- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إشارة القرآن إلى هجرة النبي
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ومع موضوع بدأنا به في الدرس الماضي، وهو هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب.
أيها الإخوة، أشار القرآن الكريم إلى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
حقائق مهمة لهذه الأمة
إله النبي هو إلهنا
أيها الإخوة، الحقيقة الأولى، ونحن في أمسّ الحاجة إليها أنّ إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي نصره في الهجرة هو إلهنا، وكما نصر نبيه وأصحابه الكرام يمكن أن ينصرنا.
تقديم أسباب النصر
ولكن إذا قدمنا الأسباب التي نستحق بها أن ننتصر، قال تعالى:
﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
لذلك نسال الله أن ننتصر على أنفسنا حتى ننتصر لله، حتى نستحق أن ينصرنا على أعداءنا.
هذه أول حقيقة:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾
من هو الثاني ؟ صدّيق الأمة.
" ما طلعت شمس على رجل بعد نبي خير من أبي بكر ".
هو صديق المسلمين.
(( أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر ))
(( ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك ))
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾
الله عز وجل ينتظر منا أن ننصر دينه، فإن تخاذلنا نصر هو دينه، وحرمنا هذه المرتبة العلية في نصر دينه، لذلك لا تنسوا هذه الكلمة: لا تقلقوا على هذا الدين إنه دين الله، فقد ينصره الله بالرجل الفاجر، ولكن لنقلق على أنفسنا فيما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً له، أعلى مرتبة ينالها الإنسان أن يكون جندياً للحق، وأخس مرتبة يكونها الإنسان أن يكون في خندق مناهض للحق، لعل أشقى البشر من عاندوا الرسل، أبو بكر وعمر هم في أعلى عليين، وأبو جهل وأبو لهب في أسفل سافلين، هم في مزبلة التاريخ، بين أن تكون في أعلى عليين إذا نصرت الحق وأهله، وبين أن يكون الإنسان في أسفل سافلين إذا كان في خندق معادٍ للحق.
هنا ملمح يحضرني، لماذا قال الله عز وجل في القرآن الكريم:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
هذه آية فيها تساؤل كبير من أجل امرأتين ضعيفتين.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
لو أن امرأتين انتقدتا النظام هل يعقل أن تستنفر القوى البحرية والجوية والبرية، وكل القوى ؟ مستحيل ! ما معنى الآية ؟ معنى الآية إذا كنت في خندق معادنٍ للحق فاعلم من هو الطرف الأخر، أشقى إنسان من وقف في خندق معادنٍ للحق، من أراد أن يطفئ نور الله
إخوانا الكرام، بربكم لو أن إنسانًا توجه إلى الشمس، ونفخ بفمه يريد أن يطفئ نورها بماذا نحكم على عقله ؟ بالجنون.
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾
المصائب فرزٌ ومحن ومنح
إذا كان ضوء الشمس يستحيل أن تطفئه، فهل تستطيع أن تطفي نور الله ؟ لذلك كلمة أقولها لكم لعلهم قاسية: ما ضر الصحابة نبح الكلاب، وما ضر البحر أن ألقى فيه غلام بحجر، ولو تحول الناس إلى كناسين ليثيروا الغبار على هذا الدين ما أثاروه إلا على أنفسهم، والذي حصل من تطاول على سيد الخلق وحبيب الحق فيه خير لا يعلمه إلا الله، ولكن في المستقبل، لأن كتاباً صدر مرة وصف بيوت النبي وصفاً لا يليق بمقام النبوة، (سلمان رشدي)، ثم أسلم بسبب هذا الكتاب 20 ألف بريطاني، لأنهم ما صدقوا هذا الوصف، فبحثوا عن الحقيقة فاهتدوا، وأنا أطمئنكم أن مئات من الألوف سوف يبحثون عن الحقيقة، وسوف يدخلون في دين الله أفواجاً، وأن كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
إخواننا الكرام، الشيطان الذي هو رأس الإضلال في الكون، والذي يريد دائماً أن يغوي الإنسان، وأن يدعوه إلى المعصية، وأن يصرفه عن الطاعة، لو أنه يستطيع أن يفعل ما يريد لما أمده الله إلى يوم يبعثون، ولكن لأن الله يوظف كيده للخير المطلق ما أبقاه يتوهم أنه يضل البشر، كل شيء فيه شر هو شر نسبي، موظف للخير المطلق، والشر المطلق لا وجود له في الكون،
﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
وهذه عملية فرز.
﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾
هذه عملية فرز، وحديث الإفك عملية فرز، المؤمنون الصادقون ظنوا بأنفسهم خيراً، والمنافقون فرحوا بهذه الأخبار.
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
عملية الفرز والامتحان والابتلاء مستمرة طوال الحياة، وهذا الذي حصل نوع من الابتلاء، ونوع من الامتحان، ونوع من الفرز، لذلك الإله الذي نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام موجود، وهو إلهنا، ولماذا لا ينصرنا ؟! وزوال الكون أهون عليه من ألاّ يحقق وعوده للمؤمنين.
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
ومرة ثانية: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، ولكن لابد من دفع الثمن، نحن نقرأ في التاريخ أن الفرنجة حينما احتلوا القدس ذبحوا 70 ألفاً من المسلمين، وكتّاب التاريخ يقفزون فجأة إلى أن صلاح الدين فتح القدس، ولم يسفك دماً، وكأنه فعل معجزة، وكأنه فعل أسطورة، وهذا لأن صلاح الدين الأيوبي استحق النصر بعد خمسين عاماً من إزالة المنكرات، ومن تعليم الطلاب العلم الشرعي، هناك جهود جبارة بذلها هذا القائد البطل توجت بفتح القدس، فإذا أغفلنا هذه الجهود شعرنا أننا أمام أسطورة، أو أمام معجزة، وليس هناك أساطير ولا معجزات، لا ننتصر إلا بالصلح مع الله، لا ننتصر إلا بالتوبة، ما نزل بلاء لا يرفع إلا بالتوبة.
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
سيدنا صلاح الدين حينما أخرج الغزاة من الشرق قال: لم يعودوا ما دمنا رجالاً، لكنهم عادوا، عادوا مرتين، عادوا في المرة الأولى حينما دخل قائد الجيش الفرنسي إلى مقامه، وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين، وعادوا ثانية إلى العراق، وإلى أفغانستان، ولسان حالهم يقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين.
النصر له ثمن
النصر له ثمن، ثمنه طاعة الله عز وجل، أما توقع النصر من دون طاعة فغباء وسذاجة، أما انتظار معجزة فغباء وسذاجة، أما انتظار أن يأتي شيء غير مألوف فننتصر غباء وسذاجة.
أيها الإخوة،
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
معية الله عامة وخاصة
ومعنى: إن الله معنا، ودققوا في هذا الكلام، والكلام كبير، وخطير، معية الله معيتان:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
هذه معية عامة، يعني معكم بعلمه فقط، هو مع الكافر، مع المنافق، مع الملحد مع العاصي، مع الفاسق، مع المؤمن بعلمه
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
إذا وضع إنسان في محله التجاري آلة تصوير، وهو في مكتب في الطابق الثاني، وهو يرى كل من يدخل، وكل من يخرج، هو مع كل الزبائن، يرى بعلمه فقط، لكن إذا جاءت المعية خاصة فلها معنى رائع، لها معنى نحتاجه نحن اليوم، إذا قال الله: إن الله مع المؤمنين، فإن الله معهم بالتأييد والنصر، والحفظ، والتوفيق، إن الله مع المؤمنين، المعية الخاصة لها معناً إيجابي يحتاجه المؤمن أشد الاحتياج.
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
إخوتنا الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بكل الأسباب، وأغلق كل الاحتمالات، وسد كل الثغرات، وغطى كل الحاجات، مع أنه الإنسان الأول الذي يستحق النصر، لذلك المنهج النبوي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، أخذ بالأسباب كلف من يأتيه بالأخبار، وكلف من يمحو الآثار، وكلف من يأتيه بالطعام، وكلف من يدله على الطريق، ولم يدع ثغرة إلا وغطاها، سار باتجاه الساحل، واختبأ في غار ثور ليخف الطلب، ولماذا وصلوا إليه ؟ ولماذا سمح الله لهم أن يصلوا إليه ؟ ليبين الله لنا أن اعتماد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن على الأسباب وقد أخذ بها، لكن اعتماده كان على رب الأرباب، لذلك لما وصلوا إليه، وقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله لو نظر أحدهم لموطأ قدمه لرآنا قال:
(( مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ))
إذاً: يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، إذاً إذ يقول لصاحبه وقد وصل المطاردون إلى الغار:
﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾
هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء عطاء لا يوصف، إذا أنزل الله على قلبك السكينة أنت أغنى الناس، وأنت أقوى الناس وأنت أحكم الناس، وأنت أعلم الناس، وأنت أكرم الناس، فإذا حجبها عنك وكانت الدنيا بيديك أنت أفقر الناس، وأنت أجهل الناس، وأنت أضعف الناس، وأنت أبعد الناس عن الصواب.
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾
تسكن لها، ترتاح لها، تسعد بها، ترضى بها، تطمئن بها،
﴿ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
والله عز وجل عنده جنود لا نراها.
مرة أراد أعداؤنا أن يخطفوا عدداً كبيراً جداً من المصلين ليلة القدر في جنوب لبنان، وهيئوا خطة محكمة جداً، وضعوا في طائرتين مروحيتين 125 ضابط مغوار، كل واحد كلّف تدريبه 5 ملايين، يتقن اللغة المحلية، والعامية، والسلاح الأبيض، والصراع الياباني، واستخدام أعقد الأجهزة والأسلحة، الخطة أن يخطفوا المسلمين من المساجد، ليأخذوهم رهائن يبادلون عليهم أسراهم الذين أسروا في جنوب لبنان،
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾
فوقعت الطائرة الأولى على الطائرة الثانية فوق مستعمرة في إسرائيل، ومات كل الضباط، ولم تُمْنَ إسرائيل بهزيمة بشرية في نخبة ضباطها من تاريخها منذ أن أسست وحتى الآن كهذه المأساة، لأن الله تدخل وانتهى كل شيء، اعترفوا بتسعين، ثم أوردوا البقية في حوادث طرق.
إن الله عز وجل إذا كنا معه كان معنا، وإذا اصطلحنا معه نصرنا، وإذا كنا معه كنا أقوياء، وإذا كنا أقوياء لن يستطع العدو أن يسخر من نبينا، ولا أن يدنس مصحفنا، ولا أن يستفزنا بأن تقف امرأة وتخطب في كنيسة خطبة الجمعة، وتصلي بالرجال، وعلى مرأى خمسين مندوب وكالة صحافة، هذا استفزاز للمسلمين.
الذي يحصل الآن استفزاز، أنتم ضعفاء، سندنّس مصحفكم، ونسخر من نبييكم، لو كنا أقوياء لما تجرؤوا، لو كنا مطبقين لقوله تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
لما تجرؤوا.
المعركة حياة أو موت
أيها الإخوة، معركتنا مع أعداءنا معركة حياة أو موت، معركة وجود أو لا وجود، فلا بد من أن نتعاون، وأن تصطلح، وأن نعود إلى الله.
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
يقول قائد الطائرة العليا كما هو مسجَّل في الصندوق الأسود في آخر كلمة قالها: أنا أسقط، ولا أدري لمَ أسقط، وليس ثمة سبب في الطائرة يدعو إلى السقوط، الله عز وجل عنده جنود لا يعلمها إلا هو، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ))
لكن أمته حينما تركت سنته هزمت بالرعب مسيرة عام، نخاف من أي تهديد، وننسى أن الله بيده كل شيء.
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾
أيها الإخوة الكرام،
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
أحد الجنود أن يلقي الله في قلبك الخوف، أحياناً يقلّل عدوك بك، أو التكثير، وإلقاء الرعب، وإلقاء الخوف.
التنبيه إلى معنى خطير في الآية
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
لو أن واحداً من الإخوة الكرام قرأ الآية على النحو التالي متوهماً أن الواو الثانية حرف عطف، وقال: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمةَ الله هي العليا، المعنى خطير، ولا يليق بمقام الألوهية، أيْ: جعل كلمة الذين كفروا السفلى بعد أن كانت عليا، وجعل كلمة الله العليا بعد ما كانت لا سمح الله سفلى، هذا المعنى مستحيل، انظر إلى ضمة واحدة تغيير المعنى.
إذا كان الواحد ضعيفًا في الإعراب ووقف، وتمثل بقول أحد الأصحاب الكرام:
ولست أُبالي حين أَقتُل مسلماً على أي جنب ألقى في الله مصرعي
إلى جهنم وبئس المصير، والبيت:
ولست أَبالي حين أُقتل مسلماً.
شهيد إلى جنة عرضها السماوات والأرض، بين جنة عرضها السماوات والأرض وجهنم وبئس المصير حركة واحدة، بين أن تقول: حين أَقتل مسلماً، أو حين أُقتل مسلماً فرق.
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾
الواو ليست واو عطف، هي واو استئناف، لو عددناها واو عطف كان المعنى: وجعل كلمة الله هي العليا بعد أن لم تكن عليا، هذا مستحيل، أما الواو هنا فواو استئناف:
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾
وقف:
﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
دائماً،
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
دائماً، هذا واضح.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
أيها الإخوة،
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
من أدق معاني عزيز حكيم أي أن كل الخلق يحتاجونه، بل إن كل شيء يحتاجه في كل شيء،
﴿ عَزِيزٌ ﴾
الشيء العزيز إذا احتاجه الناس، وكان نادراً، احتاجه الناس وكان نادراً، أما إذا قلت:
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾
يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويستحيل أن تحيط به،
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
إخواننا الكرام، في معامل الحديد روافع أساسها مغناطيسي، سطح حديد كبير جداً محاط بوشيعة كهربائية، فإذا وضع هذا السطح فوق عشرين طنًّا من الحديد حملها، ونقلها إلى مكان آخر، ولا يستطيع إنسان أن ينزع عن هذه الرافعة قطعة، لكن العامل الذي يدير هذه الرافعة لو ضغط على زر عشر الميلي وقطع الكهرباء كل هذا الحديد الذي تحمله الرافعة يسقط.
إنْ رأيت قوياً، متغطرساً، طاغية، لئيماً، خسيساً، معتدياً، مجرماً، سفاحاً بثانية واحدة خثرة بالدماغ ينتهي، ألم تروا ذلك ؟ بثانية واحدة انتهى، الاسم المخيف انتهى، لأن الإنسان في قبضة الله، ومعنى قوله تعالى:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ﴾
يعني أن الكافر في قبضة الله، في أي لحظة هو في قبضته، معنى:
﴿ سَبَقُوا ﴾
أي تفلتوا من عقاب الله، أو أرادوا شيئاً ما أراده الله، لذلك يقولون: خطة الكافر تستوعبها خطة الله، لهذا أي شيء وقع أراده الله، وأي أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
قد يصنع مصنع الطائرات طائرة، ويبيعها، أمر هذه الطائرة ليس بيد مدير المعمل، يقول لك بعتها، وأمرها ليس بيدي، لكن الله عز وجل يقول:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا ﴾ً
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ﴾ِ
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد سكينة، التوحيد أمن التوحيد راحة، التوحيد سعادة، التوحيد ثقة بالله، التوحيد تفاؤل، ونحن في هذه الظروف الصعبة نحتاج إلى التوحيد، نحتاج أن لا نرى مع الله أحدا.
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
أيها الإخوة الكرام، هذه آية الهجرة:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
هناك زيادة قرأتها مرة في كتاب لا أذكره، يبدو أن عين أحد المطاردين وقعت على عين الصديق، فقال: يا رسول الله، لقد رأونا، فقال: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب، ماذا فَقَد من وجدك، وماذا وجد من فَقَدك.
(( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات بين يديه، وأرسخت الهوى من تحت قدميه، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، وغافر له قبل أن يستغفرني ))
أيها الإخوة الكرام، هذا هو التوحيد:
(( أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك وملك الملوك قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع، أكفكم ملوككم ))
(( فإن صلاحهم لكم صلاح ))
آية الهجرة موضوع هذا الدرس.
وكان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين
أيها الإخوة، النصر بيد الله، وإن كنت بطلاً فحقّق شروط النصر، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
إذا كنت بطلاً تحقق شروط النصر، لأن الله سبحانه وتعالى لا يريد ألا ينصر عباده المؤمنين، ونحن في محنة، وإن شاء الله هذه المحنة تتبعها منحة، ونحن في شِدة وإن شاء الله تتبعها شَدة إلى الله، ونحن في العناية المشددة، نحن نمثل إنسان معه التهاب معدة حاد، وشفاء هذا المرض محقق، وسهل جداً، ولكن يحتاج هذا المريض إلى حمية تامة، بينما الطرف الآخر معه ورم خبيث، ولا أمل في شفائه، لو أن الطرف الآخر سأل طبيباً ماذا آكل ؟ يقول له: كل ما شئت.
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
لكن الذي معه التهاب معدة حاد، الطبيب المخلص يقيم الدنيا عليه ولا يقعدها إذا أكل أكلة تؤذي التهاب معدته، لذلك نحن في العناية المشددة، ونحمل حملاً ثقيلاً، لأن الله ينتظر منا أن نتوب إليه.
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
وفي درس قادم إن شاء الله ندخل في تفاصيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن كان الدرس الماضي كان هجرة أصحابه إلى المدينة.