- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
المرحلة المكية: أولويات ودروس وعبر:
1 ـ النبي بنى شخصية الإنسان المؤمن:
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ونحن في هذه المحن التي يمر بها المسلمون في أمسّ الحاجة إلى الدروس والعبر المستنبطة من السيرة النبوية، يمكن أن نقسم السيرة النبوية إلى مرحلتين كبيرتين، المرحلة المكية ؛ وقد انتهت، وننتقل إلى المرحلة المدنية، وما لم يمر المسلمون بالمرحلة المكية أولاً التي تعني قوة الإيمان ثم بالمرحلة المدنية، التي تعني حق القوة فلن تقوم لهم قائمة.
ماذا فعل النبي الكريم بمكة ؟ هناك مرحلة ليس للمسلمين كيان، وليس معهم قوة، ولا يملكون شيئاًَ من القوى التي ترفع مكانتهم، إلا أنهم في مرحلة الضعف، امتلكوا قوة الحق، ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ؟
بادئ ذي بدء، بنى شخصية الإنسان المؤمن، الشخصية بناء، ترى الإنسان إيمانه ضعيف، نفسه مشتتة، ثقته بالله ليست كما ينبغي، عزيمته خائرة، همته ضعيفة، نفسه مشعبة، مشتتة،هذا الإنسان لا يصنع شيئاً، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم الواحد منهم بألف، بينما المسلم في آخر الزمان وقد ضعفت ثقته ولم يستقم عمله، ولم يبتغِ مرضاة ربه، الألف بل المئة ألف، بل المليون بأف، كما ترون، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم بنى شخصية مرء المسلم المؤمن، مؤمن بوجود الله، مؤمن بألوهيته، بربوبيته، مؤمن بأسمائه الحسنى، بصفاته الفضلى، مؤمن أن الأمر بيده، مؤمن أن الله لا يتخلى عن المؤمنين.
المشكلة أن كل واحد منا من دون استثناء ببساطة ما بعدها بساطة يدعي أنه مؤمن.
يمكن لإنسان يرتدي ثوبًا أبيض، ويضع سماعة في أذنه، وميزان حرارة في صدره، ونظارة، ويقول لك: أنا طبيب، وقد يكون أمياً، بينه وبين الطبيب الذي يحمل أعلى شهادة، وقد أمضى تسعة وثلاثين عامًا في الدراسة، واختص في اختصاص نادر، هذا طبيب، وذلك يدعي أنه طبيب، الطب عند الأول ثوب أبيض، ونظارة، وسماعة، وميزان حرارة فقط، وهو جاهل، والثاني أمضى 39 سنة يدرس حتى أصبح مكتبة متنقلة.
2 ـ النبي بنى الإيمان في صدور الناس:
فكلهم يدعي أنه مؤمن، النبي عليه الصلاة والسلام بنى إيماناً، الإيمان لا يأتي من دون جهد، وما من إنسان ينام ثم يستيقظ وقد أصبح دكتورا، ينام ثم يستيقظ وقد أصبح صاحب أكبر مؤسسة تجارية، هذه المراتب العلمية، والمؤسسات الناجحة جداً وراءها أدمغة، وراءها عقول، وراءها خبرات متراكمة، لذلك أنا أقف عند كلمة النبي عليه الصلاة والسلام بنى إيماناً في نفوس أصحابه، الإيمان أقوى من الجبال، الإيمان أساس الفضائل، وأس العزائم، وبلسم الصبر عند الشدائد، كلمة مؤمن في الميزان الإيماني ككلمة دكتوراه دولة في الميزان العلمي، بالضبط.
نال أحدهم الشهادة الابتدائية، والإعدادية، والثانوية، والليسانس، والدبلوم والماجستير، والدكتوراه دولة، في الميزان العلمي دكتوراه دولة أعلى مرتبة، وفي الميزان الإيماني مؤمن، النبي الكريم بنى مؤمنين، بنى مؤمنين التبر عندهم والتراب سيان، التبر والتراب، فكيف بإنسان يبيع دينه بيمين كاذبة، بائع يحلف بالله وبرسوله، وبالقرآن، وبالكعبة أن شراء هذه السلعة أعلى من ثمن بيعها، والحقيقة ليست كذلك، في آخر الزمان يبيع الإنسان دينه بعرض من الدنيا قليل، بينما المؤمن:
(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن هذا الأمر ما تركته، هذا يظهره الله أو أهلك دونه ))
أنا تأثرت بأن هذا الصحابي الجليل مع أنه كان ضعيف في مكة، ومضطهد وينكل به، ويُعذب، لكن في مكة المكرمة بنى النبي الإيمان، بنى قوة الإيمان، تجد المؤمن الصادق ينطوي على عقيدة كالجبال، وعزيمة كالمرجل، ونقاء كالثلج، وتواضع كالأرض وتألق كالشمس، هذا المؤمن، آمن الصحابة الكرام بالله خالقاً، ومربياً، مسيراً، موجوداً واحداً، كاملاً، آمنوا بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وحبيب الحق، المعصوم من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، الآن تجد مئات المسلمين يقولون في حديث شريف: هذا لا يصلح لهذا الزمان، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرشده الوحي إلى شيء يصلح لهذا الزمان، وهؤلاء الصحابة الكرام آمنوا بالأنبياء جميعاً، وأطاعوا منهج رسول الله.
إسقاط على واقع المسلمين:
إذاً الآن إسقاطًا على واقعنا، ولو كنا ضعافًا، إن أردنا أن ننتصر في النهاية يجب أن نبني الإيمان، الإيمان من أين يأتي ؟ لا يأتي وأنت في البيت، لا يأتي وأنت مستلق، وأنت مسترخٍ، وأنت تتابع المسلسلات، الإيمان لا يأتي من دون جهد كبير، لذلك كل واحد منا يجب ألا يقنع بإيمانه، الدليل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ﴾
ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن إيمانكم لا يكفي، إن ما أنتم عليه من إيمان ليس في المستوى المطلوب، فالنصر نتيجة لآلاف الدروس، وآلاف الجهود، وآلاف العبادات ويتوج هذا كله بالنصر.
3 – النبي بنى المحبة في قلوب الناس:
شيء آخر أيها الإخوة، الشخصية الإيمانية التي فيها قوة الإيمان فيها محبة، ليس هناك التزام فقط، هناك محبة، والمحبة تجعل الإنسان ينطلق، يضحي، يبذل الغالي والرخيص، النفس والنفيس.امرأة أنصارية بلغها أن النبي قُتل، انطلقت إلى أُحد، تقول: ما فعل رسول الله ؟ رأت ابنها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله ؟ رأت زوجها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله ؟ رأت أباها مقتولاً، ما فعل رسول الله ؟ رأت أخاها مقتولاً، فلما رأته واطمأنت على حياته وسلامته، قالت: يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل، وفي رواية أنها رأت غباراً على وجهه الشريف، قالت: والله يا رسول الله لهذا الغبار أشد عليّ من موت كل من حولي، عندنا هذا الحب ؟ ائتني بقوة الإيمان وحب النبي العدنان، وعندئذٍ نصنع المعجزات.
4 – النبي زكى النفس الإنسانية:
شيء آخر، ما الذي فعله النبي في مكة المكرمة ؟ زكى النفس الإنسانية، ليس هناك مؤمن لئيم، ولا مؤمن مخادع، ولا مؤمن بخيل، ولا مؤمن جبان، ولا مؤمن كذاب، ما لم تزك نفسك بمكارم الأخلاق، ما لم تكن أميناً عند التعامل، صادقاً عند التكلم، ما لم عفيفاً عند إثارة الشهوة، ولم تكن متواضعاً، ولم تكن منصفاً، ولم تكن معطاء فلست مؤمناً، ائتني بواحد بهذا البناء، وهذه الأخلاق، عندئذٍ كما قال النبي الكريم:
(( لن ـ اسمعوا جميعاً ـ لن تغلب أمتي من اثني عشر ألف من قلة ))
فتاة بارعة الجمال في عهد النبي الكريم، عند النبي الكريم شاب فقير جداً، لكنه دميم جداً، أعرج، وفيه عور بعينيه، عاهات، كتلة عاهات، على كتلة دمامة، على قتلة فقر، النبي الكريم قال له: ألا تتزوج يا جليبيب ؟ قال: من يزوجني يا رسول الله ؟ النبي الكريم أرسله إلى بيت فيه هذه الفتاة، قصة طويلة، لكن ملخصها أن الأب حينما طلب منه النبي أن يزوج ابنته لهذا الأخ جليبيب، سكت، صُعق، فلما حدث الأم قالت: لا والله لا أزوجها إياه، فسمعت البنت، قالت: أنا أتزوجه، ورسول الله لا يضيعني، هل هناك بنت هكذا ؟ عشرات الفتيات لسبب تافه جداً ترفضه، بعد عقد العقد ترفضه، لسبب تافه جداً ، فلذلك فتاة بارعة الجمال ترضى بإنسان دميم وفقير، لكنها في النهاية قبلت، قبلت راضية بوصية رسول الله، وهيأ نفسه، وهيأت نفسه، وهيأ البيت، ويوم العرس نادى منادي الجهاد فانطلق إلى الجهاد، ومات في ساحة المعركة، وأمسكه النبي بيديه إلى أن حُفر قبره وبكى.
هذا هو مجتمعنا وذاك هو مجتمع الصحابة:
نحن نعيش في مجتمعات متفسخة، فيها أثرة، وبخل، وقسوة، ليس فيها رحمة، لكن فيها صلوات، فيها شعائر ، لكن ليس فيها أخلاق المسلمين، ولا فيها ورع المسلمين، ولا فيها أمانة المسلمين، ولا فيها صدق المسلمين.
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
الآن لهم علينا ألف سبيل وسبيل، انظر من أجل جنديين دُمرت أمةٌ بأكملها، ألا ترون ؟ أريد أن أركز ماذا فعل النبي الكريم بمكة وهو ضعيف، أصحابه ضعاف، يُعذبون، يُنكل بهم، يقُتلون، شردوا في الآفاق، هاجروا إلى الحبشة، حُصروا، أكلوا ورق الشجر، لكن بنوا إيمانهم، صار الواحد منهم كألف، وصار الواحد منهم كجيش.
هل من المعقول أن سيدنا الصديق يُطّلب منه خمسين ألف رجل مددًا لسيدنا خالد، فيرسل له واحدًا ؟! "القعقاع بن عمرو"، ولما وصل إلى سيدنا خالد في نهاوند قال له: أين المدد ؟ قال له: أنا، قال له: أنت ؟! قال له: أنا، وهذا الكتاب من خليفة رسول الله، فتحه، يا خالد فوجد فيه: << والذي بعث محمداً بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يُهزم >>، ما هذا ؟.
إخواننا الكرام، نحن في محنة كبيرة، نحن في محنة الآن إما أن ننتصر أو لن تقوم لنا قائمة، العالم كله يراهن علينا، أليس كذلك ؟ لذلك كل إنسان يبني نفسه، افرضوا أن هذه مرحلة مكية، نحن ضعاف، لنستغل هذا الضعف في بناء الذات، في طلب العلم، في الانضباط، في إتقان العبادات، في البذل، في العطاء.
الطبيب الذي يحمل أعلى شهادة، ما الذي يمنع أن تُعمم علمك على زملائك الأطباء الذين لم يتح لهم أن يذهبوا إلى تلك البلاد ؟ ما الذي يمنعك ؟.
ما لم تنشأ عندنا روح تعاون، ما لم تر أن أخاك هو أقرب الناس إليك، ما لم تعط من كل شيء معك، ما لم تبذل علمك، وخبرتك، ومالك، ووقتك، وجهدك لأخيك فلن ننتصر أبداً، لن ننتصر إلا إذا رضي الله عنا، ولا لن يرضى عنا إلا إذا تحاببنا.
(( وجبت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء يوم القيامة ))
إذاً بنى الإيمان وزكى النفس والعقل، عنده مسلّمات، بديهيات، يقينيات، لو أن الدنيا كلها كفرت بقي هو ثابتًا كالصخر والجبل.
إخواننا الكرام، المؤمن إن لم تهِم في حبه فليس مؤمناً، من تواضعه، من عقله الراجح، من إيمانه، من عزيمته، من صدقه، من أمانته، من عفافه، بنى الإيمان في العقول، وزكى النفوس، هذه محصلة مكة، كانوا ضعافا، والكفار أقوياء، أشداء، متغطرسون، لكن المؤمنين كانوا في قمم الكمال.
5 – النبي ربى أصحابه على العلم:
والله الذي لا إله إلا هو بالمناسبة، إن أضفت على كلمة مسلم كلمة واحدة تكن عنصرياً، فلان جيد، لكنه من الريف، وقد تكون قُلامة ظفر إنسان في الريف تشرف مئة إنسان في المدينة، هذا عبد لله مؤمن، تحبه فقيراً، وتحبه غنياً، تحبه مثقفاً، تحيه محدود الثقافة، تحبه وسيماً، تحبه دميماً، تحبه قوياً، تحبه ضعيفاً، مؤمن، ما لم نضع تحت أقدامنا كل المرجحات الجاهلية فلن ننتصر.
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
مقياس القرآن: العلم والعمل:
في القرآن مرجِّحان فقط، قيمة العلم، وقيمة العمل، وما سوى ذلك لم يعترف القرآن أصلاً بها، الآن بعد التزكية التعلم، رسخ الإيمان، و زكت النفس، ينبغي أن تكون عالماً، فما الذي يمنع أحدنا أن يطلب العلم الديني ؟ أن يتعمق في فهم حقيقة الدنيا، أن يتعمق في فهم القرآن، في فهم السنة، في فهم السيرة، وما من قيمة في الأرض أقوى من العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.
أنا أروي لكم قصة، لعلي رويتها لكم سابقاً عن رجل من صعيد مصر فلاح، أرسل ابنه إلى الأزهر، وعاد يحمل شهادة الأزهر، وقد عُيّنَ خطيباً في قريته، وسمع الأب خطبته فبكى، الأب أُميّ، لما رأى ابنه يعتلي المنبر بكى، ثم ركب دابته، وانطلق بها إلى القاهرة، أما السؤال الأول: لماذا بكى ؟ لا لأن ابنه أصبح خطيباً، بكى ألماً من نفسه، كيف هو جاهل، ولا يعلم، توجه بدابته نحو القاهرة، وبقي يمشي عشرين يوماً، إلى أن وصلها، سأل عن الأزعر، هو الأزهر، لا يحفظ اسمه، فدلوه على الأزهر، وهو في سن الـ55، وتعلم القراءة والكتابة، ثم تعلم القرآن وقرأه، ثم طلب العلم الشرعي، وعاش مدة طويلة، مات في الـ96، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر.
لذلك تعلموا، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.
الآن كم ممن يحضر دروس العلم يُفكر أن يدعو إلى الله ؟ مع أن الحقيقة أنه ما لم تطلب العلم أولاً، وما لم تعمل به ثانياً، وما لم تدع إليه ثالثاً، وما لم تصبر على طلبه والعمل به، والدعوة إليه فأنت خاسر، كم من الناس ممن يفكر أن ينقذ من حوله ؟ ائتي به معك إلى المسجد، أعطه شريطاً، اجلس معه، حدثه عما سمعت، خذ بيده إلى الله، فالصحابة الكرام بنى النبي عليه الصلاة والسلام فيهم الإيمان أولاً، إيمانا راسخا لا يتزعزع، ثم زكى نفوسهم، فتحلت بالكمالات البشرية، ثم طلبوا العلم علم الكتاب، علم السنة، الأحكام الشرعية، ثم دعوا إلى الله، والدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، والدليل:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
فالذي لا يدعو الله، أو فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة، أي على دليل وتعليل، ليس متبعاً لرسول الله، والذي لا يتبع رسول الله لا يحب الله، والدليل:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
ما قبل الله دعوى محبته من دون دليل.
6– النبي ربى أصحابه على الصبر:
لقد ربى النبي أصحابه على الصبر، و الإنسان الآنلأقل إغراء يُفتن، ولأقل ضغط ينهار، مع أن المؤمن الصادق لا تسنيه عن عقيدته لا سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة، فربى أصحابه على الصبر، لأن حقيقة الحياة فهيا ابتلاءات، فيها ظروف صعبة، فالذي رُبيّ على الصبر يتحمل، لا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فهذا الذي لا دخل له، لو طُلب منه في الأراضي المحتلة أن يدل على إنسان معين، فإذا دل عليه أعطي مبلغا كبيرا، هذا المجتمع الفقير الذي يُغرى بمال وفير، حينما يخون أمته معنى ذلك أنه لا صبر عنده، أما المؤمن فيموت من الجوع ولا يخون أمته، إنه إيمان لا يتزعزع، وتزكية نفس، وطلب علم، ودعوة إلى الله، وصبر، هؤلاء الذين هاجروا هؤلاء هم نواة دولة المسلمين، وهذا ما فعله صلاح الدين، أعد جيلاً مؤمناً، وأزال كل المنكرات، فوفق سنن الله استحق النصر على 27 جيشاً فرنجياً، وردهم، وفتح القدس، وألقى خطيب المسجد خطبة تكتب بماء الذهب، افتتحها بقوله تعالى:
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
الله يرينا أياماً كهذه الأيام، كأيام النصر التي نتحدث عنها.
6– النبي علم أصحابه التعاون:
شيء آخر، من إنجازات النبي عليه الصلاة والسلام في مكة أنه علم أصحابه التعاون، مجتمعات المسلمين المتخلفة ألِفت التنافس، في كل تجمع، في كل مؤسسة، في كل دائرة، في كل شركة، في كل مكان، حتى في الأسرة هناك تنافس، و كيد، ووشاية، لذلك ما لم نتحلَ بروح التعاون، ما لم نتحلَ بروح التضامن فلن يرضى الله عنا.
أعداؤنا هذه ميزة عندهم، يتعاونون على الباطل، ونحن نتقاتل ومعنا الحق، أعداؤنا يتعاونون على خمسة بالمئة فقط من القواسم المشتركة، ونحن نتقاتل وبيننا 95 % قواسم مشتركة، أليس كذلك ؟ هل يمكن لمسلم أن يقتل مسلما ؟ يحرق المصحف ؟ أليس مصحفك ؟ هذا الذي يجري لذلك:
(( يوشِكُ الأُمَمُ أنْ تُدَاعِيَ عَليْكُم كَمَا تُدَاعِيَ الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قالَ: بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُير ))
المسلمون مليار وخمسمئة، مليون ربع سكان الأرض.
((ُ وَلَيَقْذِفَنّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ ؟ قالَ: حُبّ الدّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ ))
إخواننا الكرام، درس اليوم يجب أن نحظى بإيمان راسخ، ومن خلال اتصالنا بالله، وأداء العبادات، تشتق أنفسنا من كمالات الله الشيء الكثير، ثم ينبغي أن نزكي أنفسنا وأن نطلب العلم، وأن ندعو إلى الله، وأن نصبر، وأن نتبع الأسلوب الجماعي في حياتنا.
مهمة التربية الفردية للمجتمع الجديد:
أيها الإخوة، هذا المجتمع المدني الجديد فيه أشخاص، الواحد كألف، الآن اتجه هذا المجتمع إلى بناء القوة، كان يتمتع بقوة الإيمان، الآن يبحث عن حق القوة.
أيها الإخوة، بدأت مهمة التربية الفردية للمجتمع الجديد، مع قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حيث بدأت عملية إقامة مجتمع مختلف عن نظام القبائل العربية.
اسمعوا هذه الكلمة: مادام الفرق بين مسلم وغير المسلم الصلاة فقط، فلن تقوم للإسلام قائمة، قاعدون المقهى كلهم، حيث الأغاني، وطاولات فيها خمر، وزوجته محجبة، ويستمع للأغاني، ويملأ عينيه من محاسن النساء، الفرق بينه وبين الثاني، قام وصلى الظهر فقط، الأماكن واحدة، المتنزهات واحدة، المطاعم واحدة، الأغاني واحدة، كسب المال الحرام مشترك، ما دام الفرق بين المسلم وغير المسلم الصلاة فقط فلن تقوم للإسلام قائمة، إذا لم يكن 500 ألف فرق، هذا صادق، هذا كاذب، هذا أمين، هذا خائن، هذا منصف، هذا ظالم، هذا محسن، هذا مسيء، هذه حليم، هذا منتقم، هذا رحيم، هذا قاسٍ، إذا لم يكن هناك مئة ألف فرق بين المسلم وغير المسلم فلن تقوم للإسلام قائمة، مسلم تصلي وتصوم، وفيما سوى ذلك أنت كالآخرين تماماً، لا تلحظ فرقاً، وقد تجد محجبة تشرب القهوة و( الأركيلة )، لا فرق أبداً، كل مثل بعضه، قيم روحية ومشروبات روحية،، ثم يأتي رمضان إكراماً لرمضان الفيلم الفلاني، والتمثيلية الفلانية، والمسرحية الفلانية، كله إكرام لرمضان، شهر ولائم، شهر مسلسلات، هكذا، مثل هذه الأمة لا تقوم لها قائمة، ولن تستطيع أن تثبت لله أنها تستحق النصر، أنا لست متشائماً، لكن لا يمكن أن نشم رائحة النصر ما دمنا على خلاف منهج رسول الله.
مجتمع المسلمين في المدينة مجتمع القيم الأخلاقية:
مجتمع المسلمين الذي أسس في المدينة مجتمع القيم الأخلاقية، مجتمع المثل العليا، مجتمع الإنسان، الذي تسود حياته المبادئ والقيم، مجتمع رسالة السماء، رسالة السماء الآن متمثلة في المظاهر الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إنما بعثت معلما ))
(( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))
كل واحد يحاسب نفسه، إن لم تكن متميزاً في أخلاقك، بضبط لسانك، بضبط جوارحك، إن لم تكن متميزاً في إنفاقك، بعباداتك، فلا: تقل أنا مسلم، ولا تقل: أنا مؤمن، في هذا المجتمع أيها الإخوة فيه محافظة على كل الفضائل والمكارم، التي عرفتها المجتمعات الإنسانية السابقة، فيه السعي لإتمامها وإكمالها، في هذا المجتمع فيها استبعاد لمفاسد الأخلاق للظلم والعدوان، وللاستغلال والجهل والعبودية لغير الله، فيه إقصاء لرواسب الماضي وانحرافات الناس الخلقية، والاجتماعية، والنفسية.
الشيء الدقيق أن هذا المجتمع الإيماني في المدينة، هذا المجتمع تحولت فيه الطاقة المبعثرة للأفراد إلى بناء متكامل يسمو بها جميعاً، ويحقق لها العلم والتقدم، والوحدة الإنسانية، وتوجهها رسالات السماء، وفق المثل العليا الإنسانية، لذلك أيها الإخوة، يقول الله عز وجل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾
ملخص المرحلة المكية والمدنية:
ملخص هذا الكلام هؤلاء الذين أمضوا في مكة المكرمة 13 سنة وزيادة بنوا فيها إيمانهم، أصبح الواحد كالألف، الآن نبحث عن حق القوة من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بادئة ذي بدء:
هو البناء الفردي، هناك كلمة: بعضهم يرى أن الكثافة السكانية في بلد ما تندرج مع الخسائر، وبعضهم يراها تندرج مع الأرباح، والحقيقة أنها ليست هكذا، وليست هكذا، الكثافة السكانية تعني الشخص، الإنسان الفرد إذا آمن بالله، وطبق منهجه، وزكى نفسه، وجند نفسه لخدمة أمته هو مع الأرباح، أما إن لم يكن مؤمناً، ولا ملتزماً ولا مطبقاً، ولا مزكياً نفسه مع الخسائر، الإنسان الجاهل عبء على الأمة، مجرم، محتال، يبتز أموال الناس بالباطل.
البناء الفردي أساس البناء الاجتماعي:
أيها الإخوة، البناء الفردي أساس البناء الاجتماعي، بناء الفرد أساس بناء الأسرة، أساس الأسرة أساس بناء المجتمع، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام اعتنى بالفرد المسلم، لذلك أول شيء فعله النبي عليه الصلاة والسلام إصلاح العلاقات بين الأفراد، الآن استمعوا ما يقول الله عز وجل:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
7 – النبي أصلح ذات البين:
أقول لكم هذه الكلمة: لن نكون أقوياء إذا كانت العلاقات فيما بيننا فاسدة، تجد في الأسرة الواحدة الشرخ، الابن مع أمه، والبنت مع أبيها، وخصام دائم، في الشركة الواحدة محوران، ومجتمع واحد فيه اتجاهات، لذلك النقطة الأولى:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِيّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَهَا الْحَالِقَةُ ))
(( لا أقول: حالقة الشعر ولكن أقول: حالقة الدين ))
ينتهي الدين بفساد ذات البين، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أول شيء أصلح ذات البين، أصلح ما بين المسلمين، لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام على بني عمرو بن عوف، وقد كان بين الأوس والجزرج ما كان من العداوة، الأنصار أوس وخزرج، بينهم عداوة لا يعلمها إلا الله، أول عمل فعله النبي أنه أزال العداوة بين الأوس والخزرج، لأن المجتمع المنشق على نفسه ينتهي، احفظوا هذه القاعدة، إذا كان في بيتك انشقاق انتهى البيت، صار الوقت كله للصراع الداخلي، ليس هناك إنجاز، ولا الطالب يتفوق، ولا الفتاة تتفوق، ولا الأب مرتاح، ولا الزوجة مرتاحة، فحيثما حل الشقاق حل التخلف، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِيّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ ))
فحينما رأى بين الأوس والخزرج من العداوة الشيء الكثير، وكانت الخزرج تخاف أن تدخل دار الأوس، الخزرجي يخاف أن يدخل دار أوسي، وكانت الأوس تخاف أن تدخل دار الخزرج، لذلك عليه الصلاة والسلام أول عمل قام به أنه ألف بين الأوس والخزرج.
درس عملي:
الآن كدرس عملي: كل واحد له أسرة لو كان فيها خلاف بين اثنين، بين أخوين، بين عمين، بين خالين، وجمع الأسرتين، وفق بينهما، وصار الصلح، تماسكت الأسرة ، في كل مكان خلافات، نحن نريد من هذه السيرة أن تكون درسا عمليا لنا، أن نقتبس منها الدروس والعبر، ألا ندع خلافاً بين الأوس والخزرج، لذلك سمى القرآن الكريم الخلاف بين المؤمنين كفراً، كيف ؟
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾
لأنه جاءت موجة كراهية بين الأوس والخزرج، فنزل قوله تعالى:
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾
معنى ذلك أن الله سمى الخلاف بين المؤمنين كفراً، لذلك من مقتضيات الإيمان أن أُزيل كل خلاف في ما بين المؤمنين، أن أُجري صلاحاً بين كل المتخاصمين، هذه من دروس السيرة، أن لا يبنى مجتمع قوي يستأهل النصر إلا على أفراد مؤمنين، موحدين، زكوا أنفسهم، وطلبوا العلم، ودعوا إلى الله وصبروا على قضائه وقدره.
إذاً الدرس الأول: إزالة الخلافات الفردية، هذا من أولى مهمات النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، كإسقاط لهذه الحقيقة على مجتمعنا يجب أن تعاهد نفسك، أن توفق بين كل متخاصمين، وأن تزيل خلافاً بين كل شخصين، على مستوى أسرة، على مستوى عائلة، على مستوى حي، على مستوى أصدقاء، جيران، حرفة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار))
(( عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ))
(( فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))
وفي درس قادم إن شاء الله سأقرأ على مسامعكم قصة حصلت بين الأوس والحزرج، وكيف بدأت، تجدون هذه القصة منطبقة على مجتمعاتنا، وهل تصدقون أن عدداً كبيراً جداً في بلد عربي مجاور، هذا العدد مهمته إحراق مسجد، وإحراق حُسينية، نفس الفريق، من أجل أن تنشب حرب أهلية، والذي يفعل هذا طرف ثالث، هل تصدقون هذا الذي يحصل، لذلك الآن الورقة الرابحة الوحيدة بيد أعداء المسلمين الفتن الطائفية.
والله إخوة كرام موثوق بهم جاؤوا من العراق، وأكدوا هذا،عدد كبير من الموساد هو الذي يحرق المساجد، مساجد السنة ومساجد الشيعة معاً، إلى أن نشبت الحرب الأهلية، كل يوم مئة قتيل، على الهوية فقط، الذي خطط له وقع، أنا أحذركم، الورقة الرابحة الوحيدة بيد أعداء المسلمين الفتن الطائفية، هذا الذي أتمنى لأن النبي الكريم أول شيء فعله في المدينة أنه أصلح ذات البين أصلح بين الأوس والخزرج.
يقول بعض الزعماء في العالم الغربي: أنا لا يعجبني أن يكون العالم 200 دولة، أتمنى أن يكون العالم 5000 دولة، يخططون لكل دولة عربية ست دول، لكل فئة دولة ، انتهى العالم العربي والإسلامي بهذه الطريقة.
أنا تعقيبي على أن النبي عليه الصلاة والسلام أصلح ذات البين، لأنه لن تقوم لنا قائمة وبيننا خلافات شديدة تفرق وحدتنا، وتمزق جمعنا، ولنقتدِ برسول الله، ولو على مستوى بسيط.
وفي درس قادم إن شاء الله سوف نتابع القصة التي حصلت بين الأوس والخزرج، وقد عادوا نوعاً ما إلى ما قبل الإسلام.