سورة اليوم سورة الطارق:
أَعُوْذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿ وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ(1) وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ(2) ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ(3) إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)﴾
ما سبب قسم الله -سبحانه وتعالى- بالسماء:
الله -سبحانه وتعالى- ذكر في مطلع هذه السورة السماء، ومنهم من يقول: إنَّه أقسم بالسماء، وقد حدثتكم من قبل أن الله -سبحانه وتعالى- في قرآنه العظيم مرةً يقول: أُقسم، حينما يقول:
﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا(1)﴾
﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ ومرةً يقول:
﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
يمكن أن نفهم أن هذا الشيء الذي أقسم الله به بالنسبة إلينا؛ لأن السماء شيءٌ عظيمٌ عظيم ولا يعرف عظمتها إلّا أولو العلم، ولذلك قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾
نحن نعرف عن السماء بقدر ما توصّل إليه العلم، وكلَّما زاد العلم في معرفته للسماء كان فهمنا لهذه الآية أعمق وأكبر، لكنَّ الأنبياء رأوا من ملكوت السماوات والأرض ما جعلهم يخضعون ويعظِّمون الله -سبحانه وتعالى-، فنحن إذا ركبنا سيارة، وتجاوزت سرعتها المئة شعرنا باضطراب، فإذا ركبنا طائرة فسرعة الطائرة التجارية 900 كم في الساعة.. 1200 كم، يركب الناس اليوم طائرةً أسرع من الصوت تقلُّهم من أوروبا إلى أمريكا في ساعتين وأكثر، الإنسان الذي ذهب إلى القمر ركب أسرع مركبة بل ركب أسرع مركبة على وجه الأرض، ركب مركبة سرعتها 40 ألف كم في الساعة، الطائرة التجارية 900، بعض الطائرات 1200، وبعضها 1650، أما أن يركبَ الإنسان مركبةً سرعتها 40 ألف كم في الساعة فهذا شيءٌ جديد، وبقيت هذه المركبة تسير في الفضاء الخارجي أياماً ثلاثة حتى وصلت إلى القمر، ماذا قطعت من الفضاء الخارجي؟ قطعت ثانيةً ضوئيةً واحدة، ما يقطعه الضوء في ثانية قطعه الإنسان في ثلاثة أيامٍ على متن مركبةٍ سرعتها40 ألف كم في الساعة، وهذا المشروع كما يقول بعض العلماء كلَّف 24 ألف مليون دولار(مشروع أبولو)، وماذا قطع الإنسان؟! ثانيةً ضوئيةً واحدة، فما قولك بالشمس؟!
لو أردت أن تصل إلى آخر نجمٍ من نجوم المجموعة الشمسية يحتاج الضوء إلى ثلاث عشرة ساعة، فإذا أخذنا الأبعاد بالزمن فقطر المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة، والشمس ثماني دقائق، والقمر ثانية، أقرب نجم إلى الأرض من غير المجموعة الشمسية أربع سنوات ضوئية ويوجد أربعة آلاف سنة، المجرة (درب التبَّانة) قطرها 150 ألف سنة ضوئية، والقمر ثانية، وعرضها 15 ألف سنة ضوئية، هذا درب التبَّانة ومن هذه المجرة يوجد مليون مليون مجرة، بعض المجرات بُعدها عنا 12 ألف مليون سنة ضوئية، فعندما يقول ربنا -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَٱلسَّمَآءِ﴾ كلُّ إنسان يفهم هذه الكلمة بحسب ما يعرف عن السماء.
لذلك قال بعضهم: نحن نفهم الأشياء كما نحن عليها، وليست كما هي عليها بل كما نحن عليها، يجوز للإنسان أن تكون معلوماته عن السماء محدودة فإذا قرأ: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ يتصور الفضاء الذي فوق رأسه وهذه هي السماء، وبعضهم قال: كلُّ ما علاك فأظلَّك فهو سماء، رأى أنَّ الأرض كرة وأن السماء هي ما يحيط بالكرة، وأن الكرة إذا ثقبتها من طرف- نظرياً طبعاً- لا بدَّ من أن تصل إلى الطرف الثاني، فكل إنسان بحسب ما يعرف عن السماء يعظِّم ربَّ السماء، بعض المجرّات 12 ألف مليون سنة ضوئية، بعض النجوم حجمها ثلاثون مليون ضعف عن شمسنا، وبعض الكازارات فيها قوة انفجار تعادل واحداً أمامه 46 صفراً عن أكبر قنبلة هيدروجينية فجِّرت على وجه الأرض إذا حصل انفجار، فعندما يقول ربنا: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ أي أن هذه آيةٌ عظيمة لنا، نحن نعيش في جو الأرض ولكن روَّاد الفضاء رأوا الأرض كرة جميلة، رأوا بعض القارّات من القمر، بعض الأماكن خُضراً، بعضها بيضاً بفعل السُّحب، بعض الأماكن زرقاً فالأرض كرة، ولو أن إنسانًا أثار الغبار في غرفته تحت ضوء الشمس فرأى ذرةً عالقةً في ضوء الشمس قال: هذه تشبه الأرض بالنسبة إلى الكون ذرة، فقد تجد الهواء يحمل ذرات الغبار، وتحت أشعة الشمس يرى الإنسان هذه الذرات، فما الأرض إلّا ذرةٌ بالنسبة لجو الغرفة، لذلك عندما يقول ربنا -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ على الإنسان أن يعرفَ ماذا تعني كلمة السماء.
مرة قمت بإجراء حساب بسيط، أقرب نجم إلينا يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية، فلو كان هناك طريق معبَّد إليه فنحتاج إلى 27 مليون مليون مليون سنة بسيارة حتى نصلَ إليه هذا أقرب نجم؛ لذلك هذه الآيات لا يعقلها إلّا العالمون، لا يعقلها إلّا من فكَّر في ملكوت السماوات والأرض:
﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٍ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ (190) ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ(191)﴾
حركة الكواكب، لكلّ كوكب فلك، نظام التجاذب، نظام العطالة، القوة النابذة، القوة الجاذبة، الكتل اختلافها؛ هذه بعض الحقائق عن السماء، فربّنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ ، ماذا في السماء؟ السماء فراغ وفيها نجوم، وهذه الآية شملت الفراغ والنجوم معاً.
على قدر تفكرك في السماوات والأرض تعظِّم رب السماء:
قال: الطارق، الله -سبحانه وتعالى- عرَّفه: ﴿وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ ، قال: هذا النجم، هذه الألف واللام ألف الجنس، لا يقصد بهذه الكلمة نجماً معيناً إنّما جنس النجوم، تقول مثلاً: التفاح ذو قيمة غذائية عالية، أي تفاحة هذه؟ المعنى جنس التفاح، إذا قال الله تعالى:﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ* وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ﴾ أي نجمٍ، فالسماء فيها فضاء وفيها نجوم، وكلمة :﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ شملت الفضاء والنجوم والكواكب السابحة في هذا الفضاء، أما هذا الفضاء أين حدوده؟ هذا لا نعلمه ولا أحد يعلمه، فهو شيء قد لا يصدقه العقل، هذا هذه المجرة التي قال عنها العلماء تبعد عنا 12 ألف مليون سنة، الشيء الذي لا يُصدق أنّنا حينما رأيناها اليوم أي وصل إلينا ضوؤها اليوم، منذ متى خرج منها هذا الضوء؟ منذ 12 ألف مليون سنة، اليوم رأيناها لكن أين هي الآن؟ لا يعلمها إلّا الله لأنّها متحركة، إذا قلنا: هذا النجم يبعد عنا 12 ألف مليون سنة؛ أي هذا الضوء الذي وصل إلينا اليوم كان قد صدر منه قبل 12 ألف مليون سنة، والآن المركبات الفضائية مثل الصياد تماماً عندما يصوب البندقية على طائر يبعدها باتجاه حركته، يحسب المسافة إذا أطلق هذه الرصاصة أو الخردقة- كما يقولون- يجب أن تصلَ إلى مكان وصل إليه بعد زمن الإطلاق، فالكواكب متحركة كلُّها، ومن يصدّقُ أن بعضَ المجرات حركتها تقترب من سرعة الضوء، 240 ألف كم في الثانية حركة بعض المجرات، من يصدق أن الشمس في دورانها حول نجم في المجرة تستغرق دورتها مئتي مليون سنة؟ أرقام الفلك تكاد لعظمتها لا تصدق ولكنها واقعة، ولكن العلماء الذين رصدوا هذه النجوم وأجروا هذه الحسابات حينما وصلوا إلى هذه الحقائق ما كان يعنيهم أن تكونَ هذه الحقائق في خدمة الإيمان ولكن هذا الذي حصل ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ ، ولذلك فسيدنا علي -رضي الله عنه- يقول: في القرآن آيات لما تفسّرْ بعد، على قدر معرفتك تفهم هذه الآية، وعلى قدر تفكرك في السماوات والأرض تعظِّم ربّ السماء، لا عبادة كالتفكر، "تفكر ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستين عاماً" ورد في الأثر
﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ ما معنى كلمة: الطارق؟ نقول: طرق الباب؛ أي ضربه فأحدث بهذا الضرب صوتاً وجلبةً ومنها المطرقة، طرق الطريق: سُمع وقع أقدامه على هذا الطريق، طرق بمعنى ضرب، والطارق الضارب، والطريق لأن الإنسان يطرقه، ثمّ سُمّي هذا الذي يسير في الطريق طارقاً، ثمّ سُمّي هذا الذي يسير في الطريق ليلاً هو الطارق، ثمّ صار كلُّ شيءٍ يأتيك يسمى طارقاً، وفي بعض الأدعية: " اللّهم إنا نعوذ بك من طوارق الهم"، فصار الطارق كلّ شيء ينتابك، فإذا عممناها ووسعناها كلّ شيء يطرق هذه النفس، يصل إليها من شيءٍ مادي أو معنوي، فربّنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ* وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ﴾ إذا قال: وما يدريك، فالله -سبحانه وتعالى- سوف يدريك، لكنه إذا قال: وما أدراك، فهذا شيءٌ لا يستطيع الإنسان أن يحيطَ به، نحن على كوكبٍ من هذه الكواكب فأنَّى لنا أن نعرفَ حقيقة النجوم وعددها ومساراتها؟ إنّنا نعرف ما يسمح الله لنا به، وما سوى ذلك فموكولٌ إلى علم الله -عزَّ وجلَّ-.
﴿وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ إذا كان هناك ظلام دامس النجم قد يثقب هذا الظلام فيكشف حقيقته، الضوء يثقب الظلام فيقول لك: قطع السكون هذا الصوت، وثقب هذا الظلام هذا الضوء.
ضرورة التناسب بين القسم وبين موضوعه:
﴿وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ هذا هو القسَم، أين المُقْسَم به؟ المُقْسَم به: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ* وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ ما موضوع القسم؟ ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾
قال بعضهم: ينبغي أن يكونَ هناك تناسب بين القسم وبين موضوعه، بين المقسم به وبين المقسم عليه: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ* وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ* إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ جواب القسم: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، ما هو الحفظ؟ من معاني الحفظ الرعاية والعناية، ومن معاني الحفظ الرقابة والرصد، فيا ترى أيُّ المعنيين في هذه الآية أقرب إلى السياق ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ؟ ما هذا السياق ما هذا التركيب؟ وما معنى لما؟
(لمَّا) في القرآن الكريم لها ثلاثة معانٍ:
1 ـ المعنى الأول:
ربّنا -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَٰلِكُمْ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)﴾
إذاً (لمَّا) حرف نفي تنفي الماضي ويمتد هذا النفي إلى الزمن الحاضر، فإذا قلت: لما يحضر المدرِّس، أي لم يحضر وإلى الآن لم يحضر لكن حضوره متوقع؛ هذا معنى (لمَّا) بالضبط والآية واضحة: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ﴾ أي حتى الآن لم يدخل الإيمان في قلوبكم.
2 ـ المعنى الثاني من معاني (لمَّا)،
قال تعالى:
﴿ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76)﴾
قال: هي حرف وجود لوجود، أي تبيّن وجود شيء لوجود شيءٍ آخر، متى بخلوا؟ لما آتاهم من فضله.
3 ـ المعنى الثالث والذي تعنيه هذه الآية
حرف استثناء، وإن مخففة وهي حرف نفي؛ أي ما من نفسٍ إلّا عليها حافظ، لم يعد هناك خلوة، وأي خلوة هذه، كلّ نفسٍ عليها من الله رقيب، ما من نفسٍ إلّا والله رقيبٌ عليها، ما من نفسٍ إلّا والله يرصد حركاتها وسكناتها
﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، إن: أي ما،
﴿كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا﴾ : إلّا، بمعنى إلّا
﴿عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ .
أحد مراتب الإيمان أن تشعر أن الله يراقبك:
هل هناك فرق بين (لها حافظ) و(عليها حافظ)؟ هناك فرق كبير، إذا قلنا: لها حافظ، فهذا الحفظ حفظ الرعاية، وإذا قلنا: عليها حافظ، فهذا حفظ الرقابة، إذاً الإنسان تحت رقابة الله -عزَّ وجلَّ-، وبعض الصوفيين قالوا: هذا مقام المراقبة، أحد مراتب الإيمان أن تشعر أن الله يراقبك، فلم تعد هناك خلوة، قال رسول الله -صلى الله عيه وسلم-:
(( مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَعٌ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِذَا خَلَا لَمْ يَعْبَأِ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ ))
[ رواه ابن أبي الدنيا والطبراني والقضاعي عن أنس بن مالك(سنده ضعيف) ]
يا ترى نحن كفهم تطبيقي لهذه الآية، هل يحس أحدنا في خلوته وفي جلوته، في بيته، في غرفته، في عمله وحده ومع الناس أن الله عليه حافظ؟ أي رقيب، فكأن رقابة الله -عزَّ وجلَّ- مستمدةٌ من عظمة الخلق، كما قلت قبل قليل لا بدَّ من انسجامٍ بين المقسم به والمقسم عليه، بين القسم وموضوع القسم: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ* وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ ، المقسم عليه: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، أي أن هذه الآية ينبغي أن تأخذَ منا مأخذاً كبيراً، إذا شعر الإنسان أن الله شهيدٌ عليه ورقيبٌ عليه، وبالمرصاد انتهت المشكلات كلّها، لماذا انتهت؟ سوف يستقيم، وإذا استقام سوف يقبل على الله -عزَّ وجلَّ-، وإذا أقبل عليه سعد به؛ قانون، إن رأيت الله رقيباً خشيته واستقمت على أمره، وإن استقمت على أمره أقبلت عليه وسعدت بقربه، هذا هو كلُّ الدين، وإن رأيته بعيداً لا يرى تصرفاتك ولا يطَّلع على خائنة الأعين.
﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ (19)﴾
فإذا الإنسان دخل بيت صديقه وتركه في الغرفة وحيداً وخرج، وشعر هذا الضيف أن هناك حركةً أمام الباب فنظر، طبعاً المؤمن لا ينظر لعلها تكون امرأة أو أخته أو أمه، هو نظر، مَن عَلِم بهذا النظر؟ لا يعلم إلّا الله، امرأة أمام طبيب يفحصها نظر إلى مكانٍ من جسمها لا تشكو منه، من يعلم هذا؟ الله -سبحانه وتعالى- ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ﴾ ، فالذي يعلمه الله لا يمكن لمخلوقٍ على وجه الأرض أن يحاسبك عليه، لكن الله يحاسبك عليه، هو وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالإنسان إذا آمن بهذه الآية ومدلولها ومضمونها: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، أعمالها كلّها مكتوبة على صفحة، حركاتها، نواياها، ونوازعها، ما تضمر وما تبطن، ما تسر وما تعلن، ما تقول، ما تفعل، كله تحت رقابة الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْ ۚ أَحْصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ (6)﴾
إذا بلغت هذه المرتبة فأنت مؤمن لأنّك استقمت حتماً، فإذا أحدهم أمام الناس هل يفعل فعلاً يستحي به أمام الناس بل يخجل، فإذا كنت تجلس أمام إنسان ممكن أن تضعَ يدك في أنفك؟ تخجل، فإذا كنت أمام إنسان عادي يخجل أن يفعلَ شيئاً لا يليق، فكيف إذا كنت تحت رقابة الله -عزَّ وجلَّ-؟! ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، فربّنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعْدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَٰجٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ رَّقِيبًا (52)﴾
الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى:
ما العلاقة بين المقسم عليه والمقسم به؟ كيف أنّ النجم يثقب الظلام ويكشف أسرار الليل وكذلك الله -عزَّ وجلَّ- يكشف ما كَمُنَ في هذه النفس وما أضمره الإنسان في نفسه، كما أنَّ النجم يثقب الظلام كذلك الله -عزَّ وجلَّ- يكشف خبايا النفوس، يكشف خواطرها، يكشف نوازعها، يكشف ميولها، يكشف نواياها، يكشف ما تعلن، يكشف ما تضمر ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، كأن آية ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ شملت الكون كلّه، السماء أي الفضاء، والطارق النجم، والكونُ فضاءٌ ونجوم، أشكالها وحجومها، أبعادها، قوامها، مادتها، هذا نجم غازي، هذا نجم ملتهب، هذا نجم بارد، هذا نجم صلب، هذا كبير وهذا صغير، هذا مفتت وهذا غير مفتت، هذا سرعته 30 كم في الثانية مثلاً؛ سرعة الأرض حول الشمس، والشمس 240 ألف كم في الثانية حول مركزها في المجرة، وسرعة النجوم وأحجامها وأشكالها كلُّها منطوية بكلمة ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ﴾ ، هذا الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى، إذا أردت أن تعرف طرفاً من علمه فكّر في الكون، ترى فيه علمًا هائلًا، هذه الأرض ميل محورها، ما هذا الميل؟! بدورانها تشكّل الليل والنهار، ولولا دورانها لما كان ليلٌ ولا نهار، وإذا كانت لا تدور فمعنى ذلك أن النهار ثابت والليل ثابت، وإذا النهار ثابت فالحرارة 250 فوق الصفر فهذه حياة مستحيلة، وإذا الليل ثابت فالحرارة 350 تحت الصفر، أيضاً الحياة مستحيلة، بدورانها تشكّل تنوع الليل والنهار على سطحها، لولا الهواء- الهواء جهاز تكييف- أيضاً الحرارة ترتفع إلى درجة قاتلة وتهبط إلى درجة قاتلة، أما الهواء فيعدل الحرارة، إذاً الهواء من آيات الله، والهواء ينقل الصوت والحرارة والبرودة، والهواء ينقل الضوء فيعمل انتثاراً للضوء، فالهواء له ميزات كبيرة جداً، الآن إذا كان المحور ليس مائلاً فكلّ منطقة على وجه الأرض لها فصلٌ ثابتٌ إلى أبد الآبدين، فهذه المنطقة صيف، وهذه ربيع، وهذه شتاء..، لكن بميل المحور تبدَّلت الفصول على وجه الأرض فأصبح لكلِّ منطقة في الأرض صيف وشتاء وخريف وربيع، ومن تبدُّل الفصول أمكن للنبات أن ينموَ، وأن يثمرَ وأن نأكلَ منه، لو مال المحور 90 درجة حتى أصبحَ موازياً لمستوي الدوران كأن الأرض لا تدور، فالدوران هكذا والشمس من هنا، ونصف الكرة يتمتع بأشعة الشمس دائماً، ونصفها الثاني محرومٌ من أشعة الشمس دائماً؛ آيات دقيقة جداً، ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ*وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ* ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ﴾ بقدر ما في هذه الآيات من عظمة، بقدر ما في رقابة الله علينا من حساب.
لا يستخفُّ برقابة الله -عزَّ وجلَّ- إلّا الجاهل والأحمق والغبي، نحن مراقبون من قبلِ المولى -عزَّ وجلَّ- ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، توجد آيات أخرى قال الله تعالى:
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامًا كَٰتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾
﴿وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ رَّقِيبًا﴾ هذه آية ثالثة، كلٌّ هذه المعاني تتلاقى مع هذه الآية: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ ، لذلك شخص قال لرجل عارف بالله اسمه( إبراهيم بن الأدهم)، وقد تطلبون أحيانًا (سمك سلطان إبراهيم) هذا السمك سُمّي باسم هذا الرجل الذي كان يعيش في مدينة على الساحل اسمها جبلة، رجل يسأل إبراهيم بن الأدهم –رحمه الله- عن معصية الله فقال له: " اعصِ الله ما شئت ولكن إذا عصيت الله فاحرص على ألّا تسكن أرضه، قال له: وأين أسكن إذاً؟ قال له: تسكن أرضه وتعصيه؟ قال له: هات الثانية، قال: إذا أردت أن تعصيَه فلا تأكل رزقه، قال له: وماذا آكل إذاً؟ قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه!! قال له: هات الثالثة، قال له: إذا أردت أن تعصيه فاجهد أن تعصيَه في مكانٍ لا يراك فيه، قال له: وما في الأرض من مكانٍ إلّا وهو يراني فيه! قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك! قال له: هات الرابعة، قال له: إذا أردت أن تعصيَه، وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه، قل له: لا أريد أن أموت، قال له: هذا لا يكون، قال له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك، ولا تستطيع أن تمنعَ نفسك عن ملك الموت! قال له: هات الخامسة، قال له: إذا مت وجاءك الزبانية ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم، قال له: لا أستطيع، أعاد له: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك ولا تستطيع أن تمنع نفسك عن ملك الموت ولا عن زبانية جهنم! قال له: كُفيت" ، فمن يعصي الله؟ الجاهل، لا يعصي الله إلّا إنسان ليس ما عنده معرفة بالله، أنا أضرب مثلاً دائماً: أحياناً يوجد شق بالجسر، يرى الشق مهندس فيقول لك: البناء خطر، يجب أن يُخْلى فوراً، يراه دهَّان يقول لك: هذا الشق يحتاج إلى معجون، أصلحه لك إن شاء الله، بين كلمة يحتاج إلى معجون، وبين كلمة بناء خطر يجب أن يُخْلى فوراً مسافة كبيرة، لماذا يجب أن يُخْلى فوراً؟ لأنّه صار هناك قلق من هبوط البناء، فما الذي أعلم بالهبوط؟ العلم، بقدر علمك بقدر خشيتك، وبقدر علمك بقدر خوفك من الله -عزَّ وجلَّ-، ولذلك رأس الحكمة مخافة الله، قال عليه الصلاة والسلام:
(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي ))
[ أخرجه البخاري عن أنس بن مالك ]
كم مقدار خوف المؤمن من الله؟ أكثر خلق الله خوفاً من الله رسول الله، في معركة بدر بعد أن قُتل صناديد الكفر، وكانوا في القليب، اللّهم صلِّ عليه خاطبهم قائلاً: يا فلان، يا فلان، سماهم بأسمائهم واحداً واحداً
(( أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟-إنّهم أصبحوا جيفاً أتكلِّمهم- قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا. ))
[ أخرجه مسلم عن أنس بن مالك ]
كان عند النبي -اللهم صل عليه- خادم أرسله في حاجة فأبطأ كثيراً، فقال له حينما عاد: أين كنت؟ فقال له: كنت في مكان كذا وكذا، وكان النبي غضبان، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( لولا القِصاصُ لضرَبْتُك بهذا السِّواكِ ))
[ رواه الهيثمي عن أم سلمة أم المؤمنين (إسناده جيد) ]
سمع من السيدة عائشة أنّها قالت عن أختها (ضرتها) صفية -رضي الله عنها- إنّها قصيرة، فقال:
(( لقدْ قلتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بماءِ البحْرِ لَمَزَجَتْهُ ))
[ أخرجه أبو داود واللفظ له، والترمذي عن عائشة أم المؤمنين ]
كم كان -اللهم صلِّ عليه- يراعي خاطر الناس، ما واجه أحداً بما يكره، قال: (أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي) أي لا رهبانية في الإسلام.
أحياناً يوجد هروب من الحياة، ويوجد مواجهة لمشكلاتها، الهروب ليس بطولةً، ليس بطولةً أن تجلسَ في صومعةٍ في رأس الجبل وتعبد الله، ولكن البطولة أن تعبدَه وأنت في السوق، وأنت في زحمة الحياة، وأنت تبيع وتشتري، المؤمن يألف ويؤلف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف فهذه البطولة، البطولة أن تتزوجَ وأن تأخذ بيد زوجتك إلى الله، البطولة أن تنجب أولاداً وأن تنشِّئهم في طاعة الله؛ هذه هي البطولة، فالأسلوب الأول أسلوب هروب من الحياة، ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلّا أن يتزودَ منهما معاً فإن الأولى مطيةٌ للثانية، الآخرة تحتاج لإنفاق، إذاً يجب أن تكسبَ المال من وجه حلال، والآخرة تحتاج إلى العمل الصالح، إذاً يجوز أن يكونَ تأسيس أسرة عملاً صالحاً، فالنبي الكريم -اللهم صلِّ عليه- له أحاديث كثيرة يمجِّد فيها العمل، فالإنسان إذا عمل عملاً شاقًا وحفظ ماء وجهه من السؤال فهذا العمل عبادة، يقول سيدنا عمر: إنّي أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني، ومما يروى أنّ سيدنا عمر رأى رجلاً يقرأ القرآن في النّهار فقال: إنّما أُنزِل هذا القرآن ليُعمل به، أفتخذت قراءته عملاً؟ اقرأه في الليل، والصحابة الكرام كانوا فرساناً في النّهار رهباناً في الليل، وقيمة المرء ما يحسنه، فيجب أن يكونَ لك حرفة، أو اختصاص، أو عمل تنفع به المسلمين، وأن تكونَ مع هذا العمل متقياً لله، وعالماً بأمر الله وداعيةً إلى الله، سيدنا الصديق كان بزازاً؛ كان تاجر أقمشة، وسيدنا أبو عبيدة كان جزّاراً، كان أمين هذه الأمة، إذًا ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍۢ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾
﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ(5)﴾
هنا النظر ليس نظر رؤية ولكن نظر تفكُّر، ليس الأمر الإلهي في النظر هنا نظر رؤية، العين هذه لا ترى مِمَّ خلق، ولكن الفكر يرى:
﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ(6)﴾
ما قال الله -عزَّ وجلَّ-: من ماءٍ مدفوقٍ، إذا كان مدفوقاً؛ أي بإرادتك دفقه أو عدم دفقه، لكن الدفق جاء على وزن اسم الفاعل فالماء دافق أي ليس بإرادتك أن تدفقه أو ألّا، هذا الماء أكثر من ثلاثمئة مليون حيواناً منوياً يدفق الإنسان، والبويضة تحتاج إلى حيوان منوي واحد، حكمة الله -عزَّ وجلَّ- لا حدود لها، والإنسان يخرج منه هذا الماء ما دام حياً، لكن الله لحكمةٍ بالغة أودع في مبيض المرأة عدداً محدداً من البويضات، كلّ شهر تخرج بويضة من المبيض فإذا بلغت المرأة سن اليأس معنى ذلك أنَّ البويضات انتهت، في السابع والثلاثين، أو في الثماني والثلاثين، أو في الواحدة والأربعين، أو في الثالثة والأربعين، أو أربعين، لها عدد محدود، فلو كان المبيض ينتج بويضات كما ينتج الإنسان هذا الماء ما دام حياً فمعنى ذلك أنَّ الحمل قد يكون في السبعين للمرأة أو في الثمانين، يكون عمرها خمساً وثمانين وهي في الشهر الرابع، إذ لم يعد هناك إمكانية لتربي ابنها، انظر إلى حكمة ربنا -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍ﴾ ، أما دقة الآية فليس هذا الماء الدافق هو الذي خلق الإنسان، الخالق هو المسبب؛ مسبب الأسباب، هذا الماء هو السبب ولكن ربّنا -عزَّ وجلَّ- هكذا جعل الترتيب أن هناك ذكراً وهناك أنثى، وهناك تزاوجاً، وهناك حيوانات منوية، وهناك مبيضاً، وهناك رحماً، وهناك تكوّناً، لكن ربّنا -عزَّ وجلَّ- لحكمةٍ بالغة يريد أن يقولَ لنا: أنا الخالق، وهذا آدم خلق بلا أبٍ ولا أمٍ، ولا ذكر ولا أنثى، ولا بحيوانات منوية ولا مبيض ولا رحم، إذاً استنبط العلماء أن الماء الدافق هو سببٌ لكن الخالق هو الله -عزَّ وجلَّ-، الخالق هو المسبب والماء هو السبب، والدليل أن آدم -عليه السلام- خُلق بلا أبٍ ولا أمٍ، كم حالة توجد إذا كان الإنسان يأتي من أبٍ وأمٍ؟ عندنا أربع حالات: إما أن يأتيَ من أبٍ وأمٍ شأنه كشأن ألوف الملايين من البشر، وإما أن يأتيَ بلا أب ولا أم وهو سيدنا آدم -عليه السلام-، وإما أن يأتيَ من أمٍ بلا أب كالسيد المسيح -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، وإما أن يكون أم وأب ولا تنجب هذه الأم، فالله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾
إذاً مع وجود الأب والأم قد لا يحدث الإنجاب، وأحياناً يكون ملكًا لا يترك مكاناً في العالم لكي ينجب ولداً فلا يستطيع، والطب كلُّه في خدمته، وحصل هذا، ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا﴾ بأب وأم لا يوجد إنجاب، وإنسان بلا أب ولا أم، وإنسان من أم بلا أب، وربّنا -عزَّ وجلَّ- كلَّما حدّثنا عن السيد المسيح -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة السلام- مهد لنا الحديث عن سيدنا يحيى، امرأة عاقر لا تنجب تجاوزت سن اليأس ومع ذلك أنجبت، كما يدخل إنسان من غرفة معتدلة إلى غرفة حارة ﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍ﴾ ، طبعاً حواء من سيدنا آدم.
﴿ خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ(6) يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ(7)﴾
بعض العلماء قالوا: هذا الماء الدافق مُعصَّب؛ أي مركز الإثارة العصبية من الصلب -من الظهر-، ومركز الخروج من عظمَي الحوض (الترائب)، وبعضهم فسَّر هذه الآية أنَّ البويضة تخرج من مكان قريبٍ من صدر المرأة من عظام الترائب، وأنَّ الماء يخرج تعصيباً؛ أي المؤثر العصبي من مكانٍ في الصلب- في الظهر-، فهذا الماء الدافق:
﴿ يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ(7) إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجْعِهِۦ لَقَادِرٌ(8)﴾
أي هذه العظَمَة؛ أن هذا الحيوان يوجد له رأس مكور له عنق حلزوني، له ذنَب، يتحرك فإذا وصل إلى البويضة، البويضة يوجد حولها 250 مليون حيوان، فتنتقي هذه البويضة أقوى هذه الحيوانات، فكيف تنتقي هذا الحيوان المنوي؟! ترقق الجدار الذي هو تجاهها، فيدخل الحيوان ويتخلى عن ذنبه وعن عنقه، ويحدث التلقيح، والتلقيح -كما تعلمون- هذه الخلية المذكرة، والخلية المؤنثة عبارة عن سائل اسمه هيلولة، ونواة، وبالنواة فيها المورِّثات، والمورثات 23 زوجاً تقريبًا، تحمل هذه المورِّثات 5 آلاف مليون صفة، فتجد أن هذا الابن إذا كان الأب له في أكتافه شعر كثيف فالابن كذلك، وحجم الجمجمة، شكلها، خطوطها، ملامحها، لون العينين، نوع الحاجبين، نوع الأنف، نوع الجبهة، نوع الخد، نوع الشعر، طول العنق، طول الإنسان، لون الجلد، 5 آلاف مليون صفة تحمل هذه المورِّثات، هذه المورِّثات المذكَّرة تتزاوج مع المورِّثات المؤنثة، الآن إذا كان في هذا التزاوج تباعد نَسَبي، فالأقوى يغلب الأضعف، ولو فرضنا بالخلية المذكرة الكبد قوي، وبالخلية المؤنثة الكبد ضعيف يأتي الجنين ذا كبدٍ قوي لأن الأقوى غلب، أما إذا وجد قرابة بالنسب فهذا الضعف يزداد؛ ولذلك: اغتربوا لا تضووا، لا تضعفوا فالإنسان إذا تزوج امرأة بعيدة عنه نسباً فهذا من عوامل قوة النسل، وتغلُّب الصفات القوية على الصفات الضعيفة.
ومن لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر:
﴿فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ* يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ* إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجْعِهِۦ لَقَادِرٌ﴾ الحقيقة الإيمان باليوم الآخر له علاقة بالإيمان بالله، ومن لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر؛ لأن من آمن بالله حقَّ الإيمان صدَّق ما جاء به القرآن، فهذا الخلق المعجز من الممكن أن يعيدَه الله كرةً أخرى ﴿إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجْعِهِۦ لَقَادِرٌ﴾ لكن متى:
﴿ يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ(9)﴾
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍۢ سَلِيمٍۢ(89)﴾
فالإنسان ينتبه إلى الإخلاص ﴿يَوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ﴾ ، جميع النوايا التي لا ترضي الله سوف تنكشف على حقيقتها في هذا اليوم، فالإنسان يحاول أن ينقيَ سريرته من الشرك ومن النوايا التي لا ترضي الله -عزَّ وجلَّ-
(مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ, وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ- أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ)
الملف مدقق
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.