1998-01-02
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الظّن و اليقين :
أيّها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من دروس العقيدة..
الناس كما ترون مختلفون، الأرض مفعمةٌ بالملل، والنحل، والطوائف، والمذاهب، والاتجاهات، والنزعات، والعصبيّات، إلى درجة لا تحتمل، ما الذي يحلُّ محل هذه الفرقة وهذا الاختلاف؟ اليقين، هناك ظنون، وهناك يقينيّات، فالمؤمن من نعم الله عليه أنّه على يقين، واليقين مريح.
أذكر أن أحد الأشخاص المرموقين في فرنسا، كان رئيساً للوزراء، انتحر في سن السبعين، وكان من أرقى عائلات باريس، ويتمتَّع بسمعة طيبةٍ جداً، وكان ثرياً غنياً، فلم يجد الناس والمعنيّون بشأن هذا الانتحار مسوِّغاً لانتحاره إطلاقاً، فلا توجد لديه فضيحة، أو فقر، ولا خوف، أو مرض، فلا يوجد أي سبب للانتحار، ومع ذلك انتحر، يقال إنّ مئة صحفي أراد أن يكتب عن سبب انتحاره، وقد وفِّق صحفي واحد في أن يضع يده على السبب الحقيقي، والسبب معقول، أن هذا الوزير اعتنق مبدأ غير صحيح سبعين سنة، ثم اكتشف أنَّه كان في ضلال فاحتقر نفسه.. إنسان أمضى حياته كلَّها في مبدأ باطل، في اتجاه غير صحيح، ثم اكتشف أن هذا المبدأ لم يقف على قدمين، تداعى كبيت العنكبوت، فاحتقر نفسه كيف أنَّه تورَّط وسار في هذا الطريق ولم يكن صحيحاً.
يوجد في حياة المؤمن شيء اسمه يقين، والأيام لا تزيده إلا ثباتاً، هذه نعمةٌ عظمى لا يعرفها إلا من فقدها، أن تكون على الحق، وأن تكون تصوُّراتك صحيحة، والأيام مهما تتالت لا تزيد هذا اليقين إلا رسوخاً، هذه من نعم الله الكبرى على المسلم، فالناس بالظنون، والمسلم باليقينيَّات، وشتَّان بين الظنون واليقينيَّات، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾
يقابل هذا:﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
فاليقين أعظم نعمة من نعم الله، أعظم نعمة يتمتَّع بها العقل، طبعاً لوجود الراحة النفسية، الشك متعب، والعلماء قالوا: مستويات المعرفة أربعة مستويات.. مستوى الوهم، ومستوى الشك، ومستوى الظن، ومستوى اليقين.﴿ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
إذاً الناس اختلفوا، ما الذي حلّ هذا الخلاف؟ الوحي.أنواع الاختلاف بين الناس :
ذكرت لكم في درسٍ سابق لو جئت بأعمى، وجئت ببصير، والبصير يتمتَّع بعينين حادتي البصر، وضعتهما في غرفةٍ مظلمةٍ ظلاماً دامساً، ألا يستويان؟ هذا المثل اسحبه على العقل.. لو جئت بأعقل عقلاء الأرض، وأبعدت عنه الوحي، وجعلته مع أحمق الحمقى يستويان، لأن العقل من دون وحي لا يعرف الحقيقة، كما أن العين من دون نورٍ لا ترى الأشياء، كما أن النور وسيطٌ بين العين وبين الأشياء، كذلك الوحي وسيطٌ بين العقل وبين الحقيقة، فلذلك.. من أين يأتي اليقين؟ من الوحي، لأن الذي خلق السموات والأرض هو الخبير، فالإنسان إما أن يكون مع الوحي، وإما أن يكون مع الظنون، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فالناس اختلفوا، اختلفوا لنقص المعلومات، لبعدهم عن الوحي، فلما جاء الوحي حسم الأمر.﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
الآن وجدت المصالح، والنزعات، والأهواء، والمكاسب، لذلك يختلف الناس لا لأن الوحي غير موجود.. الوحي موجود.. كما هو حال الناس اليوم، فالوحي موجود، والقرآن بين أيدينا، والسنة الصحيحة بين أيدينا، إلهنا واحد، ونبيّنا واحد، وكتابنا واحد، وسنَّتنا واحدة، ومع ذلك المسلمون ممزقون بين الفرق، والملل، والنحل، والطوائف، والمذاهب، والاتجاهات، والشيع إلى ما لا نهاية، هذا الاختلاف ليس اختلافا طبيعياً يحلّ بالوحي، هذا الاختلاف أساسه الحسد والبغي، لا يحل إلا بتطهير النفوس، فما دام هناك مصالح، ومكاسب، وأهواء، ونزعات، نختلف لنثبت وجودنا، نختلف لنقضي على خصومنا:﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
هذا الخلاف الثاني خلاف شيطاني، خلاف قذر، خلاف أهواء.﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾
الآن هناك اختلاف من نوع ثالث.. الاختلاف ضمن دائرة الحق.. يا تُرى نركِّز على تفسير القرآن أم على السنة أم عليهما معاً؟ نؤكِّد أحكام الفقه أولاً أم تلاوة القرآن؟ ماذا نفعل؟ ندع العلم ونخدم الناس أم نعكف على طلب العلم ونشرة؟ أيهما أفضل؟ ضمن دائرة الحق، يا ترى طلب العلم؟ تعليم العلم؟ يا ترى مجاهدة النفس والهوى؟ الاعتناء بالقلب أم أن نعتني بالعقل أم أن نعتني بالإنجازات؟ الآن يوجد اختلاف ضمن دائرة الحق، هذا اختلاف محمود، هذا اختلاف تنافس.﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
مسالك اليقين :
أخواننا الكرام؛ هناك موضوع في العقيدة يعدُّ أساسياً، اسمه مسالك اليقين، أنت لا بدَّ من أن تكون على يقين، والشك متعب، ومحطِّم، والشك إذا استمر يقودك إلى حالة اسمها حالة اللامبالاة، صار الإنسان تافهاً، لا ينتبه، ولا يقبل شيئاً، ولا يرفض شيئاً، إنسان ساخر، حاقد، ضائع، شارد، إذا استمرت حالة الاختلاف.. فبعض الناس يقولون لك: والله شيء يحيِّر، لا نعرف الحق مع من؟!
كلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا
***
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
لذلك قالوا: يوجد علم اليقين، وكذلك هناك حق اليقين، وهناك عين اليقين.منهج البحث في الإسلام :
أيّها الأخوة؛ هناك كلمات قالها العلماء في منهج البحث في الإسلام.. قالوا: إن كنت ناقلاً فالصحَّة، مدعياً فالدليل.
لو طبقنا هذا المنهج لكنا في حال غير هذا الحال، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، عندما تلغي من حياتك الدليل تقع في ضلالٍ مبين، لا تقبل شيئاً إلا بالدليل، ولا ترفض شيئاً إلا بالدليل.. فهناك دليل عقلي، ودليل نقلي، ودليل فطري، ودليل واقعي.
والحق دائرة تخترقها أربعة خطوط، خطُّ النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخطُّ الواقع الموضوعي.. فمن دون دليل أنت في متاهةٍ، وفي ضلالٍ مبين، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء.. إن كنت ناقلاً فالصحة، مدعياً فالدليل، إن نقلت تحرّى الصحة، لأنَّ الدين في الأصل نقلٌ، أخطر ما في النقل صحَّة النقل:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
العلماء قالوا: البصيرة.. الدليل، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام دعاك إلى الله بالدليل:﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾
فلذلك الإنسان عندما يعالج قضية، أو تطرح أمامه قضية، أول شيء يجب عليه أن يقوم بتصنيفها.. هل يا ترى هذه القضية مع اليقين الحسي أم مع اليقين العقلي أم مع اليقين الإخباري؟.. فإن كانت مع اليقين الإخباري تحرّى القائل، هل هو صادق؟ فإن كان صادقاً اقبل بها، فالله عزَّ وجل أحكم الحاكمين، ومن أصدق من الله حديثاً، فإذا كان هناك شيء ثبت بالكتاب والسنة، وشيء فوق مستوى العقل أصدِّقه يقيناً على أنّه يقين إخباري، فبهذه الطريقة تحسم آلاف المشكلات، وتنتهي آلاف الخصومات، قضية إخبارية.. العبرة أن تثق بقائلها، فإن كان الله عزَّ وجل هو الذي قال انتهى الأمر.