- أسماء الله الحسنى
- /
- ٠1أسماء الله الحسنى 1996م
أيها الإخوة الأكارم: مع الدرس الخامس عشر من دروس أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم القابض الباسط.
الحقيقة أن إخوةً كثيرين جداً ممن تابوا إلى الله توبةً نصوحاً وممن اصطلحوا مع الله، دائماً يسألون هذا السؤال، فيقولون أحياناً نشعر بالسعادة والغبطة والسرور والانشراح بحيث نرى أنفسنا في الجنة وتأتي علينا ساعة أخرى فنشعر بالانقباض والضيق بحيث نتمنى الموت فما تفسير هاتين الحالتين ؟ الحقيقة إن الإجابة على هذا السؤال المتكرر الذي يعانيه كل مؤمن في هذا الدرس.
فمن أسماء الله تعالى أنه القابض والباسط و أول ملاحظة لا يجوز أن تقول إن الله قابض فقط، لأنك إذا قلت قابض فمعنى ذلك أنك تصفه بالمنع والبخل و لكن إذا قلت إنه قابض باسط، فمعنى ذلك أنك وصفته بالقدرة والحكمة، وإذا جمعت بين الاسمين فقد وصفت الله سبحانه وتعالى بالقدرة والحكمة، لأن الله عز وجل يقول:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
وهكذا إذا أردت أن تعلل، يقبض ليبسط و يضر لينفع و يمنع ليعطي ويذل ليعز، فأنت سائر في طريق الصواب.
و الشيء الثاني معنى القبض باللغة هو الأخذ ؛ والبسط هو التوسيع والنشر، وهذان الشيئان وهذان الأمران يعمَّان جميع الأشياء، فكل أمرٍ ضيقه الله عز وجل فقد قبضه، وكل أمر وسعه فقد بسطه، وإلى بعض أبواب القبض والبسط. اليمن: الرزق، قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)﴾
فلا تقل فلان ذكي وثان عنده خبرات في التجارة رائعة جداً وثالث خطط ورابع مقتدر وآخر صاحٍ، فالله عز وجل يقبض ويبسط و يرزق ويسلب ويعطي ويمنع، فإذا أراد أن يرزقك ألهمك الوسائل والأساليب والموضوعات والمواقف والتحركات المناسبة للربح، وإذا أراد أن يقبض وكنت غنياً فقد سرت في طريق الإفلاس وأنت لا تدري، وإذا أراد أن لا يرزقك لحكمة أرادها سد في وجهك كل الأبواب، إذ تكون ذكياً جداً ففي هذا العمل تسلم المحل وفي هذا العمل تفك الشراكة..
فإذا قال الله عز وجل:
﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) ﴾
أو قال الله عزَّ وجل:
﴿ االلَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾
فاعلم علم اليقين أن الله هو الرزاق، وهو الذي يسلب الرزق والعوام يقولون إذا أعطى أدهش وإذا حاسب فتش، لكن أيها الأخ الكريم إياك أن تظن أن البسط عند الله عز وجل فيه معنى الإسراف، وأن القبض فيه معنى البخل، وهذان المعنيان يجب أن لا يرِدَا عليك إطلاقاً، فإذا تحدثت عن أن الله يقبض ويبسط، فليس إذا قبض قبض بخلاً ولا إذا بسط بسط إسرافاً، بل يقبض عن حكمة و قدرة و علم و تقدير ويبسط عن إكرام وتوسعة وامتحان، فبسطه إكرام أو امتحان وقبضه معالجة أو وقاية، والدليل قول الله تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
هذا المعنى الأول متعلق بالرزق، والمعنى الثاني متعلق بالسحاب قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)﴾
هذا السحاب ينتشر في السماء كما يشاء الله عز وجل، وقد يقبضه عن قوم ويبسطه لقوم، مطرة واحدة في منطقة ثمانون مم في ليلة واحدة ومنطقة مم واحد، معنى هذا قبض عن هؤلاء وبسط لأولئك.
والمعنى الثالث، يقبض ويبسط في الأنوار والظلال، قال تعالى فيما يتحدث عن الليل والنهار:
﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)﴾
أين النهار إذا جاء الليل، وأين الإشراق والوضوح، وأين الليل إذا جاء النهار: تكون في وحشة وفي خوف وفي قلق، فتشرق الشمس فتحس بالراحة، وبالأُنس والطمأنينة، إذاً يقبض ويبسط، يقبض النور ويبسطه.
والمعنى الرابع أن الله عز وجل يقبض الأرواح، فإذا قبض روحه أماته، وإذا بسطها أي أحياه، فالأرزاق والسحب والظلال والأنوار والأرواح يقبضها ويبسطها، و المعنى الخامس الأرض أيضاً يقبضها الله عز وجل قال الله تعالى:
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾
فبسط الأرض: أنه جعل الدنيا صالحة لحياتنا، وقبضها: أي ينهي عملها ووظيفتها.
والمعنى السادس أن الله سبحانه وتعالى يأخذ الصدقات أي يقبضها لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَخَذَهَا بِيَمِينِهِ وَرَبَّاهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ فَتَرْبُو فِي يَدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ فِي كَفِّ اللَّهِ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ فَتَصَدَّقُوا ))
لكن الموضوع الحساس الذي نحتاجه جميعاً هو أن الله سبحانه وتعالى يقبض القلوب ويبسطها... والخوف والرجاء للمستقبل، فأنت دائماً تخاف من الله عز وجل أو ترجوه، و القبض والبسط للحاضر فأنت الآن في حالة قبض أم في حالة بسط ؟.. فإذا قلت لا أعرف فمعنى ذلك أنت خارج المدرسة، وخارج التعليم كله، فاسأل طالباً كم أخذت بالرياضيات، و كم أخذت باللغة العربية، فإذا قال لا أعرف فمعنى ذلك أنه خارج المدرسة كلياً، فالمؤمن الصادق بين حالتي القبض والبسط.
والحقيقة إذا قبض الله عنك الأحوال الطيبة، شعرت بالوحشة و بالضيق، وبالحرمان، و شعرت أنك مردود، ثم شعرت أنك مرفوض، ضن الله عليك بالتجلي، فقد تلوت القرآن وما شعرت بشيء وقمت إلى الصلاة وما شعرت بشيء، ثم أردت أن تذكر الله عز وجل فما شعرت بشيء، فهذه الحالة ما اسمها،إنها حالة قبض، إذ تحس أن الله عظيم وأن الله جلَّ جلاله كبير ومتعال، ومن أنت حتى يتجلّى الله عليك فالله عز وجل مربٍ، فإذا بسط الله للإنسان الأحوال والسرور والانشراح والأنس وإذا استمر هذا الحال الطيب فتراه بعد حين يقصر في عباداته ويتهاون في صلواته، ويتكاسل في أعماله الصالحة، أما حينما يأتي القبض، فيأتي مع القبض الضجر و الضيق، فتقول " يا رب لماذا أنا على هذا الحال "، فيأتي مع القبض الخوف ثم القلق.
إذاً فربنا عز وجل يعالج المؤمن، ولكن هذا الكلام أقوله للمستقيم أما غير المستقيم فتأتيه حالة انقباض لا معالجة بل نتيجة طبيعية لمعاصيه، وكل معصية معها انقباض، حتى أن علماء النفس الأجانب، قالوا: إن المنحرفين يشعرون بكآبة.
والآن يسمي علماء النفس الأمراض الشائعة الوبائية في الشباب بأمراض الكآبة وأسبابها الانحراف عن الفطرة العالية التي فطروا عليها، وكل إنسان مفطور فطرة عالية فإذا انحرف عنها وأساء وتعدى وبنى متعهُ الرخيصة على حقوق الآخرين فيشعر بالانقباض والكآبة، وهذه خارج درسنا فأنا أتحدث عن المؤمنين المستقيمين الورعين، إذ أحياناً تصيبهم حالة الانقباض، وهذه حالة نسميها علاجاً من الله عز وجل، فالله عز وجل يقلب المؤمن بين القبض والبسط، فتراه أحياناً متفائلاً، طليق اللسان واضح السرائر، بشوش الوجه، وتشعر به أنه مبسوط، و أنه سعيد، يمشي واثقاً من مشيته، ويتحدث واثقاً من حديثه، و هذه الحالة اسمها حالة البسط، فالله عز وجل تجلى على قلبه باسم الجميل، إذ جمَّله فأحس بالجمال، والسعادة.
ولكن هنا يوجد منزلق، فعندما يشعر المؤمن أنه قريب من الله ومتفوق وفالح وناجح وفائز والناس مساكين ضعيفون، ضعيفو الهمة والعزيمة، ومقصّرون، وغارقون في المعاصي، وبعيدون منقطعون ومطرودون ملعونون، وهو وحده في سعادة، وهذا الشعور بالانبساط يأتـي معه أحياناً انزلاق، وعُجب، أو كِبْر أو تعالٍ أو استطالة على الآخرين، فالعلاج حالة أخرى مضادة وهي القبض، فترا بعد أيام مستكيناً فتقول له خير فيقول الحمد لله، لقد كان يمشي قفزاً على الطريق، ويقول الحمد لله، وهو الآن متضايق، ويعرف السبب إذ لا يوجد معصية.
و الدرس موجه للمؤمنين، فإذا كان الكلام لغير المؤمنين فنقول له لمَّا عصيت الله عز وجل أشعرك بالضيق وخالفت فطرتك شعرت بالكآبة وهذا مرض، ولا يوجد إنسان يرتكب إثماً أو معصيةً إلا ويشعر أن الأرض لا تسعه على اتساعها، قال الله تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾
فهؤلاء الذين أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن لا يكلموهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظنوا ألاَّ ملجأ من الله إلا إليه فحالة القبض للعاصي والمنحرف والمقصر.
و لو فرضنا أن الوالدة الجليلة طلبت منك حاجةً في منتصف الليل " دواء " مثلاً، فقلت لها لا أستطيع فإنني أشعر بحاجة للنوم، أو ليس هناك صيدلية تفتح أبوابها، فهذا الشعور بالذنب يورث كآبة، وهذا موضوع آخر، فإذا قصّر الإنسان في أداء واجباته، أو ارتكب معصية أو إثماً أو خرج عن خط الاستقامة أو اغتاب، أو أطلق لسانه في أعراض الآخرين، أو أكل ما ليس له، أو نظر ما لا يحق له أن ينظر، فإذا وقع في معصية أو مخالفة يشعر بالقبض، وهذا القبض ليس موضوع درسنا اليوم، هذا قبض المعصية.
وأنا أقول إن الإنسان إذا أطاع الله عز وجل وشعر بأنه تفوق وفاز وأن الله يحبه وأن الله يقربه وأن الله تجلى على قلبه وأنه قد ينزلق في هذا الحال، حال البسط، فيستعلي على الناس فيعتز بنفسه، ويعجب، وعندئذ علاج هذا الانزلاق حالة مضادة هي القبض، فتراه ساكتاً، أو يتلعثم لسانه، فيشعر بضيق، إذ يقوم ليصلي فما يشعر بطمأنينة و يقرأ القرآن فما ترتاح نفسه، فهذه الحالة علاج رباني لمن أعجب بنفسه، و تاه على عباد الله، و استطال باستقامته، هذه حالة القبض.
أما البسط، فحينا يتألم ويتضايق، ويشعر بالوحشة، ويتصحر قلبه، فقد ينزلق مع القبض إلى حالة مرضية وهي اليأس، فإذا شارف اليأس جاءت حالة مضادة وهي البسط، فاعلم أيها الأخ الكريم أنك بين حالتين، القبض والبسط، لأن الله هو القابض وهو الباسط فإذا كان القبض يناسبك قبضك إذ قبض الأحوال عنك، وضيَّق عليك الدنيا و أشعرك بالسأم والضجر، وبالوحشة والبعد إذ أبى أن يتجلى على قلبك، وإذا اقتربت مع القبض إلى اليأس تجلى على قلبك فأشعرك بالقرب والأنس والسرور والانشراح، فأنت أيها المؤمن بين حالتي القبض والبسط، فما العلاج ؟ العلاج أنك إذا استحققت من الله حالة البسط، فإياك أن تنزلق منها إلى الغرور أو إلى الاستعلاء أو الإعجاب أو أن تستطيل على عباد الله.
إذاً مع البسط هناك منزلق هو الإعجاب
(( لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر ))
فما الذي هو أكبر ؟ " العجب "، وإذا أصابتك حالة القبض، فما ينبغي أن تنزلق منها إلى اليأس.
إذاً: رب العالمين هو رب النفوس إذ يربي الأجساد بإمدادها بالمواد ويربي النفوس بتقليبها من حال إلى حال، قال الله تعالى:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾
فأنت أيها المؤمن تتقلب من حال إلى حال، من حالة بسط إلى حالة قبض، وإلى بسط وإلى قبض، فأنت موضوع عناية الله عز وجل تربيته، فلذلك استسلم.
أما إذا جاءك القبض إثر معصية أو مخالفة أو عدوان أو انحراف، فهذا قبض المعصية وهذا موضوع آخر، فأية معصية وراءها إحساس بالكآبة وهذه هي الفطرة.
وربنا عز وجل لِمَ أودع فيك العقل ؟.. لتعرفه ! ولِمَ أودع فيك هذه الفطرة العالية ؟.. لتعرف خطأك.
فبالعقل تعرف ربك وبالفطرة تعرف خطأك، إذ يأتي الانقباض
((وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))
واعلم أن معك ميزاناً، إذا كذب الإنسان أو اعتدى أو خان أو نظر نظرة لا تحق له أو استطال بلسانه أو فإن يشعر بالانقباض، وهذا إذا كان فيه إحساس.
و أحياناً تنطمس الفطرة، ويتعطل الميزان، فهذا الإنسان لا يعي الخير:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ﴿ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ))
فالمعاصي تِلوَ المعاصي والمخالفات والانغماس في الدنيا والتطاول على خلق الله وترك العبادات وترك الذكر، و ينتهي بقلب مغلف:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾
إنَّ ختمُ حكمي، فإذا امتلأ القلب من حب الدنيا، فليس هناك محل لشيء آخر فيه، إذاً ختم القلب ختماً حُكمياً، فالقبض والضيق والوحشة الناتجة عن المعاصي هذه علاجها الطاعات والتوبة أما القبض الذي ليس له سبب ظاهر لمن يمشي في طريق الإيمان فهذا القبض معالجة إلهية لطيفة، وقد قال العلماء في عدة مصادر " إنه على المؤمن أن يصبر حتى تنجلي هذه الحالة بتقدير الله عز وجل ".
وهناك تعريف لطيف جداً للقابض للقشيري، يقول: " القابض الذي ملك زمام كل شيء "، ومن معاني القابض القدير، فأحياناً أنت لا تستطيع أن تدس الحزن بقلب إنسان إذا كان سعيداً، ولو كلمته لا يبالي بكلامك، لكن ربنا عز وجل قدير ومعنى قدير أنه ملك زمام كل شيء يقبض ويبسط كيف يشاء يقبض العقل فلا يفهم يقول لك ما فهمت.
دخل طالب مغرور على امتحان، وهو صديق لي، فجاء سؤال مؤتمر برلين في التاريخ، قال بقيت ساعة وأنا أفكر أين عقد هذا المؤتمر؟ وهو اسمه مؤتمر برلين عقد في برلين..!، أحياناً يرى الشيء على خلاف ما هو عليه في الامتحانات، فالإنسان إذا اعتزَّ بعقله وتاه بذكائه يرتكب حماقات يترفع عنها الحمقى، ليُرِيَهُ الله عز وجل أنه هو القابض، يقبض عنك الفهم، ويقبض العقل فلا يفهم ويقبض القلب فلا يغنم، تراه يقول: " ضاق قلبي "، هذه المشاعر ليس لها سبب واضح، فالبيت واسع والزوجة ممتازة والأولاد أصحاء والدخل يسير فلا مشكلة، ويقول:
" يضيق قلبي، وأكاد أموت ضيقاً " فتقول له قلبك بيده، القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، هو الذي يسعدك وهو الذي يقبض عنك كل سعادة. وقد ملك زمام كل شيء، إذْ يقبض العقل فلا يفهم، يقبض القلب فلا يغنم
وهناك قلب كبير، مفعم بالسعادة والرضى وبالإشراق الرباني وقلب متصحر، كالصخر لا يرحم ولا يلين ولا يتأثر ولا يبكي وإن يقبض القلب فلا يغنم ويقبض الصدر فلا يفرح، ويقبض الرزق فلا يمنح، " فيقول أرمي بالطلب يميناً فيرتد شمالاً "، وهذا أحد الشعراء المهجريين ترك لبنان إلى بلاد المهجر إلى أمريكا، فقال:
أغرب خلف الرزق وهو مشرق وأقسم لو شرقت راح يغرب
***
يعني فإذا أراد الله عز وجل ألا يرزقك لو ذهبت إلى أقصى الدنيا لو ذهبت إلى بلاد الغنى وإنك تعيش فيها فقيراً، وقد يرزقك في بلدك في أصعب الظروف، لأنه هو الرزاق، هذا هو الإيمان.
قال: ويقبض الروح فلا تفرح، فيأتي " التشاؤم والسوداوية " ويقبض النفس فلا تمرح، ولا يفرُّ من حكمه وقضائه خلق من خلقه، حكيم في فعله وتقديره، لذلك قال ربنا عزَّ وجل:
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾
كلمة متين هذه صفة الأجسام التي تتحمل قوى الشد، وأما القساوة فصفة الأجسام التي تتحمل قوى الضغط، فالماس قاسٍ أما الفولاذ المضفور فمتين، ولذلك فبعض الحبال العظيمة تحمل الجسور الكبيرة فالتل فريك مثلاً على أي شيء يُحمل ؟ على حبال من الفولاذ المضفور فالفولاذ المضفور من أمتن المعادن والماس من أقساها، وربنا عزّ وجل وصفَ كيدَهُ بأنه متين، وكأن الله عز وجل شبه كيده بحبل متين لا يمكن أن يُقطع والكافر مربوط به، ولكن هذا الحبل مرخى فالكافر يتوهم أنه طليق، فهو يتحرك ويؤذي ويتكلم ويتبجّح ويتفلسف ويتحدى ويتطاول، ويوقع الأذى بزيد وعبيد وهو يظن أنه يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير، في لحظة واحدة يشد الله الحبل فإذا هو في قبضته، وهذا الحبل لا يمكن أن يُقطع، وهذا معنى قول الله عز وجل:
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾
و معنى القابض يمكن أن يغلق عليك عقلك، وأن يجعل قلبك متصحراً وأن يصيِّر نفسك سوداوية المزاج متشائمة، وهناك حالات كآبة تدفع أصحابها إلى الانتحار، لكن المؤمن بالله عز وجل في منجىً من ذلك
رأي آخر للقشيري، قال " القبض والبسط حالان يهذب الله بهما الذاكرين "، ألم يقل النبي الكريم:
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي ))
فأحد إخواننا الكرام عنده معمل متواضع، وأخ من إخوان المسجد علم أن هذا المعمل لفلان، في اليوم التالي ذهب إليه، وهو معمل يصنع ألبسة، يبيع في الجملة خمسمائة إلى ألف اثني عشرية، وهذا الأخ دخل إلى هذا المعمل وطلب منه ست قطع فكأن هذا الطلب أهان صاحب المعمل، فقال أنا لا أبيع مفرقاً، فقال له شكراً، وانصرف خجلاً، فيقول صاحب المعمل لقد مرَّت ثلاثة وعشرون يوماً وما دخل معملي إنسان ليشتري ! أما الآن فأبيع ولو قطعة واحدة و هذا تأديب الله عز وجل ! تتكلم كلمة في غير موضعها فيحجبك عنه أسبوعاً فتغلي ضجراً فإذا كان هناك تقصير أو تجاوز، فيأتي القبض، وما القبض إلا دليل على أن الله رفضك، أي رفض عملك، ورفض التصرف، فما أقبل على قلبك و ما تجلّى عليك، وهذا لمن عنده حساسية بالغة.
وهناك ميزان تزان به السيارات، تصعد فوقه فيسجل عشرين طناً، وهذا الميزان لا يزن أوقية بن، ولا خمسةٍ غرامات ذهب ولا ماسة ثلاثين قيراطاً، وإذ وضعت عليه كيساً وزنه مائة كيلو فلا يتحرك، وهناك أشخاص عندهم ميزان غير حساس، " وهو لا يفكر بربه أبداً "، وهذا الإنسان ليس موضوع درسنا.
أما المؤمن فبعد اللطف التام والوجهة إلى الله عز وجل يملك حساسية مفرطة، فإذا شعر أن قلبه في الصلاة غير مقبل يشعر أن هناك شيئاً، فلعله قال كلمة، أو خطر في باله خاطر لا يليق، أو أساء الظن بالله عز وجل ثم لعلّهُ تكّلمَ كلمة في غير محلِها مع إنسان فانكسرَ قلبه.
ولذلك أقسم ربنا عز وجل في القرآن الكريم، بالنفس اللوامة، فهناك نفس مطمئنة: هي نفس الأتقياء الصديقين، أهل الإحسان، وهناك نفس أمارة بالسوء: هي نفس العصاة، أما نفس المؤمن فلوامة، وهي دائماً في حساب مع نفسه عسير وفي مفاجأة، لعلي تكلمت كلمة، أو منعت هذا العطاء عن فلان، أو هل تألم فلان مني ؟ فهو دائماً في حالة حساب مع نفسه شديد، وهذا معنى النفس اللوامة.
قال: القبض والبسط حالان يهذب بهما عباده الذاكرين، ويفتح بهما عليهم أبواب العلم والحكمة، فإذا هجم القبض على أحدهم فإنه يهجم على صدره من أبواب الجلال وحكمة الكبير المتعال، وتكثر الخواطر فيشتد الخوف، ويتذوق العبد جلال الله عزّ وجل، فتمنع الذات الإلهية عن العبد وتحس بالجلال، وإذا اشتد عليه هذا الحال أي لطف الله به فعند ذلك المقدار الذي يطيقه ينفرج صدره بالبسط، وإذا هجم عليه حال القبض وشعر بالخوف فالله عز وجل حكيم لا يسحقه بل يعطيه قدراً من القبض يطيقه وعندئذ يأتيه حال البسط، وهذا كلام يتوجه إلى أناس لهم خبراتهم مع الله ولهم صفاؤهم ولطفه ولهم صدقهم و حرصهم على طاعة الله بل لهم ورعهم وعندئذ يصبح قلبهم ميزاناً دقيقاً وحساساً، ونرجو من الله عز وجل أن نملك هذا الإحساس.
أما قلنا: هناك ميزان لا يتأثر ولا يتحرك ولا بمائة كيلو هذا معد ليزين حجماً كبيراً ووازناً، كسيارة شاحنة، أما وهناك ميزان، ترى عنده الصائغ يغلق المروحة أثناء وزن الذهب لأن الهواء الصادر عنها يغير كفة الميزان وهناك ميزان لو وزنت به ورقة في وزن دقيق، ثم كتب على الورقة كلمة واحدة رجحت الكفة، بوزن المداد، فكلما ارتقى المؤمن يَدِقُّ ميزانه، فقل لي ما مستوى ميزانك أقل لك من أنت.
الميزان دائماً له حس زائد ناقص درجة، ولو فرضنا عندنا ميزان حرارة غال جداً وقسنا عليه ميزان حرارة رخيصاً يفرق درجة، نقول حس هذا الميزان زائد ناقص درجة، وحس هذا الميزان زائد ناقص غراماً، فكلما اشتد الحس قلَّ الخطأ، والمؤمن كلما ارتقى أصبح عنده ميزان دقيق جداً في محاسبته نفسه، والكلمة التي أقولها دائماً، " من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة عسيراً ".
وعن موضوع القابض الباسط، فأصحاب عليهم رضوان الله قالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله هو الخالق القابض الباسط المسعر ))
والذين ضمنوا المشمش في الغوطة قدروه بسعر عشرين واشتروه بهذا السعر وباعوه بخمسٍ، والإنتاج كان غزيراً جداً، والكمية الكبيرة خفضت الأسعارفإذا قال النبي الله هو المسعر، فالكميات بيد الله. ومرةً في الجزيرة أنتج الكيس ثمانين كيس قمح، والعادة عشرة، أو خمسة عشر، وكل سنة يخرج موسم بكميات مذهلة، مرةً الزيتون ومرة البطاطا ومرة البصل و ترى الأسعار تنخفض إلى أرقام خيالية، فالله هو المسعر، والله القابض يقبض فتكون الكميات قليلة ـ فالأسعار عالية، فيبسط ـ فتكون كميات كثيرة ـ فالأسعار منخفضة، وإن الله تعالى هو الخالق القابض الباسط المسعر.
وقال بعضهم: القابض الذي يكاشفك فيقيك، والباسط الذي بجلاله يكاشفك بجماله فيبقيك، فأنت بين أن يقيك وبين أن يبقيك، وهو القابض الباسط، والقابض الذي يقبض الصدقات من أربابها فيربيها والباسط الذي يبسط النعمة وينميها ويهنيها، إذ يقبض الصدقات ويبسط النعم.
والقابض هو الذي يخوفك من فراقه، والباسط الذي يؤمنك بعفوه وإطلاقه، والإمام الغزالي يقول: " القابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم وأوتي جوامع الكلم "، فمثلاً، أنت داعية فإذا حدثت الناس عن رحمة الله و كرمه وعطائه وعفوه، وقلت لا تخافوا يا إخواني فالقضية سهلة والله غفور رحيم، ولا يسعنا إلا عفوه وكرمه، ومن نحن أمام عفو الله إذا جعل كل دعوته الجانب المشرق، ألا يكون حكيماً.
والإمام الغزالي كان يكتب كتاباً فوقفت دويدبة فانتظرها حتى شربت من مداد القلم فلما مات رآه أحد تلاميذه وقال ياسيدي ما فعل الله بك، قال رحمني الله بهذه الدويدبة التي انتظرتها حتى شربت، وكل عمله ليس له قيمه، إذ يلتبس عليك الأمر، فمثل هذا الكلام ليس فيه حكمة. فأنت ما علاقتك بالقابض الباسط ؟
تحدثنا عن الله عز وجل كيف يقبض الأرواح ويبسط الحياة ويقبض الأرزاق ويوسعها ويقبض القلوب.
والآن السؤال أنت مؤمن فما علاقتك بهذا الاسم ؟ أي إذا دعوت إلى الله عز وجل يجب أن تجري موازنة دقيقة بين أن تطمع الناس برحمة الله وبين أن تيئسهم من عقابه، فاليأس مرض والطمع مرض، فإذا ذكرت الجانب الرحماني فقط وعفوه وكرمه وتجاوزه وحلمه، ولم تذكر عذابه وعقابه وإيلامه وما عنده من عذاب مقيم فلست محسناً ولست حكيماً في ذلك، إذاً اجمع بين القبض والبسط حتى في دعوتك إلى الله عز وجل، لأن الإنسان بحسب ما تلقمه وبحسب ما تغذيه، وماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا وَلا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ))
ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خوفنا، وقال مرة:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلانَةً يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ ))
(( وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي قَالَ قَاتِلْهُ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي قَالَ فَأَنْتَ شَهِيدٌ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ هُوَ فِي النَّارِ ))
إنه أسلوب مخيف، إذ قال عن الذين ماتوا في الحرب وذلك هم في النار، قيل فقد مات في الحرب و الجهاد، قال هو في النار، كي يدعو أصحابه إلى أن يحاسبوا أنفسهم، فماذا أردتُ من هذا الجهاد، لعلي أردت سمعةً، أو جاهاً، أو غنائم، فأنت تقرأ أحاديث النبي فتعجب، فأحياناً تخاف خوفاً شديداً لسبب تافه وأحياناً تسمع النبي عليه الصلاة والسلام، يطمئنك ويبشرك ويلقي عليك من رحمة الله عز وجل الشيء الكثير.
فأنت الداعية اقتد بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهناك دعاة كل حديثهم عن جهنم و دعاة كل حديثهم عن الجنة وعن الحور العين، فهؤلاء بهذا الحديث فقد أخطأوا وهؤلاء بهذا الحديث فقد أخطأوا، وكما أن الله قابض باسط فيجب أن تكون مرةً في دعوتك تخوف عباد الله من معصيته ومرةً تحببهم في طاعته.
وإليكم دليلاً آخر، ورد في بعض الأحاديث القدسية:
(( أن سيدنا موسى قال يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك، قال يا موسى أحبُّ عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي، فقال يا رب إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى خلقك، قال يا موسى ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي))
هنا الدِقة:
(( ذكرهم بآلائي ))
بهذه الآيات الدالة على عظمتي كي يعظموني وذكرهم بنعمي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني، إذاً لا بد من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيم لله من خلال الكون، ومحبةٌ له من خلال النعم، وخوفٌ منه من خلال النقم.
و أحياناً يريك ربنا إنساناً مصاباً بمرض خبيث، أو توقف كليتين فحياته جحيم ففي كل أسبوع تُغسل فيه الكليتان مرتين فيشعر منه بانقباض شديد وهناك أمراض وأوبئة وأمراض عضالة، وفقر شديد، والله عز وجل قد يمنع حتى يندفع الفقير إلى أن ينقب في القُمامة، والله بعيني هذه رأيت أناساً كثيرين يبحثون في القمامة عن شيء يأكلونه، ألم يُقلْ: " إذا أعطى أدهش وإذا حاسب فتش ".
(( يا موسى ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي " ذكرهم بآلائي كي يعظموني، إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني ".))
وهناك حالات كثيرة، يتجاوز فيها الإنسان وحده، فيؤذي مخلوقاً من مخلوقات الله عز وجل، فربنا عز وجل يدفِّعه الثمن باهظاَ، فمن حوله يرتدعون، ويخافون، فإذاً هذا البلاء بلاء ردعي، وهذا الإكرام إكرام تشجيعي، ولكنَّ العطاء الكامل يوم القيامة، قال الله تعالى:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
أما ربنا إذا أكرم إنساناً في الدنيا فهذا إكرام تشجيعي له ولغيره وإذا عاقب إنساناً فهو عقاب ردعي له ولغيره، فإذاً يجب أن يكون في القلب حب لله عز وجل وخوف منه وتعظيم له.