- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً
وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد بينت لكم في درس سابق أننا من حيث توالي الأحداث وصلنا إلى قرب المدينة المنورة، ولكن وجدت أن هناك موضوعات كبرى في السيرة مررنا عليها مرور الكرام تتصل بواقعنا أشد الاتصال ، لذلك سأقف عندها وقفات متأنية كي نستنبط من السيرة العظات والعبر.
المقاطعة أسلوب من أساليب أهل البغي والعدوان:
اليوم الموضوع حول المقاطعة التي قاطع بها كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنوات ثلاثًا، حتى اضطروهم إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، ليست المقاطعة إذاً شيئاً جديداً، إنها أسلوب من أساليب أهل البغي والعدوان، لأن ملة الكفر واحدة، المؤمن هو المؤمن في كل زمان ومكان، والكافر هو الكافر في كل زمان ومكان.
الظروف التي سبقت المقاطعة:
أيها الإخوة، لا بد من إعطاء صورة مسبقة عن الظروف التي سبقت المقاطعة:
قريش أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من وجهائها ليعرضوا عليه كما تعلمون أجمل امرأة ليتزوجها، أو أن يكون زعيماً لهم، لا يقطعون أمراً دونه، أو ليكون أغناهم مالاً وقال قولته الشهيرة، قال هذا لعمه:
(( لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه ))
ومن الذي قاله لهم:
(( ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ـ هذا رده ـ ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابه، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليّ أصبروا لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ))
استنباطات من هذه المواقف:
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت:
إخوتنا الكرام، أخطر استنباط من هذا الموقف المشرف للنبي عليه الصلاة والسلام أنك أيها الإنسان مخير مع ملايين الموضوعات خيار قبول أو رفض، لكنك مع الإيمان مخير خيار وقت فقط
فإما أن تؤمن في الوقت المناسب، وتنتفع بإيمانك، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان ولا ينفعك هذا الإيمان شيئاً، كإيمان فرعون حينما أدركه الغرق قال:
﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾
فكان رد الله عليه:
﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾
لذلك قال الله عزوجل
﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾
أقول لكم أيها الإخوة، ما من إنسان على وجه الأرض في القارات الخمس من أيّ ملة، ونِحلة، ودين أرضي، أو سماوي، من أية طائفة، من أي مذهب، عند الموت تنكشف له الحقيقة التي جاء بها الأنبياء.
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
الإيمان عند الموت لا يقدم ولا يؤخر، ولا ينفع، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليّ أصبروا لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ))
الدنيا كلها لا ترد المؤمن عن إيمانه:
عرضوا عليه أن يسأل ربه كي يسير عنهم الجبال، هذه الجبال السوداء عرضوا عليه أن يسأل الله أن يسيرها عنهم لتغدو أرضهم منبسطة، وسألوه أيضاً أن يفجر لهم الأنهار، وأن يحي لهم الموتى فإن فعل هذا يصدقونه.
﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (93)﴾
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾
﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
(( فَإِنّي لاَ أَملِكُ لَكُمْ مِنَ الله ضَرّا وَلاَ نَفْعاً ))
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾
ضعف النبي سبيل إلى إيمان طوعي:
ما الحكمة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ضعيفاً ؟
يمر على أصحابه وهو عمار بن ياسر وهو يعذب ولا يملك أن ينجيه، يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، لو أن النبي كان قوياً كأقوياء الأرض، وأعطى إشارة أن يؤمنوا به لآمن به الملايين المملينة، لا حباً بالله، ولا رغبة في عبادته، بل آمنوا به خوفاً منه، الله عليه الصلاة والسلام يريد الإيمان الذي يأتي طواعية، يأتي مبادرة يأتي من عند الإنسان، من دون قهر، من دون ضغط، من دون إكراه، لذلك يقول الله عزوجل:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
من أساليب الكفار: أسلوب التحدي:
أو عرضوا عليه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكاً يصدقه
وأن يجعل له جنات وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة، فكان جوابه:
﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾
ثم عرضوا عليه، وقد تحدوه أن يسقط السماء عليهم كسفاً، كما يقول ويتوعد فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل، فقالوا أما علم ربك أنا سنجلس معك ؟ ونسألك ؟ ونطلب منك ؟ حتى يعلمك ما تراجعنا به ؟ وما هو صانع بنا ؟ فليفعل ربنا بنا ما يشاء، ثم هددوه أشد أنواع التهديد، وقالوا: والله لا نتركك، وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، فقام عليه الصلاة والسلام وانصرف من عندهم، أغروه أن يكون ملكاً عليهم، أغروه أن يزوجوه أجمل فتاة في قريش، أغروه أن يكون أغناهم، فكان عليه الصلاة والسلام رجل مبدأ.
من أساليب الكفار: التهديد بالقتل:
بل إن أبا جهل عزم على قتل النبي عليه الصلاة والسلام كل هذه المساومات لم تجدِ، لأن النبي صاحب مبدأ، والكلمة المشهورة:
(( والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه ))
الحلول الوسط ليست حلولاً:
ثم عرضوا عليه مساومة أخرى، يعني يا محمد اعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد.
دائماً الحلول الوسط ليست حلولاً، ولكنها تجميد المشكلة، نعبد ربك وتعبد آلهتنا فجاء الرد القاطع:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾
الحق لا يقبل المساومة، لكن المؤمن مسموح له أن يتعايش مع الطرف الآخر.
﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾
التعايش مع الطرف الآخر أمرٌ مطلوب:
إذاً التعايش مطلوب، مسموح أن تزورهم، أن تهنئ جارك غير المسلم بمولود جاءه، أن تقدم له هدية، أن تعاونه، كل هذا مسموح لك، أما أن تتخلى عن عقيدتك إرضاء له هذا غير مسموح، فالتوافق لا يكون، لكن التعايش يكون، لذلك الآن مع تنوع المذاهب والطوائف، والأديان، والاتجاهات، والملل، والنحل، يمكن التعايش، كل إنسان له مع ربه علاقة هو حر في أن يقيمها في أعلى مستوى، وينبغي أن يكون منهج الله عزوجل مطبقاً في الأرض، ومنهج الله يتسع لغير المسلمين،يتسع، بل إن صدر المؤمن واسع جداً للطرف الآخر
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أُنزل عليه من القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾
دققوا الآن:
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾
من الذين انتصروا ؟ أهل الكتاب، هناك قواسم مشتركة بيننا وبينهم، بل إن الصحابة الكرام أثبت الله لهم أنهم فرحوا بانتصار الروم على الفرس، بانتصار من يعبد الله بطريقة أو أخرى، على من يعبد النار.
إذاً هناك في الإسلام ما يسمى النسبيةَ، والدليل:
﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾
هذا موقف موضوعي، وحكم نسبي.
من أساليب الكفار: اقتراحُ تبديلِ القرآن:
ثم عرضوا عليه أن يبدل هذا القرآن الكريم، والآن يُعرض علينا أن نبدله، احذفوا لنا آيات أهل الكتاب، وآيات الجهاد، وآيات اليهود، وما من اتفاقية بين أعدائنا وبين دولة مسلمة إلا وهذه البنود الأولى لا بد من أن يبدل قرآننا، على الأقل هذه الآيات لا يمكن أن تدخل في المناهج، ولا في قراءة القرآن في الإذاعة عرضوا عليه أن يبدل قرآنه، فكان رد الله عليهم:
﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)﴾
وفي آية ثانية، ويا أيها الإخوة صدقوا أن الطرف الآخر من أول تاريخ البشر إلى نهاية الدوران، هذا همه:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)﴾
لمجرد أن تتوافق معهم، وأن تلغي بعض الأحكام، وأن تعلن أن الزنا ليس جريمة كما ضغط على بعض البلاد الإسلامية، وأن تعلن أن الربا ليس حراماً، وأن تعلن أن الاختلاط موقف حضاري:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾
هم لا يعترضون لا على صلاتك ولا على صيامك، بل يشجعونك عليها، هذا عندهم فلكلور، لكنهم يعترضون على منهجك الاقتصادي، وعلى منهجك الاجتماعي، وعلى حجاب المرأة، وعلى محاسبة السارق أشد الحساب، هم يعلقون الآمال على تبديل.
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾
هناك تطبيع علاقات، إذا بدلت هذا الذي أوحي إليك، بدلته وافتريت علينا غيره.
سقوط خطط الكفار في الهاوية:
الآن أيها الإخوة، ولكن تأكدوا أن هذه الخطة لن تنجح، هناك كتاب مقدس أعد لنا اسمه الفرقان، مؤلف من 12 جزءاً، وقد طُبع منه جزءان، وقد وزع منه في البلاد العربية على المتفوقين، من بعض آيات هذا الفرقان:
يا محمد أأنت أضللت عبادي ؟ قال: يا رب، ضللت فأضللتهم.
هذه بعض آياته، وصدقوا أيها الإخوة أن كل الذين قلدوا القرآن الكريم تقليدهم هذا لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة:
والطاحنون طحناً، والعاجنون عجناً.
في بعض مواقع المعلومات فقرات من كتاب يسمونه فرقاناً، قرأتهُ قرأته للتسلية من أجل أن تضحك، سبحانك يا رب هذا القرآن الكريم مركز في أعماقنا، وأية كلمة أخرى لا تثير فينا إلا الضحك:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾
﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)﴾
هذه محاولات أهل الكفر، من بداية البشرية وحتى نهاية البشرية.
﴿ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ ﴾
إسلام حيض ونفاس لا مشكلة ! حيض، ونفاس، ووضوء، واستنجى، واستبرأ، ليس هناك مشكلة أبداً، أما إسلام عدم اختلاط، إسلام حجاب، إسلام كسب مال حلال من دون ربا، هذا يقلقهم.
قال بعض شياطينهم نصحهم قائلاً: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ـ يعني لا في حل فيه ـ قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
سبب نزول آيات قصة أهل الكهف:
الحقيقة أيها الإخوة، الحق قوي، ولو كان أهله ضعافاً، الحق قوي، والباطل ضعيف ولو كان أهله أقوياء، لما رأوا صموده صلى الله عليه وسلم في وجه كل التحديات، ورفضه كل المغريات، وصلابته في كل مرحلة مع ما كان يتمتع به من الصدق، والعفاف، ومكارم الأخلاق، قويت شبهتهم في كونه رسولاً حقاً، فقرروا أن يتصلوا باليهود، حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وسلم، فلما نصحهم هذا الذي تكلم هذا الكلام بما سبق، كلفوه مع آخرين ليذهبوا إلى اليهود في المدينة، فأتاهم فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فإنه نبي مرسل، اليهود، لأن اليهود:
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾
فإن أجاب عن هذه الأسئلة فإنه نبي مرسل، وإلا فهو متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر، الأول ما كان من أمرهم ؟ فإن لهم حديثاً عجبا، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فلما قدم مكة قال جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قال به اليهود، فسألت قريش رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف، عن الفتية:
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
ونزل الجواب عن الروح:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)﴾
وأجابهم عن ذي القرنين الذي آتاه الله:
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)﴾
تحدوه، ساوموه، فاوضوه، تنازلوا معه قليلاً، إنه رجل مبدأ، لذلك بعد كل هذه المحاولات اليائسة قرروا مقاطعته، وقبل أن يقاطعوه عرضوا على أبي طالب أن يسلمه لهم ليقتلوه، وإلا قاطعوا بني هاشم، آخر تحدي عرضوا على أبي طالب أن يسلمه لهم ليقتلوه، ثم إن أبى أخذت قريش هذا القرار في مقاطعة محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ومن يلوذ به يعني بني هاشم.
المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية:
الآن بدأ الدرس " المقاطعة ".
ملة الكفر واحدة، الكافر هو الكافر، المؤمن هو المؤمن، اجتمعوا في خيف بني كنانة، في مكان في وادي المحصب، فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم.
والله أشد أنواع المقاطعة التي تمت على الشعب العراقي ليست كواحد بالألف من مقاطعة قريش لرسول الله.
حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، وكتبوا صحيفة فيها عهود ومواثيق ألا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، وألا تأخذهم به رأفة حتى يسلموا محمداً للقتل.
قال ابن القيم: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال كتبها النضر بن الحارث، والصحيح أن الذي كتبها بغيض ـ اسم على مسمى ـ بن عامر بن هاشم، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام فشلت يده، وعُلقت الصحيفة في جوف الكعبة.
يعني الآن لا بد من أن تجروا انتخابات، في فلسطين، أجريت، لا بد من أن تكون في إشرافنا، أوفدوا رئيس جمهورية سابق وأشرف على الانتخابات، لا بد من أن تعلنوا النتائج، أعلنوها، فلما فازت جهة لا يرضون عنها قاطعوها، والحصار الآن يشبه إلى حد ما الذي حوصر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وعُلقت الصحيفة في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم، وبنو المطلب، الآن مؤمنهم وكافرهم، إلا أبا لهب، وحُبسوا في شعب أبي طالب، وذلك فيما يقال ليلة هلال المحرم لسنة سبع من البعثة، وقد قيل غير ذلك، هذا الحصار استمر أعواماً ثلاثة، واشتد الحصار يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
قبل سنوات في أثناء في الطواف حول الكعبة كان الإنسان الضعيف العاجز يُحمل على نقالة، كنت أنظر إليه، إنسان بالثمانين كومة عظام يهز، أنا والله مع الأسف الشديد أرى المسلمين اليوم كهذا الإنسان، مستسلمين، لا يتحرك أحدهم، ولا يتكلم، ولا يبذل، ولا يقدم، هذا موقف سلبي لا يحتمل.
لذلك هذه المقاطعة تمت، لكن أصحاب النبي صمدوا، اشتد الحصار، قُطعت عنهم الميرا " القمح " حتى أكلوا أوراق الأشجار، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة، ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغ بهم الجهد مبلغه، جوع شديد، والتجئوا إلى أكل أوراق الأشجار، وإلى أكل الجلود.
أعاذنا الله وإياكم من الجوع، وعظمة من سنوات عليها أثر لا يزيد على غرامات من اللحم المقدد، هذه غنيمة كبيرة للجياع، حينما يجوع الإنسان، حبسوا أناساً في بعض البلاد الإسلامية فأكلوا جلد بعضهم بعضاً، شربوا بولهم، الإنسان فقير، فقير إلى كأس ماء.مرة قالها هارون الرشيد إلى وزيره، أو وزيره سأله: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا منع عنك ؟ قال: بنصف ملكي، قال: فإذا منع إخراجه ؟ قال: بنصف ملكي الآخر، نعم لا يعرفها إلا من فقدها، أيكون هناك كأس ماء تشربه، أيكون هناك كسرة خبز تأكلها، أيكون هناك دواء تستعمله، أيكون هناك مأوى تؤوي إليه، أيكون هناك طعام تأكله، لذلك هذه محنة ما بعدها محنة، ولكن المحنة للمؤمن وراءها منحة من الله، وأن الشِدة للمؤمن، وراءها شَدة إلى الله.
حتى كان يُسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً، تهريبًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لشراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد إلى مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم بالسلعة قيمتها حتى لا يستطيعون شراءها.
قصص من واقعنا اليومي:
كل إنسان له موقف، معهد شرعي مكانه ضيق جداً، فاشترى أرضًا، ودفع نصف ثمنها، مع ارتفاع أسعار الأراضي جاء هذا المعهد تهديد من البائع، إما أن تدفع الستين مليون في عشرة أيام أو العقد باطل، ولن تستطيع استرداد النصف الأول، هذا موقف، استغل ارتفاع الأراضي، وضع شرطا تعجيزيا في عشرة أيام، والفضل لله تأمن المبلغ، لكن يوم القيامة هذا له موقف.
موقف آخر: رجل فقير جداً يعمل مستخدما في مدرسة، راتبه أربعة آلاف عنده، 8 أولاد، ورث أرضاً من شهر، الأرض مناسبة جداً لمسجد، محسن في الميدان كبير عافه الله أراد أن ينشئ مسجداً في هذا المكان، كلف أحد إخوتنا الكرام، الأرض مناسبة جداً، موقعها مناسب، مساحتها مناسبة، شكلها الهندسي مناسب، السعر مناسب، فدعا هذا المحسن الكبير كي يطلع على الأرض، فلما أعجبته وقع سند بـ 2 مليون ليرة، نصف ثمنها، فسأل صاحب الأرض هذا المحسن متى بقية الثمن ؟ قال له: عند التنازل قال: ما التنازل ؟! قال: تذهب إلى الأوقاف، وتتنازل عن هذه الأرض، لأنها سوف تصبح مسجداً، وبعدها تأخذ بقية الثمن، قال له: هذه الأرض سوف تكون مسجداً ؟! وما الذي يمنع ؟ قال له: أنا أبيع أرضاً تكون مسجداً ؟! والله أستحي من الله، والله أنا أولى بك أن أقدمها لله منك، ومزق الشك، وقد الأرض، والآن أطول مئذنة بعد القدم هذا هو المسجد، لو وقف هذا الإنسان يوم القيامة بين يدي الله عزوجل فقير، أربعة آلاف دخله، و8 أولاد، محروم، بيت غرفتين، متداع، وجاءه أربعة ملايين، واستحى من الله أن يبيع أرضاً تغدو مسجداً، هذا إذا وقف يوم القيامة بين يدي الله، وقف الثاني معكم عشرة أيام، إما أن تدفعوا، وإما العقد باطل، ولن تستردوا قيمة النصف الأول من الأرض.
﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه ِ﴾
دُعينا مرة لافتتاح مسجد في يعفور، الذي أنشأ هذا المسجد استقبلنا جميعاً، دعا معظم علماء دمشق وألقيت كلمات، وأكرمنا إكراماً شديداً، خرجت في هذا المسجد، فإذا في الضفة الغربية على الطرف الثاني من الطريق ملهى، سمعت أن فيه كل أنواع الموبقات التي لم تؤلف في هذا البلد، وأن صاحبه ـ أستخدم هذا التعبير بالذات ـ ( فطس ) بعد سبعة أيام من افتتاحه، فجاء في خاطري أنه يوم القيامة إذا وقف هذا الذي أنشأ لله مسجداً، ووقف إلى جانبه هذا الذي أنشأ ملهاً، فرق كبير، لذلك قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
والله أيها الإخوة أن
﴿ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
أن يستوي المحسن مع المسيء، والصادق مع الكاذب، والأمين مع الخائن، هذا الاستواء لا يتناقض مع عدل الله فحسب، بل يتناقض مع وجود الله، اطمئنوا، وإذا كنت شاباً مؤمناً صادقاً مستقيماً، والله زوال الكون أهون على الله من أن تعامل مثل ما بعامل الفاسق، أبداً.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾
في الدنيا ؟
﴿ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ ﴾
الآثار القاسية للمقاطعة الظالمة:
دققوا: وحتى كان يُسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً، وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة رضي الله عنها، وقد تعرض له مرة أبو جهل، فتعلق به ليمنعه فتدخل بينهما أبو البخترة، ومكنه من حمل القمح إلى عمته خديجة، تسلل، تهريب، بصعوبة بالغة جداً
وكان أبو طالب يخاف على النبي صلى الله عليه وسلم لأن المساومة على القتل، الآن الأمر بلغ القتل، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر أبو طالب رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يضجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه، أو بني عمه، فاضطجع على فراش رسول الله، وأمره أن يأتي بعض فرشهم، إجراءات أمنية مشددة، لأنه أُريد أن يقتل.
وكان عليه الصلاة والسلام والمسلمون يخرجون في أيام الموسم فيلقون الناس، ويدعون إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتي به أبو لهب.
هذه المقاطعة، هذا الإسلام الذي وصل إليكم، بذل من أجله الغالي والرخيص والنفس والنفيس حتى وصل إلينا، لذلك حافظوا عليه.
استنباط وعبرة: حافظوا على النعم بدوام شكرها:
مر عامان أو ثلاثة والأمر على ذلك، حينما حوصر العراق التضخم النقدي صار 23 ألف ضعف، أعلى مرتب كان مرتب لواء في الجيش، أو أستاذ جامعة خمسة آلاف دينار، وكان الدينار 250 ليرة، فصار أعلى مرتب في هذا البلد يساوي طبقا من البيض فقط، الخمسة آلاف دينار ثمن طبق بيض، هذه المقاطعة، اسألوا الله السلامة، موظفون كبار أصبح دخلهم لا يساوي طبق بيض، فاضطروا أن يعملوا سائقي تكسي ، وبائعي دخان في الطريق.
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا﴾
اسألوا الله أن يحفظ علينا نعمة الأمن في هذه البلاد، أن يحفظ علينا نعمة المأوى، أن يحفظ علينا نعمة الطعام والشراب.
(( يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما نفرت عن أهل فكادت أن ترجع إليهم ))
والله في هذا المسجد جاءني رجل قال لي: الذي حصل في العراق لا يصدق، قلت: كيف ؟ قال لي: قبل أن يأتي العدو الأجنبي تغلق محلك التجاري صباحاً تجده مغلقاً، أما الآن فتجده مفتوحاً، وقد نُهب، ترسل ابنتك إلى المدرسة تعود ظهراً، الآن تُخطف، لا ماء، ماء من النهر ملوث، ولا وقود سائل، ننتظر عشر ساعات على محطة الوقود، ولا كهرباء، الهيروين يباع على الطرقات.
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾
ادعوا الله في جوف الليل أن يحفظ علينا النعم التي نعيشها.
وأخيراً مُزِّقت الصحيفة وفُكَّ الحصار:
مر عامان أو ثلاثة والأمر على ذلك، وفي شهر المحرم سنة عشر من النبوة نُقضت الصحيفة، وفك الحصار، وذلك أن قريشاً كانوا بين راضٍ بهذا الميثاق وكارهٍ له، حدث انشقاق، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها، وفي قصة نقض الصحيفة قصة طريفة:
قصة نقض الصحيفة:
كان القائم بهذا هشام بن عمر، من بني عامر بن لؤي، وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفياً بالليل بالطعام، كان يأتيهم ليلاً بالطعام، فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب.
والله، أنا لا أنسى موقف زعيم وقائد جيش غطفان في معركة الخندق الذي جاء ليحارب النبي عليه الصلاة والسلام، كان قابعاً في خيمته، اسمه نُعيم، خاطب نفسه فقال: يا نعيم، أنت عاقل، لمَ جئت إلى هنا ؟ من أجل أن تقتل هذا الرجل الصالح، ماذا فعل ؟ سفك دماً ؟ نهب مالاً ؟ انتهك عرضاً ؟ أين عقلك يا نُعيم ؟ فوقف، وتوجه إلى معسكر المسلمين، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: نعيم ؟ قال: نُعيم، قال له النبي: ما الذي أتى بك إلينا ؟ قال له: جئت مسلماً، كان قائد جيش ليحارب النبي، فصار سيدنا نُعيم بن مسعود، وأنا لا أصدق أن هذا الإنسان أجرى الله على يديه أسباب النصر في معركة الخندق، قال له: مرني ماذا أصنع ؟ قال له: أنت واحد، قال له: ماذا أصنع ؟ قال له: خذل عنا، بذكاء ما بعده ذكاء أوقع بين قريش وبني قريظة، وجاءت الريح الشديدة، وقلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم.
﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾
﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)﴾
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾
قال يا زهير، لحظة تفكير سليمة، يا زهير أترضى أن تأكل الطعام، وأن تشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم ؟ قال: ويحك فماذا أصنع، وأنا رجل واحد ؟ قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلاً، قال: من هو ؟ قال: أنا أنا ثان، قال له زهير: نريد ثالثاً، فذهب إلى مُطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم، وبني عبد المطلب، ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو ؟ قال: أنا، قال: أصبحنا ثلاثة، قال: قد فعلت، فقال زهير: نريد رابعاً، فذهب إلى أبي البختري ابن هشام، فقال له نحواً مما قال للمطعم، فقال: هل من أحد يعين على هذا ؟ قال: نعم، قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: أصبحنا خمسة، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن الأسد فكلمه، وذكر له قرابتهم، وحقهم فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم، ثم سمى له القول، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقد الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم، فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير، وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكة ؟ لا يباع، ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة للرحم الظالمة.
إذا لم يكن في الأمة من يرد الظلم فلا خير فينا، وهذا درس بليغ لنا.
قال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق الصحيفة، فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها يوم كُتبت، قال أبو البختري: صدق زمعة، ولا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كُتب فيها، وقال هشام بن عمر: نحواً من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل، أي مؤامرة، وتشوّر به بغير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم
لأن الله ـ دققوا الآن ـ
أطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، يعني حشرة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله تعالى، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً يعني ابن أخيه خلينا بينكم وبينه، سلمناكم إياه إن تقتلوه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: والله قد أنصفت، هذا خبر من السماء، أن الورقة في جوف الكعبة، مغلقة، الأرضة أكلتها، عدا اسم الله، وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل قام المُطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا بسمك اللهم، يعني باسمك اللهم نظلم.
الآن يعمل عمل خلاف الشرع، يقول: الله وفقني فيه، كيف وفقك الله فيه ؟
باسمك اللهم نظلم، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله، ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم:
﴿ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)﴾
كلّ محنة وراءها منحة:
أعرضوا عن هذه الآية، وازدادوا كفراً إلى كفرهم، الملخص أن التهديدات التي نسمعها من حين لآخر بالمقاطعة ليموت إخوتنا في فلسطين جوعاً هذه ليست جديدة على تاريخ المسلمين، ولكن الله مع عباده:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
كل محنة وراءها منحة، وكل شِدة وراءها شَدة.
﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾
﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)﴾
ثم يقول الله عزوجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾