- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠1أمهات المؤمنين
- /
- ٠07جويرية بنت الحارث
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
>متى ولدت جويرية بنت الحارث, ومن هو زوجها, ومن هم الذين رووا عنها من أحاديث
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثامن عشر من دروس سير الصحابيات رضوان الله عليهن أجمعين، ومع أمهات المؤمنين، ومع السيدة جويرية بنت الحارث، قال ابن عباس: كان اسم جويرية: برّة, فسماها النبي صلى الله عليه وسلم جويرية، ولدت قبل البعثة بنحو ثلاثة أعوام تقريباً، تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي ابنة عشرين سنة في سنة خمس للهجرة، أو سنة ست على اختلاف بين المؤرخين، وكان أبوها الحارث سيداً مطاعاً، قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وروى عنها عبد الله بن عباس، وعبيد بن السابق، وأبو أيوب، ومجاهد، وعبد الله ابن شداد أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما هي الأسباب التي دفعت النبي إلى الزواج من السيدة جويرية بنت الحارث ؟
تعود أسباب زواج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السيدة جويرية إلى غزوة بني المصطلق، وتسمى بغزوة المريسيع، فقد ذكر ابن إسحاق وبعض علماء التفسير, أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي عليه المحققون أنها كانت في العام الخامس للهجرة، كما ذكرت قبل قليل على اختلاف بين المؤرخين .
سببها:
((بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بهم, خرج إليهم حتى لقيهم على ماء, يقال له: المريسيع، فتزاحم الناس واقتتلوا, فهزم الله بني المصطلق .
-ماذا نستنتج؟ المسلمون في أيام ضعفهم, كانت حركاتهم ردودَ أفعال، أما المسلمون في قوتهم, فحركاتهم أفعال، وشتان بين أنه كلما اعتدى عليك أحد؛ تتحرك, تستنكر, تشجب, تتألم تشكو, وبين أن تبدأ أنت خصمك، من الذي ينتصر دائماً؟ هو الذي يفرض على خصمه الوقت والزمان للمعركة، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يستعيد المسلمون قوتهم, كي يتحركوا بفعل لا برد فعل، وثمة فرق كبير بين أن تتحرك بفعل، وبين أن تتحرك برد فعل، فالنبي عليه الصلاة والسلام شعر أن بني المصطلق تتجمع، وتتهيَّأُ، وتكيد له، فماذا فعل؟- بدأهم- وقالوا في شؤون الحرب: إن الهجوم أفضل وسائل الدفاع، أيْ أن تبدأ أنت، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
(ما استطعتم) كما يقول المفسرون: تفيد استنفاد الجهد، لا بذل بعض الجهد .
الشيء الدقيق: أن الله سبحانه وتعالى حينما يرى من عباده المؤمنين أنهم أعدوا العدة، وآمنوا به، وأنه هو الفعال، والفرق بين إمكاناتهم وإمكانات عدوهم يغطيه الله عز وجل، إلا أن الشيء الذي يجب أن نقوله: إن الإعداد، واقتناء السلاح, هدفه القرآني ليس أن تستعمله، بل أن ترهب به، قال تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾
الآن الدول النووية هل تستخدم السلاح؟ أبداً، لكنها مرغوبة الجانب، السلاح في نظر القرآن, يجب أن تتملكه, كي تكون مرهوب الجانب، وكي تتحرك بفعل لا برد فعل، فالمسلمون حينما يضعفون يتحركون دائماً بردود أفعال، أما حينما كانوا في أوج قوتهم، وفي أوج نصر الله لهم, تحركوا بأفعال، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
والآية الدقيقة جداً هي:
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾
إن لم تغلب, فابحث في مصداقية جنديتك لله، إن لم تغلب, فأنت لست جندياً لله، لو كنت جندياً لله, لا يمكن أن تغلب، بل إن بعض العلماء يقول: إن الذي يدعو إلى الله، ولا ينجح في دعوته، ويعزو ذلك إلى ظروف صعبة، وإلى قوى تعادي الحق, ليس له بها أن يقابلها، نقول: أنت تكذب، واللهُ تعالى يقول:
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبدأهم ما داموا قد أعدوا، وتمنَّعوا، وتهيَّؤوا، وكادوا، وائتمروا، وقد كانت هذه الغزوة بعد ما استقر أمر الإسلام في المدينة، وتوفرت لأبنائه أسباب القوة, فتحرك اليهود والمنافقون على حد سواء على مناوءة الإسلام، ونبيه، ودعوته, بأسلوب المكر والخداع، وهذا حالهم من قديم .
-أيها الأخوة, يلفت النظر أن الإنسان أحياناً حينما يكون ضعيفاً لا أحد يحسده، ولا أحد يكيد له، أما إذا قوي، وارتفع شأنه، وصلب عوده، ومكنه الله عز وجل, عندئذ يكثر حساده، ويكثر أعداؤه حسداً .
وأنا أقول دائماً: هناك ثلاثة أنواع من الاختلاف؛ هنالك اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات، هذا الاختلاف يحل بالمعلومات الصحيحة، وهناك اختلاف سببه الحسد والبغي، قال تعالى:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
والاختلاف الثالث اختلاف محمود، اختلاف التنافس ضمن مجموعة المؤمنين، أراد مؤمن أن يتفوق في تفسير القرآن، وآخر في الحديث، وثالث في الفقه، وغيره في الدعوة إلى الله ، وغيره في التسليك إلى الله، ومؤمن في أعمال البر، ومؤمن في علم الفرائض، ومؤمن في علم التجويد، هذا تنافس حميد .
عندنا تنافس طبيعي, لا يذم ولا يمدح، أساسه نقص المعلومات، وهناك اختلاف أساسه الحسد والغي، واختلاف أساسه المنافسة الشريفة، فالأول لا يمدح ولا يذم، والثاني مذموم، والثالث حميد .
لذلك لما قوي شأن المسلمين كاد المنافقون، وتعاونوا مع اليهود، فلما هزم اليهود التحق المنافقون بالمسلمين، لأنهم مع القوي دائماً، المنافق غير المؤمن، ليس له مبدأ، مصلحته هي المبدأ، إلهه هو الهوى، فأينما تميل الكفة, يميل معها دائماً- .
ثم ظهر ذلك جلياً في غزوة بني المصطلق، فإن الأنباء أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه القبيلة تجمع له، وتستعد لقتاله، فسارع النبي، وسارع المسلمون, ليطفؤوا الفتنة قبل اندلاعها، وخرج النبي هذه المرة مع المنافقين, الذين لم يعتادوا الخروج معه قبلاً، واغتروا بانتصاراته وغنائمه, ليصيبوا من ذلك سمعة ومالاً، -أين الغنائم؟ إن كانت مع المؤمنين فهم مع المؤمنين .
الآن هناك نمط شائع؛ إنسان اختلف مع إنسان، كيف تحل هذه المشكلة؟ اختلف معه على بيت مستأجر، هذا الطرف الثاني مستأجر، والقانون يحميه، يقول لك: أريد الشرع، يريد حكم الله، وحالك أنت لست منفذاً شيئاً من حكم الله عز وجل، والآن يريد حكم الله، ترك القانون، ولجأ إلى العلماء .
تأتي قضية ثانية ليس له في الشرع نصيب منها، والقانون معه، نحن دولة لنا أنظمة، وقوانين، ومحاكم، وأنا أريد المحكمة، لماذا مرة المحكمة، ومرة الشرع؟ هو يبحث عن مصلحته ، يبحث عن أهوائه، يبحث عن مكاسبه، فهذا الذي يحكم الشرع تارة، والقانون تارة, ليس مع هذا ، ولا مع ذاك، ولكن مع مصلحته، وهذا أساساً مكشوف- .
حينما وصل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام إلى بني المصطلق, أمر عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم، فإن أسلموا فهم منّا، ونحن منهم، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وانتهى الأمر، فنادى عمر فيهم, قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله, تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ولو قالوها بألسنتهم .
أبى الفريقان، وتراموا، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه, فحملوا عليهم حملة رجل واحد, فلم يفلت من المشركين أحد، إذ وقعوا أسرى بعد ما قتل منهم عشرة أشخاص، ولم يستشهد من المسلمين إلا رجل واحد قتل خطأ، وسقطت القبيلة بما تملك في أيدي المسلمين، -وهنا التعليق: رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن يعامل المهزومين بإحسان .
المؤمن دائماً قدوته النبي، قلبه مليء بالرحمة لكل الخلق، بل إنه يستمد هذا من أن الله سبحانه وتعالى لا يغضب على عباده العصاة والكفار، بل يغضب من عملهم، فإذا رجعوا كانوا أحبابه .
كنت أقول هذا دائماً: دخل عمير بن وهب على النبي، وقد جاء ليقتله، وسيفه على عاتقه ، وقد شعر عمر بن الخطاب أنه جاء يريد شراً، أدخله على النبي بعد أن قيده بحمالة سيفه، وقال :
((يا رسول الله! هذا عدو الله عمير بن وهب, جاء يريد شراً، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: يا عمر أطلقه، وابتعد عنه، -والقصة معروفة- وأسلم عمير، وخرج من عند النبي، -ماذا يقول عمر هنا؟- دخل عمير على رسول الله، والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده، وهو أحب إليّ من بعض أولادي))
ليس هناك عند المسلم عداوة دائمة، ولا عداوة شخصية، هناك عداوة عمل، يكره من الكافر كفره، يكره من المنافق نفاقه، يكره من العاصي معصيته، يكره من المنحرف انحرافه، يكره من المنغمس في الملذات, انغماسه في الملذات، ولا شيء آخر، أساساً إذا رجع العبد إلى الله, نادى منادٍ في السموات والأرض, أن هنؤوا فلاناً, فقد اصطلح مع الله، بل إن كل واحد منكم, حينما يتوب إلى الله توبة نصوحاً, يشعره الله عز وجل، ويلقي في روعه, أنه قد عفا عنه، ولا شيء بينك وبين الله إلا الودّ والحب .
فهؤلاء عباد الله هزمهم، ماذا فعل النبي؟ أراد أن يرحمهم، وكانت هذه سنته صلى الله عليه وسلم في أعدائه المنكسرين، لكن لو لاحظنا الحروب الحديثة إذا انتصرت دولة على دولة تسحقها، وتذلها، خمسمائة طفل يموتون كل عام في العراق، لا يرحمونهم، الحروب الحديثة حروب تشقي، حروب إبادة، حروب تنطلق من قلب كالصخر، أما الحروب الإسلامية فتنطلق من رحمة، النبي انتصر عليهم، ولكن أراد أن يرحمهم- .
قال ابن هشام: لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش دفع جويرية إلى رجل من الأنصار، وأمره بالاحتفاظ بها, لكونها بنت سيد قومها، وكان هذا قبل توزيع الغنائم، وقدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة, فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، أبوها سيد قومه, أخذها ليجلب قومه، فلما كان بالعقيق, نظر أبوها إلى الإبل التي جاء بها, ليفدي ابنته, فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد, لقد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال عليه الصلاة والسلام: أين البعيران اللذان غيبتهما في العقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي فعلته لا يعلمه أحد إلا الله .
في الطريق غيب ناقتين، أعجبه منهما سمنهما, فغيبهما في بعض الشعب، وجاء النبي بقطيع من الإبل، وقال: هذه فداء ابنتي، أسلم أبوها فوراً، وقال: أشهد ألا إله إلا الله, وأنك رسول الله، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله، أسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل البعيرين فجاء بهما .
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير, عن عمه عروة بن الزبير, عن خالته عائشة, قالت: لما قسم النبي عليه الصلاة والسلام سبايا بني المصطلق, وقعت جويرية بالسهم لحارث بن قيس بن شماس، أو لابن عم لها, فكاتبته على نفسها, دائماً ابنة سيد القوم لها عزة وكرامة، فكاتبته أن تعطيه شيئاً من المال على أن يعتقها، فأتت رسول الله, تستعينه في كتابتها، فلو تعينني على أن أدفع المال لهذا الذي كنت نصيبه لعله يعتقني .
قالت عائشة: فلما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم, قلت:
((يا رسول الله, جويرية بنت الحارث سيد قومه، قالت: يا رسول الله, قد أصابني من البلايا ما لا يخفى عنك، وكاتبتي على نفسي, فأعني على كتابي، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أنها هذه المرأة بنت سيد قومها الحارث, الذي جمع الجموع لقتاله, تسترحمه وتستنجد بها, -للتخلص من الرق والعبودية, حفاظاً على كرامته، وكرامة أبيها، وقومها، وهو الرؤوف الرحيم، وأنه لا بدّ أن يستجيب لأمرها ، ويلبي طلبها .
وقد فعل هذا ببنت حاتم الطائي، جاءت مع السبايا, فلما استعرضهم النبي وقفت, فقالت:
((يا رسول الله, لقد هلك الوالد، وغاب الوافد، وأنا بنت حاتم الطائي, فأطلقني، سألها: ومن الوافد؟ قالت: عدي، قال: الفارّ من الله ورسوله، وتركها .
في اليوم الثاني قالت له كما قالت في اليوم الأول، وسألها ثانية: من هو الوافد؟ قالت: عدي، قال: الفارّ من الله ورسوله .
في اليوم الثالث سكتت، أشار إليها سيدنا علي أن تسأله ثالثة، فلما سمع منها النبي قالت: أنا بنت حاتم الطائي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، أطلق سراحها وأكرمها, حتى أقنعت أخاها أن يلتحق بالنبي .
-الذي يلفت نظري أن النبي عليه الصلاة والسلام ينقلب أعداؤه الألداء بلقاء واحد إلى أحباب- قالت: الحق بهذا الرجل إن يكن نبياً, تكن من أتباعه، وإن يكن ملكاً تنل منه، وتبع عدي نبي الله، وصار من أصحاب رسول الله))
طبعاً رسول الله كان بإمكانه أن يطلق سراحها، أن يطلقها بلا فداء، وهو ضامن، -ماذا فعل؟- فقال عليه الصلاة والسلام: أو خير من ذلك، أتحبين شيئاً خيرًا من ذلك؟ قالت: ماذا؟ قال: أؤدي عنك كتابك، وأتزوجك، قالت: نعم، ففعل ذلك .
فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا: أصهار رسول الله عندنا، أطلقوا سراحهم جميعاً، لذلك قالوا: أعتق الله بها مئة من أهل بيت قومها، فما كانت امرأة مباركة على قومها كهذه المرأة))
هذا الذي يغيب عن بعض المستشرقين أن النبي عليه الصلاة والسلام يتزوج تأليفاً للقلوب، يتزوج لمصلحة إيمانية راجحة، يتزوج لمصلحة إن صحّ التعبير دعوية كبيرة .
في رواية ثانية رواها الذهبي في سير أعلام النبلاء, يقول:
((إن النبي عليه الصلاة والسلام سبى جويرية، فجاء أبوها, فقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، وإن ابنتي لا يسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك, فخلِّ سبيلها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أريت إن خيرتها أليس قد أحسنت؟ فقال أبوها: بلى، فلما سألها قالت: اخترت الله ورسوله))
هذا ماذا يذكرنا؟ لما جاء والد سيدنا زيد ليفديه من الرق، قال له: هناك أفضل، خيِّره، فإن أرادكم لا أريد عليه شيئًا، فلما خيروه, اختار الله ورسوله .
الآن دقق، ما هذه المعاملة التي تلقاها سيدنا زيد حتى اختار النبي, وفضله على أبيه, وعمه, وأمه, وهذه ماذا لقيت من النبي عليه الصلاة والسلام, حتى اختارته على أن تعود إلى أبيها وأمها؟ .
ما هي العبادات الشعائرية التي كانت تمارسها السيدة جويرية وتجتهد فيها, ومتى توفيت, ومن صلى عليها يوم وفاتها, وكم كان عمرها ؟
أيها الأخوة, عاشت جويرية في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أم المؤمنين، وهذا منصب رفيع، في كل الدول يقال: السيدة الأولى، زوجة الملك تعد السيدة الأولى، فهذه كانت أسيرة، لكنها بنت سيد قومها، فتزوجها النبي، وتألف قلب قومها، وأطلق سراحهم جميعاً، وأسلموا جميعاً، هذه حكمته صلى الله عليه وسلم .
هذه الصحابية الجليلة كانت خير مثل, يحتذى في رعايتها لزوجها، وحسن عشرتها معه ، لقد كانت كثيرة الاجتهاد بالعبادة لله تعالى .
الحقيقة: للنبي قول رائع قال:
((إن الله اختارني واختار لي أصحابي))
ويقاس على ذلك: واختار له زوجاته، فهذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين, كانت كثيرة الاجتهاد بالعبادة, والإكثار من ذكر الله تعالى، والصوم، وفعل الخيرات، ففي صحيح البخاري, في كتاب الصوم, عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا, قالت:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَهِيَ صَائِمَةٌ, فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا, قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا, قَالَتْ: لَا, قَالَ: فَأَفْطِرِي))
هذا حكم شرعي، لا يجوز أن تفرد يوم الجمعة بالصيام، لأنه يوم عيد، وعندنا حكم ثان ، يوم الجمعة ليس لتدبير أمور المنزل، والتنظيف، وغسل الملابس، وتنظيف الفرش, لا، يوم الجمعة, يوم عيد، فيجب أن تفرح به، يجب أن تحتفل به، يجب أن تجلس مع أهلك وأولادك، يجب أن تكون معهم لتأنس بهم، يوم راحة من العمل، لذلك أنا أتمنى على كل أخ كريم يحل مشكلاته الأسبوعية يوم الخميس، أما يوم الجمعة فليبق لأهله، وأولاده، ولطاعة ربه، هذا هو الأكمل، فالنبي رفض أن تصوم جويرية يوم الجمعة وحده .
لا تنسوا أن كلمة رضي الله عن أصحاب رسول الله, هذا رضى تقريري، وهناك رضا دعائي، نقول: الإمام الغزالي رضي الله عنه، الإمام الشافعي رضي الله عنه، هذا رضى دعائي، أما رضاء الله عز وجل عن أصحاب رسوله الكرام, فهو رضا تقريري، لقد رضي الله عن المؤمنين، فامرأة من أسيرة إلى السيدة الأولى، من أسيرة إلى أم المؤمنين، من أسيرة إلى راوية الحديث عن رسول الله .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ, قَالَتْ:
((أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً, وَأَنَا أُسَبِّحُ, ثُمَّ انْطَلَقَ لِحَاجَةٍ, ثُمَّ رَجَعَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ, فَقَالَ: مَا زِلْتِ قَاعِدَةً, قُلْتُ: نَعَمْ, فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ لَوْ عُدِلْنَ بِهِنَّ عَدَلَتْهُنَّ, أَوْ لَوْ وُزِنَّ بِهِنَّ وَزَنَتْهُنَّ, يَعْنِي بِجَمِيعِ مَا سَبَّحَتْ, سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
هذا من أذكار النبي عليه الصلاة والسلام، أراد عليه الصلاة والسلام أن يدلها على الأفضل، فأوصاها بهذا الذكر الجميل .
عاشت جويرية أم المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم راضية مرضية إلى أن استقر الأمر لمعاوية ابن أبي سفيان، توفيت في المدينة بعد منتصف القرن الأول من الهجرة, سنة ست وخمسين على الأرجح، وصلى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل: توفيت سنة خمسين, وهي بنت خمس وستين, والله تعالى أعلم .
الخاتمة :
أيها الأخوة, حينما ندرس سيرة الصحابيات الجليلات, نريد أن نجعل من هؤلاء النسوة الطاهرات قدوة لنا، ولبناتنا، ولنسائنا، لذلك لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((أدبوا أولادكم على حب نبيكم، وحب آل بيته))
كيف تؤدب أولادك على حب آل البيت؟ بأن تروي لهم سيرة أصحاب رسول الله، وسير أهل بيته، ليكن هؤلاء النسوة الطاهرات قدوة لبناتنا، وإلا فهناك قدوة من نوع آخر، والعياذ بالله، انحلال، تفلت، خيانة، تبذل، كشف للعورات، لا مبالاة، سقوط، فإن لم نجعل من الصحابيات الجليلات قدوة لبناتنا, اتخذنا قدوة من نوع آخر .
فمن مهمات الأب: أن يربي أولاده على حب النبي، وحب آل بيته، والابن لا ينشأ على حب آل البيت إلا إذا استمع إلى قصص هؤلاء النسوة اللواتي هنّ قمم بين النساء في معرفة الله، وطاعته، ومحبته، والحفاظ على مودة الزوج, ورعاية حق الزوج والأولاد .
أرجو الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً .