وضع داكن
24-11-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 30 - الهجرة -5- قصة الهجرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

القوة الإدراكية

أيها الإخوة الكرام، لا يغيب عنكم أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوة إدراكية هذه القوة الإدراكية تقتضي أن تبحث عن الحقيقة، فمجرد أنك تبحث عن الحقيقة فأنت تنتمي إلى صنف البشر، الذين كرمهم الله عز وجل قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

( سورة الإسراء ).

لأن الله كرمك بالقوة الإدراكية ؛ إذاً هي الحاجة العليا عندك، فما لم تُلَبَّ هذه الحاجة يسقط الإنسان من هذا المستوى الرفيع الذي كرمه الله به، وأنت حينما تأتي إلى بيت من بيوت الله تأتي كي تتعرف إلى الإنسان المكرّم الذي جعله الله سبحانه وتعالى على رأس البشرية مقاماً، يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( سَلُوا اللّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإنّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنّةِ لاَ تَنْبَغِي إلاّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللّهِ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا )) 

[ رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

ونحن في الصلاة عقب الأذان نقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قمة البشر، وجعله الله قدوة لنا وأسوة، من هنا كان من الواجبات الحتمية على كل منا أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا ؟ لأن الله عز وجل يقول:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

( سورة الأحزاب الآية: 21 ).

فكيف يكون النبي أسوة حسنة لنا، ونحن لا تعرف سيرته ؟ وهذا الذي ذكرته من قبل ما لا يتم الفرض به فهو فرض، وما لا يتم الواجب به فهو واجب، وما لا تتم السنة به فهو سنة، فإذا كان كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب وقد قال الله عز وجل:

 

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

( سورة الحشر الآية: 7 ).

إذاً فمعرفة سنة النبي القولية فرض عين، وما دام الله عز وجل يقول: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

( سورة التوبة ).

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

كيف يكون النبي لنا أسوة حسنة ما لم نعرف سيرته؟

السؤال كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم لنا أسوة حسنة ما لم نعرف سيرته ؟.
إذاً مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية.وصدقوا أيها الإخوة، لو لم يكن كتاب ولا سنة لكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بأبعادها ودلالتها كتاباً وسنة، إلا أن السيرة العملية تتميز بأنها حدية في الاستنباط، فالإنسان قد يقول كلمة وقد تؤوّل يمنة ويسرة، أما إذا سلك سلوكاً فالسلوك حدي، فإذا ألقى عليكم إنسان محاضرة في الحجاب يا ترى هل يعد الوجه عورةً أم ليس بعورةٍ ؟ ماذا قال ؟ أما إذا رأيته مع زوجته، وقد سترت وجهها ؟! هذا موقفه، الموقف العملي حدي، والموقف الكلامي يحتمل التأويل.

 

السيرة العملية أصدق تطبيق للقرآن

لذلك قال بعض العلماء: إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية أصدق في فهمه لكتاب الله من أقواله، لأن أقواله تحتمل، مثل:
إذا قال الله عز وجل: 

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ 

(سورة الشمس ).

قد يتبادر إلى الذهن أن الله خلق فيها الفجور، نعوذ بالله من هذا المعنى، لكن الآية تعني أن الله سبحانه وتعالى فطر النفوس فطرة عالية جداً، بحيث لو أن النفس البشرية أخطأت لعلمت أنها أخطأت من دون معلم، تعرف ذاتياً أنها أخطأت، ألهمها أنها فجرت حينما تفجر، وألهمها أنها اتقت حينما تتقي، هذا المعنى.
فدائماً النص يحتاج إلى تأويلات.

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾

( سورة يونس الآية: 39 ).

فأنت مثلاً تقرأ قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ ﴾

( سورة السجدة الآية: 13 ).

( لو ) حرف امتناع لامتناع، لو جئتني أكرمتك، امتنع إكرامي لك بامتناع مجيئك إلي.

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾

( سورة السجدة).

هذه الآية ينبغي أن تسأل عنها أهل الذكر، وأهل الذكر هم أهل القرآن، قال تعالى:

﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

(سورة النحل ).

ما معنى الآية ؟ الإنسان دائماً وأبداً يحاول أن يمحو خطأه لغيره، كل شيء سلبي في حياة الإنسان يقول لك: قضاء وقدر، هكذا أراد الله عز وجل، هذه كلمة حق أريد بها باطل.
والمعنى: يا عبادي، إذا زعمتم أنني أجبرتكم على المعاصي والآثام، وأنها من قضائي وقدري فأنتم مخطئون، لو أنني أجبركم على شيء ما لما أجبرتكم إلا على الهدى.
ولو شئنا أن نلغي اختياركم، وأن نلغي تكليفكم، وأن نسلبكم حريتكم، وأن نجبركم على شيء ما، ما أجبرناكم إلا على الهدى، 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾

هذا هو المعنى الصحيح، لكن الذي تزعمون أن أخطائكم من إجبار الله لكم فأنتم واهمون،

﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾

أي لأحاسبكم حساباً عسيراً على ما تقترفونه من آثام، وما تتهمون به ربكم أنه أجبركم على ذلك، هذا المعنى.
لذلك النص يحتاج إلى تأويل، لكن الفعل لا يحتاج إلى تأويل الفعل حدي، لذلك كان اختيار هذه الدروس فقه السيرة النبوية.
أيها الإخوة، أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق

(( كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ، ثُمّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي منْ لَدُنْكَ سُلْطَانَاً نَصِيراً ))

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ﴾

( سورة الإسراء ).

ألا يخطر في بالكم أيها الإخوة أن كلام الله معجز، وإعجازه في إيجازه ؟ فلمَ قال الله عز وجل: 

﴿ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾

؟ يعني: يا رب اجعلني صادقاً، كلمة واحدة، أعمال لا تعد ولا تحصى تدخلها صادقاً، وتخرج منها غير بصادق، لست بصادق، فالبطولة لا في الدخول بل في الخروج.
لذلك مرةً معاوية بن أبي سفيان التقى بأحد دهاة العرب الكبار عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو، ما بلغ من دهائك ؟ قال: والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، فقال له معاوية: لست بداهية، أما أنا والله لا أدخل مدخلاً أحتاج أن أخرج منه، هذا مستوى أرقى.
إذاً:

﴿ رَبّ أَدْخِلْنِي ﴾

تقول: أنا إذا تزوجت، سأقيم الإسلام في بيتي، سأحجب زوجتي، سأربي أولادي، سأنشئهم على طاعة الله، فإذا دخلت إلى عالم المرأة، وحملتك زوجتك على معصية تقول: ما بيدنا شيء، دخلت مدخل صدق، لكنك لم تخرج مخرج صدق.
تقول: سأنشئ مستشفى هدفه معالجة الفقراء والمساكين، بعد أن تشعر بقيمة المال الذين دخلوا هذه المستشفى تأتيهم الجلطة من الفاتورة، دخلت مدخل صدق، لكن لم تخرج مخرج صدق.
إخواننا الكرام، صدقوا أن طريق القمة صعب جداً، لكن النزول من القمة إلى الحضيض سهل جداً، إذا كان الطريق إلى القمة طريقًا فيه أكمات، وصخور، وغبار، و حر، وجهد كبير، والطريق من القمة إلى الحضيض زلق، هو طريق الغرور، لذلك البطولة لا أن تصل إلى القمة، بل أن تبقى فيها، لا أن تصل إلى المنبر، بل أن تبقى فيه، لا أن تصل إلى هذا المكان، بل أن تبقى فيه باستمرار.
لذاك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة دخلها مطأطأ الرأس تواضعاً لله عز وجل، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره،

﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾

إخوانا الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في بدر انتصروا، والآية تقول:

 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 123 ).

أي أنتم مفتقرون إلى الله، النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحابه الكرام وهم خيرة الخلق، ومعهم سيد الخلق لم ينتصروا في حنين، لماذا ؟ لأنهم قالوا:

(( ولا يُغلَبُ اثنا عشَرَ ألفاً مِنْ قِلةٍ ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك عن ابن عباس ].

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

( سورة التوبة).

درس بليغ

إخواننا الكرام، درس بليغ تحتاجه كل يوم، بل كل ساعة

إن قلت: الله، تولَّك الله، وإن قلت: أنا تخلَّ الله عنك، ولست أكرم على الله من أصحاب رسول الله، لست أكرم على الله من أصحاب النبي الذين باعوا حياتهم في سبيل الله، ومع ذلك لم ينتصروا، فحينما تعتز بقوتك أو بمالك، أو بنسبك، أو بمنصبك يتخلى الله عنك، وحينما تفتقر إلى الله يتولاك بالرعاية، لذلك قبل أن تقدم على أي عمل، قبل أن تقدم مشروعاً، قبل أن تقابل مسؤولاً قبل أن تقف موقفاً عصيباً قل: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك، يا ذا القوة المتين، هذا معنى قوله تعالى حينما أُمر بالهجرة : 

﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾

انطلاق النبي إلى غار ثور بصحبة أبي بكر:دروس وعبر

وقد انطلق النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغار من بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثوبه، ونام في مكانه، واخترق النبي صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه بعد أن أوصى علياً بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به، فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب بأن نبي الله في بيته، فقال: يا نبي الله، فقال علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه في الغار، قال: وجعل علي يرمي بالحجارة كما كان يرمي نبي الله، وهو يتضور، فقد لف رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك للئيم ـ توقعوا أن النبي في البيت ـ كان صاحبك نرميه فلا يتضور، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك، إذاً النبي خرج من بيته إلى غار ثور.
مرة ثانية للتذكير: الذي انتقل من مكة إلى بيت المقدس بلمح البصر لمَ لم ينتقل من مكة إلى المدينة بلمح البصر؟ لأنه قدوة لنا، هذا يذكرنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هاجر نهاراً جهاراً متحدياً، قال: من أراد أن تثكله أمه، أو أن يتيم ولده، فليلحق بي إلى ذلك الوادي، وقد يسأل سائل: أيعقل أن يكون عمر بن الخطاب أشجع من رسول الله ؟ الجواب: لا، وألف لا، ولكن عمر ليس مشرّعاً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرّع، النبي مشرع، ويجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامر بن أن يصحبهما في هجرتهما ليخدمهما، ويعينهما على الطريق، وحمل أبو بكر رضي الله عنه ثروته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إخواننا الكرام، المال قوة، والمنصب قوة، والعلم قوة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، لأن المؤمن القوي يحمل معك، والمؤمن الضعيف ينبغي أن تحمله، وفرق كبير بين من يحمل معك، وبين من تحمله، ولكن المؤمن الضعيف على العين والرأس، لكن لا بد من تعليق، وهذا التعليق نحن في أشدّ الحاجة إليه، اسمعوا:
إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون قوياً، لأن فرص العمل الصالح المتاحة للقوي ليست متاحة للضعيف، فالقوي بجرة قلم يحق حقاً، ويبطل باطلاً، يقر معروفاً ويزيل منكراً بجرة قلم، والضعيف هو يزاح من عمله بجرة قلم، وفرق كبير بينهما، لكن إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، أما إذا كان طريق القوة على حساب دينك وقيمك، ومبادئك الضعف وسام شرف للإنسان.
لذلك الأهداف النبيلة لا يمكن إلا أن يختار لها الإنسان وسائل نبيلة، الوسيلة من جنس الهدف، أما عند الأعداء فالهدف يبرر الوسيلة، الغاية تبرر الوسيلة، عند المسلمين لابد للهدف النبيل من وسيلة نبيلة، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً، لأنك إذا كنت غنياً يمكن أن تنشئ ميتماً، و مستشفى، ومعهداً شرعياً، وأن تزوج الشباب، وأن تربي الأيتام، وأن تكون لك أعمال كالجبال.
<< حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي >>.
يقول أحد العلماء: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا، وخرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، أطيب ما فيها العمل الصالح ".
يا رب، لا يطيب الليل إلا بمناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك.
والله أيها الإخوة، هؤلاء الذين سمح الله لهم أن يعملوا الأعمال الصالحة هم في قمم السعادة، هؤلاء الذين سمح الله لهم أن يكونوا جنوداً للحق، هم في قمم السعادة، إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون غنياً، أما إذا كان طريق الغنى سببه الكذب والاحتيال، وأن يبيع الإنسان دينه بعرض من الدنيا قليل الفقر وسام شرف لك، الأهداف النبيلة لا بد لها من وسائل نبيلة.
لذلك صهر النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم، بقي مشركاً، وقد احتجزت بضاعته التي كانت معه في طريقه إلى مكة، ووقع أسيراً، أجارته زوجته، وكانت في المدينة، فالنبي أجاره، قيل له بحسب النظام القائم: إنك إذا أسلمت، فهذه البضائع تصبح ملكاً للمسلمين، على أساس دار الحرب ودار السلم في الحروب، لأن أموال المحارب هي غنائم، قال كلمة والله لا أنساها، قال: والله ما أحب أن أبدأ إسلامي بهذا، مغطى، ذهب إلى مكة، ووزع الأموال على أصحابها، وبرأ ذمته تماماً، ثم شهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، فالأهداف النبيلة يجب أن تسلك إليها الوسائل النبيلة، وقد ذكرت أسماء بنت أبي بكر أنها كانت خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم.
والله أيها الإخوة لو يعلم أصحاب الأموال كم يستطيعون أن يصلوا إلى درجات الجنة بأموالهم لما ترددوا لحظة.
لأن روح الميت ترفرف فوق النعش، تنادي الأهل، هكذا ورد في الأثر: " يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي ".
ورد في الأثر أيضاً: " أن الله يوقف عبدً أعطاه مالاً، يقول له: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال: يا رب لن أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله له: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين ؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم، يسأل عبداً آخر أعطاه مالاً قال: عبدي، أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال: يا رب، أنفقت على كل محتاج ومسكين، لثقتي بأنك خيراً حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، قال الله عز وجل: عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك ".

تنبيه خطير:

إن الرجل ليعبد الله ستين عاماً، ثم يضر بالوصية فتجب له النار، يريد ألا يعطي البنات شيئاً، يخص ثروته الذكورَ، متوهماً بوحي من الشيطان أنك إذا أعطيت البنات انتقل المال إلى أسر غريبة، هل أنت أحكم من الله ؟! النبي عليه الصلاة والسلام لم يسمح له بتوزيع الأموال، تولاها الله بذاته، الفرائض أين أحكامها ؟ في القرآن الكريم.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في الغار ثلاث ليال تمكن المشركون خلالها من اقتفاء آثارهم إلى الغار، وقد ذكرت كثيراً أن حكمة وصول المطاردين إلى الغار ليعرف العالم كله أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخذ بالأسباب لم يعتمد عليها، ولكنه اعتمد على الله، وهذا الموقف دقيق جداً، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء فيما يبدو، ويجب أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
العالم الغربي أخذ بالأسباب واعتمد عليها، وألهها، فوقع بالشرك، والعالم الشرقي لم يأخذ بها مدعياً أنه متوكل على الله، وهذا ليس توكلاً بل تواكلاً، وقع في المعصية.
حينما تجري مراجعة للمركبة تامة، وتعتقد أنه لم يحدث حادث لأنك أجريت مراجعة تامة المكبح، والزيت، والعجلات، وتوهمت أنك في مأمن للحادث، أنت أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها، لكن المؤمن يعتقد مع أنه أخذ بالأسباب لو أن الله أراد أن يؤدبه لألغيت الأسباب، لذلك الحكمة يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وبعد ذلك يا رب أنت الحافظ، أنت الموفق، أنت المسلم يا رب، طبعاً سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وتعتمد عليها، وسهل جداً ألا تأخذ بها، وأن تتواكل على الله، لكن البطولة أن تأخذ بالأسباب بشكل دقيق، ثم تتوكل على الله، وكأنك لم تأخذ بالأسباب.
الحالة الثالثة صعبة تحتاج إلى علم عميق، وإيمان دقيق.
إخواننا الكرام، هذا أخطر شيء يعاني منه العالم الإسلامي، ينتظر أن تقع معجزة، لن تقع معجزة، لأن المسلمين لم يأخذوا بالأسباب، لم يعدوا لعدو القوة التي أمرهم الله بها، فالأولى أن نأخذ بالأسباب إن أخذنا بها الآن تولّنا الله عز وجل.
قال أحدهم: سأصلح العالم كله في عشر سنوات، العالم كله، القارات الخمس، الدول كلها، ومضت السنوات العشر، ولم يستطع أن يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح بلدي في خمس سنوات، السنوات الخمس مضت، ولم يستطع أن يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح مدينتي في سنتين، والسنتان مضتا، ولم يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح بيتي في عام، مر العام، ولم يصلح البيت، قال: إذاً سأصلح نفسي أولاً، وقرأ قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

(سورة الرعد الآية: 11 ).

إخواننا الكرام، بالمناسبة ذكرت قضية أنا أراها حساسة جداً ولا أبالغ، مليون شيء يمكن أن تفعله في ظل هذه الظروف الصعبة، في ظل الضغوط، في ظل العقبات، في ظل حرب عالمية ثالثة أعلنت على المسلمين في شتى بقاع الأرض، يمكن أن تفعل مليون شيء دون أن تُسأل، دون أن تحاسب، ألا تستطيع أن تكون صادقاً ؟ ألا تستطيع أن تكون أميناً ؟ ألا تستطيع أن تكون متقناً لعملك ؟ ألا تستطيع أن تعتني بأهل بيتك ؟ ألا تستطيع أن تعتني بصحتك ؟

ألا تستطيع أن تربي أولادك ؟ 

كل هذه الأعمال بإمكانك أن تفعلها من دون أن تحاسب عليها، لكنْ يأتي إبليس ليزهدك بكل ما تستطيع، ويدفعك إلى ما لا تستطيع، هذا من تلبيس إبليس، يزهدنا فيما نستطيع، ويقحمنا فيما لا نستطيع، هنا الإشكال.
لذلك قالوا: أقم أمر الله فيما تملك يكفك ما لا تملك، لكنْ ماذا تملك أنت ؟ تملك نفسك، وتملك أسرتك، وتملك عملك، إذا كل مسلم أقام الإسلام في نفسه، وفي بيته، وفي عمله، وانتهى كل شيء.

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

( سورة البقرة الآية: 286).

الذي تطمح إليه لا تستطيعه جميع الدول الإسلامية مجتمعة، تهمل ما أنت قادر عليه، وتقحم إلى ما لا تستطيع أن تفعله، هذا من تلبيس إبليس، من تلبيس إبليس أن تنصب نفسك وصياً على المسلمين، تقيمهم، وتكفر من تكفر، وتبدع من تبدع، هذا أيضاً من تلبس إبليس، تحرك، اعمل، أقول لكم من القلب: 

(( انتهى عهد النوم يا خديجة )) 

[ورد في الأثر]

السيدة خديجة التمست من النبي أن يأخذ قسطاً من الراحة، فقال: يا خديجة انقضى عهد النوم، ونحن الآن ينبغي أن نقول: انقضى عهد النوم، ويجب أن نقول أيضاً: وانتهى عهد الكلام، نريد عهد العمل، لأن الطرف الآخر يريد إفقارنا، وإضلالنا، وإفسادنا، وإذلالنا، وإبادتنا. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور