- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠77ندوة : قواعد الدعوة الى الله - قناة المجد
مقدمة :
المذيع:
شيخنا الكريم أعظم وظيفة للإنسان يمكن أن يمتهنها هي وظيفة الأنبياء، وهي الدعوة إلى الله، ويقولون: كم من مريد للخير لا يوفق إليه، بعضهم يريد أن يحمل هذا الشرف العظيم وقد يغيب عنه قواعد هذه المهنة العظيمة، فأحببنا أن يكون حديثنا في هذه القهوة الصباحية الخفيفة عن شيء من القواعد التي لابد أن تكون واضحة لمن أراد أن يدعو إلى الله عز وجل، فماذا يمكن أن نقول؟
الدعوة إلى الله أعظم عمل على الإطلاق :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
الحقيقة الأولى أنه ما من عمل يرتفع ويرتفع حتى يقترب من صنعة الانبياء كالدعوة إلى الله، لأن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾
إلا أنه ما من عمل يتذبذب بين أن يكون أرقى عمل يقترب من صنعة الأنبياء وبين أن يكون أتفه عمل لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة كالدعوة إلى الله، حينما تبذل من أجلها الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، يكون هذا العمل أعظم عمل على الإطلاق، والدليل:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
أما حين ترتزق بها تضطر أن تسكت عن الحق، وأن تتملق القوي، عندئذ تسقط هذه الدعوة.
هي أرقى عمل على الإطلاق لكن أحياناً يتذبذب، يقول الامام الشافعي: "لأن أرتزق بالرقص أفضل من أرتزق بالدين"، فلذلك هذا العمل منزه عن كل مصلحة، عن كل أهداف قريبة، عن كل وسائل نفعية، هكذا ترتقي الدعوة إلى الله، سمو هدفها يبعدها عن أي علاقة أرضية.
المذيع:
شيخنا نوازع الدنيا كثيرة فكيف يمكن للإنسان أن يبني لنفسه قاعدة صلبة يرتقي بنفسه إلى السماء لا تكون أرضية، لا تكون حظوظها دنيئة؟
الدعوة إلى الله دعوتان :
الدكتور راتب:
هنا نقطة دقيقة جداً الدعوة إلى الله دعوتان؛ دعوة إلى الله خالصة و دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، الدعوة الخالصة أساسها الاتباع، أما الدعوة إلى الذات فأساسها الابتداع، تبتدع حتى تقول للناس: لا يوجد غيري، أنا الوحيد، الدعوة الخالصة أساسها الاتباع أما الدعوة إلى الذات فأساسها الابتداع، الدعوة إلى الله أساسها التعاون بين الدعاة، التعاون فضيلة، التعاون قوة ، التعاون حضارة ، التعاون احترام للآخر، أما الدعوة إلى الذات فأساسها الابتداع، تتبع وتبتدع، تتعاون وتتنافس، فالتنافس لا يليق بالدعاة إلى الله، ليس مجاله إطلاقاً، لأن باب الدعوة واسع جداً، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
لا يوجد إنسان ينافس إنساناً بالدعوة، ولحكمة بالغة بالغة الدعاة إلى الله أنا أشبههم بالفواكه، كل أنواع الفواكه طعمها حلو لكن لكل فاكهة طعماً خاصاً، لا يتناقضون لكن يتعاونون.
نعم الدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاعتراف بالآخر، أما الدعوة إلى الذات فأساسها إلغاء الآخر، الذين ابتدعوا أوهموا من حولهم أنهم منفردون بالدعوة، والذين أخلصوا اعتقدوا أن هناك دعاة آخرين مخلصين ومتفوقين وناجحين في عملهم، لا يليق بالدعاة إلى الله أن يختلفوا أو أن يتنافسوا، باب الله واسع وليس محدوداً، إلا أني أريد أن أقدم هذا المثل؛ لو تصورنا دائرة، في هذه الدائرة كل الدعاة إلى الله بالحد المعقول من أي فرع علمي، ولكن كل واحد منهم تفضل الله عليه وأكرمه بتفوق في مجال واحد، ارسم هذا التفوق مثلثاً على هذه الدائرة هذا الداعية تفوق في التفسير شيء جميل جداً، هذا الداعية الآخر تفوق في الحديث، هذا في السيرة، هذا في الفقه، هذا في البدع، هذا في التجديد، هذه المثلثات المرسومة حول الدائرة ينبغي أن تتكامل فيما بينها لا أن تتنافس، صار عندنا حد معقول من المعلومات، حد معقول جداً يمتلكه كل الدعاة إلى الله بلا استثناء، وعندنا كل داعية تفضل الله عليه ووفقه في جانب من هذه الجوانب، فهؤلاء الدعاة ينبغي أن يتعاونوا، والتعاون فضيلة، والتعاون قوة، والتعاون حضارة، ومع الأسف الشديد إن أعداء الأمة يتعاونون وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة، بينما واقع المسلمين المؤلم يتنافسون بل ويتقاتلون وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة، وإذا رمزت إلى الحق بالشمس وإلى الباطل بالظلام الدامس، فالذي يعمل في الظلام الدامس ينتصر على النائم في ضوء الشمس.
المذيع:
ممكن أن نقول إن الدعاة يتكاملون ولا يتنافسون؟
أنواع الاختلاف بين الدعاة :
الدكتور راتب:
أبداً، لا يليق بهم التنافس، كلهم على صلة بالله عز وجل، أما إن كان هناك تنافس، الآن دخلنا في موضوع ثالث، الحقيقة هناك اختلاف طبيعي، أي نحن في التاسعة والعشرين من شعبان، وسمعنا صوت مدفع، رمضان عندنا في الشام يثبت بإطلاق مدفع، فلو سمعنا صوتاً قوياً كأنه مدفع نختلف يا ترى أثبتوا رمضان أم أن هناك مشروعاً في مكان معين؟ يا ترى هذا الصوت إثبات رمضان أم تفجير بمشروع؟ هذا اسمه اختلاف طبيعي لا يمدح ولا يذم أبداً، لكن هناك اختلافاً قذراً، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
هذا اختلاف البغي والعدوان والهوى، هذا اختلاف قذر، وعندنا اختلاف محمود، اختلاف تنافس، قال الله تعالى:
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
هذا تفوق في إنفاق المال، هذا في إنفاق العلم، هذا في إحقاق الحق، هذا في الدعوة إلى الله، هذا في التفسير، هذا في الحديث، هناك تنافس تفوق و اختلاف قذر و اختلاف حيادي لا يحمد ولا يذم.
المذيع:
وهذه من طبيعة البشر وتكاملهم ...
الدكتور راتب:
اختلاف المؤمنين اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وهذا يعطي غنى للدعوة.
المذيع:
وأنت تتحدث كأنك ترسم أن الدعوة أمر يستطيعه كل إنسان، أي ليس أمراً معجزاً إذاً وليس خيالياً بل إنه مشرع للجميع لأنه من باب التكامل وليس من باب التنافس، ولو كان باب تنافس لما استطاع الضعفاء أو البسطاء أن ينافسوا العلماء الكبار، فهذا من رحمة الله بنا أنه من هذا التنوع الذي يمكن أن يقوم به الإنسان. هل يمكن أن نقول إن هناك دعاة صامتين ممكن لا يتحدثون لكنهم دعاة؟
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
الدكتور راتب:
نعم، قبل كل شيء هناك دعوة إلى الله هي فرض عين على كل مسلم، مثلاً أنا أسأل إنساناً مؤمناً: لماذا تصلي؟ يقول لي: فرض الصلاة شيء بديهي، هل تصدق أن الدعوة إلى الله فرض عين لكل مسلم لكن في حدود ما يعلم ومع من يعرف، الأدلة:
((بلغوا عني ولو آية))
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله، قال الله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
إذاً هذه الدعوة فرض عين.
أي سمعت تفسير آية من خطيب المسجد لك شركاء بالعمل، بالمحل التجاري، زملاء بالوظيفة، أقرباء بالبيت، هناك سهرة، هذا الذي سمعته وتأثرت به انقله لمن حولك، هذه الدعوة فرض عين.
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
قال العلماء: على بصيرة بالدليل والتعليل، أنا ومن اتبعني، فالذي لا يفكر أصلاً في أن يدعو إلى الله في حدود ما يعلم فقط ومع من يعرف فقط، هذه الدعوة فرض عين، سمعت تفسير آية، سمعت تفسير حديث، سمعت قصة عن صحابي تأثرت بها كثيراً، أنت في بيتك مع زوجتك، مع أولادك، مع إخوانك، في سهرة، في لقاء، في نزهة، اجعل هذا الموضوع متداولاً بين الآخرين، هي فرض عين على كل مسلم، والدليل:
((بلغوا عني ولو اية))
يوجد خطباء ناجحون في خطبهم، سمعت خطبة لخطيب انقلها إلى زوجتك، إلى بناتك في سهرة، في لقاء، في نزهة، إلى آخره.... أما الدعوة إلى الله الاحترافية التي تحتاج إلى تفرغ وتعمق وتبحر فهي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن البقية، الدليل:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
منكم من للتبعيض يدعون إلى الخير، الآية معروفة.
إذاً إما أن تكون فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل، فرض الكفاية تحتاج إلى تفرغ، إلى اختصاص، إلى تعمق، إلى تبحر، إلى قدرة على أن تجيب على أي سؤال، هؤلاء متفرغون مختصون، لذلك قال تعالى:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
أهل الذكر أهل القرآن.
المذيع:
نحن نخرج شيخنا بقواعد مشتركة بين فرض العين وفرض الكفاية حتى فرض العين هذا لابد له من قواعد، مثلاً لا يمكن أن يدعو الإنسان إلى شيء هو لا يمتثله فلابد أن يكون قدوة قبل أن يكون داعية غيره إلى الخير.
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
حاجة الدعوة إلى الله إلى إخلاص و علم :
الدكتور راتب:
هناك نقطة دقيقة أنت إذا سألت عن موضوع ما يجب أن تجيب الإجابة الكاملة، أما أن تبتدع وتتحدث عن إنفاق المال وأنت لا تنفقه فيختل التوازن، الله عز وجل يخاطب عبده معاتباً: يا عبدي أما تستحي مني؟
فالبطولة في الداعية الذي فعله يقيناً وتكلم به له تأثير كبير، موضوع التأثير شيء يحير فالإنسان أحياناً يتمتع بمعلومات دقيقة جداً ولكن لا يؤثر، قال الله تعالى:
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
بمعنى آخر هناك معونة إلهية، إذا علم الله منك الإخلاص أعانك على التأثير، هذا العمل يحتاج إلى إخلاص أولاً، وإلى علم ثانياً، مخلص لكنه جاهل، أو متكلم طليق اللسان لكنه غير مخلص يبتغي غير الله، لذلك الآية التي تذهب بالعقل أحياناً، قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾
هؤلاء لهم آلاف الصفات؛ كلهم صادقون مؤمنون مصلون صائمون أغفلها كلها و أبقى صفة واحدة الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه، فإذا خشي الداعية غير الله سكت عن الحق وتكلم بالباطل تملقاً انتهت دعوته، علماء البلاغة سموا هذه الصفة متلازمة مع الموصوف تلازماً وجودياً، فإذا ألغيت ألغي الموصوف، نقول: هذه الطائرة لا تتطير ألغي طيرانها، ألغيت الطائرة كلها لم يبق شيء، قال الله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾
لذلك القوي إذا من دعي إلى الله أخذ منه شيئاً ابتلعه بأكمله كالباخرة التي تأخذ من مياه البحر شيئاً بعد حين يبتلعها بأكملها وتنتهي الدعوة.
المذيع:
شيخنا ماذا نقصد بقولنا: الإحسان قبل البيان؟
الإحسان قبل البيان :
الدكتور راتب:
الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، يا داود بلغ عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، فأنا ماذا أقول؟ إملاء قلب من تدعوه بإحسانك ليفتح لك عقله لبيانك، أنت إذا كنت محسناً الذي أحسنت إليه سيصغي إليك لأنه أحبك، فالحب أصل في التعليم، حتى أن سقراط قبل آلاف السنين استدعى ولي أحد تلاميذه قال له: خذ ابنك عني إنه لا يحبني، إشارة من فيلسوف قديم قبل الميلاد...لابد من الحب بين المتعلم والمعلم، هذا الحب أصل في الدعوة، والحب يحتاج إلى كمال، معنى ذلك أن منطوق الدعوة إلى الله ما لم يتمثله الداعية تماماً لن ينجح في دعوته، لذلك أنا أقول: بيت الداعية جزء من الدعوة؛ بيته، عمله، سلوكه اليومي هو منضبط بمنهج الله، فإذا كان هناك شيء للاستهلاك وشيء حقيقي صار هناك انشقاق، انفصال، تناقض، تباين، تنتهي الدعوة.
عفواً أنت كمواطن مهتم بقضية صحية، تتوجه إلى أعلى طبيب يحمل أعلى شهادة في العالم، يهمك معلوماته فقط، ولا تعنى بسلوكه ولا بتدينه ولا بصلواته، ممكن تحتاج إلى طبيب، إلى مهندس، إلى كل هذه الفروع العالية إلا رجل الدين لا يمكن أن تقتنع بدعوته إن لم يطبقها، إذا انفصل التطبيق عن الدعوة انتهى الدين، وأنا أرى أن أكبر أزمة يعاني منها العالم الإسلامي هذا الانفصال بين الدعوة وبين التطبيق، فطالما هناك انفصال ينفض الناس من حولك، لا يصدق رجل الدين إذا كانت حياته الخاصة وحياته العملية مطابقة لما يقول.
المذيع:
إذاً في الأساليب التي يستخدمونها في الدعوة إلى الله يقولون: الترغيب لا الترهيب ماذا يعنون بذلك؟
الترغيب لا الترهيب :
الدكتور راتب:
والله أنا أرى بخلاف ذلك، أرى أن الدعاة سامحهم الله يتحدثون عن النار، وعن جهنم، وعن الحنش الأقرع، وعن، وعن، صار الدين مخيفاً، وهناك دعاة يسهلون، صار الدين شيئاً ليس له قيمة، لذلك هناك مثل أقوله: لو كان هناك طريق، عرضه ستون متراً، وعن يمينه واد سحيق وعن يساره واد سحيق، وأنت تركب مركبتك تمشي في الوسط، ما هي الصغيرة؟ أن تحرف المقود سنتمتراً واحداً فقط، هذا السنتمتر سهل إرجاعه بثانية، لو ثبته إلى الوادي، لو حركت هذا المقود سنتمتراً واحداً ستنتقل المركبة إلى الحرف حتى تقع في الوادي، لكن لو حركته تسعين درجة - هي الكبيرة - والطريق عريض جداً بإمكانك أن تعيده فوراً، إذاً لا صغيرة مع الإصرار، إن ثبت على الصغيرة إلى الوادي، ولا كبيرة مع الاستغفار، مهما تكون المعصية كبيرة مع التوبة تنتهي، فلا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
المذيع:
كان لكم لقاء مع الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى وهمس لكم بوصايا للدعاة ماذا تتذكر منها؟
وصايا للدعاة :
الدكتور راتب:
والله أنا سألته عن وصيته للدعاة كنت أتوقع أن يتكلم وقتاً طويلاً، تفاجئت أنه تكلم جملة واحدة، قال لي: ليحرص الداعية ألا يراه المدعو على خلاف ما يدعو إليه.
هذا التطابق بين الأقوال والأفعال أحد أكبر وسائل إقناع الناس بالدين، التطابق بين الأقوال والأفعال هو المصداقية، هو الإخلاص، فأنت حينما تقول ما تفعل وتفعل ما تقول صار هناك تطابق بين أقوالك وأفعالك، الأنبياء بماذا أثروا في الناس؟ بهذا. ما رأى الصحابة أبداً من النبي الكريم شيئاً يخالف أقواله.
أعلى درجة في الدعوة ألا يكتشف المدعو أن ما تقوله للناس لا تفعله في البيت، أن يتطابق البيت والعمل واللقاءات والحركة الحياتية اليومية مع الدعوة، معنى هذا أن هناك مصداقية كبيرة جداً.
المذيع:
بعض الدعاة ربما يرى أنه من إثبات دعوته ومصداقيته لا بد أن يعري الأمور وأن يفضح ويقولون خلاف ذلك لا بد من التربية لا التعرية ماذا يقصدون؟
التربية لا التعرية :
الدكتور راتب:
أنا لي رأي بهذا الموضوع هذا الرأي اسمه التدخل الايجابي في السوق. لو أنت تاجر، أو وزير تموين، وأنت مسؤول عن قمع الغش في البلاد، لو تدخلت تدخلاً إيجابياً أنشأت استهلاكية، بعت أفضل بضاعة بأرخص سعر، بأطيب معاملة، انجذب الناس جميعاً إليك. الغشاشون إن لم يقلدوني في ذلك لا يبيعون ولا يشترون، أنا ما عاملت أحداً بقسوة، تدخلت في السوق تدخلاً إيجابياً، أنا أرى أن الداعية وهذا أنتهجه في حياتي أعرض القرآن عرضاً جيداً عميقاً متماسكاً مع تعليل قويأ، أعرض السنّة كذلك، أنت قدم شيئاً إيجابياً، قوي ما من داع لأن تختص بمهاجمه الآخرين، والآن نحن في فتن كبيرة جداً، كل عصر له مشكلاته، الآن يوجد فتن لا تنتهي، فنحن كلما زدنا الموضوع فتنة زدناه إضراباً، أنا أتكلم بالدعوة إلى الله فقط. في الدعوة إلى الله أفضل طريقة التدخل الإيجابي فقط، قدم شيئاً ثميناً فقط، والناس يفرقون بين الغث والثمين، قدم شيئاً متماسكاً حتى أن بعض العلماء الكبار ابن تيمية يقول - أذكر لك المعنى من عندي - من دعا إلى الله بمضمون غير متماسك سطحي غير مقنع ودعا بأسلوب غير علمي وغير تربوي لا يعد المدعو إلى الله بهذه الطريقة مبلغاً.
أي إنسان يتصور هذا الإسلام يتناسب بعمقه ودقته وتماسكه وروعته مع خالقه، فإذا رأى مضموناً غير متماسك، مضموناً سطحياً، بأسلوب غير تربوي، غير نفسي، غير اجتماعي، رأى ثغرات في هذه الدعوة، هذا عند ابن تيمية لا يعد مبلغاً أصلاً بهذه الطريقة، لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، هذه الحقيقة الأولى هناك خلق معجز، فإذا جاء دين من عند الله يجب أن يكون هذا الدين بأروع شيء، الدين معجز والخالق عظيم هذا كلام خالق الأكوان، لذلك قالوا : القرآن كون ناطق والكون قرآن صامت والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .
العبادة الشعائرية لا تقطف ثمارها ما لم تصح العبادة التعاملية :
إني أُعلق على الفقرة الثالثة ما لم ير المسلمون اليوم أمامهم إنساناً - إسلاماً - يمشي، إن تكلم فهو صادق، إن عاملك فهو أمين، إن استثيرت شهوته فهو عفيف، سيدنا جعفر سأله النجاشي عن الإسلام قال: " يا أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقترف المعاصي والآثام، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافة ونسبه، إن حدث فهو صادق، إن عاملته فهو أمين، إن استثيرت شهوته فهو عفيف، وهو ذو نسب فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث - هذه العبادة التعاملية - وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار" .
كلام دقيق دقيق إن لم تصح العبادة التعاملية لا نستطيع أن نقطف ثمار العبادة الشعائرية، نحن أمام عبادتين؛ الشعائرية صوم صلاة حج زكاة نطق بالشهادة، وعندنا عبادة تعاملية صدق أمانة استقامة إلى آخره ..... العبادة الشعائرية كالصلاة والصوم والحج والزكاة لا تقبل بل ولا تقطف ثمارها أصلاً إن لم تصح العبادة التعاملية، الأدلة:
((يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامةأ يجعلها الله هباء منثوراً، قيل يا رسول الله جلهم لنا؟ قال: إنهم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))
هذه الصلاة.
الصيام:
(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))
الحج:
((من حج بمال حرام ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك ))
الزكاة:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾
الشهادة:
(( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل وما حقها؟ قال: ان تحجبه عن محارم الله ))
الشهادة والصلاة والصوم والحج والزكاة إن لم ترافقها عبادة تعاملية صدق أمانة إتقان عمل رحمة إلى آخره.... لا تقبل ثمارها، فنحن حينما فصلنا بين العبادة الشعائرية واكتفينا بها وتوهمنا أنها هي الإسلام وعتّمنا على العبادة التعاملية كل وعود الله لم تعد محققة، قال الله تعالى:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
لسنا مستخلفين، هذه الحقيقة المرة على مستوى العالم الإسلامي، ولسنا ممكنين، ولسنا آمنين، قال الله :
﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾
فإذا أخلّ الطرف الآخر بعبادته لله فالله عز وجل في حلّ من وعوده الثلاثة، لذلك القضية قضية دقيقة جداً، ما لم نرجع إلى كتاب الله وسنه نبيه، ما لم نجعل هذا الدين سلوكاً يومياً نمارسه يومياً تتوقف وعود الله لنا بالنصر.
خاتمة و توديع :
المذيع:
بالله لفظك هذا سالَ من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا ؟
***
الوقت انتهى ونحن نسبح في هذا الحديث الجميل، فتح الله عليك وجزاك الله خيراً على هذه الإضاءات الجميلة للدعاة إلى الله في طريقهم، شكراً جزيلاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.