- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
ما معنى المستضعف في هذه الآية ؟
أيها الأخوة، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا إلى درس الهجرة إلى الحبشة، وقبل الحديث عن الهجرة لا بد من توضيح، دققوا في هذه الآيات، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾
هل تصدقون أن المستضعف في الأرض إذا لم يهاجر وقع في وعيد رب العالمين، كيف؟ أنت ذهبت إلى بلد من أجل هدف واحد، أن تنال دكتوراه، فإذا منعتك الجامعة من أن تنتسب إليها، هل يمكن أن تبقى في هذا البلد؟ أنت جئتها من أجل هدف واحد، هو أن تنال شهادة عليا، فإذا منعت من أن تنتسب إلى الجامعة لا معنى لبقائك في البلد، لا بد من أن تتحول إلى بلد آخر، هذا مثل.
لو كبرنا المثل, أنت في الدنيا من أجل أن تعبد الله، الدليل:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
فإذا حيل بينك وبين أن تعبد الله في أي بلد، لا بد من أن تغادر هذا البلد، قبل أن تغادر إن حاولت أن تصلح وأفلحت لا تغادر، إن استطعت أن تهيئ جواً تعبد الله فيه فلا تغادر، إن أقنعت الناس أن يغيروا فلا تغادر، أما إذا استحال عليك أن تعبد الله، وعلة وجودك في الدنيا أن تعبد الله فلا بد من أن تغادر، الآن نفهم الآية الكريمة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
ما معنى مستضعفين؟ إما أنك ضعيف من حيث القدرة، فمنعت أن تعبد الله، منعت من أن تحجب نساءك، منعت من أن تحجب بناتك، منعت أن تؤدي شعائر دينك، منعت أن تقيم فرائض الله عز وجل، أنت هنا ضعيف، ولم تستطع أن تصلح، ولا أن تغير، إذاً: ينبغي تغادر
المعنى الثاني: بلد فيه حرية، لكن نفسك ضعفت أمام مغريات الحياة، ضعفت أمام الشهوات، لم تستطع أن تقيم أمر الله لا قمعاً بل ضعفاً، هذا ضعف من نوع آخر.
فلذلك حينما تكون في بلد ويحال بينك وبين عبادة الله يجب أن تبحث عن بلد تستطيع أن تعبد الله فيه، وأن تحقق سر وجودك وغاية وجودك، والعلة التي جيء بك إلى الدنيا من أجلها، وهي العبادة.
لماذا أرسل النبي أصحابه إلى الحبشة ؟
أيها الأخوة، كان عليه الصلاة والسلام ضعيفاً، ويعاني ما يعاني، ولكن عمه كان يحميه، بينما آحاد المسلمين كانوا معرضين للأذى والتنكيل، والتضييق، والضرب، والإيلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الله:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
فرحمة النبي صلى الله عليه وسلم دعت أصحابه المضطهدين الذين ينكل بهم، الذين يُضربون، الذين تصادر أموالهم، إلى الهجرة إلى الحبشة، ظناً أن فيها ملكاً عادلاً.
أنواع السفر في الإسلام:
بالمناسبة، ما حكم السفر في الإسلام؟ أعلى أنواع السفر من دون استثناء:
السفر الأول: لنشر الــــدعوة.
السفر الثاني: أن تسافر فراراً بدينك.
السفر الثالث: أن تسافر طلباً للـعلم.
السفر الرابع: أن تسافر طلباً للرزق.
والآن هناك سفر اسمه السفر السياحي، هذا حكمه حكم المسافر، فإذا أقام الصلوات الخمس، وغض بصره، ولم يرتكب معصية في هذا السفر فهو مباح ليس غير، أما إذا كان السفر مطية إلى ارتكاب المعاصي والآثام فهذا لا يجوز.
إليكم هجرة المسلمين إلى الحبشة:
كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا هم أحد عشر رجلاً، وأربع نسوة، خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبية، منهم الراكب، ومنهم الماشي، وهذا الإسلام الذي تنعمون به اليوم، هذه المساجد، هذه الخطب، هذه الدروس، هذا الأمن الذي يشعر به المسلمون, من دفع ثمنه؟ أصحاب النبي عليهم رضوان الله، دفعوا ثمنه باهظاً، إنسان يسافر من مكة إلى الحبشة مشياً، الحياة شاقة جداً، والحر لا يحتمل، ووفق الله تعالى حينما وصلوا إلى الساحل سفينتين للتجار حملوا هؤلاء الصحابة إلى أرض الحبشة جميعاً بنصف دينار،
(( وقد ثبت من طرق صحيحة ما ورد عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة، في الهجرة الأولى، حيث قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدفع عنهم هذا الأذى,- وحكمة أنه ضعيف ذكرتها مرتين من أجل تثمين من يؤمن به، ليس عنده شيء يعطيه، ولا قوة تحمي أتباعه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً، فالإيمان به إيمان خالص، لكن لو أن قوياً من أقوياء الأرض ادعى أنه جاءته النبوة، ودعا الناس إلى الإيمان به، والله لتجدن الملايين المملينة تؤمن به خوفاً منه، لا قيمة لهذا الإيمان، أراد الله عز وجل أن يكون إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً حقيقياً لا رغبة ولا رهبة، لا طمعاً ولا خوفاً, كان عليه الصلاة والسلام في منعة من قومه بني هاشم، ومن عمه أبي طالب، - فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا ـ كما تقول أم سلمة ـ فخرجنا إليها إرسالاً حتى اجتمعنا فيها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخشَ من هذا الملك ظلماً))
وتروي الروايات أن سيدنا عثمان بن عفان كان أول من خرج مهاجراً، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد الإمام البخاري حديثاً بسند موصول عن أنس، قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، يعني خبر وصولهما سالمين إلى الحبشة، فقدمت امرأة، فقالت له: لقد رأيتهما، وقد حمل عثمان امرأته على دابة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط))
من معاني الهجرة إلى الله ورسوله:
1- إذا كان المهاجر هدفه خدمة أمته:
إنسان يذهب إلى بلاد الغرب ليدرس، تروق له الحياة، حياة جميلة جداً، بلاد جميلة، حاجات الإنسان مؤمنة، الدخل فلكي، الأمور كلها في خدمة الإنسان، ينسى وطنه، وينسى بلده، وينسى أمته، وينسى أن لحم كتفه من خير وطنه، فهو يسعى لكسب أكبر قدر من المال.
هذا الإنسان لو اتخذ قراراً بطولياً أن يعود إلى بلده المسلم، وبلده المسلم ليس بلداً متطوراً، بل هو بلد نامي، ليقدم علمه لهؤلاء المسلمين الذين هم أبناء جلدته، هذا الإنسان أنا أرى أن عودته إلى بلده، وتحمله بعض متاعب بلده في سبيل أن يقدم خدمات جلية لأمته الإسلامية هذا يعد عند الله مهاجراً.
2- المتمسك بدينه في زمن الهرج هي هجرة إلى رسول الله:
ومعناً آخر للهجرة، أن عبادة في الهرج، في زمن الفتن، وزمن الفسق والفجور، وفي زمن أن يغدو الدين ضعيفاً، وزمن أن الذي يعبد الله كالقابض على الجمر، وزمن النساء الكاسيات العاريات، وزمن يؤتمن الخائن، ويخوَّن الأمين، وزمن يضام الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، وزمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يقول كلمة، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه، وزمن فيه موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لما يقتل، ولا المقتول فيما قتل, في هذا الزمن الصعب عبادة في الهرج كهجرة إلي.
من يعبد الله في آخر الزمان حيث الفتن, والاضطرابات، والضلالات, والشهوات، وكل شيء على خلاف ما هو عليه، في زمن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، هذه أيضاً هجرة إلى الله خالصة، لو وسعنا الهجرة أيضاً, قال عليه الصلاة والسلام:
((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
من النساء اللواتي هاجرن مع أزواجهن إلى الحبشة:
أيها الأخوة، بعد فتح مكة أغلق باب الهجرة،
(( لا هجرة بعد فتح مكة ))
الصحابة الكرام الذين هاجروا على رأسهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وغيرهم، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة، وليلى امرأة عامر بن أبي ربيعة، وقد عرفت هذه الهجرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
أرأيتم أيها الإخوة إلى العنصر النسائي, كيف أن الصحابيات الجليلات كن يشاركن أزواجهن السراء والضراء، والإقامة والسفر، والحلة والترحال؟
لماذا لم يهاجر الصديق إلى الحبشة ؟
أيها الأخوة، وللصديق قصة، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يلتحق بالمهاجرين إلى الحبشة، في هذه الهجرة الأولى، بعد أن اشتد أذى قريش عليه، وهو سيد كبير في قومه، لكن الباطل أرعن، الباطل لا يعرف أقدار الناس، الباطل لا يميز الصالح من الطالح، فبعد أن اشتد أذى المشركين على سيدنا الصديق سلك طريقاً آخر، تشير الأخبار أنه سار في طريق اليمن، حتى إذا ما بلغ برك الغماد، حتى لقيه ابن الدغنة، وهو سيد قبائل القارة حلفاء بني زهرة القرشية، قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، وأن أعبد ربي, فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل ))
فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وكان الصديق رضي الله عنه أشبه الصحابة برسول الله، وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر، لذلك أجاره، معنى أجاره أي جعله في ذمته، هذه عادة مطبقة في الحياة الجاهلية، أن إنساناً شريفاً وجيهاً إذا أجار إنساناً لا يستطيع أحد أن ينال منه
أيها الأخوة، لي صديق لا أزكيه، ولكن أحسبه صالحاً وورعاً، وكان موظف بمكان، أمانته ظاهرة، استقامته ظاهرة، ورعه ظاهر، أدبه ظاهر، التزامه ظاهر, سمته حسن، سافر مرة مع من هو أعلى منه في الدائرة، وكان بعيداً عن الدين بعد الأرض عن السماء، ليس عنده شيء محرم، فلما دعوا إلى طعام هذا الذي هو رئيسه في العمل منع أن يأتي إلى الطعام أي مشروب، فلما انتهى الطعام، سأل صديقي رئيسه، قال له: هل انتبهت أننا لم نضع على الطاولة مشروباً؟ قال له: نعم، قال له: هذا من أجلك، لأن دينك أصلي، حتى الفاسق، حتى المبتعد عن الدين إذا رأى مؤمناًَ، صادقاً، مخلصاً، ورعاً، أميناً, عفيفاً، له مكانة عنده.
فوافقت قريش على ذلك، واشترطت عليه أن تكون عبادته في داره، وألا يستعلم بها، وأن يتعبد ربه في بيته، وبعد مدة أخذ أبو بكر يجتهد بالقراءة في فناء داره، وكان رجلاً بكاء لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن، فيجتمع إليه أبناء ونساء المشركين يعجبون بقراءته، وينظرون إليه، ويستمعون القرآن مما أفزع قريشاً، ودفعها إلى مطالبة ابن الدغنة أن يكفه عن ذلك، فخيره ابن الدغنة بين الإسرار بعبادته، أو أن يرد عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره، وقال: إني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله، وهكذا بقي أبو بكر بمكة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً بالله سبحانه وتعالى، يحتمل أذى المشركين بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن له بالهجرة.
دققوا في هذا النص:
((ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته, فتكيدوه أهل السماء والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ))
الإشاعة التي أخبر بها المسلمون في الحبشة عن أهل مكة:
أيها الأخوة، بعد هجرة الحبشة الأولى لفترة قليلة حدث أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، قرأ سورة النجم، وسجد في موضع السجود، فسجد معه كل من كان يسمعه من المسلمين ومن غير المسلمين، ماذا تستنبطون؟ المؤمن له وهج منوّر، المؤمن عليه سكينة، المؤمن عليه وقار، حتى الذي لا يعرفه يهابه، حتى الذي لا يعرفه يسعد بقربه.
وشاع في مكة أن قريشاً قد أسلمت، وبلغ المسلمين الذين هم في أرض الحبشة أن مكة أسلمت فرجع ناس منهم، منهم عثمان بن مظعون، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، وقد ذكرت إحدى الروايات الصحيحة أنهم كانوا اثنين وثمانين رجلاً، سوى نسائهم وأبنائهم، وقيل: إن عدد النسوة في الهجرة الثانية كن ثماني عشرة امرأة.
إليكم مضمون الرسالة التي حملها وفد قريش إلى النجاشي:
أيها الأخوة، هذه الهجرة الأولى والثانية، قريش آلمها جداً أن يذهب المسلمون، ويتخلصوا من تعذيب قريش، ومن التنكيل بهم، ومن التضييق عليهم، ومن إيذائهم، وعاشوا في بلاد الحبشة في ظل ملك الحبشة النجاشي آمنين مطمئنين، فكادوا لهم.
أيها الأخوة، نية الكافر شر من عمله، كل الذي يفعله يتمنى أن يفعل أكبر منه، نية المؤمن خير من عمله، لذلك بادرت قريش بعد الهجرة الثانية، وبعد إخفاقها في منع المسلمين من الهجرة، ونتيجة تخوفها من انتشار الدعوة الإسلامية أرسلت وفداً مؤلفاً من عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة, هذا الوفد معه هدايا ثمينة إلى النجاشي، وإلى بطاركته بهدف أن يعيد لهم هؤلاء المهاجرين، لينكلوا بهم، ويعيدوهم إلى مكة، وحاول الوفد إقناع البطاركة عن طريق الهدايا، الإنسان أحياناً يقنع بالشيء، لا لأنه قانع به، ولكن لأن المبلغ كبير، المبلغ أقنعه، فهؤلاء عرفوا ضعف الإنسان، فتوسلوا إلى أن يجعلوا من البطاركة قوة ضاغطة على النجاشي كي يعيد إليهم هؤلاء، فأغروهم بهدايا ثمينة.
شيء آخر، صور هؤلاء المسلمون على أنهم غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين النجاشي، وأنهم جاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وبيتوا الأمر مع البطاركة على أن يشيروا على النجاشي بأي يسلمهم إليهم، ولا يكلمهم, آية قرآنية طبعاً وردت على لسان سيدنا سليمان:
﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
هل حقق النجاشي في الأمر, وماذا كانت النتيجة ؟
النجاشي رأى أن يتحرى الأمر بنفسه، فدعا المسلمين، وطلب منهم توضيح الحقيقة، فانبرى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وتكلم نيابة عن أخوانه المهاجرين كما أسلفنا، قائلاً:
((أيها الملك، كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض، في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل شيئاً ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه، وصدقه، وأمانته، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة, وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))
والله كلام رائع، فالنجاشي طلب من جعفر أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه أوائل سورة مريم، فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته، وقال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين آمنين في بلدي، وأقسم بألا أسلمكم لأحد.
أخوانا الكرام، أتمنى عليكم جميعاً إذا كنت في موضع القيادة، ولو قيادة بيت، جاءتك ابنتك تشكو زوجها، تقبل كلامها على علاته، هذا الصهر اسأله، اطلبه على الهاتف، ما الذي أزعجك من ابنتي؟ لمَ لم تكن منصفاً؟ لمَ تأخذ كلام ابنتك على أنه منزل؟
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
نحن نتوهم أن القاضي الذي في قصر العدل، لا، الأب قاض بين أولاده، الأب قاض بين بناته، الأب قاض بين أصهاره، الأب قاض بين أخوته، معظم الناس مكلفون أن يحكموا بين متخاصمين، قال تعالى:
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
ماذا فعل عمرو بن العاص حينما وافق النجاشي كلام جعفر ؟
لكن هذه المحاولة أخفقت، لذلك في اليوم التالي جاء عمرو بن العاص, وقال للملك: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فاستدعاهم النجاشي، فسألهم، فقال جعفر: نقول فيه: هو عبد الله ورسوله، وكلمته، وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، واستقر رأي النجاشي على منح المسلمين الآمان، فأقاموا في خير دار مع خير جار، أما القسيسين والرهبان الذين سمعوا قول جعفر، واستمعوا إليه، وهو يرتل القرآن فقد ذرفوا الدموع مما عرفوا من الحق، فأنزل الله تعالى قوله الكريم:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾
المدة التي مكث فيها المسلمون في الحبشة:
أيها الأخوة، مكث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحبشة ما شاء لهم، ولقد توفي عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وليس لها أحد، فتكريماً لها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، وتزوجها، وهي بالحبشة، من الذي زوجه إياها؟ النجاشي، ومهرها 4000 دينار, ثم جهزها من عنده، ولم يرسل إليها النبي بشيء، وقد بعثها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة.
أخوانا الكرام، مرة جاء وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من كرم أخلاق النبي أبى إلا أن يخدمهم بنفسه، وكان وفاؤه مضرب المثل.
القرائن والأدلة التي تفيد في إسلام النجاشي:
أيها الأخوة، وردت العديد من الدلائل التي تفيد إسلام النجاشي، فقد ورد في الأخبار أنه أسلم، ولذلك خرج عليه قومه، ولكنه حرص قبل محاربتهم أن يؤمن للمسلمين سفناً ليغادروا عليها إذا ما تعرض للهزيمة، وأنه كتب كتاباً يشهد بإسلامه، وقد أورد الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى بنفسه النجاشي، في اليوم الذي مات فيه, في العام التاسع للهجرة، وأنه صلى بالمسلمين عليه صلاة الغائب.