الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
جعل الله تعالى سورة الفيل تأكيداً لسورة الهمزة:
﴿ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ (1) أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٍ (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4)فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٍ مَّأۡكُولٍۭ (5)﴾
هذه السورة القصيرة، بل هذه القصة الموجزة يسمونها حكاية؛ لأنها حدث واحد، هذه الحكاية الربانية درس بليغ إلى نهاية الدوران، لاتخف من عدوك الكافر لأن الله أكبر منه.
﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام وُلِد بعد خمسين يوماً من حادثة الفيل، فحينما جاء أبرهة الأشرم من الحبشة ليهدم الكعبة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في بطن أمه، وبعد خمسين يوماً ولد النبي عليه الصلاة والسلام، والخطاب موجَّه للنبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يقول الله عز وجل لشيء لم يره النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾
الإنسان يتلقى معلوماته الأولية عن طريق السمع والبصر:
بعضهم قال: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ هنا بمعنى (ألم تعلم)، وما دامت ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ بمعنى (ألم تعلم)، فلِمَ عدل الله تعالى عن قوله: (ألم تعلم) إلى قوله: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ ؟ الحقيقة أن الإنسان يتلقى معلوماته الأولية عن طريق السمع والبصر، قال تعالى:
﴿ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)﴾
أول شيء يتلقاه الإنسان الأصوات عن طريق الأذن، ولذلك أكثر الآيات القرآنية التي تتحدث عن السمع والبصر بدأت بالسمع؛ لأن السمع يسبق البصر، ولو أن مولوداً وُلد لتِّوه وسمع صوتاً لتحرك، لكنك لو وضعت يدك أمام عينيه فلا تطرفان إلا بعد ثلاثة أيام، فالمعلومات التي تستقيها عن طريق السماع تكون أولاً، ثم المعلومات التي تستقيها عن طريق البصر، وهذه المعرفة سماها العلماء المعرفة الحسية، شيء سمعته وشيءٌ أبصرته، ومع أن حاسة السمع تسبق حاسة البصر إلا أن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، بمعنى أن الشيء الذي تشاهده لا يحتاج إلى برهان، لكن الشيء الذي تسمعه يحتاج إلى دليل، يحتاج أن تقول لصاحبه: صادق أو كاذب، فصار أعلى درجة من ثبوتيات الحقائق ما شاهدته بعينيك.
سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "بين الحق والباطل أربعة أصابع". بين أن تقول: سمعت، وبين أن تقول: شاهدت، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ﴾ .
الإنسان تميَّز على الحيوان بأنه يملك إضافة إلى المعلومات الحسية معلومات استدلالية:
الأفئدة هي العقل، أو هي الدماغ، أو هي الفكر، فَأَدَ الشيء بمعنى ربطه، والإنسان عنده مدركات حسية، فمنها ما رآه بعينيه، وما سمعه، وما ذاقه بلسانه، وما شمه بأنفه، وما لمسه بيده، فهذه مدركات حسية، وعنده معارف استدلالية، هذه المدركات الحسية تعطيه المواد الأولية، ومنها يستنبط المعلومات والحقائق.
فمن حيث التسلسل هناك سمع، وهناك بصر، وهناك استدلال، فقد ترى دخاناً فتستدل بالدخان على النار، ومن حيث الثبوت واليقين فالمعرفة التي حصلت عن طريق الرؤية تقع في قمة هذه الحقائق، فهل يُعقل أن يكون إخبار الله عز وجل عن حادثة الفيل أقلَّ رتبة من الرؤية؟ وهذا يعني أنك أيها الإنسان إذا أخبرك الله بشيء فيجب أن تتلقفه وكأنك تراه لثبوته، لذلك ربنا عز وجل عدل عن قوله تعالى "ألم تعلم، ألم تُخبَر، ألم تسمع"، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ، لأن الذي يخبرك الله به من حيث اليقينُ والثبوتُ والتأكيدُ هو بمرتبة الرؤية: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بقيت هذه (لم)، فيعربونها حرف جزم ونفي وقلب، أمّا أنها حرف جزم فلأنها تجزم الفعل المضارع، وأما أنها حرف قلب فلأنها تقلب معناه من الحال أو الاستقبال إلى الماضي، أيْ أما رأيت في الماضي، واللهُ سبحانه وتعالى أخبر نبيه عما فعله بأصحاب الفيل، وموضع الفيل بعد قليل أفصِّل فيه، فهذه ﴿تَرَ﴾فعل مضارع، وحينما دخلت عليها لم قلبتها إلى الماضي، وأنت يا محمد لقد رأيت، أو ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ، فهذه الهمزة همزة استفهام، وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، والاستفهام الإنكاري فيه نفي، والفعل مسبوق بحرف نفي فصار نفي النفي إثباتاً، فنفيُ النفي إثباتٌ: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أيْ لقد رأيت.
الله سبحانه وتعالى إذا روى قصةً فهي عبرة تبقى إلى نهاية الحياة وعلى مدى الأجيال:
القصة كما ترويها الكتب أن ملك الحبشة كان نصرانياً، أراد أن يبني في عاصمة ملكه صنعاء كعبة كالتي في مكة المكرمة، سمع بهذا أحد الأعراب ممن كان في مكة، فجاء إلى صنعاء وقعد في كعبتها التي صنعها، هذا البيت العظيم الذي بناه، بمعنى آذاه، فحينما بلغ ملك الحبشة هذا الحدث غضب، وأرغى وأزبد، وقال: لآتين الكعبة ولأهدمنَّها، فجهز جيشاً كبيراً جراراً، وتوجه نحو مكة المكرمة.
القصة طويلة فيها إضافات، قد تكون صحيحة، وقد تكون غير صحيحة، فساق لهدم الكعبة جيشاً قِوامه الأفيال، وجعل في مقدمتهم فيلاً عظيماً، وكان عبد المطلب زعيم مكة، وكان قائد هذا الجيش أبرهة الأشرم قد استولى على مئتي ناقة لعبد المطلب، فلما التقى أبرهة الأشرم بعبد المطلب لم يحدِّثه إطلاقاً عن غزو الكعبة وعن هدمها، بل قال: أريد أن ترد علي إبلي، فأبرهة الأشرم عجب أشد العجب، أنا أتيتُ لهدم كعبتكم، ولهدم مقدساتكم، ولهدم دينكم، ولهدم مكان حج العرب إليكم، وتقول لي: ردَّ علي إبلي!! فلما واجهه بهذا العجب، قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للكعبة رباً يحميها، فأرسل الله سبحانه وتعالى عليهم طيراً أبابيل، أيْ طيراً ضعيفة، رمتهم بحجارة فأبادتهم عن آخرهم، كما أن الفيل الكبير الذي تقدم الجيش أبى أن يتقدم نحو الكعبة، وعاد إلى صنعاء، وحينما كان يُوجَّه نحو صنعاء يمشي، وإذا وُجِّه نحو الكعبة توقف، والنبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية كان له ناقة، وقفت، فقال الصحابة:
(( خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَلَأَتْ –أي ما وقفت- الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ. ))
[ البخاري عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ]
الحقيقة هذه قصة، ولكن القرآن الكريم إذا ذكر قصة فينبغي أن تكون لها مدلولات كبيرة باقية على مر الأزمان والأيام، وما جاء في القرآن الكريم من قصص ليست مجردَ رواية حدث، ولا إزجاء وقت فراغ، ولا إمتاع سامع، هذه كلها أهداف رخيصة لكتَّاب القصص، ولكن الله سبحانه وتعالى إذا روى قصةً فهي عبرة تبقى إلى نهاية الحياة.
إذا نسبت الفعل إلى الله مباشرةً بلا أسباب فهذا خرق لنواميس الكون:
أراد أبرهة الأشرم أن يعتدي على الكعبة التي هي بيت الله الحرام:
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍۢ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ(69)﴾
﴿ فِيهِ ءَايَٰتٌۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ(97)﴾
هذا بيت الله عز وجل، فلما أراد أبرهة الأشرم أن يعتدي عليه تولى الله ردَّه، وبالمناسبة ما هو معروف أنّ النار تُحرِق، السكين تقطع، والسيف يقطع، وهناك حوادث تقع دائماً، فالله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل حدث علةً، خلق الكون، وخلق له قوانين وجعل له سنناً ونواميس، أيْ قواعد، فتجري الأفعال وفقها وخلالها، ولكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يحرق بلا نار، مثلاً، هناك موت بسبب توقُّف القلب والنبض، والجملة العصبية كفَّت عن العمل، وهناك أسباب كثيرة للوفاة، وقد تحدث وفاة بلا سبب، فربنا عز وجل قال: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ إنّ هذا الفعل منسوب لله عز وجل، وهذا الفعل خلاف النواميس الطبيعية، أن تقول: إن هذه الطير معها جراثيم الجدري، وقد أصابت هذا الجيش، فهذا فعل الله المباشر، ولا يخضع لقوانيننا، ولا يخضع لنواميس الكون، وكيف أن البحر صار أرضاً تحت أقدام سيدنا موسى، فأيُّ قانون هذا؟ وكيف أن النار كفَّت عن إحراق سيدنا إبراهيم؟ قال عز وجل:
﴿ قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ (69)﴾
ما يحدث في العالم دائماً له قواعد وله قوانين وله مبادئ وسنن ونواميس، ولكن أحياناً حينما يُنسب الفعل إلى الله عز وجل، وتلك الأفعال تُنسَب إلى الله، ولكنها تُنسَب إليه على أنه مسبب الأسباب، لكنك إذا نسبت الفعل إلى الله مباشرةً بلا أسباب فهذا خرق لقوانين الكون.
جعل الله عز وجل إهلاك أصحاب الفيل درساً للبشرية إلى انقضاء الزمان:
علماء التوحيد قالوا: النار لا تحرق إلا بإذن الله، وجمعوا عقيدتهم هذه بكلمة (عندها لا بها)، أي عند وجود إرادة الله عز وجل في الإحراق فإنّ النار ستحرق، وإذا أراد الله عز وجل أن يحرق إنساناً تأتيه النار فتحرقه، هذا شيء ألِفه الناس جميعاً، لكن هؤلاء الذين أرادوا أن يهدموا بيت الله الحرام، كأن الله سبحانه وتعالى لو ألْهَمَ قريشاً أن تقاتلهم، وأن تنتصر عليهم لبدا ذلك أمراً طبيعياً، غزوة رُدَّت، وحرب انتهت، ولكن الله سبحانه وتعالى تولّى بنفسه إنهاء هذه الحملة وسحقها وإحباطها، لأن هؤلاء اعتدوا على بيته، وهذا بيت الله الحرام، لذلك جعل الله عز وجل هذا الإهلاك درساً للبشرية إلى انقضاء الزمان: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام ولد في عام الفيل، وكان من الطبيعي أن هناك أناساً عاصروا هذا الحادث، بعضهم كان عمرهم يزيد على الستين، فهذا لما كان عمره عشرين سنة رأى هذا الحادث، وبعضهم كان يزيد على الثمانين، وثمّة رجلان من قريش حينما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام كان عمرهما يزيد على مئة وعشرين عاماً، فحينما كانوا في الستين رأوا هذه الحادثة، فلو أن هذه الحادثة لم تقع، أو وقعت بغير هذا الوصف، لردَّ هؤلاء الذين عاصروها: وقالوا: محمد يكذب، لكن الله عز وجل وهو أصدق من قال روى شيئاً رآه أناس بأم أعينهم: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي عام الفيل، وحادثة الفيل من الأشياء التي استيقنها الناس قبل النبي وبعده، لذلك قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ﴾ لمَ لم يقل: ألم تر ما فعل ربك بأصحاب الفيل؟ لمَ جاءت كلمة " كيف"؟ المقصود أن تقف عند الكيفية، كيف أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولكن كن فيكون وفق الأسباب.
هناك نوع من أفعال الله عز وجل لا تخضع للنواميس:
إذا طلب إنسان من الله الغنى، فهل يستيقظ صباحاً فيرى مئة ألف تحت وسادته؟ لا، يلهمه عملاً يدرّ عليه مالاً، ومع تتابع الأيام والشهور يصبح غنياً، فأغناه وفق النواميس، ووفق السنن والقوانين التي وضعها الله عز وجل، وهذا شيء نعرفه جميعاً، لكن هناك نوع من أفعال الله عز وجل لا تخضع للنواميس، مثلاً: الشيء المألوف أن الرجل إذا تزوج امرأة ينجب مولوداً، يكبر الجنين حتى يبلغ تسعة أشهر وعشرة أيام، ثم يخرج إلى الدنيا، هذا النمط الذي خلقه الله عز وجل، وهذه سنة الله في خلقه، وهذا هو الناموس الأكبر، وهذا هو النظام للتوالد، ولكن سيدنا آدم خُلق بلا أب ولا أم، خلافاً لهذه القاعدة، وسيدنا عيسى خُلق بلا أب، والسيدة حواء خُلقت بلا أم، وقد يكون الإنسان متزوجاً، وعنده زوجة، ويجعله الله عقيماً، هذه الحالات كلها، أب وأم لا أولاد، أب بلا أم، أم بلا أب، لا أب ولا أم، هذا المنطق للحالات كلها، أمّا نحن جميعاً فمن أب وأم، وفق النواميس والقوانين والحقائق، لكن الله عز وجل لحكمة يراها خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء بلا أم، وخلق سيدنا عيسى بلا أب، وجعل بعض الناس عقيمين، مع أنه تتوافر فيهم شروط الخلق، فلماذا؟ كي تعرف أيها الإنسان أن التزاوج وحده لا يكفي لإنجاب الأولاد، بل لا بد من مسبب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، لذلك قال تعالى:
﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)﴾
الظاهر الذي يظهر لك، والباطن أحياناً يحدث الشيء بلا سبب، فمن هو السبب؟ الله سبحانه وتعالى، لذلك في موضوع الطب بعض الأبحاث تذكر أنّ هناك الشفاء الذاتي، حيث الطب يقف عاجزاً عن تفسير هذا الشفاء، كيف شُفي؟ لا نعلم، حصل شفاء ذاتي، والأصح أن تقول: يد الله أحدثت هذا الشفاء بلا دواء، وربنا عز وجل قادر على أن يشفي بدواء وأن يشفي بلا دواء، حتى العلم، قال تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾
في هذه السورة وعيد لقريش ومعاتبة لها وتطمين للنبي عليه الصلاة والسلام:
أحياناً هذا العالِم يعطيه ربنا طرف الخيط، يقول لك: حدثٌ إبداعي يتسلسل من مقدمة إلى نتيجة إلى حقيقة، وهذا الكشف تم عن طريق مقدمات وأسباب وأدلة وملاحظات، وما شاكل ذلك، وأحياناً تنكشف الحقيقة كاملة بلا مقدمات، إذاً هنا في هذا الموضوع أفعال الله سبحانه وتعالى في الأعم الأغلب وفق نواميس الكون، يغني بأسباب ويُفقِر بأسباب، يصح جسم الإنسان بأسباب ويمرض بأسباب، وقد يمرض بلا سبب، ويصح بلا سبب، وقد يغتني بلا سبب، لكن هذا لا يفعله الله عز وجل إلا لحكمة بالغة، ليعلمنا شيئاً، فكذلك لو أن قريشاً وقفت في وجه أبرهة الأشرم وحاربته وانتصرت عليه لما كانت آيةً من آيات الله، حرب كما هي الحروب، لا بد من فريق ينتصر على فريق، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى بنفسه سحق هذه الحملة، لأنها اجترأت على بيته الحرام، وعلى البيت العتيق الذي إذا دخله الإنسان شعر بالأمن والراحة، قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا﴾ كأن في هذه السورة وعيد لقريش، ومعاتبة لها، وتطمين للنبي عليه الصلاة والسلام، أي يا محمداً لا تخف فأنت رسولي، وهذا البيت بيتي، وسابقاً جاء أبرهة الأشرم ليهدمه فانتقمت منه، فلا تقلق، إني ناصرك، وإني معك، هذا معنى.
قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾
1 ـ المعنى الأول أن الذين يعارضون النبي ويكيدون له يجب أن يتعظوا بأصحاب الفيل:
هؤلاء الذين يعارضونك، هؤلاء الذين يكيدون لك، يكيدون لإخراجك من بيتك، ليقتلوك، ليثبتوك، هؤلاء يجب أن يتعظوا بما فعلته بأبرهة الأشرم، وبأصحاب الفيل، هذا المعنى الأول.
2 ـالله تعالى يعتب على الذين حماهم الله من غزو أبرهة ومع ذلك فهم يكفرون بنبيه:
المعنى الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يعتب على هؤلاء الذين حماهم الله عز وجل من غزو أبرهة، ومع ذلك فهم يكفرون بنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيۡفَ﴾ المقصود كيف؟ أي كيف تمّ ذلك؟ هل يُعقل لطائر، بحسب القوانين المألوفة، والنواميس المعروفة، والسنن المطبقة، أن طائراً يحمل حجراً، لا يتمكن أن يسحق جيشاً بكامله، وأي طائر أبابيل، هذه الطيور التي لا تطير وحدها، لخوفها وقلقها وضعفها، فلا تطير إلا مجتمعة، وهذه الطيور ألقت الحجارة على هذا الجيش فجعلته كعصف مأكول: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ الشيء الذي أقف عنده أيضاً، بعد أنْ قلنا: إنّ (ألم) هي نفي النفي، ونفي النفي إثبات، لقد فعل ربك بأصحاب الفيل، وكلمة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعني إخبار الله عز وجل من أعلى مستوى في اليقينيات، فيجب أن تأخذه كأنك تراه، فاعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك.
كل أمر تأخذه عن الله عز وجل يجب أن تأخذه يقيناً كأنك تراه تماماً :
إنّ كل أمر تأخذه عن الله عز وجل يجب أن تأخذه يقيناً كأنك تراه تماماً، لذلك ربنا عز وجل يستخدم الفعل الماضي أحياناً بدلاً من الفعل المستقبلي، يقول الله تعالى لسيدنا عيسى على رؤوس الأشهاد يوم القيامة:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(166) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(167)﴾
معنى ذلك هذا شيء لم يقع بعد، ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ وقال تعالى:
﴿ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ(73)﴾
﴿ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ(71)﴾
إذا استخدمنا الفعل الماضي مكان الفعل المضارع فلمعنى جديد وهو تحقق الوقوع:
كل هذه المشاهد ساقها الله عز وجل بالفعل الماضي، وإذا استخدمنا الفعل الماضي مكان الفعل المضارع فلمعنى جديد، وهو تحقق الوقوع، ما يعد الله به كأنه وقع، قال تعالى:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
إذا كان الواحد منا مؤمناً ونرجو أن نكون جميعاً كذلك، وهو ينتظر وعد الله بالجنة فكأنه دخل الجنة، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ عندما ترى إنساناً لا يدرس، كأنك تراه سائراً في مؤخرة الركب في المجتمع، وهو لا يزال طالباً، ولكن عمله يدل على مستقبله.
إذاً كلمة " ترى " تعني يجب أن تأخذ إخبار الله عز وجل وكأنك تراه، ونفي النفي إثبات، أي لقد رأيت، لم يرَ النبي ولكن الله أخبره بهذا، وليس في الأمة كلها من يستطيع أن يقول لا، لم يحدث هذا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاصر معمّرين رأَوا بأم أعينهم ما فعله الله بأصحاب الفيل، وبعدها قال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيۡفَ﴾ الكيفية، تدخل مباشر من دون أسباب، لأن هذا البيت بيته، والله تولى بنفسه حفظه ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ أما كلمة ﴿رَبُّكَ﴾ لم يقل ربنا عز وجل ألم تر كيف فعل الله، أو فعل الإله، أو فعل القوي، قال: ﴿رَبُّكَ﴾ أي أنت في رعايته، وأنت في حفظه، قال تعالى:
﴿ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)﴾
فكلمة رب توحي بالعطف والمودة والرحمة، فالرب هو المربي، وهو الممد، وهو الذي يسوس الأمور، وهو الذي يصرّف المشكلات، هذا هو الرب.
قد نستخدم في حياتنا اليومية كلمات، نقول: رب أسرة، ما معنى رب أسرة؟ أينساها بلا طعام؟ إذا مرض الابن أيتركه مريضاً؟ لا، بل يأخذه إلى الطبيب، وينفق على الأسرة من ماله ويرعاها، يرعى أجسامها ويرعى عقولها بالتعليم، ويرعى نفوسها بالتوجيه، ويقدم لها حاجاتها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً.
ورب العالمين هو الذي يرعى كل مخلوق، ويقدم له ما يحتاج من طعام وشراب وكساء، ويقدم له ما يحتاج من توجيه وعناية وإرشاد ومعالجة.
كيد الله إحباطٌ لكيد الكفار وتآمرهم :
﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ ما هو الكيد؟ عندنا شيئان في الحياة، عندنا مواجهة، وعندنا كيد، فالإنسان إذا كان قوياً جداً وواثقاً من قوته لا يكيد، بل يواجه عدوه رأساً، فمن الذي يكيد؟ إنه الضعيف، يدبر مؤامرة، يدبر خطة للتغلب على عدوه القوي، لذلك ربنا قال:
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً(15) وَأَكِيدُ كَيْداً(16)﴾
كيد الله سبحانه وتعالى ليس من نوع كيدهم، هم لضعفهم يكيدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يدافع عن عباده المؤمنين، فيكيد لهم خطة معاكسة تُفشِل خطتهم، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً*وَأَكِيدُ كَيْداً﴾
﴿ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾
ليس لك أن تقول: الله ماكر، ولا كائد، هذا تدبير يقابل كيدهم ومكرهم: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً*وَأَكِيدُ كَيْداً﴾
﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ(54)﴾
الله تعالى دفاعاً عن أوليائه وعن المؤمنين يدبر خطة تقابل خطة أعدائهم ويفشلها:
إنّ الله سبحانه وتعالى دفاعاً عن أوليائه وعن أحبابه وعن المؤمنين يدبر خطة تقابل خطة أعدائهم، فتصبح هذه الخطة محبطة فاشلة، وهذا الذي عناه الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ﴾ لقد رسم أبرهة خطة لهدم الكعبة، وتحويل الناس إلى صنعاء، وكأن هذه الكعبة من صنع قريش، وأنها تأتيهم بالمكاسب، وما شاكل ذلك.
﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ معنى تضليل: أي ضاع عنهم هدفهم، ولم يحققوا مرامهم، كيف جعل كيدهم في تضليل؟ لقد أرسل عليهم طيراً أبابيل، أيْ ضعاف الطير، أحياناً يموت الإنسان من ضربة قوي، ولكنْ إذا مات من ضربة ضعيف فيكون مع موته إهانة، هناك مثل عربي يقول: لَوْ ذاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي، أيْ لو لطمته أَمَةٌ جارية لتألم، أهذه تلطمني؟ ولو أن ذات سوار لطمتني، أيْ لو كان حرةً لهانت المصيبة، أما أنْ تلطمني جارية فهذه المصيبة كلها فهذا مع الدمار إهانة.
﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾ أضعف أنواع الطير، ولو أن الله سبحانه وتعالى سلّط عليهم صقوراً جارحة مخيفة، لو سلط عليهم وحوشاً كاسرة، لكان الأمر مقبولاً، لكنْ: ﴿طَيْراً أَبَابِيلَ﴾ لقد ماتوا على أتفه سبب.
عند الله عز وجل كل قذيفة عليها اسم من تدمره فليس ثمة طائش عند الله كله صائب:
قال تعالى: ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ قال بعض المفسرين: الحجارة من سجيل من طين قاسٍ، وبعضهم قال: من سجيل مُسجَّل عليها اسم من تقتله، وإذا قسنا على هذا فليس هناك قذيفة طائشة أبداً، لعل أصابته قذيفة طائشة، طائشة عندك أيها الإنسان أمّا عند الله فليس ثمة طائش كله صائب، كله يصيب الهدف تماماً، بحسب الخطة التي رُسمت له، لذلك حتى في الحروب الحديثة، قنابل وصواريخ، شيء طائش، قذف عشوائي، أمّا عند الله عز وجل كل قذيفة عليها اسم من تدمره.
﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ هذا من الأدب القرآني، العصفُ روثُ البهائم، فإذا أكلت الدابة تبناً خرج منها بعض قطعه الصغيرة في روثها، وهذا منتهى الضعف والإهانة: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ أي كطعام أُكل، وظهر في البراز، وظهر في الروث.
البلاء عامٌّ والرحمة خاصة :
قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ*تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ في القرآن آية مشابهة، فسيدنا إبراهيم جاءته رسل الله عز وجل:
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(34)﴾
مسومة: أي كل حجر عليه اسم صاحبها، هذه تقتل فلاناً، وهذه فلاناً، حتى لا يقول أحد: واللِه هذا شيء يحير، أحياناً يذهب الطائع بين أرجل العصاة، لا، البلاء خاص، والرحمة خاصة، قال تعالى:
﴿ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(36)﴾
كل شيء وقع في الكون هو خير :
أول عملية أُخرج المؤمنون والمسلمون، ثم تم الهلاك والدمار، لا خطأ عند ربنا عز جل، ولا قذف عشوائي، ولا طائش، ولا خطأ، ولا صدفة، مرة أراد إنسان أن يتوظف فطُلب منه شهادة صحية، فحص شعاعي، ذهب إلى مكان الفحص وفحص صدره، بعد يومين، أخذ النتيجة فإذا هي سلبية، معه بوادر مرض السل، فعلم أهلَه، وابتعدوا عنه، وعزلوه، الطعام وحده، طبقه خاص به، وكذلك المنشفة، فهذا الإنسان انزوى، وشعر بالدمار، وشعر بمصيره الأسود، فتألم، وبكى، يأس من الحياة، وبعد ذلك أشرق في نفسه بصيص الأمل، لعل الله يشفيني، فتاب إلى الله، وصلى، وذهب أبوه إلى المشفى مرةً ثانية، فإذا بموظفي المشفى كانوا قد أعطوه نتيجة رجل آخر، وهو معافى أصلاً، لكنهم أخطؤوا معه، فخطؤهم معه عند الله صواب، لأنه ردّه إليه بهذه الطريقة، فلا يوجد خطأ، الإنسان يخطئ، والله لا يخطئ، حتى إنّ خطأ الإنسان يُوظفه الله لمصلحة إنسان آخر، فليس عند الله خطأ، فإذا أخطأت فإنّ الله لا يخطئ، فحينما سمح الله لهذا الحادث أن يقع فهو خير، أي حادث، وما دام وقع فهو خير، لكن ليس خيراً مطلقاً، بل هو خير نسبي، فتح البطن وشقه، وإزالة الصفراء، هذا ليس خيراً مطلقاً، لكنه خير نسبي، لمن يشعر بآلام الزائدة، ولمن يصيح طوال الليل، فالخير له أن يُفتَح بطنه، وأن تُستأصل هذه الزائدة، أو هذه الذائدة في التعبير الآخر، فهذا خير نسبي، أما المطلق فألّا يحتاج لهذه العملية، فكل شيء وقع في الكون هو خير، قال تعالى:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)﴾
العطاء خير والمنع خير، والعز خير والذل خير، وكله خير بخير، والله سبحانه وتعالى لا يقضي لعباده إلا بالخير.
الحكاية الربانية درس بليغ فلا تخف من عدوك الكافر لأن الله أكبر منه:
قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ*تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ هذه السورة القصيرة بل هذه القصة الموجزة هذه يسمونها حكاية، لأنه حدث واحد، هذه الحكاية الربانية درس بليغ إلى نهاية المطاف، فلا تخف من عدوك الكافر لأن الله أكبر منه: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ إن كنت على الحق المبين فتوكل على الله، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾
إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتِّقِ الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في أيدي الله أوثق منك بما في يديك.
الملف مدقق