وضع داكن
19-11-2024
Logo
الدرس : سورة الماعون - تفسير الآيآت 1 - 7 حقيقة الدين وأنواع الرياء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

كلمة (الدين) في هذه الآية هي مركز الثقل:


 سورة اليوم هي سورة الماعون، وتبدأ بقوله تعالى:

بسم الله الرجمن الرحيم

﴿ أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ (1)فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ (2)وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (3)فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ (4)ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ (5)ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ (6)وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ (7)﴾

[ سورة الماعون ]

 الآية الأولى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ في هذه الآية مركز ثقَل، كلمة الدين، ماذا تعني كلمة (الدين)؟ آلة معقدة جداً، حاسب إلكتروني، الشركة الصانعة ترسل معه كتيباً صغيراً فيه طريقة استعماله، لو أن إنساناً اشترى هذا الحاسب، ودفع ثمنه مئات الألوف، هناك حواسب إلكترونية يزيد ثمنها على عشرين مليوناً، لو أن جهازاً من هذه الأجهزة اشتراه إنسان ما، ولم ترسل له الشركة التعليمات، كيف يستعمله، سوف يستعمله بجهل، لا بد أن يعطبه، فهذه النشرة التي ترافقه لها شأن خطير، ربما لا تقل قيمةً عنه، لو استعمله الإنسان من دون هذه النشرة لأصابه بالعطب، وإن لم يستعمله جمّد ثمنه، فماذا عليه أن يفعل؟ عليه أن يستقدم هذه النشرة، ليقرأها ملياً، بشكل دقيق دَقيق يتبصر بمعلوماتها، ويتبع إرشاداتها، هذه النشرة التي ترافق الجهاز المعقد الصنع، هذه النشرة تشبه إلى حد كبير الدين، لو أن هناك ثلاث مواد مسحوقة بيضاء؛ ملح، ومنظف، وسكر، المواد جميعاً مفيدة، لكن نشرةً تقول لك: استعمل الملح في الطعام، واستعمل السكر في الشاي، واستعمل المسحوق الأبيض في تنظيف الصحون، فماذا فعلت هذه النشرة؟ أمرتك أن تضع كل شيء في مكانه الصحيح، كل شيء نافع، لو وضعت السكر في الطبخ لما استسغتَ أكلَ هذه الطبخة، ولو وضعت الملح في الشاي لمَا استطعتَ أنْ تشربه، ولو وضعت السكر لتنظف به الصحون لما نظفت به.

حقيقة الدين :


 إذاً الدين منهج رباني، جاء ليبين وجه استعمال كل شيء، هذه حقيقة الدين، نشرة تفصيلية مبنية على علم وخبرة، سطّرتها الشركة الصانعة لهذا الجهاز، ربما لا تقل هذه النشرة قيمةً عن الجهاز نفسه لأنك لو استعملت الجهاز من دون هذه التعليمات لأصبته بالعطب، وإن لم تستعمله لجمدت ثمنه، إذاً لا بد من قراءة النشرة، واتباع ما فيها حرصاً منك على سلامة الجهاز. 
إن كنت أيها الإنسان تحرص على جهاز له ثمن ما، قل أو كثُر، ألاَ تحرص على نفسك؟ هذه النفس التي ركب الله فيها ميولاً ونوازع وطموحات، وجعلها مِنْ فكر ونفس، وروح، وشهوات، وحاجات، هذا الكائن المعقد لا تعقيد عجز بل تعقيد إبداع، هذا الكائن ألا يحتاج في حركته إلى منهج؟ هذا المنهج ماذا يقول لهذا الكائن؟ افعل ولا تفعل، لأن المنهج يضمن سلامة هذا الكائن.
 لو أنك كنت في طريقك في بعض الأماكن ووجدت عموداً من الكهرباء كُتب عليه: خطر الموت ابتعد، هل ترى أن هذا الأمر هو حجز لحريتك، أم أنه ضمان لسلامتك؟ 
ينطلق الدين من مصلحة الإنسان، ويستهدف سلامته، ويستهدف إسعاده في الدنيا والآخرة، فقوله تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ كلمة الدين في هذه الآية مركز الثقل، الدين ما دانت إليه النفوس، ومتى تدين النفوس إلى شيء ما؟ إن كان واقعياً، وإن كان منطقياً، وإن كان صحيحاً، وإن كان مفيداً، ومتماسكاً، لا خلل فيه، ولا تناقض ولا خطأ ولا سخف فيه، النفس الإنسانية لا تخضع إلى فكرة ما إلا إذا كانت صحيحة، وواقعية، ومنطقية، وخيِّرة، ومتماسكة، فإذا قال الله عز وجل: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ أي بهذا المنهج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لعباده، كما قلت قبل قليل: كل شيء على وجه الإطلاق خلقه الله عز وجل، إنما خلقه لخيرنا، ولكن الشر من أين يأتي؟ من سوء استعمال هذه الأشياء، لقد جاء الدين ليضع كل شيء في مكانه الطبيعي، قال لك: تزوجْ ولا تزنِ، اكسب المال الحلال ولا تُرابِ، قل قولاً حسناً ولا تقل قولاً سيئاً، عامل أهلك بالإحسان ولا تعاملهم بالفظاظة، جاء الدين ليقول لك: افعل هذا، ولا تفعل هذا.

النفس المريضة ترفض حقائق الدين لأنها تتعارض مع شهواتها:


 إذاً الدين منهج مِن عند الخالق، مِن عند الخبير، من عند العليم، مِن عند الذي يعلم السر وأخفى، مِن عند الذي خلقك، قال تعالى:

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾

[  سورة فاطر ]

 ليس في الكون كلام أرقى من كلام الله، لأنه من عند الخبير العليم، إذاً هذا الدين الذي تدين له النفوس، النفوس السوية الصحية تدين له، كلما قال النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً قال له سيدنا الصديق: صدقت يا رسول الله، وأنت إن كنت صادقاً في طلب الحقيقة، فإنك تحس أن حقائق الدين هي غذاء لروحك، كلما اطّلعت على آية كريمة، أو على منهج رباني، أو على سنة مطهرة تقول: صدق الله العظيم، صدق النبي الكريم، إن هذا هو الحق المبين، هذه مواقف النفس الصحيحة، أما النفس المريضة فإنها ترفض حقائق الدين، لا لأنها ليست صحيحة، بل لأنها تتعارض مع شهواتها، قال تعالى:

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾

[ سورة القصص  ]

إن لم تحصل استجابة للدين فلعدم هذه الاستجابة تفسير واحد، وهو أن هذه الحقائق تعارضت مع شهوات النفس، لذلك رُفِضت، لا لأنها باطلة، بل لأنها كما توهمها صاحبها تحد من شهواته ونوازع نفسه.

إذا طبقنا النهج الإلهي في حركة هذه النفس في الحياة فنحن من السعداء:


 قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ بهذا المنهج الإلهي الذي من عند الحكيم الخبير، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي ما ترى فيه من تفاوت، ولا تناقض، ولا خلل، ولا نقص، ولا ضعف أبداً: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ فلو أننا اطلعنا على نشرة صادرة عن معمل يصنع أجهزة إلكترونية معقدة، بحسب المنطق تقول: هذه النشرة يجب أن تُتَّبع لأنها من المعمل، وصممها مهندسون كبار، وسطرتها أقلام خبراء بهذه الآلة، فاستعمِلها على الوجه الفلاني ولا تستعملها على الوجه الفلاني.
 إذا اشترى شخصٌ مكيفاً يقول لك الصانع: إذا أطفأته فلا تشعله فوراً، ترى نفسك متأدباً مع هذه التعليمات، إذا كان المكيف ثمنه باهظ، وأنت حريص على أن يؤدي وظيفته طوال هذا الصيف دون متاعب مع مصلّحي هذا الجهاز، فترى نفسك من دون شعور تنفذ تعليمات الخبير بحذافيرها، إن اشتريت مكيفاً، وإن اشتريت مكواة، أو أيَّ جهاز أو آلة من الآلات، ترى نفسك بدافع حب السلامة، حب سلامتها حريص على تطبيق تعليماتها تطبيقاً حرفياً، يا سبحان الله، أأنت أثمن أم هذه الآلة؟ أهذه النفس الإنسانية أثمن أم هذه الآلة؟ هذه الآلة لا بد أن تتركها في يوم ما أو أن تتركك، لكن هذه النفس هي نفسك، هي ذاتك تحيا بها إلى الأبد إما في شقاء دائم أو في نعيم دائم، فإذا طبقت المنهج الإلهي في حركة هذه النفس في الحياة، فأنت من السعداء، وإذا خالفت هذا المنهج فالذي يخالفه يكون من الأشقياء.

حينما تدين لهذا الدين دينونتك له إما بسبب استنتاجك المنطقي أو بسبب تجربتك الفعلية:


 ربنا عز وجل يقول: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ ما هو التكذيب بالدين؟ هو التكذيب بهذا المنهج الإلهي، وكما قلت قبل قليل: كأنه نشرة تعليمات، يقول لك المنطق: لا بد أن تكون صحيحة، لأن هذا الجهاز المعقد البالغ الإتقان لا بد من أن صانعيه على مستوى عال جداً من الفهم والخبرة، فتعليماتهم صحيحة، إنك تدين لهذا المنهج استنتاجاً منطقياً، فإذا خالفت التعليمات خطأً، وتعطل الجهاز، إنك الآن تدين له مرةً ثانية يقيناً نابعاً من التجريب، فحينما تدين لهذا الدين، دينونتك له إما بسبب استنتاجك المنطقي، أو بسبب تجربتك الفعلية، قد تدين له انطلاقاً من أن هذه النشرة لا يمكن إلا أن تكون صحيحة، استنتاج منطقي وقد تدين له إثر مخالفة لهذه التعليمات، ودفع الثمن باهظاً، عندئذ تدين له يقيناً نابعاً من التجربة.
والآن النفوس السليمة الصحيحة المعافاة، الفكر المنطقي ماذا يقول؟ هذا كلام الله رب العالمين، هو العليم الخبير، هو الذي يجب أن يُسمع كلامه، هو الذي يجب أن يُعبَد، فهذا المنطق يقول لك: أطع الله، إن قال الله عز وجل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(278)﴾

[ سورة البقرة ]

 أنت كمؤمن انطلاقاً من المنطق السليم، هذا كلام الله رب العالمين، ولا بد أن يمحق الله عز وجل الربا، والذي لا ينصاع لهذا الأمر لا بد أن يحاربه الله ورسوله، هذا انصياع مبني على استنتاج منطقي، لكن الإنسان إذا خالف تعليمات الدين ودفع الثمن باهظاً، عندئذ يقول: يا ليتني لم أفعل، لقد صدق الله العظيم، ربنا عز وجل قال:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[ سورة النور ]


الدين هو الشيء الذي تخضع له النفس:


 لو أن الإنسان أطلق بصره، وشعر بالشقاء الزوجي، ونشأت هوّة كبيرة بينه وبين زوجته كرهها وكرهته، وكانت حياتهما شقاقاً وبغضاء ومشاحنة، وقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ عندئذ يدين لهذه الآية، لا دينونة استنتاج منطقي، بل دينونة يقين تجريبي، هذا هو الدين، لكن الذي أرجوه أن تخضع له بناءً على استنتاج منطقي، قبل أن تُضطَرّ أن تخضع له بناءً على تجربة يقينية.
هذا الذي يفعل السيئات، ويبتليه الله بالمصائب، وقد تسحقه المصائب يقول: ليتني لم آكل الربا، ليتني لم أفعل كذا وكذا، ليتني لم آخذ هذا المال، ليتني اتقيت الله عز وجل في زوجتي، ليتني ليتني، عندئذ يقول لك: لا بد أن يكون هذا الدين صحيحاً لأنني عانيته بنفسي. هذا هو الدين؛ الشيء الذي تخضع له النفس خضوع استنتاج منطقي، أو خضوع يقين تجريبي.
 الحقيقة حقيقة إنْ شئت أن تعترف بها فلك، وإن شئت ألاّ تعترف بها فعليك، ولو أننا قلنا لك: الأجسام التي تسقط في الهواء تتسارع، هذا قانون، إلا إذا كان هناك مقاومة للهواء، أي وجود مظلة، فأنت بالطائرة وهناك قانون للسقوط، فأنت حر، تحب أن تسقط بغير مظلة أو تسقط بمظلة، من دون مظلة تنطبق عليك قوانين السقوط، فتصل إلى الأرض متحطماً، وإذا تأدبت مع قوانين السقوط، وصدقت بها، وأكبرت مكتشفيها، ونزلت بمظلة وصلت إلى الأرض سالماً، فالقوانين هي هي، العبرة لديك أنت، إما أن تؤمن بها فتسلم، وإما أن تستخف بها فتهلك.

الدين حقائقه ثابتة في كل مكان وزمان:


 قانون السقوط مثلاً، إمّا أنْ تؤمن به، وأنه يوجد تسارع، وأن حجم الإنسان لا يستطيع أن يقاوم تسارعه في السقوط، ولا بد له من مظلة تحجز كميةً كبيرةً من الهواء تجعله يسقط بسرعة ثابتة، وإما ألاّ تؤمن بهذا فتتكسر أضلاعك. إذاً الدين هو هو، فإذا عصى رجل ربَّه فما ضرَّ اللهَ شيئاً، إلا أنه آذى نفسه فحسب.
أحياناً يحب الإنسان أن يعاند، فيقول لك: لا أريد أن أصلي، لا تصلِّ، وأريد أن آكل مالاً حراماً، كل مالاً حراماً، قوانين الله ثابتة، قال تعالى:

﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)﴾

[ سورة الروم ]

 خمسة من كنّ فيه كن عليه، البغي والمكر والخداع، قال تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾

[ سورة الأنفال ]

 فكرة دقيقة جداً؛ الدين حقائقه ثابتة، في كل مكان وزمان، تؤمن به أو لا تؤمن به، تستخف به أو لا تستخف به، لك أو عليك، مثل قانون السقوط، فأنت حر، يقول: هذا كلام كله خرافة، أنا سوف أنزل ولن يصيبني شيء، تفضل وانزل، تحب أن تنزل من دون مظلة فتفضل وانزل، هذه قوانين مطبقة في كل أجواء الأرض، إذا أردتَ أن تتأدب مع مكتشفيها، فتقوم بموازنة دقيقة، وتنزل بمظلة، تصل إلى الأرض سالماً، هذا مثل، ولله المثل الأعلى.

الدين قواعد من صنع خبير عليم :


 هذا الدين قواعد من صنع خبير عليم، أنت حر، إنْ تطبقها فلك، إنْ تؤمن بها فلك، إنْ تعظمها فلك، تأخذها مأخذ الجِد فلك، تقول: هذا من عند الله، فالعاقبة الطيبة لك، تقول: حُط بالخرج، فالوبال عليك، تقول: الله عز وجل لا يدقق معنا، فهذا عليك، ليست القضية سيحاسبك أو لن يحاسبك، أضربُ مثلاً، إذا ركب سائقٌ شاحنة وزنها عشرة أطنان، ومر على جسر وليس في الطريق أحد، وكُتِب على الجسر: "الحمولة القصوى خمسة أطنان" ثم نظر أهناك شرطة فتخالفني أو لا، ليس الموضوع مخالفة، بل الموضوع أنك إذا مررت ستسقط أنت والسيارة، وتغرق في النهر، فليس الموضوع هل سيخالفك أحد، وهل هناك شرطي أم لا، هذا الموضوع سخيف، هذا الجسر حمولته خمسة أطنان، وحمولتك عشرة أطنان، فإذا مررت على هذا الجسر سوف تسقط أنت والسيارة.
 رأى أحدهم خطّاً كهربائياً "توتر عالٍ"، أريد أن أضع يدي على الأسلاك، ثم نظر أهناك مَن يخالفني؟ ليس الموضوع مخالفة، بل التيار هو الذي يخالفك، تمسك فتصبح فحماً خلال دقائق، هل يواخذني أحد؟ ما جزاء من يقترب من هذه الأسلاك؟ ليس الموضوع جزاء، الموضوع قوانين ثابتة، هذا التيار قويّ، وهناك تيارات كهربائية تجذب على بُعد ستة أمتار، فإذا اقترب إنسان من بُعد ستة أمتار سحبته وصار فحماً فوراً، فإذا قال أحدهم: هل يخالفوني؟ وما قيمة المخالفة؟ هل يراني أحد؟ كل هذا الكلام فيه سخافة، قوانين الكهرباء ثابتة إن اقتربت منها تسحقك.
فإذا فهمت الدين هذا الفهم؛ قوانين ثابتة، حقائق كلية، علاقات ثابتة، صحيحة مطبقة، تطبيقها لك ومخالفتها عليك، وسوف تحاسب نفسك بنفسك، قال تعالى:

﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(30)﴾

[ سورة الإسراء ]

 قال: يا رب قد عصيتك ولم تعاقبني، قال له: يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذة مناجاتي، عندما يعصي الإنسان ربَّه يُحجب بحجاب، ويصبح في قلق، وضيق، وشرك، وتبرم، وضجر، ويأس، وتشاؤم، هذه أعراض الإعراض.
 فإذا استقام أقبل، وإذا أقبل صارت لديه ثقة، وعنده طمأنينة، وشعر بالأمن، وشعر أنه إنسان مهم عند الله عز وجل، يمشي على الطريق الصحيح، هدفه واضح، لو أن الموت جاءه وهو مصيبة المصائب عند الناس لرآه مكسباً، وساعة اللقاء.

التكذيب بالدين نوعان؛ تكذيب لفظي قولي وتكذيب عملي:


 لذلك الدين مجموعة الحقائق، المنهج التفصيلي، التوجيه الرباني، الذي يقول لك: افعلْ هذا، ولا تفعل هذا، إذا صدقت به فلك، إذا عظمته فلك، وإن طبقته فلك، والله سبحانه وتعالى جعل الدين ضمانات لسلامتك، وليس الدين كما يفهمه بعض الناس حجز لحريتك، وبعضهم سامحه الله فهم قوله تعالى:

﴿  إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)﴾

[ سورة المزمل ]

 أن الدين أعباء شديدة، ليس أعباء، الدين مجموعة ضمانات لسلامتك، إذا قال الله لك: غض بصرك، فهذا لك، تسعد بزواجك طوال حياتك، إذا قال لك: حرر دخلك من الحرام فلك، ويبارك الله لك في دخلك، وإذا قال لك: اصدق، فمن أجل مكانتك الاجتماعية، قال لك: كن أميناً، فمن أجل أن تكون غنياً.

((  الأمانة غنىً ))

[ ضعيف الجامع ]

 إذاً (الدين) كما قلت لكم هذا مركز الثقل بالآية، أما قوله تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ الحقيقة التكذيب بالدين نوعان؛ تكذيب لفظي قولي، وتكذيب عملي، فأما التكذيب القولي اللفظي فقلما نسمعه بآذاننا في العالم الإسلامي، بالألف واحد ممّن يقول لك: الدين باطل، معظم الناس مؤمنون، الآن أنت بحركتك اليومية، في البيت، في الطريق، بعملك، بالسوق، مع أصدقائك، مع جيرانك، مع أقرباءك، تقول له: الدين، يقول: نعم والله على العين والرأس، الجنة، الله يطعمنا إياها، لكن العبرة ليست هنا، هذا التكذيب القولي نادر، لكن الشيء المنتشر هو التكذيب العملي، فالتكذيب العملي أبلغ وأخطر لأن التكذيب القولي تناقشه أما العملي يسكتك.

ليس التكذيب الخطير أن تقول هذا الدين باطل بل التكذيب ألا تطبقه:


 أعوذ بالله، الجنة حق، والنار حق، والدين حق، وهذا كلام ربنا، أعوذ بالله، إذاً فلمَ لا تطبقه؟ تخالفه بسلوكك اليومي، تخالفه بالبيع والشراء، تخالفه بعلاقتك مع زوجتك، تخالفه بعلاقتك مع أولادك فلِم لا تطبقه؟
لذلك التكذيب الخطير ليس أن تقول: هذا الدين باطل، هذا لا يقوله إلا القلة من الناس، التكذيب الخطير ألا تطبقه. 
مثلاً؛ لو زرت طبيباً ناشئاً، وأعطاك وصفة، وأنت أحببت بذكاء اجتماعي أن تشجعه وتصافحه، وتقول له: أنا أشكرك وأمتن عليك كثيراً، وإن شاء الله أريد أن آخذ الأدوية، وأشفى على يدك، وقلت في نفسك: هذا طبيب جديد، وقد لا يفهم، فعدم شرائك هذه الوصفة مع أنك أثنيت على علمه نوع من أنواع التكذيب بعلم هذا الطبيب، هذا التكذيب خطير.
 قال لك اللُه عز وجل: الربا حرام، تقول: واللهِ نحن مضطرون، عصرنا كله ربا، هذا تكذيب؛ تكذيب بالقرآن الكريم، أنا مضطر أو أصير في الطريق؟ الآمر ضامن، والآمر هو الله، وهو ضامن، ما عند الله لا ينال بمعصيته.

(( مَن حاول أمرًا بمعصيةٍ، كان أَبْعَدَ لِمَا رَجَا، وأَقْرَبَ لِمَجِيءِ ما اتَّقَى. ))

[ ضعيف الجامع ]

 فكل إنسان يخالف كلام الله عز وجل، من دون مجاملة مكذب بهذا القرآن، فلو أن نشرة رافقت آلة غالية، يحرص على سلامتها، لنفذ تعليمات المصنع تنفيذاً دقيقاً، وربما كانت هذه الآلة أغلى عليه من نفسه التي بين جنبيه، قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ هذا الذي يكذب به، ولا يعبأ به بعضهم قال: لمجرد أن تخالف كلام الله فأنت مكذب به، انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((  مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ. ))

[ ضعيف الترمذي ]


المقصود من كلمة (أرأيت) :


 قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ وضحنا كلمة (الدين) ووضحنا كلمة (يكذب)، فماذا تعني كلمة (أرأيت)؟ هذه (أرأيت) تختلف عن:

﴿ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ(1)﴾

[  سورة الفيل ]

 الله سبحانه وتعالى أخبرك عن حدث تاريخي وقع وأنت لم تره، لكن إخبار الله سبحانه وتعالى من أعلى درجة يقينية، كأنك تراه، فيجب أن تستقبل ما أخبرك الله به كأنك تراه، هذا معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ﴾ أما هذه الآية فلها معنى آخر، هذا الذي يكذب بالدين يعيش بيننا، قد يكون للإنسان جار، يكذب بالدين تكذيباً عملياً وليس تكذيباً قولياً، نساؤه كاسيات عاريات، ويوم الجمعة في المسجد، يقول لك: صلاة الجمعة فرض، وأعوذ بالله أنْ يجحدها جاحد، ما هذا الكلام، قد يأكل الربا، ويدفع الصدقة، هذا مكذب بالدين، فربنا عز وجل قال: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ هذا الذي يكذب بالدين هل ترى معاملته؟ هل ترى سلوكه؟ هل ترى مواعيده؟ هل ترى إتقانه لعمله أم عدم إتقانه؟ هل ترى غشه للناس؟ هل ترى كذبه عليهم؟ هل ترى مماطلته؟ هل ترى استعلاءه؟ هل ترى دناءته؟ هذا الذي يكذب بالدين.

التكذيب من صفات الذي يكذب بالدين:


 هناك تلازم قطعي يسمونه أعلى أنواع الترابط، ترابط وجودي، مثلاً، السيارة تسير والسير للسيارة صفة مترابطة مع وجود السيارة، فإذا ألغيت السير ألغيت السيارة، هذا ترابط وجودي أعلى أنواع الترابط.
 الطائرة تطير، إذا ألغيت الطيران لم تبق طائرة، يعبر عنها علماء اللغة:

﴿ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[ [ سورة الإسراء ]

 هذه (كان) للترابط الوجودي، فمن صفات الباطل الثابتة أنه زائل، فإذا قلت: إنه دائم لم يكن باطلاً، بل صار حقاً، الباطل زائل:

﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا (134)﴾

[ سورة النساء ]

 السميع والبصير اسمان من أسماء الله مترابطان مع وجوده، الله موجود إذاً هو سميع، هذه (كان) ليست فعلاً ماضياً ناقصاً، هذه فعل تام بمعنى وُجِد، ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ انظر إلى أخلاقه الدنيئة، انظر إلى أنانيته، انظر إلى صفاته الخسيسة، انظر إليه وهو في الوحول؛ وحول الشهوات، انظر إليه وهو يؤثر نفسه على الآخرين.

الذي يكذب بالدين له أخلاق صارخة كالشمس:


 قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ معناها الذي يكذب بالدين له أخلاق صارخة كالشمس، صارخ، يتحايل أحياناً، يكذب، إن شاركك في شيء أخذ معظم الربح له، قال تعالى:

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(23)﴾

[  سورة ص ]

 غير المؤمن يرى هذا المحل قد اشتغل، وشريكه ضعيف، بوثيقة الفروغ اسمه غير موجود يحتال عليه ويضعه خارج الشركة ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ هكذا يعمل. 
إن كان في وظيفة، وفيها موظف مستقيم يوشي به، ويفتري عليه افتراء باطلاً حتى يزيحه عن مكانه ليجلس مكانه ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾
إن ذهب معك نزهة فلا يؤدي شيئاً من النفقات، يحب أن يكسب من دون أن يساهم: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ وإن فتح نافذته ورأى نافذة جاره مفتوحة ينظر لعل امرأة تمرُ فيراها.

بعض صفات المكذِّب بالدين :


 قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ*فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾ إن صار طبيباً ينهش أعراض الناس، وإن صار محامياً يأكل حقوقهم ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ الإنسان الذي يكذب بالدين سواء كان مدرساً، أو طبيباً، أو محامياً، أو تاجراً، أو مهندساً، أو صانعاً، أو صاحب مصلحة، أو موظفاً، له صفات كريهة، يأخذ ما له وما ليس له، يحب أن يحيا وحده وللناس الموت، هذا الذي يكذب بالدين، يحل مشاكله فحسب، أما الناس فلهم مشاكلهم، وهذا شأنهم: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ انظر إلى أعماله، وإلى مواعيده، وإلى مزحه السخيف، وإلى نظراته الخبيثة وضحكته الساخرة، وإلى جيرانه المنزعجين منه، انظر كيف يغتاب الناس، ويسخر منهم، وينهش في أعراضهم: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ﴾ ظاهر، فاترك الكلام أنت، أحياناً أقول: قد تؤمن بالدين متأثِّرا بسلوك رجل مؤمن صادق قبل أن يقول لك كلمة واحدة، فأخلاقه تدعوك للإيمان، تراه صادقاً عفيفاً.

الحكمة من اختيار ربنا عز وجل هاتين الصفتين في الآية التالية:


 الإيمان عفيف عن المطامع وعن المحارم، خجول، صاحب حياء، صاحب وعد، يحب الخير ولا يستعلي على أحد، متواضع، هذا هو المؤمن، أما هذا الذي يكذِّب بالدين فربنا عز وجل قال: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ*فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾ يعني فقط يدعّ اليتيم! تكلمنا مطولاً الآن عن الذي يكذب بالدين، لماذا اختار ربنا عز وجل هاتين الصفتين فقط؟ قال: ﴿يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ﴾ لو أنّ إنساناً ترك مساعدة إنسان عادي فهذا خطأ وتقصير، لكن إذا ترك مساعدة يتيم فهذا ليس له أحد، مهيض الجناح، فتركُ مساعدة الناس خطأ، لكن ترك مساعدة اليتيم خطأ كبير، ليته ترك مساعدته بل هو يدُعُّه، ويزجره، ويضربه، ويعنّفه، كم درجة؟ هذا ليس إنساناً عادياً، لكنه يتيم، لم يدُعه فحسب بل عنّفه، وربنا عز وجل ذكر لنا مثلاً حادّاً، خلاصته رجل ارتكب الفاحشة في المسجد، وفي رمضان مثلاً، الفاحشة ذنب كبير، وفي رمضان أكبر، وفي المسجد أكبر، ربنا عز وجل يضعنا أمام مثل حاد، يتيم لا أب له ولا أم، مهيض الجناح، مكسور الخاطر، ضعيف، فقير، لا يدعه فحسب بل يعنفه، يعني ذلك أنه ليس في قلبه رحمة:

((  لا تُنزع الرحمة إلا من شقي. ))

[ سنن الترمذي ]

﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ*فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾ هو نفسه، ولا أحد غيره، هناك آية أخرى، قال تعالى:

﴿  أَرَءَيۡتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدَاً إِذَا صَلَّى(10)﴾

[  سورة العلق  ]

 انتهت الآية، أين الباقي؟ المعنى ما تم، بل تم يا أخي، أي أيها الأخ الكريم، انظر إلى هذا الذي ينهاك عن الصلاة، انظر إلى سلوكه، إلى معاملته، إلى شهواته المنحطة، إلى مزحه المنحط، إلى علاقاته البهيمية مع الآخرين، إلى نظراته الشيطانية، إلى خداعه، إلى مكره، انظر إليه، سلوكه ينبئك عن عقيدته، وهذا يكفي.

﴿ أَرَءَيۡتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدَاً إِذَا صَلَّى(10) أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ (11 (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ (12)﴾

[ سورة العلق ]


كل إنسان يكذب بالدين لا بد أن تظهر منه معاملة سيئة:


 انظر فإذا كان مؤمناً تُسر منه، تراه صادقاً، كريمَ النفس، جزيل العطاء، عفيفاً، حيياً، وقوراً، كلامه ثمين، بعيد عن اللغو، وعن المهاترات والفحش، صادق الوعد، أميناً، مخلصاً، هذا هو المؤمن قطعاً.
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ*فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ﴾ هو نفسه وليس أحداً سواه، فلا يمكن أن ترى إنساناً له معاملة طيبة إلا وفي قلبه خير، وكل إنسان يكذب بالدين لا بد أن تظهر منه معاملة سيئة، لكن أحياناً هؤلاء الذين يكذبون بالدين على شيء من الذكاء، فقد ينتزعون إعجابك بإنسانيتهم المزيفة.

قتلُ امرئٍ في غابةٍ   جريمةٌ لا تُغتـفَر

وقتلُ شعبٍ آمـــــنٍ   مسألةٌ فيها نظر

[ أديب إسحاق ]

 يتتبعون أموراً دقيقة جداً في حياتهم اليومية، ويتغافلون عن حقوق الشعوب بأكملها، مجاعات يصنعونها هم بأنفسهم، ويرفعون أصواتهم بأشياء تافهة، مخالفات طفيفة في مجتمعهم، فقد يكون هذا المكذِّب بالدين على شيء من الذكاء، لذلك يبدو لك إنسانياً، لكن إذا تضاربت مصالحه مع مصالحك يكشّر عن أنيابه، فإذا هو وحش مفترس، تأكد أن هذا الناعم اللطيف اللبِق حضاري كما يقال لك، إنسان مهذب جداً، لكنه يشرب مشروبات محرمة في المناسبات، هذا الإنسان لو أن مصالحه تضاربت مع مصالحك لانقلب وحشاً كاسراً.

من يبخل بكلمة فهو أبخل البخلاء:


 قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ*فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ﴾ عندما لا يطعم الإنسانُ المسكينَ قد يكون فقيراً، لكن منتهى البخل أنه لا يحض على الطعام أحداً، ربما لا يكلفه هذا إلا كلمة يقولها، ولكن لا يقولها أبداً، فلا يحب الخير، ولا يحب أن يجري الخير على يديه. أعلى أنواع البخل أنه يبخل بكلمة، من يبخل بالدرهم والدينار فهو بخيل، أما من يبخل بكلمة فهو أبخل البخلاء.
سألك رجل: بالله من أين الطريق إلى حمص؟ لا أعرف، إذا قال لك: أقرضني عشرة آلاف، وقلت: ليس عندي، فهذا معقول ألاّ تقرضه، أما أعطنا رغيفين من الخبز، وعندك رغيفان تريد أن تأكلهما مع أهلك، فأنْ تقول: ما عندنا واللهِ فهذا وارد، لكن من أين الطريق الفلاني؟ وتجيب: لا أعرف، فهذا منتهى البخل، ومنتهى الشح، قال ربنا عز وجل: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ كلمة لا يقولها، ويبخل بها: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ* فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ *فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ* ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ .

الآية التالية آية دقيقة لها معان كثيرة:


 الويل وعيد من الله عز وجل، وعيد للمصلين المتساهلين، هذه الآية دقيقة جداً، فيها وقف قبيح، إذا قُرئ فويل للمصلين، فَوَقَفَ، فهذا وقف قبيح، لأن المصلي لا ويل له، المصلي هنيئاً له، ولكن أكمل الآية، هنا يوجد (لا) أيْ لا تقف: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ الآية دقيقة جداً لها معان كثيرة:

1 ـالذي سها عن أداء صلاته أي مكلف بها وسها عنها:

 أحد هذه المعاني؛ الله عز وجل سمى هذا الذي كُلف بالصلاة مصلياً، لا لأنه يصلي، لكن لأنه مُكلَّف بالصلاة، كأن تقول: هذا الطالب لا يجتهد، وهو ليس طالب علم، ولكن اسمه الاجتماعي طالب، هذا الطالب لا يدرس أبداً، فليس بطالب علم، اسمه عند أبيه طالب، واسمه في السجلات طالب، الطالب فلان، فلما ربنا عز وجل قال: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ﴾ يقصد أن هؤلاء الذين كُلِّفوا بالصلاة، وهم يعلمون أن الصلاة فرض عليهم، ومع ذلك ﴿عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ ، بعض المفسرين حمد الله كثيراً على أن الله عز وجل قال: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ ولم يقل في صلاتهم ساهون، وبينَ (عن) و(في) مسافة كبيرة جداً، فقال بعض العلماء: ﴿عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ أي سهوُ تَرْكٍ وقلةُ التفاتٍ، فلو أن الله عز وجل قال: في صلاتهم ساهون، هذا سهو يعتري المصلي أحياناً إما لانشغاله بفكرة لديه أهم من الصلاة، كما فُسر هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو لوسوسة الشيطان، هذا نأتي عليه بالتفصيل بعد قليل.
 أولاً؛ المصلي في هذه الآية المكلف بالصلاة، أو الذي يصلي ولا يتصل بالله عز وجل يؤدي أشكال الصلاة، حركاتها، أقوالها، أفعالها، تكبيراتها، تسليمها، وهو لم يتصل بالله عز وجل، قلبه ساهٍ ولاهٍ.
 بعضهم عرف الصلاة بأنها: أقوال وأفعال تُفتتَح بالتكبير وتُختتَم بالتسليم، فإذا فعلها الإنسان سقط الوجوب، وإن لم يحصل المطلوب. ولكن ربنا عز وجل يقول: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ﴾ المعنى الأول؛ هذا الذي سها عن أداء صلاته، مكلف بها وسها عن أدائها.

2 ـالذي أداها شكلاً :

 والمعنى الثاني؛ هذا الذي أداها شكلاً، وقف ليصلي وجميع مشكلاته اليومية مرَّت في خاطره، قال لي مرةً رجل: وأنا أصلي رفعت أصبعي، وأنا واقف، ما هذا؟ بالصلاة لم تمر معي، قال: فإذا هو يقرأ التحيات وهو واقف! يقرأ التحيات وهو واقف، فوصل إلى أشهد ألا إله إلا الله فرفع أصبعه، هذا نوع من أنواع السهو في الصلاة: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ .

3 ـالمصلي الذي لم يرجُ لها ثواباً وإن تركها لم يخش على تركها عقاباً:

 بعضهم فسر هذا المصلي؛ المصلي الذي لم يرجُ لها ثواباً، وإن تركها لم يخشَ على تركها عقاباً، هذا تعريف آخر للمصلي الذي سها عن صلاته.

4 ـالذين يؤخرونها عن أوقاتها:

 وبعضهم قال: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ الذين يؤخرونها عن أوقاتها، وقد جاء في بعض الأقوال: أنه من أخر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره، ولا يهنأ لا بسهرة ولا بجلسة بعد الغداء، لم يصلِّ الظهر، أكل ولم يستطع الصلاة، وهو جالس وخائف أن يدخل وقت العصر، ومن قصة إلى قصة أذّن العصر فشعر بضيق، لأنه سها عنها وأخّرها عن وقتها فشعر بضيق.
 دخل إلى البيت مساءً، وقد وُضع طعام العشاء فتناوله، ولم يصلِّ العِشاء، بل أخّرها حتى صارت الساعة الثانية عشرة، وقد عمل إحدى عشرة ساعة، فصار متعب، ومال إلى الراحة، وصار الفراش له محبباً، لم يصل العشاء فصلاها كنقر الديك: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾

5 ـالذين لا يتمون ركوعها وسجودها:

 بعضهم قال: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ الذين لا يتمون ركوعها وسجودها، يركع ولا يطمئن، ويسجد كنقر الديك، وعندئذٍ تقول لصاحبها: ضيعكَ الله كما ضيعتني، قال: تُلف كما يُلف الثوب الخَلِق ثم يُضرَب بها وجهه وتقول هذه الصلاة: ضيّعك الله كما ضيعتني.

6 ـ الذي لا يقرأ بها ولا يذكر:

 وبعضهم قال: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ أي لا يقرأ بها ولا يذكر، مِن عشرين سنة يصلي بآية واحدة، لم يحفظ غيرها، لم يعُد لها معنى بالنسبة له، لكن إذا قام الإنسان ليصلي، وقد قرأ عن الصلاة، فنوّع في القراءة، احفظ من القرآن، احفظ جزء عمَّ واقرأه بالتسلسل، ولما تغيِّر السور تسمع من الله كلاماً جديداً، فهذا درس بليغ لك.

7 ـالمنافقون في صلاتهم

  بعضهم قال: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ تنطبق على قوله تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ يُجَٰدِلُونَكَ فِى ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)﴾

[ سورة الأنفال ]

 والنبي عليه الصلاة والسلام قال: هم المنافقون في صلاتهم. كما قلت قبل قليل، سهوهم ليس سهوَ وسوسة، بل سهو ترك والتفات عن الله عز وجل، وأما سهو المؤمنين؛ فقد يسهو المؤمن، ما الدليل؟ وجود أحكام سجود سهو في الفقه، هناك أحكام مطولة حول سجود السهو، سهو المؤمن في الصلاة، لكن سهو المنافق عن الصلاة شيء آخر.

السهو في الصلاة:


 الشيخ محي الدين قال: السلامة من السهو محال، لكن هناك سهو الصالحين وسهو المنافقين، سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه يقول: ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس؛ ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى، ولا صليت صلاة فُشغِلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها، إذاً سيدنا سعد كان رجلاً في صلاته.
 لكن يطالعنا الآن قول غريب قليلاً، يقول قائل: قد يسهو الرجل في صلاته، لأنه يتدبرها ويعقلها، قرأ القرآن في الصلاة فاستغرق بمعانيه، وذابت نفسه محبة لله عز وجل، قرأ وأطال، وقرأ أول ركعة والثانية والثالثة، فنسي كم ركعة صلى، هذا سهو مَن تدبرَها وعقلها.
 ذهب رجل ليطوف حول الكعبة، وله شيخ، قال له: يا بني طف، طاف ورجع، فقال: يا بني كيف حالك، قال له: والله طفت بالبيت، ولم أطف برب البيت، هذا أول طواف له، أنا من أين أمر ومن أين أبدأ؟ من هنا، ماذا أصنع؟ ماذا قال الفقهاء في هذا الوضع؟ ارتبك، هنا الميل، هنا كذا، قال: طفت بالبيت ولم أطف برب البيت، قال له: أعد الطواف، فلما طاف المرة الثانية، لم يعد يدقق بالأماكن، حدث له استغراق، فدعا إلى الله عز وجل، وانهمرت دموعه، فقال سائلاً نفسه: كم شوطاً طفت أنا؟ لقد نسي كم شوطاً، قال له: كيف حالك يا ولدي؟ قال: طفت برب البيت ولم أطف بالبيت، قال: أعد الطواف، في المرة الثالثة جمع بين عدد الأشواط وبين وأماكن الطواف، وبين الوجهة إلى الله عز وجل، قال له: كيف حالك يا ولدي، قال: طفت بالبيت وبرب البيت.
 أحياناً الإنسان بسبب استغراقه في آيات القرآن الكريم، يتأثر بالسورة، قرأ قصة في الصلاة تفاعل معها، نسي كم ركعة صلى هذا سهو مشروع، لذلك شُرع له سجود السهو.
 قال: هذا الذي يتدبرها ويعقلها وليس همه بأعدادها، هذا كأنه يأكل اللب ويدع القشر، قال: وقد يسهو الإنسان في صلاته بسبب وساوس الشيطان، أو حديث النفس.
 لكن النبي صلى الله عليه وسلم سها مرةً في صلاته، يمكن أنه تصنَّع السهو من أجل أن يعلمنا سجود السهو، وبعضهم فسر سهوه فقال: كان يسهو في صلاته لفكرة أعظم منها، استنباطاً من قوله تعالى:

﴿ ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)﴾  

[ سورة العنكبوت ]


الروح من الله و من يعزو هذه لنفسه فهو مشرك:


 إذا ورد في السنة المطهرة أن النبي سجد للسهو، هو لا يسهو عن الله أبداً، فقد ينشغل به عنه وقد ينشغل بفكرة أهم من الصلاة عن الصلاة نفسها، هذا سهو الأنبياء، والمؤمن يستغرق في الآيات فينسى كم ركعة صلى، أما المقصر فيسهو فيها، وقد يأتيه حديث النفس، أو تأتيه وسوسة فيسهو فيها، ولكن المنافقين والكفار يسهون عنها، وثمة فرق بين يسهون بها، ويسهون عنها.
 ومعنى آخر لهؤلاء المصلين، عندما تشغل آلة على الكهرباء، ولتكن مسجلة تصدح مثلاً بالقرآن، إذا ذهبت إلى مأخذ الكهرباء وسحبت المِقبَس ماذا يحصل؟ ينقطع الصوت فجأةً، ماذا فعلت؟ قطعت عنها الإمداد، إذاً كان هناك إمداد كهربائي فيها، هذه القوة الكهربائية جعلت الدواليب تدور والشريط يتحرك، والرأس يلقط الصوت ويكبّره، فهذه المسجلة التيار موصول بها، إذا وسعنا المعنى؛ كل مخلوق فيه نبض، أو فيه حياة، أو حركة، فالله سبحانه وتعالى يتجلّى عليه بالروح، فلو أن الله سبحانه وتعالى قطع إمداده لحظة لمات هذا المخلوق، فهذا الذي تأتيه قوة الله المحركة وهي الروح وهو غافل عنه، يقول لك: أنا، من أنت؟ أنت كلمة زل فيزول، لو قطع الله عنك الإمداد ثانية لأصبحت جثةً هامدة، هؤلاء الذين يتجلى الله عليهم تجلِّيَ إمداد لا تَجَلِّيَ رحمةٍ، حياتهم قائمة بالله، ولولا أن روح الله فيهم لمَا تحركوا، ولولا أن الله سبحانه وتعالى أمدّهم بالحياة لمَا عاشوا، هؤلاء كيف يسهون عن هذه القوة المحركة، ويقول أحدهم: أنا وأنا، من أنت؟ أنا سأفعل، أنا سأترك: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ هذا المعنى بعيد، لكن دقيق جداً، كل إنسان يتحرك، ويتكلم، ويمشي، ويفكر، ويكتب، ويذهب، ويعمل، ويصنع، فيه حياة، والحياة روح، والروح من الله عز وجل، فلما ينسى الإنسان هذه القوة الممدة ويعزوها لنفسه فهو مشرك، وكأنه غفل عن هذه الصلة.

الرياء وأنواعه :


 بعضهم سأل هذا السؤال: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ* فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ *فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ* ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ *وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾ الحقيقة أن الويل لا لواحد من هؤلاء، بل للصفات الثلاث مجتمعة: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ* ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ *وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾ الآن إلى المراءاة، قال بعضهم: هناك من يصلي طاعة لله عز وجل، وهناك من يصلي تقيّة، فقد يكون الرجل متواجداً بمجلس، كل من فيه من المؤمنين، وأذن المغرب، ومضت ساعة، وإذا ما صلى المغرب يُتَّهم بالنفاق فقام وصلى، ولكنه صلى تقية، هؤلاء الذين يراؤون، لم يصلِّ طاعة لله عز وجل، صلى تقية، صلى لئلا يُقال عنه منافق: ﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُون*وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾
 فتعريف الرياء، طلب ما في الدنيا بالدِّين، هذا هو الرياء، هناك رياء بالتصرفات، يظهر بمظهر الحليم الوقور، لكن إذا خلا فله تصرفات شاذة، وصياح وضجيج وضرب وشتم، وأعمال لا تليق بالمؤمن، لكن أمام المجتمع يأخذ دور الحليم الهادئ الوقور، يفكر، فهذا نوع من أنواع الرياء بالتصرفات، بالسَّمْت، وهناك نوع بالثياب، الآن غير وارد هذا الشيء أما قديماً كان الصوفيون يلبسون الصوف، فكان يرتدي ثياب صوفية خشنة ليُقال عنه صوفي، فهذا رياء بالثياب، وهناك رياء بالقول، طوال جلوسه يقول: أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله رب العالمين، كلمات يرددها حتى يقال عنه: ولي، هذا أيضاً رياء، وهناك رياء بالعبادات، يصلي ليُقال عنه مصلٍّ، ويصوم ليُقال عنه: صائم، وهكذا.

أنواع الشرك :


 هذا الرياء من أين يأتي؟ يأتي من الشرك، وقال العلماء: الشرك على مراتب؛ أعظمها أن تشرك في الاعتقاد، أن تعتقد أن مع الله إلهاً آخر، وقالوا: هذا هو الشرك الذي لا يغفر الله لصاحبه قال تعالى:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا(84)﴾

[  سورة النساء ]

 هذا أعظم أنواع الشرك، هناك شرك آخر أن تعتقد أن زيداً من الناس مستقل بفعله عن الله وهو يفعل ما يريد، هذا شرك كبير أيضاً، وهذا هو شرك الأفعال، فلا فاعل إلا الله، ولا رافع إلا الله، ولا معطي إلا الله، ولا خافض إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مانع إلا الله، ولا قابض إلا الله، ولا باسط إلا الله، ولا معز إلا الله، ولا مذل إلا الله.
 إذا اعتقدت أن فلاناً بيده الحول والطَّول، وهو مستقل بأفعاله عن الله عز وجل، وهو يفعل ما يشاء، وإذا قال لك شخص: أنا أفعل بك ما أفعل، وصدقت هذا الكلام، ورأيت أنه يفعل بمعزل عن الله عز وجل فهذا شرك خطير.
 النوع الثالث: شرك في الطاعة، أن تطيع غير الله خوفاً منه، شرك اعتقادي، وشرك بالأفعال، وشرك بالطاعة، وشرك بالعبادة، أن تصلي لغير الله، أو أن تطيع الله لغير الله، هذا شرك بالعبادة، وهناك شرك بالنية، وهناك شرك في الوُجهة، 

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾

[ سورة لقمان ]

والشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.

﴿  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ(106)﴾

[  سورة يوسف ]

 قال عليه الصلاة والسلام:

(( إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله، وشهوة خفية. ))

[ ابن ماجه بسند ضعيف جداً. ]

 سئل عليه الصلاة والسلام عن الشهوة الخفية، فقال: 

(( احذروا الشهوةَ الخفيةَ: العالِمُ يُحِبُّ أنْ يُجْلَسَ إليْهِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

فإذا جلس الناس إلى عالم وشعر بنشوة وبمكانة كبيرة وبشأن عند الناس، والناس رحبوا به، وبجّلوه، وعظموه، فهذه شهوة خفية، وهذا شرك، وهناك موضوع آخر عن الرياء. سئل عليه الصلاة والسلام عن الشهوة الخفية، فقال: (العالِمُ يُحِبُّ أنْ يُجْلَسَ إليْهِ) نعوذ بالله من ذلك.

دواء الرياء و درجاته :


 وهناك موضوع آخر عن الرياء، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُون﴾ أحياناً الإنسان يعمل عملاً من أساسه يبتغي به غير الله، دخل به مشركاً وخرج به مشركاً، أي أحب أن يعمل وليمة، له منها مقصد يريد أن يسترضي رجلاً يخاف منه، أقام له وليمة، وتكلَّف لها، فهذا العمل من أساسه نوى به إرضاء فلان ليتقي شره، فهذا أوضح أنواع الرياء.
 هناك رياء أقل من ذلك، بدأ بعمل صالح، في أثناء العمل الناس أثنوا عليه، انبسطت أساريره، وشعر أنه في موطن اعتبار، فعمل أعمالاً زائدة عن العادة حتى يثنوا عليه أكثر فأكثر فخرج منه مشركاً، دخل به مخلصاً خرج منه مشركاً، كان بشيء صار بشيء.
 هناك درجة أخف، دخل به مخلصاً وخرج منه مخلصاً، ولكن الناس أثنوا عليه فسُرَّ، سكت ارتاح، وصار بحاجة للمديح، إن شاء الله العمل أعجبكم؟ نعم والله، جزاك الله خيراً، ثم رأى آخر، إن شاء الله سُررتم بهذا العمل؟ نعم والله سُررنا، صار يستجدي المديح، دخل به مخلصاً، وخرج منه مخلصاً، ثم ركن إلى المديح، فهذا رياء مخفف، دخل به مخلصاً خرج منه مشركاً هذه درجة أعلى، دخل به مشركاً وخرج منه مشركاً، هذا الرياء الأعظم. 
﴿فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُون﴾ أنْ يبدي للناس ما ليس في نفسه:

﴿ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)﴾

[  سورة البقرة ]

 سئل أحد الصالحين؛ ما دواء الرياء؟ أجاب بكلمة واحدة، قال: كتمان العمل. صل قيام ليل واكتم ذلك، لا تحدث به أحداً، ادفع صدقة واكتم ذلك، لا يجرؤ الشيطان عندئذ أن يقول لك: إنك مراءٍ، لم تتكلم لأحد، لم يدر أحد، افعل الصالحات ولا تذكرها لأحد، هذا هو دواء الرياء، أكرر: قيل ما دواء الرياء؟ قال: كتمان العمل.

لا مراءاة في العمل إن كان فريضة:


 يُقال يوم القيامة لأهل الرياء: صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك، وقد قيل، إن هؤلاء أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة.
 ﴿ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُون*وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾  قال بعضهم: لا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل إذا كان فريضة، هذا ليس رياء، لا خفاء فيها، ولا تكتم. 
 المعنى الدقيق أنك إذا رددت على معروف بإساءة، أو إذا أسأت لصاحب معروف فإنك منعت الخير بين الناس ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ* فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ *فَوَيۡلٌ لِّلۡمُصَلِّينَ* ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ*ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ *وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ﴾

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور