الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
السورة التالية تتحدَّث عن نوعٍ من علاقات الناس بعضهم ببعض:
سورة اليوم سورة المطففين:
﴿ وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ (1)﴾
قال بعض علماء التفسير: هذه السورة تتحدَّث عن نوعٍ من علاقات الناس بعضهم ببعض، فلو دققت في موضوع هذه السورة لوجدته مغايراً لكل السور المكية التي جاءت قبلها والتي جاءت بعدها.
قال بعض علماء التفسير: إن هذه السورة جاءت بهذا الشكل تأكيداً إلى أن التقصير في حقٍ صغيرٍ من حقوق البشر موجبٌ للهلاك، فكيف التقصير بأكبر حقٍ من حقوق الإله! إذا طفّفت في الوزن أو في الكيل فهذا مُوجِبٌ للهلاك يوم القيامة، فكيف إذا أنكرت الخالق؟ فحكمة مجيء هذه السورة في الجزء الأخير من كتاب الله حيث الحديث عن السماوات والأرض، والحديث عن اليوم الآخر، والحديث عن عظمة الله عزَّ وجل، وكلُّكم يعلم أن السور المكية ترسِّخ الإيمان بالله عزَّ وجل، فكيف جاءت هذه السورة وسط سور عديدة تتحدَّث عن الله عزَّ وجل بينما هذه السورة تتحدث عن علاقة جزئية جاريةٍ بين الناس، ألا وهي التطفيف؟
قال بعض علماء التفسير: إذا كان التقصير اليسير في حقّ إنسانٍ يوجب الهلاك، فكيف بالتقصير الكبير في حق الله عزَّ وجل؟ ما حقُّ الإنسان عليك؟ لا شيء، حقُّه أن تعطيه بضاعةً بهذه القيمة، فإذا قلّلتَ من نوع البضاعة، أو من وزنها، أو من كيلها، أو من حجمها فقد قصَّرت في حقِّه ولو كان هذا التقصير طفيفاً، أما حقُّ الله عليك وقد خلقك من نطفةٍ، وسخَّر لك الشمس والقمر والنجوم فكيف تنكره؟ فكيف تجحد فضله؟ فكيف تعصي أمره؟ فكيف لا تنتظر حسابه؟ إنها مفارقة حادة، فإذا قصَّرت تقصيراً يسيراً في حق إنسان فهذا موجبٌ للهلاك، فكيف إذا قصَّرت في حق الله الذي خلقك ولم تكن شيئاً؟ هذا موجبٌ للشقاء الأبدي.
ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ المطففون جمع مُطَفِّف، والمطفِّف اسم فاعل من طفَّفَ، وطفف ثنائي مضعَّف مثل زلزل، قلقل، عسعس، طفّف، فطفّف بمعنى قَلَّل، والشيء الطفيف الشيء القليل.
أي لو أن الإنسان وزن وزنة ولم تتوازن العين بالعين فهذا مُطفِّف، ومِنَ الذي يُذهِب العدالة أو يجرحها تطفيفٌ بتمرة، فإذا كنت قد بعت كيلو غراماً من التمر وكان الوزن أقل من الوزن الصحيح بتمرة واحدة فهذا مما يجرح العدالة، فالتطفيف له أمثلة كثيرة ولا سيّما في عصرنا.
فأنا قد جمعت بعض الأمثلة التي نعانيها، هذه سورة من كتاب الله: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ ، مثلاً كم من الأبنية التي انهارت بسبب وضع المتعهّد إسمنتاً أقل من الكمية التي فرضها المهندس؟ في المتر المكعب يلزمه وضع سبعة أكياس من الإسمنت، فقام هو بوضع خمسة فقط، وبعد فترة من الزمن انهار البناء، فإذا مات ثلاثون أو أربعون شخصاً، وكان ثمنُ كل بيت مليوناً فأصبح لا شيء، هذا الشيء الكبير برقبة مَنْ؟ برقبة المطفف، فالتطفيف قد يكون بالإسمنت، وهناك تطفيفٌ بالحديد كذلك، وهناك تطفيف بنوع الإسمنت، فيكون قد مضى على انتهاء صلاحيته فترة زمنية طويلة فأصبح بلا مفعولٍ، ويبيعه بالسعر نفسه للإسمنت الجيد، فلدينا تطفيف عدد وتطفيف نوع، هذا النوع ليس بهذا السعر فهذا تطفيف.
أحياناً الذين يشترون من الفلاَّحين بعض الحاجات، يشتريها أحدهم بوضعٍ ويبيعها بوضعٍ آخر، فقد ذكر لي شخص أن الجوز يشترى بالمنخل فيُنْخَل مع البائع أوقيتان فيضعهما عنده، ويحاسب الفلاحة على الصافي، ويبيع الجزء الذي وضعه عنده لبائعي الحلويات، فهذا تطفيف، ويقول لك: هذا عُرف ومصلحة، وهكذا الترتيب.
تقليل الكم وتخفيض النوع والغش وعدم الإتقان يدخل في هذه الآية:
كل عملية تنقيص وزن، كل عملية تنقيص كيل، كل عملية تنقيص نوع، وكل عملية غش، وكل عملية عدم إتقان، بقدر الإمكان وجدتُ أن تقليل الكم وتخفيض النوع والغش وعدم الإتقان يدخل في هذه الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ أحياناً يقوم مصلِّح السيارات بتوفير جزء من الوقت، فيسرع في إصلاح السيارة، فيسبب كارثة لأصحاب هذه السيارة، فلا يضبط الأمر قبل أن يسلِّم هذه السيارة لأصحابها، فيسبب حادثاً كبيراً يموت فيه خمسة أشخاص مثلاً، فهو مطفف لا يحاسب على هذا التقصير، ولكن يُحاسَب على موت هؤلاء الخمسة بسبب التقصير: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ فبتقديره أنّه وفَّر الوقت ويتسامر مع ضيف عنده، وقال لصانعه: ركب وشدَّ البراغي على الإطارات، وجاء صاحب السيارة قبل وقت فقال له: السيارة جاهزة فخذها، هذا مطفف، وأحياناً يوفِّر جهده فهو كذلك مطفف.
أحياناً الطبيب يعطي المريض إبرة من الماء المقطَّر، فيقع المريض تحت الوهم، ويظن نفسه قد انتعش بهذه الإبرة، فهو لم يكن بهذا النشاط الذي يشعر به بعد أخذ الإبرة، وهي إبرة من الماء المقطَّر ولا قيمة لها، فهذا تطفيف وهو أحد أنواع السرقة.
أحياناً أحد المحامين يعلم جازماً أن هذه الدعوى خاسرة، لأن كل القوانين والاجتهادات وآراء محكمة النقض ضد هذه القضية، ومع ذلك يقبل تسلُّم هذه الدعوى، على نيَّة أن يتقاضى أجراً إلى أن يُفضَح الأمر، فتطول الفترة إلى خمس أو ست سنوات، ويكون قد ابتزَّ موكله ابتزازاً لا بأس به، وهذا المحامي داخل في هذه الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾
أحياناً طبيب يأتيه مريضٌ، فلم يفهم مرضه، وله زميلٌ مختصٌ بهذا المرض، فيعطي المريض مسكِّنات على أن يراجعه بعد أسبوع مثلاً، فهذه العملية كلَّها ابتزاز، وهذا الطبيب داخل في مفهوم هذه الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ .
من التطفيف التقليل إذا قلَّلت حقَّ هذا الإنسان شيئاً يسيراً فأنت مُطفّف، فإذا قلَّلت الكمَّ، أو قللت النوع، أو قللت العدد، أو غششت، أو لم تتقن، فعدم الإتقان والغشّ والتقليل والإساءة من التطفيف، ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ وأحياناً الطبيب يكلِّف المريض بإجراء ثمانية تحاليل مثلاً، والمريض بحاجة إلى تحليل واحد، ويكون هذا الطبيب متفقاً مع محلل اتفاقاً شفوياً أن المطلوب من التحاليل هو المكتوب في أول القائمة وما تبقى من الثمانية غير مطلوب، وهذا الفرق نتقاسمه بيننا مناصفة، ويقول لك: الحياة شطارة، من قال لك إنَّها شطارة؟ هذه سرقة، فهذا المريض بحاجة إلى تحليل نسبة الكوليسترول فقط، فيكتب له الطبيب اثني عشر تحليلاً، ويزكي له محللاً لثقته به، وينصحه بالذهاب إلى مختبره. هذا المحلل حلّل أول مادة، وألقى الباقي في المغسلة، فيعدَّ هذا الطبيب نفسه ذكياً، وهو يصلي أيضاً: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾.
أمثلة أخرى من حياتنا اليومية عن التطفيف:
يشتري صافياً، ويبيع قائماً، فأحياناً تكون للعبوة وزن كبير وهذا تطفيف أيضاً، أنت ماذا اشتريت؟ اشتريت صافياً، وكيف بعت؟ بعتَ قائماً، أحياناً يوزن شيئاً ثميناً بورق سميك، هذا مطفِّف.
أحياناً تكون أشياء توزن بالمثاقيل، والمروحة تشتغل، فهذه المروحة يتوجه هواؤها إلى كفة البضاعة فترجح: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ أحياناً يقول لك: صلِّح لنا هذه القطعة من الذهب، فتُقص من الطرفين وتُلحَم، هذا الوزن الذي نقص من القطعة داخل في التطفيف، ويقول: هذا عُرف، من قال بهذا؟ إذا كلفك أحد الناس بتصليح قطعة ذهبية، فمن الممكن أنْ تقص قطعة من هنا وقطعة من هناك وتلحمها!
بعض المصلِّحين يفتح خزان الوقود بالسيارة، ويفرغ منه عبوتين كي يغسل المحرك، فيضع عبوة من البنزين في سيارته، ويغسل المحرك بالعبوة الأخرى، وثمن عبوة البنزين أربعين ليرة، فهذا داخل في اسم: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾.
بائع الأقمشة عندما يشتري القماش يشتريه مرخياً، تجد القماش منحنياً على المتر، وإذا أراد بيعه يظل يشده حتى آخر مدى له، وهذا داخل في التطفيف: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ فأنت اشتريت القماش مشدود فبعه مشدوداً، وإذا اشتريته مرخياً فبعه مرخياً، أما في الشراء يُتساهل، فإذا زاد مقدارٌ فلا يدخل الزيادة في الحساب، ويقول لك: طول الثوب ثمانية وعشرون متراً فقط، وعندما يبيع الثوب نفسه يبيعه بطول ثمانية وعشرين متراً وأربعين سنتيمتراً، فهذا أيضاً داخل في التطفيف: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾
معظم مصالح العباد داخلة في هذه الآية:
أحياناً يكون هناك تعهد لتقديم طعام مثلاً لأُناس فقراء، و تُقدَّم هدايا للذين يستلمون الطعام، وتُقدَّم نصف الكمية، بالتعهد يكون المقدار مئتا غرام من اللحم بالصرة مثلاً، فيقدم له شيئاً ثميناً، ومئة غرام من اللحم فقط بدل المئتين، ويكون هذا التعهد لمئتي شخص أو لخمسمئة، فيكون الفرق كبيراً، هذا في قوت العباد، واسمه كذلك تطفيف، فأنت قد أخذت ثمن الصرة خمس ليرات أو عشر ليرات مقابل مئتي غرام من اللحم، أو مئة غرام، وليس خمسين غراماً، ويقول لمَن يعترض: من استلم مني رضي بذلك، لكن الله لا يرضى عن ذلك، فدخل في الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ .
أكثر المطاعم إن طلبت أوقية من اللحم يعطيك مئة وخمسين غراماً فقط، لماذا؟ ونصف هذه الكمية المقدمة دهناً، وهذا الدهن يُمزج بالرئة الحمراء لتصبغ الدهن باللون الأحمر، فالرئة توضع مع الدهن، ويصبح لون اللحم كله أحمر، فهؤلاء أصحاب المطاعم دخلوا في الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾
وصانع الطحينة يضع فيها إسبيداج ويقول لك: هذه طحينة بيضاء، فهذا السبيداج يدخل في صناعة الدهانات، والطحينة طعام المسلمين، يدخل إلى المعدة، ويسبب أمراضاً خبيثة، ولا يُهضم، ويذهب إلى الكلية فيتعبها ويسبب لها التهاباً، ولكنه باع الكيلو غرام منها بإحدى عشرة ليرة ونصف، والسعر التمويني عشر ليرات، ولكن الأبيض أغلى قليلاً، فوضع مادة الإسبيداج وباع بإحدى عشرة ليرة ونصف ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ .
الآية التالية تشمل كل مصالحنا:
كأن هذه الآية تشمل كل مصالحنا، فمعظم مصالح العباد الآن داخلة في هذه الآية: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ ولقد قال لي أحد الأشخاص: إنَّهم يضعون في الزعتر نشارة الخشب، فالحليب إذا غُش بالماء فالماء لا يؤذي، أما النشارة فتؤذي وكذلك الإسبيداج يؤذي، وكذلك يضع أصحاب معامل السكاكر أصبغة البلاط في السكاكر، فهم كذلك دخلوا في الآية الكريمة: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾
وأصحاب محلات قطع الغيار يبيعونك قطعة مقلدة على أنها أصلية، فالغش تطفيف، وتقليل الكمية تطفيف، وعدم إتقان الخدمة تطفيف.
وضع لك لتثبيت لوح زجاج مسمارين فقط، واللوح طويل فكُسِر لوح البلور من طرفه، ولتثبيته يحتاج لأربعة مسامير تثبّت بشكل محكم، فإذا كان كذلك لم ينكسر البلور، وهذا داخل في التطفيف.
لذلك ربنا عزَّ وجل خصّ بهذا الموضوع سورة بكاملها.
ترك المكافأةِ من التطفيف:
يخلط الزيت النباتي مع البلدي، هذا غش وتطفيف، ويخلط السمن الحيواني الرديء المستورد مع السمن البلدي، وهذا أيضاً تطفيف، ويوضع زيت الكاز مع البنزين فيسبب المتاعب للسائقين، وهذا أيضاً تطفيف.
شيء آخر، قد جاء في المثل العربي: ترك المكافأة من التطفيف، فلو أردت أن أذكر شواهد أخرى على التطفيف في حياتنا اليومية لانتهى الدرس كله ولم ننتهِ من ذكر الشواهد، فإنْ لم يكن هناك خوفٌ من الله عزَّ وجلَّ فهذا الذي لا يخاف الله عزَّ وجلَّ يفعل كلَّ شيء، أي مهما كان الذنب خطيراً يفعله، هذا التطفيف الذي تحدثت عنه من تقليل كمية، أو من تخفيض نوعية، أو عدم إتقان، أو إهمال، أو توفير وقت أو جهد أو غش، هذا كله داخلٌ في التطفيف.
هناك شيءٌ: ترك المكافأةِ من التطفيف، إذا خدمك إنسان خدمةً، وأنت لم تكافئه فهذا من التطفيف، كلَّفت إنساناً بعمل، وقدمه لك ولم يرضَ أن يأخذ ثمنه، له مصلحة، وله أولاد، وله وقت وجهد، وهو أحب أن يكرمك ولم يرض أن يأخذ ثمنه، فأنت عليك أن تكافئه بهدية، ترك المكافأةِ من التطفيف.
(( مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. ))
[ النسائي عَنْ ابْنِ عُمَر ]
متى لك الحق أن تقول للذي أسدى إليك معروفاً: جزاك الله خيراً؟ في حالة واحدة؛ إن لم تجد ما تكافئه به، أما إن أمكنك أن تكافئَه فكافِئْه، فترك المكافأةِ من التطفيف.
إذا تركت المكافأة ولم ترد على الإحسان بإحسانٍ مثله، فإن أعارك أحدٌ شيئاً فأرجعه له متقناً، وهناك أشخاصٌ يزيدون، استعار كتاباً يجلده ولو بغلاف من النايلون، ولو بغلاف لونه أزرق، وأرجعه إليه مجلداً، إنّ هذا يشجعك على العمل الصالح، أمّا هذا الذي يمنع الخير فهو الذي يُسيء لصانع الخير، فإذا أسأت لصانع الخير فقد منعت الخير، وترك المكافأةِ من التطفيف.
التطفيف المعنويّ أيضاً يدخل في الآية:
هناك تطفيفٌ معنويٌّ أيضاً يدخل في الآية، الابن أحضر لزوجته غسالة، فالأم أقامت النكير عليه، لماذا؟ تقول له: إنها لا تستحق، هي صبية، وهي تستطيع أنْ تشتغل، فلا تعوِّدها الكسلَ، أما إذا الصهر أحضر لابنتها غسالة فإنها تقول: الله يرضى على فلان! الله يرضى عليه! أكرم بنتنا!! لماذا هذه التفرقة في المعاملة؟ أكثر شيء يقع فيه النساء أنها تدلِّل ابنتها، فإذا نامت متأخرة فلا مانع، ولا شيء عليها، أما إذا كان عندها كِنَّة في البيت، وكان رأسُها يؤلمها، ونامت باكراً فالويل لها، تقول لزوجها: هذه كسلانة، وإنها تتمارض، ولا تشكو من شيء، إنها مثل القردة، لماذا هذا الكلام؟
إذا كان عندك صانع تعامله معاملة قاسية، أما ابنك فتخاف عليه من الهواء لماذا؟ وهذا أيضاً تطفيف، تنقصه حقه، ترك المكافأةِ من التطفيف.
هناك تطفيف ماديّ وتطفيفٌ معنويّ، وهناك تطفيف غش، وتطفيف عدم إتقان، وهناك تطفيف تنقيص وزن، وهناك تطفيف تنقيص كيل، وهناك تطفيف تخفيض المستوى النوعي، هذا كله مِن التطفيف، الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ أما كلمة "ويل" فقد فسرها المفسرون بأنها الهلاك، الهلاك للمطففين، فإذا طففت بحق إنسان قليلاً فالويل لك، فكيف إذا تركت حق الله كله؟ لا تنسوا أن هذه السورة وردت في سياق سورٍ مكية، كلها تتحدث عن حق الله عزَّ وجلَّ، فإذا قصرت في حق البشرِ قليلاً فالويل لك، فَكَيفَ إذا تركتَ أو أنكرتَ أو جحدْتَ حق الله كلَّهُ؟
إذاً كلمة "ويل" أي الهلاك، كما لو أن سائقاً يهبط بسيارته في طريق منحدر انحداره شديد جداً، على اليمين وادٍ سحيق وعلى اليسار وادٍ سحيق، وينتهي الطريق بمنعطف خطر، وشعر أن المكبح قد تعطل، ولا زال منطلقاً، قد يضرب نفسه ويقول: انتهينا ومتنا. كلمة "ويل" أي تحقق الهلاك، وليس عنده شك ولا بنسبة واحد في المليون أنه انتهى، وقد رأى الوادي الأول والثاني، والسرعة مذهلة، والمنعطف خطير، وليس معه مكبح، فأصبح عنده يقينٌ قطعيٌّ، ولا مجال للشك فيه إطلاقاً مِن أنه انتهى، أرأيتم الناس الذين في هذه الحالات، ومن دون وعي يستخدم أحدهم الفعل الماضي، فإنه يقولُ لك: هلكنا، قل سنهلك! لا، بل يقول لك: هلكنا، وقُضِي علينا، وبشكل لا شُعوري، هذه الفطرة، لقد أيقن بالهلاك.
كلمة (ويل) دعاءٌ من الله تعالى على هؤلاء المطففين وهذا الدعاء قرارٌ قطعي:
قال بعض المفسرين: كلمة "ويل" دعاءٌ من الله تعالى على هؤلاء المطففين، وقال بعضهم: دعاء الله قرار، إما أنهم هلكوا، وإما أن الله دعا عليهم بالهلاَك، ودعاء الله عزَّ وجلَّ غير دعاءِ البشر، فدعاءُ البشر يُستجاب وربما لا يستجاب، لكن دعاء اللهِ قرارٌ قطعي.
﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ أي أن المطففين خسروا وهلكوا، وانتهى أمرهم، وكلٌ منا لا يزالُ حياً، وما دام الإنسانُ حياً فباب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ، وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً. ))
[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]
﴿وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ﴾ فيما يلي يبيِّن ربنا عزَّ وجلَّ مَن همُ المطففون، قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ (2)﴾
لكنَّ الذي ينبغي أن يُقال: الذين إذا اكتالوا من الناس، أي اشتروا منهم، اشتروا منهم كيلاً، أو اشتروا منهم وزناً، أو اشتروا منهم طولاً، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ أي بحكم احتكار الصنف، أو بحكم القوة المادية أو المعنوية، أو قوة المال، أو الجاه أو السلطان، أي أن معك قوةً، ألزمت هذا المشتري أن تأخذ منه حقك كامله، يا أخي أريدها قائمة، الوزن غير مقبول، فلا يعبأ بكلامك: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى﴾ من معاني على الاستعلاء، استخدام ربنا الفعل (اكتال على) وعدم استخدامه (اكتال من) إشارةً إلى أن (اكتال على) بمعنى ألزم المشتري البائع أن يقدم له حقهُ كاملاً.
﴿ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ﴾ حقهم بكامله، فيدخل في هذه الآية إن حاسبت شريكك حساباً عسيراً، فتقول له: هذه البضاعة عليها مصاريف، وأيضاً سافرنا سفرة ووجب عليك دفع النصف، وقد خسرت في هذه الحالة، والحقيقة أنك سافرت لأمورٍ خاصةً بك، والسفر ليس له علاقة بالبضاعة ثم تغرِّمه مصاريف الرحلة والسفر، وإذا كان هناك مخالفات تحسبها، حتى مخالفة السيارة تحسبها عليه، فكلمة "على" فيها قوة، أي: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ﴾ إذاً يريد أن يلزمه بمصاريف كل شيء، حتى أخطاؤه الشخصية، حتى حاجاتهِ اليومية، حتى طعامه الذي فيه بذخ، يقول لك: يا أخي إن هذا يدخل في المصروف.
عجب ربنا من المطففين الذين غاب عن أذهانهم أنهم سيقفون بين يدِي حاكمٍ عادل:
قال تعالى:
﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ (3)﴾
كما يقول عامَّة الناس: على سطح واحد صيف وشتاء في وقت واحد، أي إذا اشترى يستوفي حقه كاملاً، أما إذا باع فينقص هذا الحق إما كيلاً، أو وزناً، أو مساحةً، أو طولاً، أو نوعيةً، أو غشاً، أو عدم إتقان، أو يُنقِص هذا الحق نقصاً معنوياً، يقول الله سبحانهُ وتعالى:
﴿ أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ (4) لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ (5)﴾
أي كيف غابَ عن ذهنهم أنهم سوف يقفون بين يدِي حاكمٍ عدل؟ كيف غاب عن ذهنهم هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين؟ كيف غاب عنهم أنهم سيُحاسَبون على هذه الأعمال حساباً عسيراً؟ كيف غاب عنهم أنهم سيدفعون الثمن غالياً؟
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ. ))
هناك مجموعة آيات في غير هذه السورة تحضُّ على الاستقامة في التعامل مع الناس:
ربنا عزَّ وجلَّ هنا عجِبَ: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ هؤلاء جميعاً، وكلمة "أولئك" تعني أناس كثيرون، حتى إن بعضهم قال: حينما بُعِث النبي عليه الصلاة والسلام كانت مكةُ تضجُ بهذه الظاهرة؛ تطفيف الوزنِ والكيل، ولا تنسوا أن قوم سيدنا شعيب أهلكهم الله عزَّ وجلَّ بهذا الذنب وحده، قال الله تعالى:
﴿ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ(9)﴾
﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(35)﴾
هناك مجموعة آيات في غير هذه السورة تحضُّ على الاستقامة في التعامل مع الناس، لذلك فعلامة المؤمن عدا عن الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وقراءة القرآن، غير التعلُّق بمظاهر الدين، علامة المسلم أنه إذا عمل عملاً فكأن هذا العمل له، فيتقنه إتقاناً شديداً، والشيء المؤكد أن الذي يتقن عمله يتفوق بين أقرانه، فهذا قانون جعله الله عزَّ وجلَّ عامّاً، حتى لو أخذ به الكافر لتفوق بمقتضى هذا القانون، فمن أتقن عمله تفوق في أي مصلحة كانت، حتى لو جاء إنسان ملحد وطبَّق هذا القانون لتفوق، فلا تعجبوا إذا رأيتم الناس مقبلين على إنسان بمصلحة معينة، يقول لك: عمله متقن، وصنعته متقنة، حاجته نظيفة، بضاعته جيدة، وزنه صحيح، لا يغش، ولا يأكل مالاً حراماً، فالذي يطبق هذا القانون يغتني في الدنيا قبل الآخرة.
قال الله تعالى:
﴿ وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ (1) ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ (2)وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ (4) لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ (5) يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (6)﴾
أي هذا اليوم العظيم الذي يحاسب فيه الناس جميعاً على أعمالهم، يقومون لهذا الرب، فهنا ربنا عزَّ وجلَّ ذكر اسم الربوبية، لأن الرب لا يظلم عباده، لا يدع مظلوماً ولا يدع ظالماً، يأخذ حق المظلوم من الظالم:
﴿ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (6) كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ (7)﴾
(كلّا) أداة ردع، أي لا تفعلوا هذا، دعوا التطفيف واتركوه على الفور، حدثني أخ فقال: أنا أعمل ميكانيكياً، تصليح عُطل يكلف مثلاً ألفاً وخمسمئة ليرة، أفتح المحرك فلا أجد شيئاً، فقط تحتاج لوصل شريط، هذه هي علامة الإيمان، إذاً علامة الإيمانِ الورعُ، رأس الدين الورع. "ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط" .
رأس الدين النصيحة، إذا قال لك أحدهم: انصحني، وأنت مؤمن، واللهِ الذي لا إله إلا هو، لو لم تنصحه لخرجت من دينك، وانظر إلى كلّ الباعة فهم ينصحون بالكاسد دائماً، إذا كان من النوعية أو اللون، أي شيء كاسد عنده ينصحه به، ويقول له: هذا أحلى، هذا اللون أجمل وأجود وأقوى وأمتن، وأنا ألبس منه، ويخيط منه بنطالاً للإيهام، ويقول: انظر فأنا ألبس منه، لكن الله عزَّ وجلَّ يحاسب، ولا يغفل، فرأسُ الدين النصيحة، رأس الدين الورع . "ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط" هذه علامة الإيمان، أحياًنا يذهب طفل إلى اللحام ، ويقول: أريد لحماً، والله الذي لا إله إلا هو لو لم تعطه حاجته كما لو كان أبوه واقفاً أمامك لمَا كنت مؤمناً، هذا هو الإيمان، ليس في الإيمان حل وسط، كأن تقول: هكذا تقتضي المصلحة، فهذا كلام مرفوض، هكذا قال أهل العُرف، هذا أيضاً كلام مرفوض، المقياس هو أن تقول: قال الله تعالى، أو قال رسوله عليه الصلاة والسلام، أما قال أهل العرف فهذه الكلمة مطاطة يدخل تحتها الفسقة والفجار والمنحرفون.
قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ كلا: أداة ردع أي دعوا التطفيف بكل أنواعه، ما قلَّ منه وما كثر، ما ظهر منه وما بطن، ما كان بالوزن، وما كان بالعدد، وما كان بالكيل، وما كان بالمساحة، وما كان بالأطوال، وما كان بالنوع، وما كان بالغش، وما كان بعدم الإتقان، وما كان مادياً، وما كان معنوياً، دعوا التطفيف: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾
قال تعالى: ﴿كَلَّا﴾ أداة ردعٍ من الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ الآن ربنا عزَّ وجلَّ بدَّل اسماً باسم، كان الحديثُ عن المطففين فأصبح الحديثُ عن الفُجَّار. قال المفسرون: الفُجَّار هم المطففون، وهذا تبديل توضيح لا تبديل تغيير، المطففون هم الفُجَّار، وكلُ مطففٍ فاجر: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ أي أن هذا الكتاب يكفي أن يقوده إلى السجن أي إلى جهنم، هذا الكتاب قيدٌ له، يُؤخَذ بهذا الكتاب، كل عمله مسجل، وهذا الكتاب الذي سُجِّل به عمله كافٍ أن يقودهُ إلى النار، هذا معنى كلمة "سجين" ، من الفعل سَجَنَ، أي هذا الكتاب من سماته أنه يسجن صاحبه في النارِ إلى أبد الآبدين: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ إذا كان الرجل عليه مأخذ خطي، وبذنب كبير، هذا المأخذ الخطي كافٍ لمحاكمته وإيداعه السجن، يقول لك: كتابُ إدانة أي يدين صاحبه: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ أي هذا الكتاب كافٍ إذا أصر صاحبه عليه ولم يتب منه أن يورِدَهُ النار.
الفرق بين (ما أدراك) و (ما يدريك):
قال تعالى:
﴿ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ(8)﴾
ربنا عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم من عادته أنه إذا قال: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ﴾ أنه يُدري به نبيه عليه الصلاة والسلام، وإذا قال: وما يدريك، أي أن هذا لا يعلمه أحد ولم يُعلمه الله لأحد، هنا قال الله تعالى:
﴿ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ (9)﴾
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾
إن قال الله عزَّ وجلَّ: وما أدراك فإنه سوف يدرينا، وإن قال:
﴿ يَسْـَٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)﴾
فهذه بعلم الله، كلمة ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ لا يُعلِمُها لأحد حتى الأنبياء، أما ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ﴾ فالله عزَّ وجلَّ يُعلمنا بذلك.
كل تطفيف فعله الإنسان مسجَّل عند الله كتابةً وصورةً وسوف يطلعه عليه يوم القيامة:
قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ*كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ مرقوم أي من الرَقم، أو من الرَقْم، الرَقَمْ أي كتاب مرقَّم ومختوم يصعب تزويره، فالمالية تختم للتجار دفاترها، وترقّمها، وتفقِّط الأعداد، فإذا باع التاجر بيعاً بمليون، وقطع الصفحة المسجل عليها مبلغ البيع ومادة البيع، وقال: لا بأس علينا، فلا يستطيع تمرير ذلك، لأن الأرقام متتابعة، ولا يخفى على المدقق أمر الإتلاف والتزوير، فكتابٌ مرقوم أي محدود ليس فيه زيادة ولا نقصان.
شيء آخر، الرَقم هو النقش، أي المخالفة مع صورتها، ففي بعض الدول تأتي للإنسان مخالفة، فإذا أنكرها يعرضون عليه صورة السيارة وهي في وضع المخالفة، فلا يستطيع أن يتكلم بأي كلمة، أليس ذلك رقم سيارتك؟ وفي الطريق كنت مخالفاً؟ فـ ﴿كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ بمعنى مرقَّم، و﴿كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ بمعنى أن فيه رقْم، أي فيه صور، أي أن كل شيء عملته التُقطت له صورة، وسبحان الله فالصورة مُسْكِتة، فأحياناً يأخذ إنسان لشخص آخر صورة وهو في وضع مشين فبهذه الصورة يبتزّه لدفع مئات الألوف، فهل تستطيع أن تقول: لا، ليست هذه صورتي؟
فربنا عزَّ وجل ليس كذلك، ربنا عز وجل كل مخالفة، وكل تطفيف فعله الإنسان في الدنيا مسجَّل عنده كتابةً وصورةً، وسوف يطلعه على المُطفِّف يوم القيامة.
آيات قرآنية تبين أن المعتدي والآثم هما من يكذبان بيوم الدين:
قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ (9) وَيۡلٌ يَوۡمَئِذٍ لِّلۡمُكَذِّبِينَ (10)﴾
هؤلاء الذين كذبوا بيوم الدين، هؤلاء الذين كذبوا بحساب الله عزَّ وجل، هؤلاء الذين استخفوا بأوامر الله ولم يعبؤوا بزجره ولا بنهيه:
﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(10) ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ (12)﴾
انظر إلى هذا القانون الجديد، فهنا أسلوب حصر: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ﴾ المعتدي على حقوق العباد، والآثم في معصية الله هؤلاء الرجلان عادةً يكذِّبان بيوم الدين، فإذا كذَّب المرء بيوم الدين دقِّق في عمله تراه معتدياً أثيماً، قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ .
الاستقامة طريق الإنسان للإيمان بالله والإيمان بيوم الدين والإيمان بالحق:
ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ﴾ لذلك يكفي أن تستقيم حتى تؤمن بالله وتؤمن بيوم الدين وتؤمن بالحق، فهذا شيء عجيب، فالحق لا يحتاج إلى أُذن ولا إلى فكر ولا إلى كتاب، الحق يحتاج إلى استقامة، فإذا استقمت آمنت به، وصدقت، وملأ الحق قلبك، وأُعجِبت به، يجوز أن يستغرب أحدكم فيقول: ما علاقة الاستقامة بالإيمان؟ إنها علاقةٌ مصيرية، علاقةٌ ترابطية، علاقة سببٍ بنتيجة، قال تعالى:
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(11)﴾
(( مَن أخلصَ للَّهِ أربَعينَ يومًا، ظَهَرت يَنابيعُ الحِكْمةِ مِن قلبِهِ علَى لسانِهِ ))
خذ هذه القاعدة: إذا لم يكن هناك شيء واضح لك فاستقم، فالإنسان أحياناً لأنَّه غير مستقيم تجده يجرّ الحق لمصلحته، ويفسِّر القرآن وفق هواه، وهذا الذي ذكره الإمام الغزالي: التفسير بالرأي أي يؤول آيات القرآن الكريم لمصالحه، كأنْ يقول: الله عز وجل قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)﴾
الله لم ينهَنا عن الربا بل نهانا عن أكله أضعافاً مضاعفة، هذا هو التفسير بالرأي، يريد أن يجرّ الآيات لمصلحته، لأنَّه مُرابٍ وهذه الآية تغطي تصرفاته فيتشبث بتفسيرها، ويقول لك: لا، إنك لا تفهم معناها، وهذا هو تفسيرها، وقد سألت عنها، ومعي فتوى بذلك.
عندما ينكر الإنسان الحق أو يردّه فهو غير مستقيم، فلو أنه استقام على أمر الله لآمن به ولقي ثماره يانعةً.
علامة المنافق أو الكافر أنه لا يعبأ بقصص الأنبياء ولا بآيات القرآن:
قال تعالى:
﴿ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ (13)﴾
آية مثل الشمس، مثل القمر، مثل المجرات، يقول لك: الحديث لا يفيد، فلا داعي للتحدث فيه، ولو قلت له: سيدنا نوح، يقول لك: سيدنا نوح ماذا تريد منه الآن، فقد مات من آلاف السنوات، وإن قلت له: سيدنا يوسف قال:
﴿ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ(33)﴾
فلا يتركك تتكلم، ويقول لك: هل هذا عصر سيدنا يوسف؟! فإن تكلمت معه عن التاريخ يرفضه، وإن تكلمت مستشهداً بالآيات يرفضها كذلك، لأنه معتدٍ أثيم: ﴿إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾ يريد أن تحدثه في شيء جديد كالكمبيوتر، أو تكلمه عن مشروع تجاري ناجح، أو يريد دخلاً كبيراً أو سيارة فارهة، أو فِيلَّا (منزل ريفي فخم) في مصيف، أو مركزاً أو مكانة مرموقة، أو حياة ناعمة، أو مباهج، فلا تعنيه سيرة سيدنا نوح أو سيدنا إبراهيم فهذه القصص ليست لها قيمة لديه، لا هذه القصص ولا تلك الآيات.
علامة المؤمن أنْ تراه مأخوذاً بآيات الله:
لو أخبرته عن وزن الحوت البالغ مئة وثلاثين طناً، فيقول لك: ماذا نريد منه! فهذا يدل على عظمة الله عزَّ وجل، وهذا لا يهتم به، الأرض سرعتها في الثانية الواحدة ثلاثون كيلو متراً، أي أنها تسير في الساعة الواحدة مئة وثمانية آلاف كيلو متر ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾ إنّ علامة المؤمن أنْ تراه مأخوذاً بآيات الله، وعلامة المؤمن أن تكون هذه الآيات الكونية ملء سمعه وبصره، وعلامة المنافق أو الكافر لا يعبأ بها، يقول لك: انظر إلى الطائرة الجامبو العملاقة، فوزنها ثلاثمئة وخمسون طناً، وتحمل ستمئة راكبٍ، وثمنها ثلاثمئة مليون دولار، فتجده مأخوذاً بسعرها، ومأخوذاً بمواصفاتها وبصوتها المنخفض، أو أنها ذات طابقين، ومأخوذ بأجهزتها.
إنّ المؤمن مأخوذ بالشمس، مأخوذ بالقمر، وبهذا الكون وما فيه من مجرات، وبهذه الثمار، وبهذه الفاكهة، وبهذا الماء العذب الفرات، مأخوذ بالجبال، مأخوذ بالبحار، مأخوذ بخلق الله عزَّ وجل، وكيف كان الإنسانُ نقطة من ماء مهين، ثم صار طفلاً، صار خلقاً سوياً، مأخوذ بمظاهر الكون.
﴿إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾ إذا رأيت أحدهم يقول لك: هذه أشياء قديمة لا تنفعنا، وهذه أشياء تجاوزناها، وهي ليست من روح العصر، وهذه الأشياء كانت لأُناسٍ سُذَّج، وكل هذا كان حينما كانت البشرية في بدايتها، في طفولتها أُخذت بها، أما الآن فنحن في عصر العلم يا أخي.
إذا سمعت أحدهم يقول هذا فاعلمْ أنه معتد أثيم، وأنه يكذِّب بآيات الله عزَّ وجل، وأغلب الظن أنَّه مُطفِّف: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ .
الرَّان هو حجابٌ كثيف بين العبد وربِّه:
هذه علامة الناس، يريد المال من أي طريق، بطريق مشروع أو غير مشروع، يجوز أو لا يجوز، سواء كان كثيراً أم قليلاً، لا يريد إلا المال، لذلك فُقِدتْ البركة، ولذلك أصبحت الأمراض كثيرة، مرض واحد يستهلك ما جنيته في العمر كله، والأسعار غالية.
أما إذا كان المال حلالاً، ودون تطفيف فإنّ الله عزَّ وجل يبارك لك فيه، فتعيش في بحبوحة، وفي صحة تامة، وفي سرور وسعادة، وأنت في بحبوحة، فلذلك أنا أقول: درهم حلال أحسن من مئة حرام، فإذا حصلت على المئة بالتطفيف فمعنى ذلك أنّ هناك عقاباً أليماً في الدنيا قبل الآخرة، وإذا كان العقاب في الدنيا تذكيراً فهو نعمة، أما إذا كان في الآخرة فهو عقاب أليم.
نشب قديماً حريق في شارع بكامله وفيه سوقٌ تجاري فاحترق بكامله، أحد التجار عنده بضاعة احترقت في يوم واحد، ثمنها ثلاثة ملايين ليرة، فهل هذا المال قليل؟ إن كان يقوم هذا التاجر بالتطفيف منذ عشرين سنة، فاللهُ جمع هذا كله وأتلفه في يوم واحد، كذلك فالله يحبه لأنَّه ذكّره في الدنيا قبل الآخرة.
فكل معصية تسبب غشاوة بينك وبين الله، غشاوة فوق غشاوة فوق غشاوة حتى يصبح الرَّان، والرَّان هو حجابٌ كثيف بين العبد وربِّه :
﴿ كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (14)﴾
أكبر عقابٍ للإنسان يوم القيامة أن يكون محجوباً عن الله:
هذا الكسب الحرام، هذا التطفيف، هذا الغش في البيع والشراء، هذا النقص في المكيال، هذا النقص في الميزان، هذا النقص في الكيل، هذا النقص في المساحة، هذه الخدمة غير المتقنة، هذا التدليس، هذا الكذب، هذا الختل والمخادعة، هذا كله تطفيف، أي أنَّ الإنسان لم يأخذ حقه منك، بل أخذ أقل من حقه، ولا أعتقد أن هناك مصلحة في الأرض إلا ولها علاقة بهذه الآية: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ بهذا الكسب السيّئ، وهذا الكسب للمال الحرام تجَمَّع طبقات كثيفة بعضها فوق بعض، حتى صار راناً على قلب صاحبه، عندئذ لا يعي على خير:
﴿ كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (14) كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ (15)﴾
انظر إلى بلاغة القرآن الكريم، فماذا يُفهَم من هذه الآية؟ دائماً ابحثوا عن المعنى العكسي، إنْ كان هؤلاء الفجَّار، وهؤلاء المطففون، وهؤلاء الذين كذَّبوا بيوم الدين، وهؤلاء الذين اعتدوا وكانوا آثمين، وهؤلاء الذين قالوا: إنَّ هذه الآيات أساطير الأولين، فهؤلاء ﴿عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ والمعنى العكسي: فهل المؤمنون محجوبون؟ لا، إنَّهم يرون ربَّهم، مِن هنا استنبط عليه الصلاة والسلام:
(( قَالَ كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا. ))
وقال بعضهم: إنَّه إذا نظر المرء إلى الله عزَّ وجل نظرةً واحدة غاب خمسين ألف سنةٍ من نشوة النظرة، فأكبر عقابٍ لهذا الإنسان أنَّه عن الله محجوبٌ: ﴿كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ .
الفجار المطففون يوم القيامة محجوبون عن ربِّهم حجاب رؤيةٍ وحجاب تحقير:
أحد العارفين قال: إنّ أحد تلامذته قال له: إنَّه عصى الله مرةً، وانتظر عقاب الله عزَّ وجل طويلاً فلم يأتِه، وبحسب ما سمع منه أن كل معصية لها عقاب، فعصاه والعقاب لم يأتِ، فناجى ربَّه وقال: ربي لقد عصيتك فلم تعاقبني! قال: عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي! أي أن الله عزَّ وجل قال: ﴿كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ ألا يكفي هذا العذاب أنَّ الله سبحانه وتعالى هو مصدر السعادة وهو محجوبٌ عنه.
إذا قال الأب لابنه: اخْرُجْ من هنا، ورفض الجلوس معه، والأهل يحيطون بالأب مسرورين، والحديث ممتع، والأكل طيّب، وهذا الابن محجوب، أليس هذا عقاباً نفسياً؟ لذلك ابن القيِّم قال: هناك عقابٌ يوم القيامة نفسيٌّ، ربما زاد على عقاب الجسد. هذا وقت الحجاب: ﴿كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ قال المفسرون: هناك حجاب رؤية، وهم محرومون من هذا الجمال، وهذه النظرة، وهناك حجاب تحقير، فإذا تجاوز إنسان حدَّه فيُنهَر ويؤمر بالخروج من المجلس، أخرجوه من عندي، هناك حجاب عدم رؤية، وهناك حجاب تحقير، وهؤلاء الفجار المطففون يوم القيامة محجوبون عن ربِّهم حجاب رؤيةٍ وحجاب تحقير، ألا يكفي هذا؟
ألا يغار الواحد ويتألَّم بأن يكون مع المحجوبين؟ مع المحرومين؟ إذا ظهر اسم طالب غشَّ في الامتحان، وصدر قرار بحرمانه ثلاث دورات، وأُذِيع هذا القرار على الأشهاد، ألا يتألَّم؟ هذا ألم نفسي، فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ(15) ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُواْ ٱلۡجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ (17)﴾
هذا يوم الدين، يوم القيامة، يوم الفصل، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، وكل إنسان يأخذ حقَّه كاملاً، ويُعطى حقه كاملاً.
فهذه السورة والله الذي لا إله إلا هو تقطع الظهر، وتقصم الظهر، وليست هناك مصلحة من مصالح الأرض إلّا وهي داخلة في هذه السورة، وإذا كان التطفيف هذا عقابه فكيف يكون عقابُ التقصير بحقِّ الله عزَّ وجل؟
النص مدقق