- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
تذكير وربط بما سبق:
أيها الإخوة الأكارم، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد بينت لكم في درسين سابقين كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من مكة إلى المدينة، انتقل من قوة الحق، قوة الوحي، قوة الاستقامة، قوة الإخلاص، قوة التضحية والفداء، لكن أصحابه كانوا يُعذبون أمامه، انتقل إلى المدينة ليضيف إلى قوة الحق حق القوة، لذلك بنى مجتمعاً قوياً، أساس هذا البناء المساواة، أساس هذا البناء إزالة فساد ذات البين، أساس هذا البناء التكافل، ولا زلنا في ملامح المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة.
لكنني وعدتكم في درس سابق أن ألقي على مسامعكم قصة تعد نكسة طارئة عابرة في العلاقات بين الأوس والخزرج، وكيف أن الله وصف الخلافات بين المؤمنين بأنها كفر.
نكسة طارئة بين الأوس والخزرج:دروس وعبر:
ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، أن جاهلياً في المدينة المنورة وهو من اليهود غاظه ما رأى من ألفة المسلمين، وأسقط لكم هذه الحقيقة على واقعنا، مع أعدائنا ورقة رابحة وحيدة هي التفرقة بين المسلمين، هي إثارة الفتن الطائفية بين المسلمين، هذا اليهودي غاظه ما رأى من ألفة المسلمين، غاظه ما رأى من صلاح بينهم، بعد الذي كان بينهم من عداوة وبغضاء في الجاهلية.
أمر شاباً على شاكلته أن يجلس مع الأوس والخزرج، وأن يذكرهم بيوم بُعاث.
حينما صدرت فتوى لا يرضاها المسلمون اليوم، هذه الفتوى نُشرت في معظم الصحف العادية، لأنها ورقة رابحة.
لذلك أمر شاباً على شاكلته أن يجلس مع الأوس والخزرج، وأن يذكرهم بيوم بُعاث، يوم اقتتالهم، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوه فيه من أشعار، فتفاخر القوم نزوة جاهلية، ثم تنازعوا، الأوس والخزرج، ثم تواثب رجلان من الحيين، وتقاولا، فقال أحدهما: إن شئتم رددناها الآن جذعة، أي حامية، وغضب الفريقان، وكادت تقع الفتنة، بلغ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم غاضباً فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال:
(( يا معشر المسلمين، اللهَ الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم ؟ أبعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم دعوى الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدو لهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين ))
لقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخصومة بالكفر، ثم إن الله جل جلاله أنزل بهذه الحادثة قرآناً فقال ـ دققوا بكلام الله ـ:
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ﴾
الخلاف كفر عملي:
بماذا وصف القرآن الكريم الخلاف بين المسلمين ؟ بالكفر، هذا سماه علماء العقيدة: كفر دون كفر، هناك كفر يخرجك من الملة، من ملة الإسلام، وهناك كفر دونه فالخصومات بين المسلمين نوع من الكفر، لأن هذه الخصومات تضعفهم، تشتتهم، تمزقهم تجعل بأسهم بينهم، تعقيباً على هذا الموضوع الله عز وجل يقول:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾
الله عز وجل نصر الروم، وهم أهل كتاب على الفرس وهم عباد النار، لذلك أثبت الله جل جلاله للصحابة الكرام وهم نخبة الخلق، أثبت لهم فرحهم بهذا النصر، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾
فالقواسم المشتركة بين المسلمين وبين أهل الكتاب موجودة، لكن هناك تناقضات في العقيدة كبيرة جداً، بينما القواسم المشتركة بين أطياف المسلمين أكثر بكثير، فالأولى أن نفرح بنصر الله، ولا أن نهمس في آذان بعضنا بعضاً أن هذا النصر ليس لنا، هو لكل المسلمين، إذا كان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فرحوا بنص القرآن الكريم بانتصار أهل الكتاب على ما بيننا وبينهم من تناقض، لأنهم انتصروا على عباد النار، هذا موضوع.
سبب نزول الآيات:
أيها الإخوة، ورد في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في تلك الحادثة التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله جل جلاله النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم حرص على وحدة أمته من بعده، لأن الأعداء وضعونا جميعاً في سلة واحدة، وينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد، مشكلتهم كما قال بعض زعمائهم: مشكلة حياة أو موت، ونحن مشكلتنا أيضاً مشكلة حياة أو موت.
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض ))
(( كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ ))
أيها الإخوة، نتابع البينة السليمة الاجتماعية التي بناها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أؤكد لكم أن المجتمع المتماسك لا يخرق، فلذلك مجتمع المؤمنين ينبغي أن يكون متماسكاً.
من أسس البناء الاجتماعي:
1 – المؤاخاة:
أيها الإخوة، أول شيء بالبناء الاجتماعي المؤاخاة، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والأنصار، نحن عندنا مظاهر إسلامية صارخة، مساجد كبيرة جداً ، مؤتمرات إسلامية، مكتبات زاخرة بالكتب الإسلامية، محاضرات، دروس، لكن الحب الذي كان بين أصحاب النبي رضوان الله عليهم ليس موجوداً الآن.
أيها الإخوة، القضية النفسية الحب بين المؤمنين يجعلهم متماسكين، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾
الله عز وجل يبين ما ينبغي أن نكون عليه فيقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
لا لتقاتلوا،
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
هذه الآية منهج، هذه الآية أحد معالم طريق النصر، المؤاخاة بين المؤمنين.
وفي آية ثانية يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
صدقوا أيها الإخوة، ما لم تشعروا بانتمائكم إلى مجموع المؤمنين فلستم مؤمنين، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
الاختلاف المذموم والاختلاف الطبيعي:
1ـ الاختلاف الطبيعي لنقص المعلومات:
قال بعض العلماء: هناك اختلاف طبيعي، اختلاف نقص المعلومات، نحن في 29 فرضاً من رمضان، وسمعنا صوت يا ترى مدفع العيد، أم تفجير تم في الجبل لصخرة عاتية، نقص المعلومات يدفعنا إلى أن نختلف، هذا اختلاف طبيعي، لا شيء فيه، لكن بعد حين فتحنا المذياع، فإذا الخبر أنه غداً عيد الفطر السعيد، مثلاً، هذا اختلاف طبيعي، أساسه نقص المعلومات، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا اختلاف نقص معلومات، فبعث الله النبيين ووضحوا، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
2ـ الاختلاف المذموم: الاختلاف بعد العلم:
هذا الاختلاف قذر، اختلاف نقص المعلومات طبيعي، لا يمدح ولا يذم، شيء طبيعي جداً، لكن الاختلاف بعد العلم اختلاف هوى، واختلاف مصالح، واختلاف نفوس، واختلاف كبر.
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
حسداً بينهم، اختلاف الحسد احضر أي درس علم في العالم الإسلامي تسمع فيه: قال الله عز وجل، وقال عليه الصلاة والسلام، قرآن واحد، ونبي واحد، وسنة واحد، وإله واحد، والمسلمون اليوم فرق، وطوائف، وأحزاب، وشيع، وبأسهم بينهم، ويتقاتلون أحياناً.
ما اسم الخلاف الثاني ؟ خلاف البغي، هذا الخلاف القذر.
3ـ الاختلاف الممدوح: اختلاف التنافس:
وعندنا اختلاف محمود: اختلاف التنافس، هناك من يرى أن أعظم شيء أن تؤلف كتاباً، وهناك من يرى أن أعظم شيء أن تؤلف قلباً، وهناك من يرى أن أعظم شيء أن تبني مسجداً، وهناك من يرى أن أعظم شيء أن تطعم فقيراً، فالمؤمنون يختلفون في اجتهاداتهم، لكن الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لك أن تنشئ مسجداً، ولك أن تلقي درساً، ولك أن تعتلي منبراً، ولك أن تؤلف كتاباً، ولك أن تنشئ ميتماً، ولك أن تنشئ مستوصفاً، ولك أن توفق بين الناس، وأن ترأب صدعهم، وأن تجمع شملهم، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، وكل الطرق سالكة.
إذاً: عندنا اختلاف طبيعي، لا يحمد ولا يذم، اختلاف نقص المعلومات، وعندنا اختلاف البغي، والحسد، والكبر، والاستعلاء، والمصالح، والحظوظ، هذا اختلاف قذر، وعندنا اختلاف تنافس.
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
هذا اختلاف محمود، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أقام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، هذه المؤاخاة هي وسام شرف معلق على صدورهم، آخى النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي بين المسلمين الأوائل.
التطبيق العملي لمبدأ المؤاخاة:
ما الذي يمنعنا نحن من تطبيق هذه المؤاخاة ؟ أنت في هذا الدرس ألا تستطيع أن تؤاخي واحداً ؟ أن تقول له: أنت أخي في الله واحد، في الدرس القادم لم يحضر فتفقدته، لاحتمال أن يكون مريضاً، أنت حينما آخيته أخذت رقم هاتفه، فإن افتقدته في الدرس القادم اتصلت به، قل: نحن قلقون عليك، إن شاء الله المانع خير، بماذا يشعر ؟ أنه هو من يهتم به، هناك من يسأل عنه، هذه المؤاخاة، لو أنه كل مجلس علم أخ كريم آخى أخا واحدا لعل يكون قريبه، أو جاره، أو زميله، أو صديقه، ابحث عن أخ جار لك، أو قريب لك، أو صديق لك، أو زميل في عمل، قل له أنت أخي في الله، خذ رقم هاتفه، وليأخذ رقم هاتفك، فإذا تغيب عن درس علم هناك احتمال أن يكون مريضاً، تفقده بالهاتف، قال لك: والله أنا مريض، اذهب إليه، اعرض عليه خدماتك، هكذا يكون المجتمع متماسكاً.
قال لي بعضهم: والله لو إنني غبت عاما عن مجلس العلم ولا أحد يتصل بي ، نحن في الظاهر مجتمعون، لكن في الحقيقة متفرقون، ما أحد يعرف أحدا، النبي عليه الصلاة والسلام إذا اتخذ أخاً في الله يسأله عن اسمه، وعن اسم أبيه، وممن هو، وعن حرفته، وعن عنوان بيته، وعن هاتفه مثلاً.
فالمؤاخاة من منهج النبي عليه الصلاة والسلام، آخى النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي بين المسلمين الأوائل، آخى بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، و آخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام، و آخى بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر، وكان المسلمون الأوائل في مكة يعيشون الأخوة الكاملة.
والله أيها الإخوة، والله أقسم لكم بالله، إذا تآخيتم في الله تصبح حياتكم جنة، الحياة قاسية جداً، والأخبار سيئة جداً، والأشياء مقلقة، والمستقبل مظلم، لكن الذي يخفف عنك ثقل الحياة ومصائبها والضغوط الاجتماعية والخارجية والداخلية أخ في الله، وليس على وجه الأرض من إنسان يسعدك، وتسعده من أخ في الله.
(( وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ، والمتحابون في جلالي على منابر من نور يغبطهم عليها النبييون يوم القيامة ))
نحن نريد لهذه الأفكار ألا نكتفي بسماعها، وألا تبقى في دماغنا، في ذاكرتنا بل نريدها حياة نعيشها، نريدها تطبيقاً، نريدها ممارسة، نريدها واقعاً، لأن مشكلتنا في هذه الأيام مشكلة بقاء أو فناء، مشكلة حياة أو موت، خفف عن أخيك بمؤاخاتك له، ويخفف عنك بمؤاخاته لك.
وكان المسلمون الأوائل يعيشون الأخوة كاملة بكل أبعداها ومعانيها من خلال دار الأرقم، والهجرتين الأولى والثانية، ومواجهة إيذاء وعدوان قريش.
صور رائعة من واقع مؤاخاة الصحابة:
1 – بين أبي بكر وبلال:
أيها الإخوة، سيدنا الصديق بلغه أن بلالاً يُعذب بلال عبد، وفي السلم الاجتماعي في الدرجة السفلى، وسيدنا الصديق من أرومة قريش، من علية القوم، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
ذهب إلى صفوان ابن أمية سيد بلال، وكان يعذبه يضع على بطنه صخرة في لهيب الظهيرة، ويأمره أن يكفر بمحمد، وكان بلال يقول: أحدٌ أحد.
كطرفة: مدرسة شرعية في الشام أقامت حفل في نهاية العام، والحفل في تمثيلية بسيطة عن سيدنا بلال، وعن صفوان ابن أمية، كيف هو يعذبه، وكيف يقول بلال: أَحدٌ أحد.
جاءوا بطالبين، أحدهم مثّل دور صفوان بن أمية، والثاني مثل دور بلال الحبشي، وبحسب الحركات والتمثيل بدأ الطالب الذي مثل دور صفوان بن أمية بضرب الطالب الذي مثل دور بلال، فقال له صفوان بن أمية: لن أرفع عنك العذاب إلا إذا كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، التمثيل غير متقن طبعاً.
فكان صفوان بن أمية يعذب بلالاً، ذهب إليه الصديق، قال: بكم تبيعني إياه ؟ اتفقا على مبلغ، ونقده إياه، أراد صفوان أن يبالغ بإهانة بلال، قال له: والله لو دفعت لي درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لأعطيتكها، هذا أخي حقاً، وضع يده تحت إبطه.
سيد قريش مع إنسان في الطبقة الدنيا، وقال: هذا أخي حقاً، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم إذا ذكروا الصديق يقولون: << هو سيدنا وأعتق سيدنا >>.
وسيدنا عمر كان إذا علم أن بلالاً سيأتي المدينة كان يخرج، وهو عملاق الإسلام، وأمير المؤمنين، يخرج هو لاستقباله.
أيها الإخوة، يقول سيدنا الصديق: << هذا أي حقاً >>.
أنا سمحت لنفسي في هذا الدرس أن أذكركم بنزوة، أو نكسة طفيفة سريعة عابرة للأنصار، فنزل القرآن:
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض ))
2 – بين أبي ذر وبلال:
نزوة صغيرة في ساعة غضب، والصحابة ليسوا معصومين، قال بعض الصحابة لبلال: يا ابن السوداء، بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال لهذا الصحابي الجليل القرشي:
(( إنك امرؤ فيك جاهلية ))
فلم يرضَ هذا الصحابي بعد أن سمع هذا من رسول الله إلا أن وضع رأسه على الأرض، وأمر بلالاً أن يعض قدمه فوق رأسه، هذا هو الإسلام.
3 – إنها امرأة تنظف المسجد فقط:
امرأة تقم المسجد، منظفة، توفيت، الصحابة الكرام اجتهدوا أن هذه المرأة من دنو مكانتها لا ينبغي أن نذكر للنبي أنها ماتت، النبي الكريم تفقدها بعد حين، قالوا: والله ماتت يا رسول الله، فغضب، قال: هلا أعلمتموني ؟ لمَ لم تذكروا لي أنها ماتت ؟ وذهب إلى قبرها، وصلى عليها صلاة الجنازة استثناء من أحكام صلاة الجنازة، صلاة الجنازة قبل الدفن، صلى عليها صلاة الجنازة بعد الدفن، هذا المجتمع المسلم.
أنت مدير مؤسسة، عندك حاجب مؤمن، إن لم تعامل هذا الحاجب كما تعامل أكبر موظف فلست مؤمنا، الإنسان عند الله مكرم.
مرض العنصرية المقيتة:
لذلك أنا أقول دائماً: المرض الأول في العالم الآن، كيف عندنا أمراض في الجسم كالورم الخبيث، أمراض عضالة، العالم كله الخمس قارات يعاني مرضا عضالا، ما هذا المرض ؟العنصرية، من هو العنصري ؟ هو الذي يرى نفه فوق البشر، يرى أن البشر في خدمته، وأن لحياته قيمة، وليس لحياتهم قيمة، وأن وقته ثمين، وليس وقتهم ثميناً وأنه معفى مما يجب على غيره، وأنه يحق له ما لا يحق لغيره، وأنه يبني مجده على أنقاض الآخرين، ويبني غناه على فقرهم، ويبني حياته على موتهم، ويبني أمنه على خوفهم، ويبني عزه على ذلهم.
صور من المؤاخاة في المدينة:
أيها الإخوة، تلك المؤاخاة في مكة، أما في المدينة فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المساواة، يتوارثون بعد الموت، دون ذوي الأرحام إلى حين غزوة بدر، الأخ في الله كان يرث أخاه قبل نزول آيات المواريث، فلما أنزل الله عز وجل قوله:
﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾
رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة، يعني في مرحلة من المراحل كان الأخ يرث أخاه.
1 – بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع:
أيها الإخوة، أضرب لكم مثلا واحدا نأتي عليه بالتفصيل: أن بعض الذين آخى بينهم النبي عليه الصلاة والسلام هو عبد الرحمن بن عوف، آخى بينه وبين سعد بن الربيع، وقد عرض عليه سعد بن الربيع أحد بيتين، وأحد دكانين، وأحد بستانين، لم يُثبت التاريخ الإسلامي أن مهاجراً أخذ من أنصاري نصف ماله، قال له: بارك الله لك بمالك يا أخي، ولكن دلني على السوق، ما هذه العفة ؟ الأنصار بذلوا نصف ما يملكون، والمهاجرون تعففوا عن أموال إخوانهم، قال له: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق، أنا أعمل.
فحينما يكون المؤمن سخياً كريماً إلى درجة أن يهب أخاه نصف أملاكه تجد الطرف الآخر عفيفاً جداً جداً، ويقول: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق.
قال العلماء: المؤاخاة هي حاجة الأنصار إلى التفكر في الدين، وحاجة المهاجرين إلى مأوى، وإلى مساعدة، وإلى بيت.
أيها الإخوة، الموضوع رائع جداً وله تتمة، ونحن في أمسّ الحاجة إليه الآن.