في الهاوية، فإن لم يكن لعقله وللقراءة الإيمانية التي ذكرتموها، ولقلبه الذي يخشع، ولجسمه الذي يغذى بالحلال، إن لم يكن هذا مجتمعاً عند الإنسان فإنه يكون خسرانه مؤكداً، والخسران ليس بالخسران اليسير، كأن يفلس في أمر، ويمكن أن يعود إليه ثانية، الخسران ما كان في الآخرة، الخسران هو الخلود في الخسران، والفوز هو الخلود في الفوز، وشتان ما بين الأمرين، لذلك على الإنسان فعلاً أن يعلم مواقع أقدامه، فإن كان على خطأ عليه أن يرتد إلى مَواطن الصراط المستقيم، ليتم حياته، ويسعد بنفسه، ويسعد الآخرين به، وبالتالي تكون الحياة ناجحة سوية، مستقيمة ترفرف عليها السعادة الأبدية، من خلال ما يشعر به الإنسان، ولتستمر معه أيضاً في الدار الآخرة.

 

 

الأستاذ:

 يوجد نقطة دقيقة، أنا أقول كلمة حظوظ، المال حظ، الوسامة حظ، الذكاء حظ، القوة حظ، أن يكون لك أولاد حظ، الزوجة حظ، أن تتمتع بقدرات عقلية عالية حظ، هذه الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء، فكل مؤمن، أو كل إنسان ممتحن في مادتين، المادة الأولى فيما آتاه الله، والمادة الثانية فيما زواه عنه، فإن كنت غنياً فأنت ممتحن بالمال، وإن كنت فقيراً فأنت ممتحن بالفقر، إن كنت قويًّا فأنت ممتحن بالقوة، إن كنت ضعيفاً فأنت ممتحن بالضعف، فالإنسان ممتحن فيما أوتي، وممتحن فيما زُوِي عنه، وهذا يؤكده النبي عليه الصلاة والسلام، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:

 

(( اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ))

(الترمذي)

 فهذه الحظوظ في الدنيا مؤقتة،

 

﴿ آقُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾

 

(سورة النساء )

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)﴾

(سورة الإسراء )

المذيع:

 هنا لا مانع دكتور من التوقف قليلاً عند الناحية التالية: بعض الناس يتساءلون قائلين: فعلاً كما ذكرتم، لكن لمَ لمْ يؤتني الله من الحظوظ ما أستفيد منها في الدنيا، وأقدم امتحاني من خلال عملي وتأدية واجبي لأصل في الآخرة أيضاً إلى الثواب الذي أحصده، وأحصل عيه من خلال أنني قمت بما يريدني الله تعالى به، لماذا امتحنني مثلاً بالفقر، ولم يمتحنني بالغنى ؟ لماذا امتحنني بأن كنت بسيطاً، ولم يمتحنني بأن كنت ذكياً ؟ ثم علقتم على ذلك إلى أن الدنيا ما هي إلا متاع الغرور، وأنا أستطيع أن أقول: إن الدنيا بالنسبة للآخرة ما هي إلا حلم ومنام، الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وما يدري الإنسان، وما يجعله إذا كان في حلم من الأحلام، وقد رأى نفسه في ضيق أو في شدة، عندما يستيقظ يضحك أن هذا كله كان حلماً.

 

الأستاذ:

 هذا السؤال أستاذ عدنان أجاب عنه الإمام علي رضي الله عنه حين قال: " علِم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ".
الإنسان يتوهم أنه لو كان غنياً أنه سينفق هذا المال، لكن الله يعلم ما إذا كان غنياً كيف كان سينفقه، لذلك الإنسان تلخَّص علاقته بربه يوم القيامة بكلمة واحدة:

 

 

﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾

 

(سورة يونس)

الإمام الغزالي عبر عن هذا المعنى فقال: " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني ".
 أي إنسان مصاب بالتهاب زائدة حاد أين هو المكان المناسب له ؟ غرفة العمليات في المستشفى كي تسكن آلامه، وإنسان تفوق في الامتحان أنسب مكان له التكريم، فليس في إمكان العبد أعظم مما أعطاه الله عز وجل، أحد الصحابة قال: " والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ".
ويوجد قول آخر رائع لأحد الصحابة الكرام: " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي " .

المذيع:

 وهذه الناحية تشير إلى عظيم عمل المؤمن في دنياه ليكون في الآخرة من السعداء، إذ إنه يستغل كل ناحية فيما أشرتم إليه أنه لو كان قدره أن تكون نهايته غداً فما يزداد، لأنه قد وصل إلى الحل.

 

الأستاذ:

 يوجد لابن عطاء الله السكندري كلام رائع، قال: " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء ".
فالأب حينما يمنع ابنه من اللهو، ويحمله على الدراسة ليكون شخصاً مهماً في المجتمع، الابن حينما يكبر يحمد أباه على هذه الشدة.

 

 

المذيع:

 يا سيدي، وهذه أيضاً على المؤمن أن يدركها إدراكاً كاملاً في نفسه، فإنه إذا ما قصرت به دنياه في جانب من الجوانب فإن عليه أن يعلم أن هذا قد يكون عين الرضا من الله تعالى عليه، فكما أشرتم قد يكون العطاء من المنح، والرسول عليه الصلاة والسلام بين في أحاديث كثيرة أن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه، حتى يخلصه من ذنوبه، فإذا ما جاءهُ جاءه نقياً من أي شيء أو دنس.

 

 

الأستاذ:

عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، وَكَانَ خَيْرًا ))

 

(مسلم، أحمد)

وليس ذلك لغير المؤمن.

المذيع:

 أي تكفي هذه النعمة أن يعلمها الإنسان المؤمن ليعلم مقدار ما عليه من كرم الله تعالى، ويكفي أيضاًَ أن يمعن الطرف الآخر في نفسية المؤمن ليعلم أن المؤمن فعلاً على الحق، وهذا الحق تأتى إليه من خلال إيمانه بالله تعالى، ومن خلال القراءة الإيمانية التي تحدثتم عنها قبل قليل.
 في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، وأستاذ في كلية التربية جامعة دمشق، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور