1997-01-26
العبرة لمن يضحك آخراً :
أيها الأخوة؛ في سورة الصافات آية تمثل مشهداً من مشاهد يوم القيامة:
﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
العبرة أيها الأخوة لمن يضحك آخراً، الدنيا قد تأتي وقد تقبل، ولكن العبرة لمن يضحك آخراً. يقول الله عزّ وجل:﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
الإنسان يولد وهو يبكي، وكل من حوله يضحك فرحاً به، حينما يموت كل من حوله يبكي فإذا كان موفقاً يضحك وحده، اجهد أن تضحك عند لقاء الله عزّ وجل.﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾
بالتعبير الدارج: أنت قابض الصلاة؟ هل أنت مصدق لها؟ هؤلاء المشككون:﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾
سنحاسب عن أعمالنا؟الدنيا دار عمل و الآخرة دار جزاء :
قلت لكم في دروس سابقة: الحياة مبنية على بذل الجهد:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾
أي حياته سلسلة مشقات، إلا أن الآخرة دار جزاء، أي شيء يخطر في بالك تجده أمامك، أنت الآن لو أردت أن تعرف حال صديق لك في حلب لابد من أن تزوره، لابد من أن تنتقل من دمشق إلى حلب، لكنك إن أردت أن تعرف أحد الناس في الجنة أم في النار يكفي أن يأتيك خاطر فإذا هو أمامك﴿فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾
الإنسان عندما يطل على النار:﴿ وَإِن مِنكُم إِلّا وارِدُها ﴾
يطل عليها دون أن يدخلها، ودون أن يتأذى بوهجها، يعرف قيمة إيمانه، وكيف أن الله سبحانه وتعالى امتن عليه بالإيمان.الفوز العظيم لمن زحزح عن النار و أدخل الجنة :
﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ﴾
- كدت أهلك معك -﴿ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾
- استفهام إنكاري -﴿ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾
اسمع الآية.. اسمع أيها الأخ الكريم إن هذا يعني أن تكون في الجنة، وأن تزحزح عن النار، أن تنعم بجنات من تحتها الأنهار، أن تنعم بالحور العين، أن تنعم بالنظر إلى وجه الله الكريم، أن تنعم بأعلى شيء في الجنة وهو رضوان الله، أن تكون في جنة الخلد إلى أبد الآبدين، هذا هو الفوز العظيم، يوجد بالحياة مليون نجاح.﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
لذلك أيها الأخوة:﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
صدقوني ما منا واحد إلا وله عمل، حركته بالحياة من حين يستيقظ إلى أن يؤوي إلى فراشه، ماذا فعل؟ ذهب إلى دكانه، إلى مكتبه، إلى متجره، عقد صفقة، استفهم، تابع معاملة، مجمل هذا العمل ماذا تريد منه؟ المؤمن يبتغي وجه الله، المؤمن أعماله كلها منسجمة مع هدفه، المؤمن أية حركة وأية سكنة تحسب له عمل صالح:﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
أي الإنسان أحياناً يكون ذكياً لكن لا يكون عاقلاً، قد يكون ذكياً في عمله، في اختصاصه، ولكن حينما يغيب عن الله يغيب عن الدار الآخرة لا يعد عاقلاً إطلاقاً.الاستثناءات الطارئة هدفها تأكيد القاعدة :
يوجد كلمة لبعض العلماء لطيفة هي أن الاستثناء يؤكد القاعدة، أي يولد مئة ألف طفل يوجد بين أذيني قلبهم فتحة، لأن الطفل الصغير وهو في رحم أمه لا يوجد له جهاز تنفس، هذه الدورة التي تذهب من الأذين إلى الرئة إلى الأذين هذه دورة معطلة في رحم الأم، لذلك ربنا مرحلياً يفتح فتحة بين الأذينين، الدم ينتقل من أذين إلى أذين، أما حينما يلد الطفل- هكذا تعلمنا في المدارس- فتأتي جلطة فتغلق هذه الفتحة، يولد مئة ألف طفل، هذه الفتحة تغلق، بكل مئة ألف طفل يأتي طفل تبقى هذه الفتحة مفتوحة، يصاب بمرض اسمه: داء الزرق، يعيش إلى عشر سنوات تقريباً ثم يموت، لأنه لا يستطيع أن يصعد أكثر من درجتين أو ثلاث لأن الدم أزرق، فحينما ينبض الأذين ليذهب الدم إلى الرئتين يوجد فتحة قريبة فيختار الطريق الأسهل، الدم ينتقل إلى الأذين الأيمن فيضخ إلى الجسم أزرق اللون، اسمه: داء الزرق.
رأيت مرة عملية جراحية فُتح القلب، وأدخلت رقعة صغيرة إلى داخل القلب، وأغلقت الفتحة بين الأذنين، إذاً هذا الطفل الذي يولد من بين عشرة آلاف طفل فتحة أذينية ليست مغلقة ما الحكمة؟ هذا استثناء من أجل أن تلتفت إلى القاعدة، طبعاً ليست على حساب هذا الطفل، لحكمة بالغة أراد الله له ذلك، ولو كُشف الغطاء لاختار الواقع، ولكن هذا الاستثناء يؤكد القاعدة.
شخص عنده بقرة مذللة، الطفل يحلبها، والمرأة تحلبها، لا يخاف أحد منها، هذا التذليل أي لم يخطر في بال إنسان أن يسأل عنه من الذي ذللها؟ العقرب غير مذلل؟ العقرب صغير، وزنه خمسون غراماً، غير مذلل، أما هذه فوزنها ستمئة كيلو، وهي مذللة، الجمل مذلل، الأفعى غير مذللة، الإنسان إذا رأى أفعى يقفز من شدة الخوف، الأفعى غير مذللة، العقرب غير مذلل، بينما هناك حيوانات كبيرة جداً مذللة.
الآن حينما تجن بقرة، وتقتل رجلاً ورجلين وثلاثة ولا يجد صاحبها بداً من أن يطلق عليها رصاصة يقتلها، وثمنها سبعون ألفاً، هذا الجنون الذي أصاب البقرة ما حكمته؟ كي نلتفت إلى القاعدة، الاستثناءات الطارئة هدفها تأكيد القاعدة، لأن الإنسان أحياناً في غمرة الحياة لا ينتبه لهذه النعم، فالإنسان الشاكر يعرفها وهي موجودة، أما الأقل شكراً فلا يعرفها إلا حين فقدها، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أرنا نعمك بوفرتها لا بزوالها" وأخواننا الكرام إذا الواحد شكر الله عز وجل، أي شخص دخل ليقضي حاجة، أفرغ المثانة ببساطة لا يوجد حصر، ولا فشل كلوي، ولا ضعف، هذه نعمة لا تعدلها نعمة، كان عليه الصلاة والسلام يقول:" الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، و أبقى لي ما ينفعني " لو أن البول عاد إلى الأوعية لأصبح هناك تسمم.
شكر النعم التي أعطاها الله للإنسان :
إذاً كما قال الله تعالى في سورة يس:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾
دقق إما أن تقدر نعمة التذليل، أو تجن البقرة، أي الخبر الذي قرأته مرة أنه تمّ إعدام عشرين مليون رأس غنم في أستراليا بالرصاص، وحفرت لها قبور كبيرة جداً دفنت بها للحفاظ على أسعار اللحم في العالم، بينما شعوب تعاني من الجوع كالصومال وبنغلادش، تعاني معاناة شديدة.﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ ﴾
أعرف أخاً عندنا هنا صلى مرات كثيرة، له معمل في حوش بلاس، خرج منه فلم يعرف أين منزله، بقي في الطرقات ساعات طويلة، تذكر بيت ابنه في الجسر ذهب إليه، قال له: يا بني أين بيتي أنا؟ قال:﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ ﴾
تتذكر أولادك، تتذكر أصدقاءك، تتذكر أخوانك، يمكن على الهاتف الذي أخبرك تقول: فلان أعرفك من صوتك، ذاكرة شمية، ذاكرة سمعية، ذاكرة صوتية في الذهن، فهذه نعم عظمى.من عاش تقياً عاش قوياً :
الشيء الثاني:
﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
تضعف ذاكرته، يعيد القصة مئة مرة، يضيق خلقه، يصبح حشرياً، يصبح ظله ثقيلاً، هذا إذا كان لم ينشأ في رحاب الإيمان، أما والله أيها الأخوة أبشروا كل إنسان أمضى شبابه في طاعة الله، والله له خريف عمر متألق، أنا ذهبت إلى حلب والتقيت بأحد العلماء، والله ما رأيت إنساناً بحياتي بحالة من العز، والتألق، والنورانية، والوقار، والهيبة كهذا الشخص، هو في التسعين من عمره، تشتهي الكبر على هذا العالم، حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر ، أي من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، إنسانة توضع على ديوان تربط يداها ورجلاها بأحزمة متينة، قلت لابنها: لماذا؟ قال لي: لأنها إذا أطلقت يداها تخلع كل ثيابها وتأكل من غائطها، تخلع ثيابها كلها، وتأكل من غائطها، ويوجد في مشفى المجانين في الرقم ستة كلهم عراة، كل شيء يحطمونه، المدفأة يحطمونها، يوضع لهم الطعام على الأرض وينبطحون لأكله، أي كما خلقهم الله.﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
لكن صدقوني المؤمن معافى، رحمة الله بالمؤمن كبيرة، هذا الذي أمضى شبابه في طاعة الله، عمره ستة و تسعون عاماً، نظره حاد، وسمعه مرهف، وأسنانه في فمه، والله سألت أحد أخواننا أطباء الأسنان هل مرّ معك مريض لم يغير سناً ولم يعالج سناً؟ قال لي: والدي، عمره خمس و ثمانون سنة، ولا يوجد عنده أي سن مُحشّى، كله كامل، لكنه ورع جداً، كان يقول: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
ومن تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت.إكرام الله لمن يخلص في طاعته :
أخواننا الكرام؛ العضو الذي يعمل لا يضمر، كل إنسان يصلي، يقرأ القرآن، يعمل ذهنه دائماً، أخي لماذا لا تدفع من مالك صدقة؟ أخي الله رازق العباد، أنا لست موكلاً بالعباد، لهم رب يرزقهم، هذا كلام الكفار:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
أنت مستخلف في هذا المال، هذا المال يدك عليه يد الأمانة، فلا تصدق إنساناً يعمل عملاً صالحاً يبتغي به وجه الله، ويخلص في طاعته لله، إلا ويتلقى إكراماً من الله لا يوصف في الدنيا قبل الآخرة، يتلقى إكراماً واضحاً جداً، ويحفظه الله ويوفقه، لابد من رد إلهي، أي أحياناً أنت تدفع عن إنسان في سيارة طول الطريق يشكرك، وهي كلها ثلاث ليرات، يثني عليك طوال الطريق، الذي منحك نعمة الوجود، ونعمة الهدى، ونعمة الإمداد، ألا يستحق أن تشكره؟