- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
ما هي الحكمة الربانية في خضوع الأنبياء لامتحانات صعبة في ظروف معينة في الحياة ؟
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقبل أن أبدأ الحديث عن فقرات هذا الدرس لا بد من مقدمة:
لماذا أدخل الله جل جلاله نبياً كريماً السجن؟ ـ سيدنا يوسف ـ لعل واحداً من المؤمنين الصادقين لسبب أو لآخر دخل السجن، فله في هذا النبي الكريم أسوة حسنة.
لماذا اتهمت السيدة عائشة بأعظم ما تعتز به المرأة بعفتها؟ إن أية امرأة إلى يوم القيامة اتهمت، وهي بريئة فلها في هذه السيدة أسوة حسنة.
لماذا كان ابن سيدنا نوح شقياً؟ لعل أباً بذل قصار جهده في تربية ابنه، لكن الابن مخير، واختار طريقاً آخر، هذا الأب المتألم أشد الألم، لعل له في هذا النبي الكريم نوح عليه السلام أسوة حسنة.
لماذا كانت زوجة لوط امرأة كافرة؟ لعل أي إنسان ابتلي بزوجة سيئة، فله في هذا النبي الكريم أسوة حسنة.
لماذا ابتلي سيدنا أيوب بالمرض؟ لعل أي مؤمن اختار له ربه مرضاً لحكمة بالغة, له في هذا النبي أسوة حسنة.
لماذا كان سيدنا سليمان ملكاً؟ أي إنسان ولاه الله أمر المسلمين قدوته هذا النبي الكريم، بالعدل، بالرحمة، بإحقاق الحق، بإبطال الباطل.
لماذا كان أحد أنبياء الله عقيماً ـ سيدنا زكريا ـ؟ لعل الله اختار لإنسان أن يكون عقيماً لحكمة بالغة, له في هذا النبي أسوة حسنة.
هؤلاء قمم البشر، هؤلاء نخبة البشر، ومع ذلك آتى الله بعضهم الملك، وجعل بعضهم ضعافاً، وجعل من بعضهم ذرية، ولم يجعل لبعضهم ذرية، إذاً: هؤلاء الذين اختارهم الله عز وجل ليكونوا قمم البشر كانوا قدوة للبشر.
انظر إلى التشابه بين اضطهاد المسلمين الآن وبين اضطهادهم في زمن البعثة , ماذا نستنتج ؟
أيها الأخوة، حينما نأخذ فقرات هذا الدرس، كيف نكلت قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تفننت في تعذيبهم، وفي إذلالهم، وفي إفقارهم، عندئذٍ يهون علينا ما يعانيه المسلمون اليوم في شتى بقاع الأرض من اضطهاد وحرب همجية قاسية لا هوادة فيها.
لذلك يجب أن نعلم أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، وأن من حِكم الله عز وجل أي يكون البشر فريقين، فريق على حق، وفريق على باطل، فريق يعيش للناس، وفريق آخر يعيش الناس لهم، فريق يملك قلوب الناس، وفريق يملكون رقاب الناس.
ماذا نستنبط من هذه المواقف ؟
أيها الأخوة، روى البخاري ومسلم في قوله تعالى:
﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾
عن ابن عباس, يقول: (( نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون قراءته سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:
﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾
أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾
عن أصحابك، فلا تسمعهم:
﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾
الآن هناك من يسب هذا الدين، ومن يتهم هذا القرآن الكريم بأنه كتاب قتال، كتاب قتل، كتاب إرهاب، التاريخ يعيد نفسه، وحينما قال الله عز وجل:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
ماذا يستنبط؟ أن هناك جاهلية ثانية، هي أدهى وأمر,
(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله, قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله, قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟))
وروى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه، وأبوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي، يسترق السمع فرقاً منهم؛ أي خوفاً منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم، ولم يستمع، وإن خفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته لم يسمعوا شيئاً من قراءته، فأنزل الله قوله تعالى:
﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾
أي فيتفرقوا عنك، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾
فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دون علمهم، قال تعالى:
﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾
وعندما كان المسلمون يسبون أصنام الكفار أخذ المشركون يسبون الله تعالى عَدْواً بغير علم، فأنزل الله تعالى:
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
فقرات ثلاث, ماذا نستنبط منها؟ أن سيد الخلق، وحبيب الحق كان ضعيفاً، وقد تفنن المشركون في التنكيل بأصحابه، وفي إيذائهم، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فإذا كنت ضعيفاً في وقت ما، وفي حقبة ما، وفي ظرف ما، لا تتألم كثيراً، سيد الخلق، وحبيب الحق كان ضعيفاً، ولم يستطع أن يدافع عن أصحابه، ولا أن يعطيهم شيئاً، وكان يقول لهم دائماً:
﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً ﴾
بل أبلغ من ذلك:
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾
﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
أربع آيات، لا يعلم الغيب، لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً، لا يملك لنفسه نفعاَ ولا ضراً، يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم، هل يجرؤ الآن إنسان يعمل في حقل الدعوة أن يدعي أنه يعلم الغيب؟ هو كاذب إذاً، أن يدعي أنه بإمكانه أن ينفع أو أن يضر، كاذب، لا يجرؤ إنسان كائناً من كان مهما علا نجمه، ومهما سطع اسمه أن يعلم الغيب.
من هو المسؤول ؟
أيها الأخوة، هناك ملامح دقيقة جداً، لو أنك استفتيت إنسان ما، وأفتى لك بشيء، وأنت في غاية السرور، لأنك انتزعت من فمه فتوة لصالحك، هو المسؤول، أنا لست مسؤولاً، من قال لك ذلك؟ إذا استطعت أن تنتزع فتوة من فم سيد الحق, وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله، الدليل:
(( وَلَعَلّ بَعْضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإنّمَا أَقْطَعَ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ ))
أيها الأخوة، هذه من بديهيات الدين، أما هذا الجاهل الذي يستنطق من إنسان يعمل في الحقل الديني فتوى في شأن إيداع المال في البنك، أو فتوى بالاختلاط، أو فتوى بالغناء، أو فتوى بسفر المرأة دون محرم، هذا الذي يأخذ من أفواه من يعملون في الحقل الديني فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وينام ناعم البال، قرير العين، على توهم أن هذا الذي أفتى، هو المسؤول، من قال لك ذلك؟
(( وَلَعَلّ بَعْضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإنّمَا أَقْطَعَ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ ))
هل يملك النبي النفع أو الضرر لنفسه ؟
أخوانا الكرام، الأمر واضح وضوح الشمس، مرةً ثانية:
﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
من؟ سيد الخلق، وحبيب الحق:
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾
هذه خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، وأي إنسان يدعي ما ليس للنبي فهو في باطل، وفي ضلال، وفي دجل، وفي إيهام، بل هو في غباء.
الأسئلة التي اقترحتها اليهود على قريش لتنال من جانب النبي:
أخوانا الكرام، أوفدت قريش نفراً منهم إلى المدينة، على رأسهم النضر بن الحارث، ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية فيطرحونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم اليهود: سلوه عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح, قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾
لكن الله أبطل كيدهم عندما أنزل الله قرآناً في شأن الإجابة عن هذه الأسئلة، هذا يؤكد أن السماء توحي إليه بالحق, قال تعالى:
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾
لمن يكون الولاء والبراء في الدين:
أيها الأخوة، هذا الموضوع ينقلنا إلى موضوع كبير اسمه الولاء والبراء، الولاء أن توالي المؤمنين، أي أن تحبهم، وأن تنصرهم، وأن تنصحهم، وألا تسلمهم لأعدائهم، وألا تتعاون مع أعدائهم عليهم، ومن لم يكن موالياً للمؤمنين فليس مؤمناً، هذا الذي يتعاون مع الطرف الآخر ليقهر المؤمنين، الله ورسوله بريء منه، فاليهود تعاونوا مع قريش كي يحرجوا النبي صلى الله عليه وسلم، كي يسألوه أسئلة لا يعلمها، ولكن الوحي أجاب عن كل هذه الأسئلة وقهرهم، وهذا شيء واقع:
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾
الأسلوب الجديد الذي استخدمته قريش مع النبي لينصرف عن دعوت
أيها الأخوة, الطرف الآخر يستخدم أسلوب الترغيب، لذلك قريش أرادت أن تجرب أسلوب الترغيب، فأرسلت عتبة بن ربيعة الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم.. فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها، إن قلت: إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, (هم لا يفهمون الأشياء إلا بقيمهم، لا يفهمون دعوة لله خالصة، يفهمون دعوة من أجل المال، يفهمون دعوة من أجل المتع، يفهمون دعوة من أجل السلطان، وكأن هذا الإنسان عبر عن مكنون نفسه، ونفس قومه) إن كنت إنما تريد من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت تريد شرفاً, (سيطرة، مكانة، هيمنة، سلطة) سودانك علينا، جعلناك سيدنا، فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطبيب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ منه.
فلما فرغ من قوله تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليه صدر سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى:
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾
أيها الأخوة، سمع هذه الآيات، وكأن صاعقة نزلت عليه، فعاد إلى قومه، وأخبرهم بما سمع، وقال: هذا الذي يقوله محمد ليس شعراً، ولا سحراً، ولا كهانة، وأقترح عليكم أن تدعو محمداً وشأنه.
وفي روايات أخرى من هذه الروايات: وإن كان بك الباءة؛ أي تشتهي النساء، زوجناك عشرة نسوة تختار من أي بيوتات قريش شئت.
أما الوليد بن المغيرة الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأن رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لمَ؟ قال: ليعطونك، فإنك أتيت محمداً لتعرض عنه، يعني إن أتيت محمداً أعرض عنه، وخذ من المال ما شئت، ثم قال الوليد عن القرآن: " والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة, مثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو، وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته ".
هناك من ادعى النبوة جاء بكلام ادعى أنه من عند الله، قال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً.
سبحانك يا رب! المؤمن يشعر بكل خلية في جسمه أن هذا كلام الله، وأن هذا كذب وهراء، أليس كذلك؟ وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو، وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، يئست قريش من أسلوب الترغيب، لذلك المؤمن لا يلين لا لسبائك الذهب اللامعة، ولا يلين لسياط الجلادين اللاذعة، المؤمن رجل مبدأ,
(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
أسلوب الترهيب التي قامت به قريش لتخويف من يتبع هذا الدين:
الآن لونت قريش في أسلوبها، واتبعت أسلوب الترهيب، كان أبو جهل إذا سمع عن الرجل أنه أسلم، وله شرف ومنعة، وبخه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك، وهو خير منك، والله لنسفهن حلمك، ولنضعفن رأيك، وإن كان تاجراً, قال له: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً ضربوه، وأغروا به، وحينما لم تثمر كل هذه الأساليب السابقة في صد النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء والتصفية الجسدية, قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾
﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
هؤلاء الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، وهؤلاء الذين حاربوه في مزابل التاريخ، في أسفل السافلين.
الغبي من يجهز حرباً ضد خصمه وهو لا يعرفه:
أيها الأخوة، ما من إنسان أشقى ولا أغبى ممن يقف في خندق مضاد للحق، هل تعلم من هو الطرف الآخر؟
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
امرأتان، حفصة وعائشة, قال تعالى:
﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾
خالق الكون, يقول:
﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
ما معنى هذه الآية؟ معنى هذه الآية: أنك إذا فكرت أن تكون عدواً للحق، إذا فكرت أن تكون عدواً لله، إذا فكرت أن تكون عدواً لأنبيائه، إذا فكرت أن تكون عدواً لصالح المؤمنين، أنك إذا أردت أن تكون عدواً لعالم مخلص، يجب أن تعلم من هو الطرف الآخر، من هو خصمك، إنه الله الذي بيده كل شيء، لذلك أشقى إنسان على وجه الأرض الذي يحارب الله ورسوله، نهايته في مزبلة التاريخ، نهايته مع فرعون وقارون، ومع كل الظالمين الذين أذلهم الله عز وجل.
لم لم يستطع فرعون هذه الأمة بزعمه أن يطأ رقبة النبي عليه الصلاة والسلام ؟
أيها الأخوة، لقد استفحل إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الدعوة السرية، بل في الدعوة العلنية، بعد أن أمر الله جل جلاله نبيه أن يظهر شعائر دينه، كالصلاة عند الكعبة، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا جهل, قال:
(( هَلْ يُعَفّرُ مُحَمّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُم ـ يعني إذا سجد ـ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللاّتِ وَالْعُزّىَ لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأن عَلَىَ رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعفّرَنّ وَجْهَهُ فِي التّرَابِ, فَأَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَىَ رَقَبَتِهِ ـ كما حلف ـ فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقاً مِنْ نَارٍ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً، فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ دَنَا لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْواً عُضْواً ))
قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
يجب أن تثق أن الله يحفظك، وأن الله لا يسلمك، وأن الله يدافع عنك، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ لذلك نزل القرآن الكريم:
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
ماذا قدم النبي وصحبه حتى وصل الإسلام إلينا ؟
أيها الأخوة,
(( روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير، قال: سألت عبد الله ابن عمر عن أشد ما صنع المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ ))
هذه الدعوة التي وصلت إلينا بذل من أجلها الغالي والرخيص، بذل من أجلها النفس والنفيس، ينبغي ألا نضيعها، الإسلام وصل إلى هذه البلاد بفضل هؤلاء الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما جاءه جبريل، وقال: يا محمد، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي.
ما تخلى عن قومه، ودعا لهم بالهداية، واعتذر لهم فإنهم لا يعلمون، ودعا لهم هذا الإنسان الذي أقسم الله بعمره الثمين، قال له:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
ألا ينبغي أن نقتدي بهذا النبي الكريم, ألا ينبغي أن يكون الوقت عندنا ثميناً أن نفعل فيه شيئاً لصالح المسلمين, أن نخفف من متاعبهم، أن نعزز مكانتهم، أن نحل مشكلاتهم، أن نأخذ بيد ضعيفهم، أن نطعم جائعهم، أن نكسو عاريهم.
إليكم هذا الإيذاء الذي توصل إلى النبي من أبناء جلدته:
روى بخاري ومسلم من حديث ابن مسعود, قال:
(( بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيّكُمْ يَقُومُ إلَىَ سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ ـ يعني أحشائها ـ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمّدٍ إذَا سَجَدَ, - نحن الآن بحبوحة، والحمد لله، معززون، مكرمون، نأتي إلى المساجد، نستمع إلى الدروس، نستمع إلى الخطب، ندخل إلى بيوتنا نصلي، نساؤنا محجبات، لا أحد يعترضنا، هذه نعمة كبيرة جداً، أما هؤلاء الأصحاب الكرام الذين دفعوا من أجل هذا الإسلام حياتهم، ودفعوا كل ما يملكون, نحن لا نعرف قيمة هذا الإسلام - فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمّا سَجَدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَىَ بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ. فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ ثُمّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ، تَشْتِمُهُمْ، فَلَمّا قَضَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذَا دَعَا، فَوَ الّذِي بَعَثَ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقّ لَقَدْ رَأَيْتُ الّذِينَ سَمّىَ ـ أي ذكر أسماءهم بالدعاء عليهم ـ صَرْعَىَ يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمّ سُحِبُوا إلَىَ الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ ))
ومرةً ضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أغشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: " ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ فتركوه، وأقبلوا على أبي بكر، وحاولت أم جميل زوجة أبي لهب أن تعتدي عليه بحجر فحماه الله منها، فلم تره، فكانت تحمل الحطب كي تضعه في طريقه صلى الله عليه وسلم كما حكى القرآن ذلك:
﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾
إليكم رحمة الباري جل جلاله:
إنسان يقرأ القرآن, فقرأ قوله تعالى:
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾
قال: يا رب، إذا كانت رحمتك بمن قال: أنا ربكم الأعلى, فكيف رحمتك بمن قال: سبحان ربي الأعلى؟ وإذا كانت رحمتك بمن قال:
﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
فكيف رحمتك بمن قال: لا إله إلا الله؟ ورد في بعض الآثار القدسية: " أن يا داود، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إلي، يا داود هذه إرادتي في المعرضين فكيف في المقبلين؟ ".
إذا كنت مطيعاً لرب العالمين، محباً له، محباً لأنبيائه، محباً لكتابه، محباً للمؤمنين، محباً للمساجد، محباً لعمل الخير فأبشر.
إليكم إسلام عمير بن وهب:
مرة أيها الأخوة، صفوان ابن أمية التقى بعمير بن وهب، فقال له عمير: يا صفوان، والله لولا صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، صفوان عدو لدود، قال: يا عمير، أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر، وأما ديونك فهي علي بلغت علي ما بلغت، فامضِ بما أردت، يعني اذهب، واقتل محمداً، وأرجنا منه، فسقى سيفه سماً، ووضعه على عاتقه، وركب ناقته، وتوجه إلى المدينة بحجة أنه أتى المدينة ليفك أسر ابنه، فلما وصل المدينة رآه عمر رضي الله عنه، فقال: هذا عدو الله جاء يريد شراً، وقيده بحمالة سيفه، وساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سيدنا النبي لطيف، قال: يا عمر، أطلق سراحه، فأطلق سراحه، قال: يا عمير، ادنُ مني، فدنا منه، قال: يا عمير، سلم علينا، قال له: عِمت صباحاً يا محمد، قال له, قل: السلام عليكم، قال له: لست بعيد عهد بسلامنا، هذا سلامنا، كتلة غلظة، قال: يا عمير، ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفك ابني من الأسر، قال: يا عمير، وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: يا عمير، ألم تقل لصفوان: لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ وقف وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله, وأنت رسوله, وأسلم، أما صفوان فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة ليستقبل الركبان، فلعل الخبر السار بقتل محمد يصل إليه، ثم فوجئ أن عمير أسلم, قال تعالى:
﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾
﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
المواساة التي قدمها جبريل عليه السلام للنبي:
أيها الأخوة,
(( روى الإمام أحمد من حديث أنس أن جبريل عليه السلام جاء ذات يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وهو جالس حزيناً، قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، قال, فقال له: ما لك؟ قال: فقال له: فعل بي هؤلاء، وفعلوا، قال: فقال له جبريل عليه السلام: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، قال: فانظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع، فأمرها، فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي))
ويقول ابن كثير: إن غالب ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من أذى كان بعد وفاة عمه أبي طالب.
ما هي الحكمة الربانية في إصابة النبي وصحبه بهذا الأذى والتعذيب ؟
أيها الأخوة، إن شاء الله نتابع هذا في درس قادم، ولكن هذه الوقائع، وهذا الأذى، وهذا الاضطهاد، وهذا التنكيل، وهذا التعذيب، وهذا التكذيب، وهذا الازدراء، وهذه السخرية، وهذه الإهانة كلها صبت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليبين الله لنا أن هؤلاء كانوا أهلاً للدعوة إلى الله, قال تعالى:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾
أيها الأخوة، ونحن فلنصبر، وإن الله وعدنا وعوداً كثيرة، قال:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾