- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠1أمهات المؤمنين
- /
- ٠05هند بنت أبي أمية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هي أم سلمة, ومتى تزوجها النبي, وكم كان عمرها, ومتى توفيت ؟
أيها الأخوة الكرام, لازلنا مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن، ولازلنا من زوجات النبي الطاهرات، واليوم مع أم المؤمنين هند بنت أبي أميَّة -أم سلمة- الطاهرة، المعمِّرة، المهاجرة، التي كانت تعدُّ من فقهاء الصحابيات .
هي أم سلمة هند بنت أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مُرَّة المخزومية, السيدة المحجَّبة الطاهرة، بنت عم خالد بن الوليد - سيف الله- وبنت عم أبي جهل بن هشام - عدو الله- وشتَّان بين الاثنين، كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلَّم عند أخيه من الرضاعة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح .
تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام سنة أربعٍ من الهجرة، وكانت من أجمل النساء، وأشرفهن نسباً، وأوفرهن عقلاً، كان عمرها قريباً من خمسٍ وثلاثين سنة، ولدت في مكة قبل البعثة بنحو سبع عشرة سنة، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، فتوفِّيت سنة إحدى وستين من الهجرة، وعاشت نحواً من تسعين سنة .
هذه حظوظ؛ إنسان يعمِّر طويلاً، إنسان يوهب جمالاً أخَّاذاً، إنسان يوهب عقلاً راجحاً، إنسان يعطى صحةً جيدةً، إنسان يعطى مالاً وفيراً, هذه حظوظ الدنيا .
ولكن قبل أن أتابع الحديث عن حظوظ الدنيا, يجب أن نعلم أن كل إنسان من دون استثناء ممتحنٌ امتحانين، ممتحنٌ فيما وهبه الله، وممتحنٌ فيما حرمه الله، وبإمكانه أن ينجح في كلا الامتحانين، ممتحن فيما أُعطيت، وممتحن فيما سُلِبَ منك .
فالمرأة التي برعت في جمالها ممتحنةٌ بجمالها، والتي نصيبها من الجمال قليل ممتحنةٌ بنصيبها القليل، والإنسان الذي أوتي مالاً وفيراً ممتحنٌ بهذا المال الوفير، والذي أوتي مالاً قليلاً ممتحنٌ بهذا المال القليل، والذي أوتي قوةً ممتحنٌ بقوته، والذي أوتي ضعفاً ممتحنٌ بضعفه، يجب أن نعلم علم اليقين أنك ممتحنٌ دائماً؛ ممتحنٌ فيما آتاك، وممتحنٌ فيما حُرمت منه.
والحياة الدنيا قصيرة، وتمضي كلمح البصر، فالذي نجح في امتحان الضعف, سعد في الجنة إلى أبد الآبدين، والذي رسب في امتحان القوة, شقي في جهنم إلى أبد الآبدين .
والمرأة التي نجحت في امتحان الدمامة, سعدت إلى أبد الآبدين، وأبدلت جمالاً أخَّاذاً، والتي رسبت في امتحان الجمال, شقيت إلى أبد الآبدين، فهذه الدنيا لا تعني شيئاً، محدودةٌ قصيرة، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، العبرة أن تنجح في الامتحان .
قد ينجح الفقير؛ فيصبر، ويتعفف، ويتجمَّل، ويشكر الله على ما قدَّر عليه، وتمضي السنوات سريعاً, وينتقل إلى الدار الآخرة، فإذا هو في جنةٍ عرضها السموات والأرض, ينعم بها إلى أبد الآبدين, والذي أوتي الملايين المُمَلْيَنة، ورسب في امتحان الغنى، تمضي السنوات سريعةً، وما هي إلا لحظاتٌ حتى يجد نفسه تحت أطباق الثرى، وقد استحق العذاب إلى أبد الآبدين .
وقد ينجح الغني في الغنى، وقد يسقط الفقير في الفقر, وقد تنجح الجميلة في الجمال، وقد تسقط الدميمة في الدمامة، وقد ينجح الذكي في الذكاء، ويسقط الغبي في الغباء، أنت ممتحنٌ مرتين؛ ممتحنٌ فيما أعطيت، وممتحنٌ فيما سًلب منك .
كان أبوها أحد أجواد العرب، وكان يلقَّب بزاد الراكب، فلا يسافر معه أحدٌ من الناس إلا كفاه مؤنته وأغناه .
أنا أريد أن أستنبط حقائق أنتفع بها: أم سلمة رضي الله عنها صحابيةٌ جليلة، وأمٌ للمؤمنين عظيمة، وزوجةٌ نفسية، عاقلةً, ذكيةٌ, جميلة، مضت إلى ربها، لها عند الله مكانة، لا يرفعها مدحنا ولا يخفضها ذمنا، ولكن نحن ما علاقتنا بهذا الكلام؟ ما نصيبنا من هذه القصَّة؟.
نصيبنا أنك ممتحنٌ مرتين، ممتحنٌ فيما أُعطيت، وممتحنٌ فيما سُلب منك، وبإمكانك أن تنجح في كلا الامتحانين، والدنيا سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، والعبرة بالجنَّة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أم سلمة كم هجرة هاجرت في سبيل الله, ولماذا هاجرت, ومن أول من هاجر إلى الحبشة من النساء ؟
أم سلمة رضي الله عنها, هاجرت في سبيل الله هجرتين، نحن عشنا في زمن المرأة لا تشارك الرجل في العمل الطيِّب، وفي الإيمان، وفي الانتماء إلى دين عظيم، وفي الدفاع عن هذا الدين، كأنها من سَقَطِ المتاع عند حال المسلمين في التخلُّف، المسلمون حينما تخلّفوا كانت المرأة من سقط المتاع، أما هي في الإسلام بطلة، هي في الإسلام مساويةٌ للرجل تماماً؛ في التكليف والتشريف والمسؤوليَّة .
فامرأةٌ تهاجر من مكة المكرَّمة إلى الحبشة، وتهاجر من مكة المكرَّمة إلى المدينة، لماذا تهاجر؟ لأنها أبت أن تخضع لضغط الكفار، هي أول من هاجر إلى الحبشة من النساء، قال تعالى :
﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
إنها امرأةٌ ذات شرفٍ في أهلها، وذات نسبٍ طيبٍ، ومنبتٍ كريم في قومها، وهي ابنة أحد كُرَماء العرب وأجودهم .
فأنا أنصح أنك إذا أقدمت على الزواج، لا ينبغي أن تخطب الفتاة, بل ينبغي أن تخطب أهلها، في أي بيتٍ نشأت؟ من الذي ربَّاها؟ ما القيَم التي استقتها حينما كانت طفلة؟ ما العلم الذي أحاط بها؟ هذا شيءٌ مهمٌ جداً .
تجود هذه المرأة العظيمة بنفسها في سبيل إيمانها وإسلامها، فتخرج مهاجرةً فراراً بدينها .
أخواننا الكرام, بحكم الحياة المعاصرة؛ الحياة سهلة، السفر سهل، طائرات، سيَّارات، قطارات، السفر متعة الآن، لكن ربما لا ننتبه إلى أن السفر قديماً كان مظنَّة هلاك، كيف إذا الإنسان دخل الحرب الآن، احتمال أن يموت بالمئة خمسين، كما يقال: يضع روحه على كفه، والسفر قديماً كان مظنة هلاك، تصور إنسان يركب ناقةً، وينطلق من المدينة المنوَّرة إلى البصرة، يبقى شهرين في الطريق وحده على الناقة، وفي الطريق قُطَّاع طُرق، وجوع شديد، وفقد الماء، ووحوش ضارية، ووحشة شديدة، السفر عند الأقدمين مظنَّة هلاك، فأجرُ المرأة حينما تسافر فراراً بدينها, حينما كان السفر مظنة هلاك, غير أجرها وقت أصبح السفر متعةً من متع الحياة، فلذلك هذه المرأة جادت بنفسها في سبيل إيمانها وإسلامها، فخرجت مهاجرة فراراً بدينها إلى الحبشة، وتتعرَّض لمشاق السفر، وكُربة الغربة.
قال ابن هشام: كان أول من خرج من المسلمين إلى الحبشة مهاجراً من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وولدت له بأرض الحبشة زينب بنت أبي سلمة .
أصغ السمع لأم سلمة وهي تروي لنا قصة هجرتها إلى الحبشة :
أم سلمة تروي حديث هجرتها إلى الحبشة, قالت: خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، ثم إنهما قدَّما هدايا إلى النجاشي فقبلها, طبعاً حينما سافرت أم سلمة إلى الحبشة مع أبي سلمة، وعلمت قريشٌ بهذه الهجرة، أرسلت من يوغر صدر النجاشي على هؤلاء المهاجرين، فقالوا:
((أيها الملك, إنه قد ضوى إلى بلدك غلمانٌ سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك, فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم, لتردَّهم إليهم، فهم أبصر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه .
قالت: ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فدعاهم، فلما جاؤوا قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحدٍ من هذه المِلَل؟ -هؤلاء الرجلان؛ أحدهما عمرو بن العاص، وكان من دهاة العرب- .
قالت أم سلمة: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه .
-الإنسان إذا كان إيمانه قوياً, يؤتى طلاقة لسان، يؤتى فصاحةً، يؤتى قوة حجةٍ، يؤتى موقفاً متماسكاً، هذا من بركات الإيمان، والإنسان حينما تنحرف خطواته نحو الشهوات؛ تضعف شخصيته، وينهار من الداخل، ويسقط في يده- .
فسيدنا جعفر بن أبي طالب قال: أيها الملك, كنا قوماً أهل جاهليَّة؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده, ونوحِّده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده، وأن لا نشرك به شيئاً, فعدى علينا قومنا فعذَّبونا، وفتنونا عن ديننا، وقهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، فخرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظْلَم عندك، كلامٌ ما بعده كلام .
قال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ .
قال جعفر: نعم .
قال: فاقرأه علي .
قالت: فقرأ عليه صدراً من سورة مريم .
قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلَّ لحيته، وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون، -هكذا تروي أم سلمة رضي الله عنها حديث الحبشة الطويل، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند، وهو موجود بشكل مطوَّل في كتب السيرة- .
ثم عادا إليه في اليوم التالي وقالا له: إنهما يقولان في عيسى بن مريم كلاماً تنكره, ثم استدعاهم مرة ثانية، وقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ تلا عليه الآيات الكريمة، فسُرَّ النجاشي .
ثم إن المهاجرين إلى الحبشة, بلغهم أن أهل مكة أسلموا جميعاً, -خبر غير صحيح- حتى أقبلوا فرحين مسرورين، تركوا الحبشة، وعادوا إلى مكة بناءً على هذا الخبر السار، فلما دنوا من مكة, بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة, كان باطلاً لا أساس له، فلم يدخل منهم أحدٌ مكة إلا بجوار مشرك، أو مُسْتَخْفٍ عن أعين المشركين .
وتعود أم سلمة رضي الله عنها مع زوجها إلى مكة مستخفيةً عن أنظار الظالمين، وتمضي معه فيها أيام الصبر، والمصابرة في سبيل الله))
فأحياناً الإنسان قد يعاني بعض المتاعب بسبب إيمانه، قد يعاني بعض المتاعب بسبب إسلامه، قد يعاني بعض المتاعب بسبب استقامته، قد يعاني بعض المتاعب بسبب ورعه، هناك من يعجب فيقول: هو أطاع الله، فلماذا عانى من هذه المتاعب؟ ما الجواب؟ .
كان يبيع الخمر، فترك بيع الخمر، فانخفض الدخل إلى الرُبع، لماذا هكذا؟ الإنسان يتوهَّم أحياناً أنه حينما ترك بيع الخمر تضاعفت غلَّته، لو أنه وقف هذا الموقف الصُلب، قوَّاه الله عزَّ وجل، فلماذا يفعل الله بعباده المؤمنين الذين آثروا طاعته، وآثروا رضوانه، لماذا يعذَّبون أحياناً؟ لماذا يتحملون الشدائد أحياناً؟ .
الجواب بسيط جداً: نحن في زمن ابتلاء، الله جل جلاله يريد أن يجعلنا ندفع ثمن طاعته؛ ليكون هذا الثمن وسام شرفٍ لنا يوم القيامة، كان من الممكن إنسان يبيع الخمر، فلما تاب عن بيع الخمر، في اليوم نفسه تُضَاعف غلَّته، عندئذٍ لم يدفع ثمن هذه الطاعة، ولا شعر بلذَّتها، ولا شعر أنه آثر طاعة الله عزَّ وجل، ولا شعر أنه آثر رضوان الله عزَّ وجل، لكن بعد حين, يفتح الله له من الخير ما شاء، لا بدَّ من فترة تدفع ثمن طاعتك .
فتصور أصحاب النبي عليهم رضوان الله عليهم، جاؤوا إلى الحياة الدنيا، رأوا رسول الله فآمنوا به، والله عزَّ وجل قادر على أن يجعل كل أعداء هذا الدين في قارة ثانية، كل أعداء الدين حصراً؛ أبو جهل، أبو لهب، كل إنسان يعارض هذا الدين وُلِدَ في أمريكا، في العالَم الجديد، والنبي نشأ، جاءته الرسالة، حوله أصحابه، آمنوا به وأحبوه، لا معارك، ولا مشكلات، ولا هجرة، ولا شيء، فأين ثمن الجنة؟ .
أنا تأكيدي على هذه النقطة: حينما تعاني بعض المتاعب لأنك مستقيم، حينما ترفض هذا العمل، وهذا العمل، وهذا العمل، أعمال فيها شبهات، فيها دخل حرام، وربما لا تجد عملاً ، ولا تجد في جيبك درهماً واحداً، ما الحكمة من ذلك؟ أقول لك: هذا امتحان لا يطول، لكن لا بدَّ منه، هذا امتحانٌ من أجل أن تدفع ثمن طاعتك، هذه الضائقة الماديَّة التي تعاني منها, لأنك رفضت كل هذه الدخول المشبوهة، هذا وسام شرفٍ لك يوم القيامة، بها تدخل الجنة، بها تستحق الجنة، فأنت لا تمنع نفسك من أن تنال وسام شرف طاعة الله عزَّ وجل .
أحياناً الإنسان يطيع الله عزَّ وجل وكل من حوله يهزؤون منه، يصبح أضحوكة، يعلِّقون عليه تعليقات سخيفة، يغضّون من شأنه، يطعنون بعقله, لأنه أطاع الله عزَّ وجل، وقد يبلغه ذلك، وقد يتألَّم أشد الألم، لماذا سمح الله لهم أن يفعلوا هذا معه؟ هو الله جل جلاله يحمله على أن يدفع ثمن طاعته، إذا دفع ثمن طاعته، كانت سبب دخوله الجنة، ووسام شرفٍ له يوم القيامة .
أردت من هذا التعليق أن نفهم, لماذا عانى أصحاب النبي ما عانوا؟ الآن إذا واحد من أخواننا الحاضرين درس، وعانى من الدراسة ما عانى، وسهر إلى أنصاف الليالي، ونام على الكتاب، وراجع الكُتب، ولخَّص الكتب، وذاكر أصدقاءه بالكتب، ودخل امتحانات صعبة، ومرَّة نجح، ومرَّة ما نجح، إلى أن نال أعلى شهادة، لأنه بذل فيها جهداً كبيراً، ووقتاً مديداً، وعرقاً مُتَصبباً، يسعد بهذه الشهادة إلى آخر حياته، ويقول مترنِّماً: هذه الشهادة ما أخذتها إلا بشق الأنفس، وما نلت هذه الدرجة العلميَّة, إلا بعد جهدٍ جهيد، وكدٍ مضني، يسعد .
لو أعطوه شهادة فخريَّة مثلاً، لو أعطي الأسئلة، ونال درجاتٍ عالية، ولم يبذل جهداً إطلاقاً، والله هو أول من يحتقر نفسه، فكلَّما سمعت، أو قرأت، أو شاهدت، أو عاينت أن إنساناً, لأنه أطاع الله, يعاني من أزمة مالية، لأنه أطاع الله, يعاني من أزمة اجتماعيَّة، لأنه أطاع الله, يعاني أزمة نفسيَّة، لأنه أطاع الله, ضاقت به السُبُل، هو الله جلَّ جلاله, يحمله على دفع ثمن الجنة بهذه الطريقة، بعد حين يفرِّج عنه .
لو أن أحدكم قال لي: هذا الكلام ما دليله في القرآن؟ الجواب أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾
حينما مُنِعَ المشركون أن يدخلوا مكة المكرَّمة، بارت تجارة مكة، ولم يعد هناك سياحة، وقلَّ كثيراً رواج البضاعة, قال تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾
معنى هذا؛ أنه لا بدَّ أن يحمل الله هؤلاء الذين نفَّذوا أمر الله على دفع ثمن طاعتهم، لكن إلى حين, قال تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
فإذا جاءتك متاعب بسبب استقامتك، بسبب طاعتك، بسبب اتجاهك الصحيح، بسبب وضوحك، بسبب تمسُّكك بالقيَم الصحيحة، بسبب خوفك من الله، إذا ركلت بقدمك الثروة الطائلة، والمكانة العليَّة، والأشياء الثمينة ورعاً وخوفاً، فهذا وسام شرفٍ تضعه على صدرك يوم القيامة، هذا تفسير ما عانى منه الصحابة الكرام في عهد رسول الله، وبعد عهد رسول الله ، هؤلاء الصحابة الكرام حملوا الإسلام، ونحن الإسلام يحملنا.
هذه قصة أم سلمة في هجرتها إلى الحبشة .
قصة هجرتها إلى المدينة :
أيها الأخوة, أما هجرتها إلى المدينة فشيءٌ لا يصدَّق، تقول أم سلمة:
((لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة, رحَّل بعيراً له، وحملني، وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجالٌ من بني المغيرة قاموا إليه, فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها, -بنو المغيرة من؟ قوم أم سلمة- أرأيت صاحبتنا هذه لا نتركك تسير بها في البلاد, -ممنوعة من المغادرة- ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد, -من هم بنو عبد الأسد؟ قومه- وأهووا إلى سلمة, أخذوا سلمة, وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها, ما دمتم قد أخذتم هذه المرأة من زوجها, ومعها ابنها، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق بنو عبد الأسد, ورهط أبي سلمة، وحبسني بني المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، ففرِّق بيني وبين زوجي وابني, فكنت أخرج كل غداةٍ, أجلس بالأبطح, فما أزال أبكي حتى أمسي، سبعاً أو قريبها, حتى مرَّ بي رجل من بني عمي، فرأى ما في وجهي من البكاء ، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة, فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ابنها؟ فقالا: الحقِي بزوجك إن شئتِ, وردَّ عليَّ بنو عبد الأسد عند ذلك, -أي أعطوها ابنها-, فرحَّلت بعيري .
-امرأة وحدها تركب بعيراً، ومعها ابنها، تنطلق من مكة إلى المدينة، الآن خمس ساعات، أما وقتها اثنا عشر يوماً، ليلا ونهارًا، وفي الصحراء، والذي ذهب من مكة إلى المدينة بالسيارة, يعرف ما معنى أن تمشي امرأةٌ وحدها على بعير أربعمئة وثمانين كيلو متر تقريباً؟- .
فرحَّلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي من أحدٍ من خَلق الله، فكنت أبلُغ من لقيت، حتى إذا كنت بالتنعيم, لقيت عثمان بن طلحة، أخا بني عبد الدار, فقال: أين ذاهبةٌ يا بنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معكِ أحد؟ فقلت: لا والله إلا الله، وابني هذا .
-انظر الشوق إلى رسول الله، الحقيقة الخروج غير مشروع، بالأحكام الفقهيَّة غير مشروع، لكن هذا الأمر في بداية الإسلام، امرأةٌ آمنت برسول الله، والنبي في المدينة، وأصحابه في المدينة، وزوجها في المدينة، فأرادت أن تخاطر- .
فقال: والله ما لكِ من منزلٍ, فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب أراه أكرم منه .
-الآن دقق في قول النبي الكريم:
((خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا))
خاطب النبي رجلاً قال له:
((أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ))
إذا نزل المنزل أناخ بي، ثم تنحَّى إلى شجرةٍ بعيدة، فاضطَجع تحتها، فإذا دنا الرواح, قام إلى بعيري, فقدَّمه إلي ورحَّله، ثم استأخر بعيداً كي أركبه، فإذا ركبت، واستويت على بعيري, أتى فأخذ بخطامه, فقادني حتى نزلت .
قالت: فلم يزل يصنع بي ذلك, حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قريةٍ .
-أحياناً في بعض الزيارات إلى المدينة, نركب السيارة، ويؤشِّر عدَّادها إلى مئةٍ وخمسين، أو إلى مئةٍ وثمانين، ونقول: ما أطول هذا الطريق؟ ساعاتٌ كثيرة، أما إذا سرنا على سرعة مئة، لا بدَّ من ست ساعات كي تصل إليها، وقد تجد هذه الساعات الست, تعني ستة شهور، فكيف بامرأةٍ تركب بعيرها، وتسير من مكة إلى المدينة، مسافة قريباً من خمسمئة كيلو متر؟- .
فلم يزل يصنع بي هذا, حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عبد عوف بقباء قال: إن زوجكِ في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلاً بها .
فيستقبل أبو سلمة أم سلمة وابنها معه بكل بهجةٍ وسرور، وتلتقي الأسرة المهاجرة بعد تفرُّق وتشتُّت وأهوال، ويلتئم شمل أسرة أبي سلمة في المدينة بكل طمأنينةٍ وأمان، وتحيا فيها الحياة الطيبة المباركة كأعز أسرةٍ وأكرمها)).
إليكم قصة وفاة أبي سلمة, والحديث الذي جرى بينه وبين زوجه في اللحظات الأخيرة من حياته :
أيها الأخوة, ولما استقرَّت أسرة أبو سلمة في المدينة, عكفت زوجته على رعاية صغارها وتربيتهم ، وتفرَّغ أبو سلمة للدعوة إلى الله تعالى في المدينة، وللجهاد مع رسول الله, دفاعاً عن هذا الدين العظيم .
وعندما خرج النبي الكريم في غزوة ذي العشيرة، وهي الغزوة التي وادع فيها بني مُدلج، اختار عليه الصلاة والسلام من بين أصحابه أبا سلمة, فاستعمله على المدينة, وشهد أبو سلمة غزوة بدرٍ، وكان أحد جند الإسلام الأولين كما كان في مكة أحد السابقين، وينال بهذا شرفاً على شرف، ثم يشهد أُحُدًا، ويبلي فيه بلاءً عظيماً، إلى أن رمي بسهمٍ في عضده، مكث بعد ذلك يداويه, حتى ظنَّ أنه قد التأم، وبرئ من جرحه .
ثم إنَّه نفَّذ أمراً للنبي عليه الصلاة والسلام، فأرسله النبي على رأس سريةٍ، فأحاط بهم في إسفار الفجر على غير أُهْبَةٍ منهم لتوقّع هجومٍ، وقاد معركةً ظافرةً، ثم قفل راجعاً إلى المدينة, يصحبه النصر ورايات بهجته، والغنائم التي ظفر بها، وقد أعاد بعض ما فات على المسلمين يوم أُحد، ما فاتهم من هيبةٍ ورهبة .
رجع أبو سلمة إلى المدينة، انفض جرحه الذي أصابه إلى أحد، فأخلد إلى فراشه, تمرِّضه أم سلمة، إلى أن حضره الأجل، فدعت له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فجاءه وهو على فراش الموت، وبقي إلى جانبه, يدعو له الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء على ما أبلى في سبيله، ويمضي أبو سلمة إلى جوار الله عزَّ وجل، وقلبه يخفق بدعواتٍ إلى الله، بأن يخلِف عنه في أهله خيراً، فقد قال عند وفاته:
((اللهمَّ اخلفن في أهلي بخير))
روى ابن سعدٍ عن أم سلمة أنها قالت لأبي سلمة:
((بلغني أنه ليس امرأةٌ يموت زوجها, وهو من أهل الجنة، ثم لم تتزوج, إلا جمع الله بينهما في الجنة, فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي, وألا أتزوج بعدك, فقال: أتطيعينني؟ قالت: نعم, قال: إذا متُّ تزوجي، اللهمَّ ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يحزنها ولا يؤذيها))
في تعليق لطيف لمؤلِّف الكتاب، يقول: من هذه المحاورة التي جرت بين الزوجين, تستخلص إدراكين مختلفين كل الاختلاف من حيث المضمون، ومتفقين معاً من حيث الهدف، أما الاختلاف, فإن الأول يتَّجه نحو التيتُّم على الزوج الراحل، والترمُّل من بعده أمد الحياة، وأن الثاني يتجه نحو محو الآثار بعد انقضاء العدَّة, بالزواج من رجل, يأمل أن يكون خيراً منه .
الزوج الصالح يرى أن سعادته تتحقَّق في هناءة زوجته في دنياه، وبعد مماته، فإن كان هناؤها يتحقَّق بالزواج برجلٍ صالحٍ بعده فذلك غايته، وهذا ما كان يأمله أبو سلمة, أن تحيا من بعده حياةً طيبةً كريمة، وقد حقَّق الله تعالى له أمله، ما الذي حصل؟ .
قالت: فلما مات, قلت: من خيرٌ من أبي سلمة؟ لا أحد، فزوجها في نظرها أعلى رجل ، أبو سلمة كان بطل، النبي ولاه على المدينة، رسول الله يوليه على المدينة في غيبته، أي أنه نائب رسول الله، قال لها: تزوجي بعدي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها، ولا يؤذيها, هو أراد لها الهناء، وهي أرادت له الوفاء، أرأيتم إلى هذا؟! .
لي صديق زار شخص معه مرض في قلبه، الرجل اشترى بيت وزيَّنه، واعتنى فيه عناية كبيرة جداً، إلى درجة أنه أصبح ملفِت النظر، فلما شعر أنه على وشك الموت، وأن هذه الزوجة ربما بعد أن يموت تتزوج رجلاً، فيأتي هذا الرجل ليستمتع بهذا البيت الفخم الجميل دون أن يبذل جهداً في تحصيله، فبثَّ شكواه إلى صديقه، قال له: أخشى ما أخشاه أنني إذا مت أن هذه المرأة, وقد سبَّها, أن تتزوج من بعدي، فيأتي رجل غريب ينعم بهذا البيت، هو في حال، وهي في حال .
هذا زواج أهل الدنيا؛ زواج دناءة، زواج حسد، زواج بغضاء، زواج أثرة لا مؤاثرة ؛ أما هذا الزواج, فهي تعاهده على ألا تتزوج من بعده، وهو يقول لها: تزوجي بعدي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني .
إلى درس آخر إن شاء الله :
أيها الأخوة, فما لبثت أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فذكر الخطبة إلى ابنها، فقالت:
((أردُّ على رسول الله، أو أتقدم عليه بعيالي، وكانت ذات أولادٍ من أبي سلمة))
فهذه قصة إن شاء الله نرجئها إلى درسٍ قادم؛ كيف تمَّ الزواج بينها وبين النبي عليه الصلاة والسلام, وهي من أعقل زوجات النبي، وقد أشارت عليه يوم الحديبية إشارةً استجاب لها النبي، وقد وقف النبي موقفاً كاملاً حينما أصغى إلى نصيحة زوجته، قال تعالى:
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾
فهذا الذي يستشير زوجته أحياناً، يجد منها بعض الآراء الصائبة، أنت لست ملزم أن تطبِّق رأيها دائماً، أما إذا سألتها قد تجد في رأيها صواباً أحياناً، لا تكن متعنِّتاً، هذا الذي قال: خالفهن دائماً، هذا كلام غير صحيح، ولا أصل له .
فالنبي استجاب لنصيحة أم سلمة يوم الحديبية، ولنا مع هذه الصحابية الجليلة التي هي أم المؤمنين، وهي من أعقل نساء النبي، ومن أكثرهن فقهاً، ومن أقربهن إلى نفس النبي، لنا متابعةٌ لهذه القصة إن شاء الله .
نقطة مهمة جداً :
أريد أن أصل إلى أن هذا الرجل المشرك, الذي قادها وحدها في الصحراء اثني عشرَ يوماً، وكان في أعلى درجات العفَّة، كان يبتعد كثيراً كي تنزل، ثم يقرِّب الجمل, ويبتعد كثيراً كي تصعد، هذه الشهامة, وهذه المروءة، لذلك ماذا قال النبي؟ قال:
((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))
الحقيقة يجب أن نستفيد من هذه القصَّة، وأن نجعل منها قدوةً، فعنترة الشاعر الجاهلي قال:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جار تي حتى يواري جارتي مأواها
الآن يستعملون المناظير المقرِّبة، أليس كذلك؟ هذا وضع الجاهلية الجديد، لذلك:
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
وقد لقي المسلمون ذلك الغي .