وضع داكن
29-03-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 13 - كتاب الوحي : أهمية اللغة العربية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

ما الحكمة من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً ؟

 

 أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وننتقل اَليوم إلى كتاب الوحي، ولا بد من موضوعين:
الأول: أمية النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، موضوعان تمهيديان لموضع كتابة الوحي.
 الموضوع الأول: ما الحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً؟ وقد يتبادر إلى الذهن أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، فلو أن النبي كان يقرأ ويكتب، وهو معلم البشرية فكيف نجمع بين أن الأمية نقص في شخصية الإنسان، وبين أن الأمية من صفة النبي عليه الصلاة والسلام؟
 الكلام الجامع المانع المختصر المفيد أن أمية النبي وسام شرف له، وأميتنا وصمة عار بحقنا، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبقى وعاء النبي طاهراً من كل ثقافة أرضية، لأن الله تولى بذاته العلية تعليمه, قال تعالى:

﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾

( سورة النجم الآية: 5-6 )

 فلأن الله تولى تعليمه، ولأن هذا النبي مشرع، وقد أُمر الناس باتباعه، إذاً: هو معصوم، لذلك أميته أن وعاءه ليس فيه إلا وحي السماء، قال الله عز وجل:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

 

( سورة النجم الآية: 3-4)

 لو أنه على ثقافة أرضية، وبدأ يدعو إلى الله, لكان السؤال المتكرر كل يوم: يا رسول الله! هذا الذي تقوله من وحي السماء أم من ثقافتك؟ قال تعالى:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

 

( سورة النجم الآية: 3-4)

 وما لم نعتقد اعتقاداً جازماً بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره لا نكون على عقيدة سليمة، ولأن الله عصمه أمرنا أن نأخذ عنه، قال تعالى:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

 

( سورة الحشر الآية: 7)

 كيف عصمه؟ جعل كل وعائه المعرفي ممتلئاً من وحي السماء، هذه حقيقة أولى، أما نحن فقال عنا النبي صلى الله عليه وسلم:

(( إنما العلم بالتعلم، وإنما الكرم بالتكرم، وإنما الحلم بالتحلم ))

[ورد في الأثر]

 

 لا أسمح أن يقول إنسان: أنا أتعلم من الله مباشرة، أما الآية التي يذكرها كل من يدعي هذه الدعوة فهي:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

 

( سورة البقرة الآية: 282)

 ليس هذا هو معناها، لو أن المعنى كما يتوهم القائل لكانت الصيغة على الشكل التالي: واتقوا الله يعلمكم الله، جواب الطلب، واتقوا الله يعلمكم الله، لكن الآية لها معنى آخر:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

 لمَ لا تتقونه؟ لأنه يعلمكم دائماً، علمكم بالكون، وعلمكم بالوحي, وعلمكم بالأنبياء، وعلمكم بالرسل، وعلمكم بالدعاة، وعلمكم بأفعاله، وعلمكم بالتربية النفسية، هو يعلمكم دائماً لماذا لا تتقون الله؟

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

 

لأن الله يعلمكم، أما أن تفهم أنه يكتفي أن تتقي الله فيأتيك العلم اللدوني، هذا مجال كبير للشطط والشطح هو أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم.
 إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام, قال: (( إنما ))، النبي أفصح العرب، فإذا قال: (( إنما ))، إنما أداة قصر، يعني ليس هناك من سبيل إلى العلم إلا بالتعلم بالنسبة لنا، أما النبي كان أمياًَ وأميته وسام شرف، تولى الله تعليمه, قال تعالى:

﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾

( سورة العنكبوت الآية: 48 )

 لكن ما دام الموضوع قد تشعب، في الدين أصول وفروع، الأصول أن تعرف الله, والفروع أن تعرف منهجه، فأنت بآياته التكوينية والكونية والقرآنية تعرفه، وأنت في الأحكام الفقهية تعبده، بالكون تعرفه وبالشرع تعبده.

 

اللغة التي أنزل بها القرآن:

 

 

 أيها الأخوة، ننتقل إلى موضوع آخر، وهو أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، قال تعالى:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

( سورة يوسف الآية: 2)

﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾

( سورة طه الآية: 113 )

﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾

( سورة الزمر الآية: 28 )

﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾

( سورة فصلت الآية: 3 )

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

( سورة الزخرف الآية: 3)

 وآخر آية, قوله تعالى:

 

﴿حُكْماً عَرَبِيّاً﴾

 

( سورة الرعد الآية: 37 )

 

 فالله سبحانه تعالى شرف هذه الأمة بأن جعل وحيه يتنزل باللغة العربية، وقد يسأل سائل: لماذا كانت العربية مشرفة بوحي السماء؟ الحقيقة أن الذي يدرس فقه اللغة يعلم علم اليقين أن الطرف الآخر الذي لا يحابي هذه الأمة إطلاقاً يعترف أن اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية، لكنها تضعف بضعف قومها، وتقوى بقوة قومها.

من خصائص اللغة العربية:

1- اﻹعراب:

 

أيها الأخوة, ما معنى اللغة العربية من أقوى اللغات الإنسانية؟ لها خصائص، من هذه الخصائص الإعراب.
 إن الذي قتل زيداً هو عمرٌ، إذا قلت: قتل عمرٌ زيداً، ما دام رفعت عمر, إذاً: هو الفاعل، تتميز اللغة العربية بالإعراب، والإعراب في اختزال للمعاني، الضمة تعني أن هذا هو الفاعل، والفتحة تعني أن هذا المفعول به، فمن أولى خصائص العربية الإعراب، فلذلك الذي يقرأ العربية يفهم فيقرأ، في بعض اللغات الأخرى يقرأ فيفهم، أما نحن فينبغي أن تفهم حتى تستطيع أن تقرأ صحيحاً، هذا يحتاج إلى بديهة، وإلى أن تلقي نظرة إلى كلمة أو كلمتين قادمتين، كي تعرف أن هذا الفعل مبني للمجهول أو للمعلوم، وأن هذا هو الفاعل، لذلك تعد هذه اللغة من أرقى اللغات الإنسانية لأن فيها الإعراب.

2- الاشتقاق:

 

 أخواننا الكرام، هناك ظاهرة الاشتقاق، اللغة العربية كلماتها كالأسرة، الجد هو المصدر، والأولاد الفعل الماضي والمضارع والأمر، والمجرد والمزيد، والزيادات لها معاني دقيقة، وزن فاعل غير فعل، وزن تفاعل غير فعل، وزن استفعل غير فعل، فصيغة استفعل لها معنى، على وزن استغفر، استرحم، استرشد، وفاعل فيها المشاركة قاوم، وناضل، وشارك واستكتب طلب الكتابة، فالأفعال لها أوزان، وأوزانها مجردة ومزيدة، وعندنا أحد أبناء الفعل الماضي، والفعل المضارع، والفعل الأمر، واسم المكان، واسم الزمان، واسم الآلة، والصفة المشبهة باسم الفاعل، واسم التفضيل، وعندنا صيغ كثيرة جداً، ثم صيغ مبالغة اسم الفاعل، فعول، فعيل، مفعال، عندنا اسم فاعل واسم مفعول، واسم آلة، واسم زمان، واسم مكان، وصيغة مشابهة اسم الفاعل، هذه كلها صيغ، فعندنا اللغة أسرة.

3- اتساعها في التعبير:

 

 من خصائص العربية التي جعلها الله لغة لقرآنه اتساعها في التعبير, ضربت مثلاً مرة: هناك نظر, واستشف، يعني نظر مع التمطي، واستشف، نظر مع اللمس، و حدج، نظر مع المحبة، وفي الحديث الشريف:

(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم ))

[ورد في الأثر]

 

هناك نظر مع الاستمتاع، نظرت إلى منظر جميل، تقول: رأى، رأى بقلبه، رأيت العلم نافعاً، رأيت الأمانة غنى.
 هناك لاح، السماء ملبدة بالغيوم، وفيها فجوات، فلاحت طائرة، يعني ظهرت، ثم اختفت، وأنت تمشي في الطريق رأيت باباً مفتوحاً، التفت إليه، فإذا امرأة فغضضت البصر، أي لمح، لاح شيء، ولمح شيء.
 الآن حدق؛ اتسعت حدقت العين، حملق؛ ظهر حملاق العين، باطن الجفن أحمر، شخص نظر مع الخوف، سمع انفجارًا، فخاف، نقول: شخص، نظر إنسان على تاجر المخدرات بازدراء، نظر شزراً، شخص، ولاح، ولمح، وحدق، وحملق، واستشف، ورأى، العربية واسعة جداً في التعبير، وكلما اتسعت اللغة في التعبير جاءت العبارة لطيفة، قال الله:

﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾

 

( سورة طه الآية: 18 )

 ما معنى أهش؟ أضرب, لا، أشير, لا، هناك لمس، لكن ما فيها ضرب، معنى دقيق جداً، قال تعالى:

﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾

( سورة طه الآية: 18 )

 إذاً: اللغة العربية متسعة بالتعبير.

 

4- الحروف تناسب بعض المعاني:

 

 

 شيء آخر، الحروف فيها تناسب بعض المعاني، الحرف وحده فيه معنى، فكل كلمة فيها غين فيها اختفاء، غيبة، غاب، غريب، غيبوبة، وكل شيء فيه تكرار في راء، مر، جر، كر، خر، وكل كلمة فيها سين فيها شيء نفسي، حس، أنس، سر، سؤال، سرور، وكل كلمة فيها قاف فيه اصطدام طرق، لصق، سيدنا عمر, يقول: " تعلموا العربية فإنها من الدين ".

5- قابلة للاختزال أو الاختصار:

 

 من هذه اللغة خصيصة أخرى، أنها قابلة للاختزال، لو وقف أربعة صحفيين ليأخذوا حديث مسؤول كبير باللغة العربية وحدها فقط يمكن أن تكتب كلامه، أما بأي لغة أخرى تحتاج إلى لغة أخرى اسمها لغة الاختزال، لن تستطيع بلغة أخرى أن تكتب ما يقال، إلا العربية بإمكانك أن تكتب ما يقال، عدد الحروف قليل، والمعاني كثيرة، والدليل اكتب باللغة الإنكليزية، محمد عشرة حروف، عدهم بالعربي أربعة حروف محمد( م ح م د )، لذلك هذه اللغة فيها اختزال.
 المرأة لها جمال، أما الرجل فجماله فصاحته، فلا تعجب أن يدخل وفد على خليفة كبير كسيدنا عمر بن عبد العزيز يتقدمهم غلام، يغضب الخليفة، فيقول: أيها الغلام، اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً، فيقول هذا الغلام: أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكانت في الأمة أحق منك بهذا المجلس.
 غلام آخر دخل على عبد الملك بن مروان، وكان من كبار خلفاء بني أمية، فوبخ حاجبه، وقال له: ما شاء أحد أن يدخل علينا إلا دخل, حتى الصبية, فابتسم هذا الغلام الصغير، وقال: أصلح الله الأمير، إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك، ولكنه شرفني، أصابتنا سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، ومعكم فضول أموال، فإن كانت لنا فعلامَ تحبسوها عنا؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا، وإن كانت لله فنحن عباده، فقال: والله ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة عذراً.
 سيدنا عمر يمشي في طُرق المدينة، أطفال عدة يلعبون، فلما رأوه هابوا وفروا، واحد منهم بقي واقفاً، لفت نظره، قال: يا غلام، لمَ لم تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
يعني ما الذي يمنع أن نعلم أبناءنا اللغة الفصحى؟ أن نعلمهم المطالعة، أن نعلمهم الكتابة، أن نعلمهم إلقاء الكلمات، لأن جمال الرجل فصاحته.

عدد اللهجات التي تكلم بها القرآن:

 

 فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، لكن ورد أن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، يعني على سبع لهجات، ولكل قبيلة لهجة، وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الرجال بلهجاتهم، سأله مرة واحد: هل من أمبر أمصيام من أمسفر؟ يعني هل من البر الصيام في السفر؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام ليس من أمبرٍ أمصيامٌ في أمسفر، أجابه بلهجته، فتيسير على العرب الذين استقبلوا هذا الدين العظيم نزل هذا القرآن على سبعة أحرف، أي على سبعة لهجات.
 لذلك قريش تسهل، وتميم تحقق, ما معنى ذلك؟ الهمزة إما أن تحقق، وإما أن تسهل، إذا قلت: ملايكة لهجة قريش، أما إذا قلت: ملائكة لهجة تميم، فتميم تحقق، وقريش تسهل، إذا قلت: تأريخ لهجة تميم، إذا قلت: تاريخ لهجة قريش، فكل همزة إما أن تحقق، وإما أن تسهل، بل إن كتابة الهمزة لها قاعدة تنتظمها، الهمزة تكتب على الحرف لو سهلت قرأ ذلك الحرف، تكتب الهمزة في بئر على نبرة، لو سهلتها تقول: بير، تكتب مؤمن على واو لو سهلتها تقول: مومن، تكتب تأريخ على ألف لو سهلتها تقول تاريخ.
إذاً: القرآن الكريم فضلاً عن أنه نزل عربياً نزل بلهجات العرب، وهذا تسهيلاً للذين أمروا أن يتلقوه بالإيمان والتعظيم، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( أقرأني جبريل القرآن على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ))

 

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

 لكن هناك تعليق، الآن اللغة موحدة، أنا لا أرى حاجة كبيرة جداً إلى أن تقرأ كل القراءات، لأنه الآن نحن جميعاً, نقول: إبراهيم، لا داعي لأن تقول: إبراهام، هي قراءة، فالآن بعد ما توحدت اللغة فليس هناك من ضرورة أن تتحف الآخرين بكلمات غير مألوفة، مع أنها قراءات.

الحكمة الإلهية في اختيار الجزيرة العربية مكاناً لبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام:

 

 الحقيقة أن الذين يحسنون الكتابة كانوا قلة في مكة، وقلة في المدينة، والحقيقة أن الأمة التي اختارها الله لهذه الرسالة العظيمة أمة عاشت في الصحراء، وثقافتها محدودة جداً، وهناك حِكم قد لا نكشفها الآن، في هذه الأماكن الممتدة، وفي هذه الحياة البسيطة، ليس هناك نفاق، وليس هناك تعقيد، وليس هناك كذب، في بالصحراء حياة رائعة جداً، النبي أقرها، فيها المروءة، والشهامة، والشجاعة، والفصاحة، صفاء الذهن، وهناك حكم كثيرة أن الحياة ليست معقدة، تصور لو في هذا العصر جاء نبي، ماذا تقرأ في الأخبار؟ تصور الأخبار التي سوف تغطي ظهور نبي في هذا العصر، يتصلوا بعالم نفس, فيقول: هذا معه عقدة نفسية، يتصلون بعالم اجتماع، فيقول: هذا يحب أن يسيطر على مجموعة كبيرة، عنده شذوذ في علاقاته الاجتماعية.
 أيها الأخوة، أحد كبار علماء النفس يتهم الأنبياء بالشذوذ، قال: لأنهم يحبون أن يجلسوا مع الرجال، لحكمة بالغة أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في مكان، وفي زمان بسيط، لو أنه جاء في هذا الزمان لرأيت العجب العجاب من التكذيب والسخرية والاستهزاء، فلذلك لحكمة بالغةٍ بالغة كانت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام في بلاد بسيطة، وفي علاقات اجتماعية بسيطة.

كاتبو الوحي:

 

 اشتهر أيها الأخوة من كتاب الوحي زيد بن ثابت، مع أنه أسلم بعد الهجرة، واقتصرت الكتابة بذلك على ما نزل في المدينة من كتاب الوحي زيد بن ثابت، ولم يكتب من السور المكية شيئاً، وأول من كتب آيات التنزيه من مكة المكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش رجل اسمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، ممن كتب في الجملة الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد، وأبان ابنا سعيد بن العاص ابن أمية، وحنظلة ابن الربيع الأسدي، ومعيقل ابن أبي فاطمة، وعبد الله ابن الأرقم الزهري، وشرحبيل ابن حسنة, وعبد الله ابن رواحة، وغيرهم، وكان أُبي ابن كعب هو أول من كتب له بالمدينة، هؤلاء كتاب الوحي، كتاب قليلون لكن هذا الكتاب كُتب.

الفرق بين معجزة النبي وبين المعجزات السابقة:

 

 هناك موضوع ثالث لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الكتب السماوية السابقة الله عز وجل أمر بحفظها بأمر تكليفي، ولا بد من التفريق بين الأمر التكليفي، والأمر التكويني, الأمر التكليفي لك أن تأتمر، أو ألا تأتمر، كما تقرأ لوحة: ممنوع المرور، والطريق سالك لك أن تسلك هذا الطريق مع أنه ممنوع، لكن إذا خالفت تدفع الثمن، ولك أن تأتمر، لكن الأمر التكويني فعل الله، والأمر التكليفي أمره، فالكتب السماوية السابقة أُمر الأنبياء بحفظها تكليفاً، والأنبياء حفظوها، والدليل:

﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾

( سورة المائدة الآية: 44 )

 

 حفظوها تكليفاً، لكن أتباعهم ما حفظوها، لذلك أضيف على الكتب السماوية السابقة ما ليس منها، فيها إضافة، وتبديل، وتحوير، وتزوير، ذلك لأن المعجزة منفكة عن الكتاب، لا يوجد علاقة بين الكتاب والمعجزة، سيدنا عيسى أحيا الميت، والإنجيل كتاب الله، سيدنا موسى جعل البحر طريقاً يبساً، وكتابه التوراة، لكن القرآن الكريم له استثناء خاص، ذلك أنه كتاب لكل البشر, قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 107)

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾

( سورة البقرة الآية: 119 )

 وهو آخر الكتب، وسيبقى إلى يوم القيامة، حتى إن السيد المسيح يتلو القرآن الكريم حينما يعود إلى الحياة, قال تعالى:

 

﴿يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾

 

( سورة البينة الآية: 2-3)

 فالقرآن الكريم لأنه كتاب لكل البشر، ولأنه كتاب ينبغي أن تكون معجزته فيه، معجزة النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن، فإذا فقد الكتاب معجزته فقد قيمته، لذلك تولى الله بذاته حفظ كتابه، فقال:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾

( سورة الحجر الآية: 9 )

 أنت حينما آمنت بهذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، وحينما آمنت بأن هذا القرآن كلامه من خلال إعجازه، وحينما آمنت بأن هذا الذي جاء به نبيه من خلال كتابه أخبرك القرآن أن الله تولى حفظه، وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة الأدلة التفصيلة على أن هذا الكتاب حُفظ، أن تعتقد أنه محفوظ، وأن الذي تقرأه الآن هو الكتاب نفسه الذي جاء نبينا عليه الصلاة والسلام، هذه قضية إيمانية تؤكدها الآيات القرآنية، لذلك قال تعالى:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾

( سورة الحجر الآية: 9)

المواضيع التي يضمها القرآن:

 

 أيها الأخوة، هذا القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي نزل على قلب سيد المرسلين، وهو آخر الكتب، نزل على آخر الأنبياء والمرسلين، هذا القرآن الموضوع الأول الذي عالجه هو التوحيد، لذلك يمكن أن تقول: إن كل الكتب السماوية جاءت بالتوحيد، والدليل:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

 

( سورة الأنبياء الآية: 25)

 والتوحيد ألا ترى مع الله أحدا، التوحيد أن ترى أنه لا معطي ولا مانع إلا الله، ولا خافض ولا رافع إلا الله، ولا معز ولا مذل إلا الله، والتوحيد أن تعتقد أن الله لم ولن يسلمك إلى غيره, قال تعالى:

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

( سورة هود الآية: 123 )

 وبعد التوحيد جاء التشريع، ومعظم القرآن المكي يؤكد معنى التوحيد، ومعنى الربوبية، ويؤكد اليوم الآخر، ثم جاءت آيات التشريع في المدينة المنورة تتحدث عن المعاملات التي إن صحت صحت العبادات.
وإن شاء الله نتابع هذا الموضوع في درس قادم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور