المُذيع:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، مشاهدينا الكرام تحيةً طيبةً مُباركة، من هنا من ساحة مَسجِدَي السلطان أحمد، وآية صوفيا الكبير، هنا في إسطنبول، نحن معكم، بينكم في أولى حلقات الموسم الثاني من برنامج محيا رمضان، في أول أيام الشهر الفضيل، فكل عامٍ وأنتم بخير.
مشاهدينا من فضل الله تعالى ونِعَمه العظيمة على عباده، أن هَيأ لهم المواسم الفاضلة، لتكون مَغنماً للطائعين، ومَيداناً لتنافس المتنافسين، والسعيد من اغتنم مواسمالشهوروالأيام والليالي والساعات المُباركة، وتقرَّب فيها إلى الله عز وجل بالطاعات والعمل الصالح.
شهر رمضان من أفضل تلك المواسم، فهو شهر القرآن الكريم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر،تُفتح فيه أبواب الجنَّة وتُغلق فيه أبواب النار، وتُنشر الرحمات، لِذا فهو فرصةٌ عظيمةٌ لأوبة العُصاة، وتوبة التائبين، ومضمارٌ عظيمٌ لترويض النفس، واستنهاض هِمّتها من جديد، حول هذا الموضوع تدور حلقة اليوم، ونُرحّب فيها بضيفنا الكريم، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الداعية الإسلامي الكبير، مرحباً بفضيلتك دكتور.
الدكتور محمد راتب النابلسي:
بارك الله بكم، ونفع بكم، وجعل أعمالكم في ميزان حسناتكم.
المُذيع:
اللهم آمين يا ربَّ العالمين، كما نُرحّب مشاهدينا بضيفنا المُنشِد والقارئ التركي، وكذلك المؤذّن الأستاذ مُحسن كارا، مرحباً بك أستاذ مُحسن، ومن حسن المُصادفات أنَّنا ختمنا الموسم الأول من محيا رمضان في العام الماضي،وحضرتك كنت معنا ضيفنا في هذه الحلقة الأخيرة، والآن نفتح الموسم الجديدمن محيا رمضان في هذا العام، وأنت معنا في بداية هذه الحلقة.
المُنشد محسن كارا:
هذا فضلٌ من الله علينا حيَّاكم الله.
المُذيع:
فضيلة الدكتور، نحن سُعداء بوجود حضرتك معنا، ونسأل الله أن ينفعنا بما سنسمعه من حضرتك هذا اليوم، ولكن اسمح لنا بدايةً أن نبدأ هذه الحلقة، وهذا الموسم من برنامجنا، بتلاوة عطرة من آي الذكر الحكيم، وما تيسر من القرآن الكريم، مع أخونا مُحسن تفضّل أخ مُحسن.
المُذيع:
نبدأ مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي،فضيلة الدكتور ونحن في بداية شهر رمضان الكريم، ونحاول أن نَجعل منه فُرصةً من أجل إعادة استنهاض الهِمّة، وإعادة ترويض النفس من أجل أن تعود على جادة الصواب، كما نقول، لأنَّ الإيمان يزيد وينقص، ويضعف، وهو السؤال الذي سأبدأ به فضيلة الدكتور، هل يضعف الإيمان؟ ولماذا؟
هل يضعُف الإيمان؟ ولماذا؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، الحقيقة الدقيقة أنَّ الله سبحانه وتعالى له تصرفات كاملة، فنحن في دار ابتلاء، لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، هذا الموقف، إنّا كُنا مبتلين، الابتلاء عِلّة وجودنا.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
والآية الثانية:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
والبطولة ليس أن لا نُبتلى، بل أن ننجح في الابتلاء، فنحن أمام مُشكلات تقوى وتضعُف، تطول وتقصُر، نحن خُلِقنا لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطر على قلب بشر.
(( قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
فنحن في دار ابتلاء، لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، لذلك نحن ينبغي أن نفهم عِلّة وجودنا وغاية وجودنا، يعني إذا إنسان أرسل ابنه إلى بلد أجنبي لينال الدكتوراه، وظنَّ أنه لا يوجد امتحان، يكون أحمق، الابتلاء قَدرُنا، والابتلاءعِلّة وجودنا، وسبب وجودنا، فلا بُدَّ من طلب العِلم، "فإذا أردت الدنيا فعليك بالعِلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعِلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعِلم،والعِلم لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، وإذا أعطيته بعضك لم يُعطِكَ شيئاً "،ويظل المرء عالِماً ما طلب العِلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد عَلِم فقد جَهل، طالب العِلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، فنحن في دار ابتلاء، لا دار استواء، فشيء طبيعي جداً أن نُمتَحن، لكن البطولة أن ننجح في الابتلاء، سيدنا يوسف ابتُليَ بامرأة العزيز فنجح قال:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)﴾
هي لم تنجح، فالبطولة، والنجاح، والفلاح، والتألق، أن ننجح في هذه الدنيا.
المُذيع:
في ضوء وجودنا في هذه الدنيا التي هي دار ابتلاء كما تفضّلت حضرتك، الإنسان يمرّ بمتغيرات، تطرأ عليه ظروف، هذه المُتغيرات، وهذه الظروف، وهذه التطورات، التي تطرأ على الإنسان، هي تتسبب في حالة ضَعف الإيمان أحياناً، أو تكون مُغايرة فتُسبب قوةً و زيادةً في هذا الإيمان، لو تُضيء لنا على هذه النقطة دكتور.
نحن في دار ابتلاء والإنسان دائماً مُمتحن:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
السبب:
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾
هذه المداولة تُمتحَن بها الشعوب، والأفراد، والمؤسسات، فنحن فيدار ابتلاء، فالبطولة أن نطلب العِلم، "إذا أردت الدنيا فعليك بالعِلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعِلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعِلم، والعِلم لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، وإذا أعطيته بعضك لم يُعطِك شيئاً"
(( طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ))
[ أخرجه الطبراني والبيهقي ]
يعني للتقريب، استنشاق الهواء فريضة، شُرب الماءفريضة، شيءٌ أساسي لحياة الإنسان، فالإنسان عقلٌ يُدرِك، وقلبٌ يُحب، وجسمٌ يتحرك، غذاء العقل العِلم، وغذاء القلب الحُبّ، الذي يسمو بك، وغذاء الجسم الطعام والشراب، فإذا غذَّى الإنسان عقله بالعِلم، وقلبه بالحُبّ، وجسمه بطعامٍ اشتُريَّ بمالٍ حلال، تفوّق، فإذا اكتفى بواحدة تطرَّف، والتطرُّف نوعان، تطرُّف تفلُّتي إباحية، أو تطرُّف تشدُّدي تكفير الآخر، نحن في دار ابتلاء لا دار استواء.
المُذيع:
لكن هل من الطبيعي أن يضعُف الإيمان عند الإنسان فضيلة الدكتور؟
الإنسان مُخيّر في هذه الحياة وعليه أن يعرف عِلَّة وجوده فيها:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
طبعاً، الحقيقة الإنسان عِلّة وجوده أنَّه مُخيَّر.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾
فلا بُدَّ من طلب العِلم، إذا يوجد ضعف بطلب العِلم هناك مُشكلات كثيرة، طلب العِلم يُحقِّق أهداف كبيرة، الإنسان إذا عرف عِلّة وجوده وغاية وجوده، تحرّك حركة صحيحة، فإذا ما عرف سرّ وجوده كخبطةٍ عشواء.
المُذيع:
ما عرف أو نَسي، يعني ممكن أن يكون تناسي الإنسان وغفلته عن سبب وجوده في هذه الدنيا من أسباب ضعف الإيمان.
الدكتور محمد راتب النابلسي:
يعني للتقريب، إنسان ميسور بالمال، أرسل ابنه إلى باريس، لينال الدكتوراه من السوربون، دقيقة الفكرة، عِلّة وجود هذا الطالب في باريس الدراسة، ممكن أن يدخل إلى مطعم ليأكل، يجلس في منتزه، ممكن أن يشتري مجلة، أمّا عِلّة وجوده الدراسة، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
فالعبادة عِلّة وجودنا وغاية وجودنا، أما إذا فهمنا الدنيا دار استقرار وانغماس بالشهوات، هذه هي الطامة الكُبرى، لكن ما من شهوةٍ أُودعت في الإنسان، إلا جعل الله لها قناةً نظيفةً طاهرة تسّري خلالها، لا يوجد حرمان إطلاقاً، يعني صفيحة البنزين إذا وضعت في المستودع المُحكم في السيارة،وسال هذا البنزين في الأنابيب المُحكمة، وانفجر في البستونات، نقلك إلى مكانٍ جميل، الصفيحة نفسها صُبّها على السيارة، أعطِها شرارة، تُحرِق المركبة ومن فيها، فالشهوات قِوى دافعة أو قِوى مُدمّرة.
المُذيع:
دكتور هناك نوعان من العبادات، عبادات شعائرية، وعبادات تعامُليّة، كيف تتأثر هذه العبادات بنوعَيها، بحالة زيادة أو نقصان الإيمان في نفس المسلم؟
العبادات نوعان شعائرية وتعامُليّة ولا تُقبل العبادة الشعائرية إلا إذا صحّت العبادة التعاملية:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
بسم الله الرحمن الرحيم، العبادات الشعائرية كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والنطق بالشهادة، هذه العبادات لا تُقطَف ثمارها، بل ولا تُقبل، إلا إذا تمّت العبادة التعامُليّة، التعامُليّة كسب المال، إنفاق المال، اختيار الزوجة، تربية الأولاد، اختيار الحِرفة، التعامل مع الآخرين، طبعاً العبادة التعامُليّة تبدأ من أخصِّ خصوصيات الإنسان، وتنتهي بالعلاقات الدولية، مئات البنود بل آلاف البنود، الشعائرية صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وشهادة، لذلك العبادة الشعائرية لا تُقبل ولا تُقطَف ثمارها إلا إذا صحَّت العبادة التعامُليّة،كاختيار الزوجة، تربية الأولاد، اختيار الحِرفة، التعامل مع الأقوياء، مع الضُعفاء، منهج تفصيلي يبدأ فيأخصِّ خصوصيات الإنسان، وينتهي بالعلاقات الدولية، فلا بُدَّ من عبادة شعائرية، ولا بُدَّ من عبادةتعامُليّة، والشعائريات لا تُقطَف ثمارها، بل ولا تنجح،إلا إذا صحَّت العبادة التعامُليّة، ونحن كأنَّه في هذه الحياة المُعاصرة، يوجد تقصير بالعبادة التعامُليّة،الشعائرية موجودة، وأكثر الوعود الإلهيّة إن لم تتحقّق لنقص العبادة التعامُليّة.
المُذيع:
ولذلك بعض الناس يسأل، هناك من العبادات ما لا يشعُر الإنسان بأثرها في حياته، يعني على سبيل المثال فضيلة الدكتور الله تعالى يقول :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾
ولكن نجد كثير من المُصلّين، لا ينتهون عن الوقوع في بعض الفواحش، أو المُنكرات، أو ما إلى ذلك، هناك أيضاً الصيام وعلاقته بالتقوى، وتقوى النفس، وصيام الجوارح، ليس فقط الصيام، الامتناع عن الطعام والشراب بالجوع والعطش، فلماذا لا يشعُر الإنسان بأثر عبادته؟
لماذا لا يشعر الإنسان بأثر عبادته؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
أولاً تصوّر بيت فيه جميع الأجهزة الكهربائيّة من أعلى مستوى، لكن لا يوجد كهرباء، هذه الأجهزة على أنها في أعلى مستوى لا قيمة لها، الآن قطع التيار ميلي واحد أوقفها كلها أو متر، هذه الصغائر إذا أصررنا عليها كالكبائر، في النتيجة، في المآل، يعني تقريباً خُذّ شارع ببلد إسلامي لا يوجد قتل، لا يوجد خمر، لا يوجد زِنى، لكن يوجد أشياء غير مضبوطة، الشاشة غير مضبوطة، اللقاءات غير مضبوطة، النُزهات غير مضبوطة، فلمّا انقطع التيار خسرنا كل إيجابيات الإسلام، أما لو كان يوجد أعمال كبيرة جداً، الفرق بينهما في الآخرة، أما في الدنيا،خسرت الكهرباء كلها في ميّلي واحد، لذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، طريق عرضه ستون متر، أوتوستراد دولي، حرّكنا المِقوَد سَنتِمتر واحد، وثبّتناه إلى الوادي، لو حرّكناه تسعين درجة فجأةً، وانتبهنا فأعدناه، فلا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، مشكلتنا في هذه المسافة الضّيقة.
ماذا يفعل الإنسان إذا شعر بفتور في عباداته وبأنه بعيد عن الله؟
المُذيع:
متى شَعَر الإنسان بضعف الإيمان، أو بأنه في حالة من الفتور، وعدم الشعور بأثر عباداته، واستشعار أنه بعيد عن الله سبحانه وتعالى، ماذا يفعل؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
الله الذات الكاملة، أصل الجمال والكمال والنوال، أسمائه حُسّنى، صفاته عُلا، لكن إذا ارتكب الإنسان معصية، أنشأت هذه المعصية حِجاباً بين العبد وربَّه، أكبر عقاب للمؤمن المُقصّر، هذا الحجاب.
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)﴾
فالمؤمن إذا أُتيح له أن يتصل بأصل الجمال والكمال والنوال، بالذات الكاملة.
فلو شاهدت عيناك من حســـننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنـا
ولو سمعت أذناك حُسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولو ذقت من طعم المحــبَّة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسـمت من قربنا لك نسمةٌ لمـُت غريبـاً واشـتياقاً لـقـــربـنا
لكنت في أعلى درجة من السعادة، لذلك هناك فرقٌ بين السعادة واللذّة، اللذّة حسّية تحتاج إلى وقت، وإلى مال، وإلى صحة، بالبداية لا يوجد مال، وفي الوسط لا يوجد وقت، بالنهاية لا يوجد صحة، أمّا أن تتصل بالله، بأصل الجمال والكمال والنوال، أنت أسعد إنسان، فأصبح هناك فرق بين السعادة واللذّة، السعادة أن يكون لك مع الله صِلة، بأصل الجمال والكمال والنوال، والنتائج الإيجابية من الاتصال بالله الحقيقية، لا تُعَد ولا تُحصى.
المُذيع:
فضيلة الدكتور هل ضعف الإيمان صور وأنواع؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
يعني في فرائض وفي سُنن، في بيع وشراء، في صدق وكذب، في شيء لا يُرضي الله عز وجل، في شيء يُرضي الله، فحركة الإنسان واسعة جداً، تبدأ من أخصِّ خصوصيات الإنسان، وتنتهي بالعلاقات الدولية، فهذا منهج تفصيلي، العبادات الشعائرية كالصلاة والصوم والحج والزكاة، محدودة، لكن لا تُقطَف ثمارها، ولا نَسعد بها، إلا إذا صَحّت العبادة التعامُليّة، وهذه مشكلة العالم الإسلامي الآن، نَملِك نصف ثروات الأرض بالضبط، نَملِك ثلاث ممرات مائية أصل التجارة الدولية، ومع ذلك كما ترى وتسمع.
المُذيع:
هناك أيضاً من يتساءل في صور وأنواع ضعف الإيمان، هناك ضعف إيمان يسمح للإنسان بأن يقع في ارتكاب المعاصي والذنوب، حتى الكبير منها، وهناك ضعف إيمان، لكن لا يصِل بالإنسان إلى درجة الوقوع في هذه المعاصي، والكبير منها على الأخص، كيف تُعلّق على هذه النقطة دكتور؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
لا صغيرة مع الإصرار هذه مشكلتنا، دعكَ مِمَا يُقال، لا صغيرة مع الإصرار، هذه الصغيرة قَطعَت التيار، لكن قطع قصير جداً، ويوجد جريمة تقطع قطع كبير، أليس من الأصل أن نعتني بهذا الدين العظيم،فنمتنع عن هذه الصغائر التي لها أثر سلبي خطير جداً في حياتنا، يعني وعود الله عز وجل بعضها غير مُطبَّق، السبب أن التيار انقطع.
المُذيع:
فضيلة الدكتور كيف يعالج المرء ضَعف إيمانه؟
الدكتور محمد راتب النابلسي:
أولاً:
(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. ))
القوّة قوة العِلم، أو قوة المنصِب، أو قوة المال، ولأنَّ وجودنا في الدنيا هو العمل الصالح بالدليل:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
وسميّ العمل صالحاً، لأنه يصلح للعرض على الله، ومتى يصلُح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتُغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنّة، إذاً عندنا ثوابت في العقيدةالإيمان بالله واليوم الأخر إلى أخره، أما العمل الصالح فهو بند متحرك، حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح،
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾
وسُمّيَ العمل صالحاً، لأنه يَصلُح للعرض على الله، لذلك إذا كان طريق القوّة سالكاً وفق منهج الله، يجب أن تكون قوياً، لأنَّ خيارات القوي في العمل الصالح، والعمل الصالح عِلَّة وجودنا، إذاً القوّة لابدَّ منها، قوّة المال، قوّة العِلم، قوة المنصب (الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كُلٍّ خَيْرٌ.) القوي أحياناً، يكون له أعمال صالحة، لا تعد ولا تحصى، بأصول الدين هناك ثوابت، المتحركة العمل الصالح، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح،
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
فنحن حينما نعرف سرّ وجودنا، يعني للتقريب، إنسان أرسل ابنه إلى باريس، لينال الدكتوراه من السوربون، مدينة أكبر مدينة بأوروبا، عِلِّة وجوده الدراسة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، والعبادة طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية تُفضي إلى سعادة أبدية ، قبل قليل ذكرت أنه عندنا لذّة وعندنا سعادة، اللذّة تحتاج إلى وقت وإلى مال وإلى صحة، ولحكمةٍ بالغة دائماً هناك أمرٌ ناقص، أما السعادة أن تنعقد لك مع الله صِلة "ابن آدم اطلبنى تجدني، فإنْ وجدتني وجدتَ كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء" الإنسان إذا ذاق طعم القرب،
فلو شاهدت عيناك من حسـننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
نحن بحاجة دائماً للعِلم، والعِلم بالله أصل كل شيء:
الإنسان يُحبّ الجمال والكمال والنوال، وهذه عند الله وحده، فإذا أردّت الدنيا فعليك بالعِلم، وإذا أردّت الآخرة فعليك بالعِلم، وإذا أردّتهُما معاً فعليك بالعِلم، والعِلم لا يُعطيك بعضه، إلا إذا أعطيته كُلّك، فإذا أعطيته بعضك لم يُعطِكَ شيئاً، فطلب العِلم فريضة على كل مسلم، يعني للتقريب، استنشاق الهواء فريضة، شُرب الماء فريضة، الطعام فريضة، شيءٌ لا بُدّ منه.
الجماد، وزن حجم طول عرض ارتفاع، النبات يزيد عليه بالنمو، والكائنات المُتحركة بالحركة، أما الإنسان له من الجماد وزن حجم طول عرض ارتفاع، له من النبات النمو، من الكائنات المُتحركة الحركة، ولكن الله عز وجل أعطاه قوّةً إدراكيّة، يرى المستقبل قبل أن يصل إليه، هذه القوّة الإدراكيّة تُميّزه، هذه القوّة غذائُها العِلم،يعني مثلاً الله عز وجل سرّب لنا بعض كلمات أهل النار:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
قضية عِلم، فالعِلم أصل وجودنا وغاية وجودنا، فلا بُدّ من طلب العِلم، بطلب العِلم تُحقِّق إنسانيتك، وتعرف سرّ وجودك وغاية وجودك، وتتعرف إلى الله، أصل الجمال والكمال والنوال، الاتصال بالله أصل هذا الدين العظيم، فلذلك إذا أردّت الدنيا فعليك بالعِلم، وإذا أردّت الآخرة فعليك بالعِلم، وإذا أردّتهُما معاً فعليك بالعِلم.
العلم أنواع ، هناك عِلمٌ نحن بحاجةٍ يومية إليه في حياتنا، وأما العلم بالله هي أصل كل شيء.
المُذيع:
فضيلة الدكتور ونحن في شهر رمضان الكريم، و في أول أيامه، انقضى أول يوم منه، كيف نجعل من هذا الشهر الفضيل فرصةً لاستنهاض الهِمّة، وإعادة ترويض النفس على جادة الصواب، وما علاقة الصيام بالتقوى، الله تعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
فما العلاقة؟
لا يوجد حرمان بالإسلام فكل شهوة أودعت بالإنسان لها قناة نظيفة تسري بها:
الدكتور محمد راتب النابلسي:
النقطة الدقيقة جداً، هذه العين أعلى درجة معروفة، ستة على ستة، بدون ضوء لا قيمة لك، هذه العين لا تُحقِّق أهدافها بالرؤية إلا بوسيط هو الضوء، والقلب كذلك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْلَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28)﴾
فكما أن هذا الضوء للعين ضروري، والنور الإلهي للعقل ضروري، فإذا وصل إلى الله عز وجل "ابن آدم اطلبنى تجدني، فإنْ وجدّتني وجدّتَ كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء"فلذلك طلب العِلم فريضة، كيف أن استنشاق الهواء فريضة، وشُرب الماء فريضة، والطعام فريضة، لا بُدّ منه، هذا الذي يتميّز به الإنسان، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) .
فالإنسان يحب نفسه، يحب تحقيق أهدافه في الدنيا، أما ما مِن شهوةٍ أودِعَت في الإنسان، إلا لها قناة نظيفة طاهرة.
للتوضيح: تنكة البنزين غالية جداً، إذا وضِع البنزين في المستودع المُحكم، وسال في الأنابيب المُحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، نقلك إلى مكان جميل في العيد، الصفيحة نفسها، صُبّها على المركبة، وأعطِها شرارة، أحرَق المركبة ومَن فيها، إمّا أنّه شهوات قِوى دفع، أو قِوى دمار،وما مِن شهوةٍ أودِعَت في الإنسان، إلا جعل الله لها قناةً نظيفةً طاهرة تسّري بها، يعني حرمان لا يوجد بالإسلام إطلاقاً.
المُذيع:
هذه نقطة مهمة للغاية دكتور، نختم بها حوارنا، لأنّ بعض الناس يعتقد أن الالتزام بالدين، معناه حرمان النفس من أشياء كثيرة يمكن أن يتمتع بها الإنسان، كما أشرت حضرتك في شكلٍ أحلّه الله أو أباحه الله.
الدكتور محمد راتب النابلسي:
الحقيقة ما مِن شهوةٍ أودِعَت في الإنسان، إلا جعل الله لها قناةً نظيفةً طاهرة تسّري خلالها، نحن لا يوجد عندنا حرمان بديننا إطلاقاً، عندنا تنظيم، عندنا تصعيد، عندنا إعطاء الشيء حقه الكامل، فالإنسان تزوج وأنجب أولاد، كل الحاجات الأساسية لها قناة نظيفة طاهرة.
مثلاً السكّر مادة غالية إذا وضعتها في الطعام فَسَد، فكل شيء له مكان، الذكاء والنجاح أن تُعطي كل شيء حقه، فإذا مشينا على منهج الله، خالق السماوات والأرض،أصل الجمال والكمال أعطانا منهج، افعَل ولا تَفعَل، فإذا أنت طبّقت منهج الله عز وجل، سَلِمت وسَعِدت.
المُذيع:
بارك الله بكم دكتور، جزاكم الله كل خير.
في نهاية هذه الحلقة الأولى من هذا الموسم الثاني، من برنامج محيا رمضان، أشكر ضَيفَي جزيلاً، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الداعية الإسلامي الكبير، شكراً جزيلاً لفضيلتك دكتور، كما أشكر أخي المُنشِد والقارئ والمؤذّن، محسن كارا، شكراً جزيلاً لك، وسأترك لك الآن أن تختم لنا مع أنشودة من اختيارك لنختم بها هذه الحلقة فتفضّل.
مشاهدينا الكرام، تحيّة لكم، والشكر موصول لكم أيضاً، على حُسن المتابعة، وغداً إن شاء الله لقاء جديد، في حلقة جديدة من برنامجكم محيا رمضان، في أمان الله.
الملف مدقق