الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الفرق بين مقام الألوهية ومقام الرسالة :
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة عبس، والآيات الأولى:
﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1)أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَى (2)وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3)أَوۡ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰٓ (4)أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ (5)فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6)وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7)وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8)وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9)فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10)﴾
لا بدَّ قبل شرح هذه الآيات مِن مقدِّمة، هناك مقام الألوهية، وهناك مقام الرسالة، فلا بد أن يكون هناك فرقٌ واضحٌ بين المقامين، لئلا تختلط الأمور، فيُؤَلَّه النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بدَّ من تمايز مقام الألوهية عن مقام النبوّة، فالنبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ من أن يخطئ؛ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، فلا في أقواله خطأ، ولا في أفعاله خطأ، ولا في إقراره خطأ، والإنسان الوحيد الذي يعدُّ كلامه تشريعاً، وإقراره تشريعاً، وأفعاله تشريعاً، هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد عصمه الله عزَّ وجل مِن أن يخطئ، وأمرنا أن نأخذ منه، وأن ننتهي عما عنه نهانا، فقال تعالى:
﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةًۢ بَيْنَ ٱلْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(7)﴾
فكلامه تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، ولكن لئلا يختلط مقام النبوة والرسالة مع مقام الألوهية سُمِح للنبي عليه الصلاة والسلام بهامشٍ اجتهادي ضيقٍ جداً، يجتهد فيه؛ فإن أصاب أصاب، وإن اجتهد خلاف الأَوْلى جاء الوحي فصحح له، ولماذا سُمِحَ له بجانبٍ اجتهادي؟ ليكون هناك فرقٌ بين مقام الإله ومقام النبيّ، ولئلا يُعْبَد النبي مِن دون الله.
تُرِك للنبي هامشٌ اجتهاديٌّ ضيِّقٌ ليكون فارقاً بين مقام النبوة ومقام الألوهية:
1 ـ لأنه لا معصية من دون تكليف :
أيها الإخوة، الحقيقة الأولى هي أنه لا معصية من دون تكليف، لهذا المسجد أبوابٌ ثلاثة، ليس هناك باب مسموح الخروج منه وباب ممنوع، لو وُضِعتْ لوحة ممنوع وأخرى مسموح وخرج إنسان من الممنوع لكان عاصياً، فالحقيقة الأولى: لا معصية من دون تكليف.
النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أحد زعماء قريش، والشيء المألوف، والمعروف، والطبيعي، والمنطقي أن هذا إذا أسلم أَسلم معه خَلْقٌ كثير، الناس متبوعون وأتباع، المتبوعون يتبعون الأعلام دائماً، فكل إنسان إذا سعى لهداية إنسانٍ متبوعٍ فكل أتباعه سوف يقلِّدونه، فحرْصُ النبي عليه الصلاة والسلام على هداية هذا الإنسان حرصٌ كبير، وهذا موقفٌ طبيعي، وصحيح، ومألوف، ومنطقي، وواقعي.
بربكم، لو أن أحداً مِن الإخوة الدعاة خُيِّرَ بين أن يلتقي برجلين؛ رجلٍ محبٍ، مستقيمٍ، تائبٍ، عابدٍ، سائحٍ، ورجلٍ منكرٍ، معترضٍ، مُعاندٍ، أيهما أهون عليك: أن تلتقي مع محبٍ، مع خاضعٍ، مع مؤمنٍ مستسلمٍ، أم مع منكرٍ، معاندٍ، فظٍ، غليظ؟ الأهون أن تلتقي مع إنسان مؤمن، والجلسة عندئذ مُرِيحة جداً. والنبي اجتهد لا لراحته، ولا لصالحه، ولكن لصالح الدعوة، فاختار الأصعب، واختار الأقوى، واختار الأشد، اختار الإنسان المتعِب، فكان مهتماً بهذا الإنسان، فجاءه أحد أصحابه الكرام، ابن أم مكتوم، وكان كفيف البصر، وقال: يا محمد يا محمد، والنبي عليه الصلاة والسلام انزعج منه، وأعرض عنه، وتغيَّر لون وجهه.
تماماً كما لو أن أستاذاً كبيراً في الرياضيات عنده ضيفٌ كبير، وهو حريصٌ على هدايته حرصاً لا حدود له، وهو منهمكٌ في المناقشة، دخل ابنه وقال له: يا أبتِ دلَّني على حل هذه المسألة، فماذا يقول له؟ الآن اخرج، أنا لك دائماً، وكل وقتي لك، أمّا الآن فدعني، دعني وهذا الإنسان، هذا الذي حصل.
لذلك قال بعض العلماء: إنّ الله عزَّ وجل عتِبَ للنبي ولم يعتب عليه، وفرقٌ كبير بين أن تعتب له، وأن تعتب عليه، فلو دخلت الأم على غرفة ابنها، فرأته يدرس حتى الساعة الثانية فجراً، قد تصيح به: إن لجسمك عليك حقاً يا بني، قم إلى الفراش واسترح قليلاً، إنها الآن غاضبة، أفغاضبةٌ له أم عليه؟ له، فقال العلماء: إن الله عتب على النبي لأنه حمَّل نفسه فوق طاقته، لأنه اختار الأصعب، اختار الإنسان الأصعب، والأقسى، والمُعاند، والكافر.
2 ـ لأن النبي عليه الصلاة والسلام اختار الأصعب فقد عَتِبَ الله له ولم يعتب عليه :
الله عزَّ وجل وَصَفه فقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ هذا وصف، وليس هذا تقييماً، أنا أقول لكم: فلان خرج، أما إذا قلت: بئس ما فعل، فأنا أُقَيِّم، لو أنني قلت: خرج أو دخل، فهذا وصف، أما إن قلت: بئس ما فعل، نعم ما فعل، صار تقييماً، فالله عزَّ وجل قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ وصف الله حال النبي الذي اجتهد فاختار المركب الصعب، لكن الوحي لفت نظره إلى أن هذا الذي تراه كبيراً، هذا الذي تراه قويّاً وتراه مَتْبوعاً، هذا الذي تعلِّق آمالاً على هدايته، لعلمِ اللهِ فيه لا تضيِّع وقتك معه، الإنسان قد يجتهد، وقد يكتشف خطأ اجتهاده، قد يجتهد وقد يعلم أن اجتهاده لم يكن في محلّه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لأنه ليس هناك تكليف، إذاً ليس هناك معصية، لا معصية مِن دون تكليف، ولأنه اختار الأصعب فقد عَتِبَ الله له، ولم يعتب عليه.
3 ـ الوحي مستقلٌ عن كيان النبي عليه الصلاة والسلام:
النقطة الثالثة هي أن الوحي شيءٌ مستقلٌ عن كيان النبي، لا يملك جلبه، ولا دفعه، ولا بيانه، ولا إخفاءه، كمثَلِ إنسان قابل شخصاً، وفي أثناء المقابلة تكلَّم معه كلاماً قاسياً، فلو عاد هذا الإنسان إلى بيته، بماذا يحدِّث أولاده وأهله؟ بإمكانه أن يخفي الكلمات القاسية التي سمعها من هذا الذي قابله، ومعظم الناس يفعلون هذا، وقد يتكلَّمون العكس، كنت قويّاً، وكنت جريئاً، لأنه ليس هناك من يكذِّبه، فيتكلم كلاماً كما يحلو له، ولكن الإنسان من عادته أنْ يخفي النواحي السلبية، ويظهر الإيجابيات.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أمينُ وحيِ السماء، فلا يمكن أن يخفي شيئاً جاءه بالوحي، وهذه الآية بالمقياس البشري ليست لصالح النبي، فكأن الله يعاتبه، ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصطنع الوحي ويفتعله لمَا ذكر هذه الآية، ولأن الوحي شيءٌ مستقلٌ عن كيان النبي لا يملك له جلباً، ولا دفعاً، لذلك جاءت هذه الآيات.
هناك شاهدٌ آخر يؤيده وهو أن الله عزّ وجل حينما سمح أن يُذاع حديث الإفك بين الناس، وأن يُرجِف المرجفون في المدينة أن السيدة عائشة ارتكبت الفاحشة مع فلانٍ من الناس، وأن هذا الخبر شاع، وسار في المدينة كالنار في الهشيم، وأن النبي عليه الصلاة والسلام تألم ألماً لا حدود له، والنبي يعرف أن امرأته طاهرة، ولكن ليس معه دليل إثبات، ولا دليل نفي، ولحكمةٍ بالغة بالغةٍ بالغة تأخّر الوحي أربعين يوماً، وهو في حيرةٍ مِن أمره، ولو أن الوحي مِن فعل النبي لقال بعد دقيقة، أو بعد ساعة، آيةً برَّأ فيها زوجته، لكنْ هذا لم يحدث، ليعلم الناس أن هذا الدين أصله وحي السماء، أي أن الإله أنزل على هذا النبي قرآناً عن طريق الوحي، فنحن ديننا أساسه الوحي، فإيمان المؤمن بالوحي مهمٌ جداً، فهذا الوحي لا يملك النبيُّ له جلباً ولا دفعاً ولا توقيتاً، لذلك جاء في الوحي عتابٌ للنبي، وجاء في الوحي تبرئةٌ للسيدة عائشة، ولكن بعد مضيِّ أربعين يوماً، إذاً فالوحي مستقلٌ عن كيان النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً تُرِك للنبي عليه الصلاة والسلام هامشٌ اجتهاديٌّ ضيِّقٌ، ليكون هذا الهامش فارقاً بين مقام النبوة ومقام الألوهيَّة.
مرَّةً -والشيء بالشيء يذكر- في موقعة بدر اختار النبي موقعاً لتمركز أصحابه في المعركة، ولحكمةٍ بالغة بالغةٍ بالغة حَجَبَ الله عنه الموقع المناسب، حَجَبَهُ عنه وَحْياً، وحَجَبَهُ عنه إلهاماً، وحَجَبَهُ عنه اجتهاداً، وهناك موضوعاتٌ أقلُّ مِن هذا الموضوع بكثيرٍ جاءه الوحيُ فيها، أما هذا الموضوع فقد حُجِبِ عنه الوحي فيه، وحُجِبِ عنه الإلهام والاجتهاد، فاختار النبي موقعاً، فجاءه صحابيٌ جليل، يكاد يذوب أدباً مع رسول الله وقال: يا رسول الله أهذا المكان وحيٌ أوحاه الله إليك؟ أي إذا كان وحياً أوحاه الله إليك ولا كلمة، أم أنّ هذا المكان رأيٌ ومشورة، هكذا سأل النبي. فقال عليه الصلاة والسلام: لا، إنه الرأي والمشورة. قال: يا رسول الله هذا ليس بموقع. بكل جُرْأَة، وبكل أدب، فالنبي علَّمنا كيف يكون أدب الإصغاء إلى الناصح، فلولا أن الله حجب عنه الموقع المناسب إلهاماً ووحياً واجتهاداً لما شرَّع لنا هذا الكمال؛ كمال أن تصغيَ إلى الناصح، كمال أن يكون للناصح فضلٌ عليك، فالحقيقة أنه ما مِن أحدٍ أكبر مِن أن يُنْقَد، وما مِن أحدٍ أصغر مِن أن يَنْقُد، علمنا النبي عليه الصلاة والسلام التواضع، وعلمنا الإصغاء للناصح، فقال: يا رسول الله هذا ليس بموقع، وعلّل السبب. فقال: جزاك الله خيراً، وأمر أصحابه أن ينتقلوا إلى الموقع المناسب.
نسيان النبي موَظَّفٌ في التشريع :
يقول الله عزَّ وجل:
﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَٰبٍۢ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى (52)﴾
إنّ الله لا ينسى، لكن النبي بشر ينسى كما ينسى البشر، ولكن نسيان النبي موَظَّفٌ في التشريع، فقد صلَّى الظهر يوماً ركعتين، فجاءه صحابي من أقل الصحابة شأناً إن صحّ التعبير، اسمه: ذو اليدين فقال:
(( صلّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرَ أو الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ، قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. ))
النبي علَّم أصحابه على الجُرْأَة، وعلى الصدق لا على النفاق، فسأل أصحابه، وهنا استنبط علماء الحديث التواتر، فإذا بأصحابه الكرام يقولون: بل صلينا ركعتين يا رسول الله، فورد عنه أنه قال: إنما نسِّيت كي أسن.
إنّ الله عزَّ وجل وظَّف نسيانه في حكمٍ شرعي، وهو سجود السهو، ولولا أن النبي نسي فصلى الظهر ركعتين، لما سنَّ لنا سجود السهو.
إذاً هناك جانبٌ اجتهادي ضيقٌ جداً تُرِكَ للنبي، فإن أصاب في اجتهاده أصاب، وإن لم يُصِب وتَرَك الأَوْلى، أو اتّجه اتجاهاً أصعب، يأتِ الوحي ليلفت نظره ويصحح اجتهاده، أما في النهاية فالنبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ مِن أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، وقد أُمرنا أن نطيعه استقلالاً، دون أن تعرض كلامه على القرآن.
أوامر العلماء والأمراء يجب أن تتوافق مع كلام النبي حتى تُطاع :
قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)﴾
أولو الأمر هم العلماء والأمراء، أوامر العلماء والأمراء يجب أن تعرضها على كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فإن وافقتها فعلى العين والرأس، وإن لم توافقها فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وهذا منهج النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى*َأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*َوَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ. ))
قد يكون الواحد منكم في الأرض في درجة دنيا اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو علمياً، وهو عند الله في درجةٍ عُلْيا، أمّا هؤلاء الذين نافقوا وكذبوا على الله وعلى الناس:
﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَزْنًا (105)﴾
هم صَغارٌ عند الله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ لعلَّ هذا الذي أعرضت عنه خيرٌ ألف مرَّة مِن الذي أقْبَلت عليه، وهذا درسٌ لنا، إنسان فقير طرق بابك، لعل الخير كله في هذا الإنسان، وإنسان كبير هو معرضٌ عنك، وأنت مقبلٌ عليه، فهذا الذي أقبل عليك يجب أن تضعه في قلبك، لا تدري أين الخير؟ قال له: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ .
اللهُ عزَّ وجل يربي الأمة بعظيمها :
طبعاً المؤمن الداعية أديب مع الله، يستقبل كل الناس، ويبَشُّ لكل الناس، ويرحِّب بكل الناس، ولا يفرِّق بين واحدٍ وواحد، فلعل الخير كله في أناسٍ لا تظنّهم أهلاً لدعوتك، وقد يخيب ظنك بأناسٍ تظنهم أهلاً لدعوتك، وهذا درسٌ علّمنا إياه ربنا جلَّ جلاله عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، واللهُ عزَّ وجل يربي الأمة بعظيمها.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)﴾
هو، ألا يتقي الله؟ فإذا قلت للمجتهد: اجتهد، أي: ثابر على اجتهادك.
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ فالله عزَّ وجل قال:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾
وهذه واضحة..
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)﴾
استغنى عن طاعة الله، استغنى عن درس العلم، استغنى عن معرفة الله، مشغول بدنياه، غارقٌ في ملذّاته، مقبورٌ في شهواته، هذا استغنى عن الحق فلا يعبأ لا بدرس علم، ولا بتفسير آية، ولا بحكم فقهي، ولا بسيرة صحابي، يعنيه الدِرهم والدينار.
(( تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ. ))
إن أردت الحقيقة فأقل شيءٍ في الدنيا يدلك عليها :
﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ أي أن المعرض لو التقى بالأنبياء جميعاً، ولو صعد إلى السماء فيرى كل شيء، ولو رأى ما بعد الموت، فلن يؤمن، والذي أراد الحقيقة دلَّتهُ بعرةٌ عليها، البعرة تدل على البعير، والأقدام تدل على المسير، والماء يدلُّ على الغدير، أفسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟ فإن أردت الحقيقة فأقل شيءٍ في الدنيا يدلك عليها، وإن لم تردْها، لو كنت أكبر موظف في وكالة (ناسا) الفضائية، وترى كل يوم صور المجرات مما يذهل العقول ويبهرها فلن تؤمن، فالإنسان الذي لا يريد الحقيقة، وكان ذكياً جداً، مثله كمثل آلة تصوير غالية جداً، ولكن ليس فيها فيلم، فكل هذه المناظر التي تلتقطها لا تُطْبَع فيها، والإنسان الصادق، ولو كان متواضعاً في ثقافته، أو في اطلاعه، مثله كمثل آلةٍ فيها فيلم، أيّ منظرٍ يطبعه عليها، إن أردت الحقيقة كل شيءٍ يدلُك عليها، وإن لمْ تردها لو التقيت مع الأنبياء جميعاً، ورأيت كل المعجزات، وصعدت إلى السماء فلن تؤمن، فالقضية قضية اختيار وقرار داخلي.
﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى*فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ أيضاً هذا وصْفٌ للنبي بأنه حريصٌ على هداية الخلق، فإذا التقى بقويٍ أو بزعيمٍ، فإذا اهتدى لعل مَن تبعه يهتدي، لكن الله عزَّ وجل لفت نظره إلى أن هذا لا خير فيه.
لا يستطيع أحد أن يهدي إنساناً لم يرد الهُدى :
﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾
أي أنك لا تستطيع أن تهدي إنساناً ما أراد الهُدى، ثم إنك لست مسؤولاً عن هذا الذي لم يهتدِ:
﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ(40)﴾
أما دعوتك فإنها حق.
﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ (52)﴾
دعوتك حق، ولكن لأن الإنسان مخيَّر، وهو حرٌ طليق، فليس بإمكانك يا محمد أن تجبر أحداً على الهدى.
توجيه الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ لست مسؤولاً ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لن تُسأل عن عدم هدايتهم، ولن تستطيع أن تهدي مَن لم يُرِد الهدى، أما أنت في دعوتك فعلى الحق المبين ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .
﴿ وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8) وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)﴾
هذا هو توجيه الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾
الدين مودعٌ في أصل فطرة الإنسان:
دقق في معنى تذكرة، أيْ: شيءٌ يذكِّرك بشيء، ومعنى هذا أن الشيء السابق مرئيٌ مِن قِبَلك سابقاً، فأنت إن ذهبت إلى بلد، وبعد حين أطلعك أحدٌ على صورةٍ لهذا البلد، فتقول: نعم واللهِ أعرفه، هذه الصورة تذكرة؛ تذكّرك بمشاهدتك لها سابقاً، والدين مُودَعٌ في أصل فطرة الإنسان، فأنت مبرمجٌ، ومفطورٌ، ومجبولٌ على حقائق الدين ومنهجه، فإن عرفت اللهَ، وطبّقت منهجه ارتاحت نفسك، واطمأن قلبك، وسعدت في الدنيا والآخرة، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
هكذا صُمِّمت، فأنت تحب العفَّة، وأَمَرَك اللهُ أن تكون عفيفاً، ففطرتك تطابق تكليفك، تحب الصدق، وأَمَرَك الله أن تكون صادقاً، تحب الإنصاف، وأَمَرَك الله أن تكون منصفاً، فتطابق أوامر الله مع فطرة الإنسان تطابقٌ تام، لذلك قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)﴾
أن تقيم وجهك للدين حنيفاً، هو الشيء نفسه الذي فُطِرْتَ عليه، وهذا تطابق تام، لذلك الإنسان لا يرتاح، ولا يطمئن، ولا ينام قرير العين إلا إذا أطاع الله عزَّ وجل، وعرف سرَّ وجوده، وغاية وجوده.
﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)﴾
الإنسان مخيَّر..
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(17)﴾
﴿ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِٱلْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَٰهُمْ هُدًى (13)﴾
هذه آيات الاختيار.
﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ أنت عليك أن تُبيّن، والإنسان حُرٌّ في أن يستجيب أو لا يستجيب، لأنه مخيَّر، أنت عليك أن تبيِّن، وأن توضِّح، وأن تأتي بالأدلة، وأن تأتي بالبراهين، وأن يكون كلامك منطقياً، فالإنسان إن لم يستجب فهذه مشكلته، وليست مشكلة مَن يدعوه إلى الله عزَّ وجل.
النبي لا ينطق عن الهوى مع أن معظم كلام الناس ينطق عن الهوى:
قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ(14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)﴾
أي أن هذا الوحي الذي جاء: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ*مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ مكرمة عن الخطأ، وعن الدَلَس، وعن المصالح، طبعاً كل كلام الإنسان ينطق عن الهوى أو لا ينطق، أمّا النبي عليه الصلاة والسلام فلا ينطق عن الهوى، مع أن معظم كلام الناس ينطق عن الهوى، والإنسان يبيع بضاعة، فمن دون أن يشعر يثني عليها ثناءً لا حدود له، هذا كلامٌ ينطلق مِن الهوى، أذكر لكم طرفة: ذات مرة دخلت إلى بائع ستائر، فألقى عليَّ محاضرة قال لي: كلما كانت الأطوال أكثر يكون أجمل، قلت له: كم يعني؟ قال: الحائط كم طوله؟ قلت له: ثلاثة أمتار، قال لي: ثلاثة مع ثلاثة زائد واحد يبدو المنظر حينئذ جميلاً، محاضرة، هذا كلام منطقي، اخترت ثوباً، فبقياسه ظهر أنه خمسة، ثلاثة، مع اثنين، فقال لي: هذا المطرز على الفرد أجمل يا أستاذ، أجمل بكثير، رأساً عكس الفكرة، إذاً هو ينطق عن الهوى، فلما وجد أنني تعلَّقت بهذا الثوب -أحببته- وجاء طوله أقل بمتر من الضعف، فأعطى قاعدة ثانية، وقال: هذا المطرز على الفرد أجمل يا أستاذ بكثير، قلت له: مقبول، إذاً هو ينطق عن الهوى، وأكثر كلام الناس في علاقاتهم ينطقون عن الهوى.
كمال الله مطلق وكلامه مطلقٌ في كماله :
هذا الوحي من السماء: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ*مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ مكرمة أن يكون فيها مصلحة ﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ ملائكة ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ هذا الكتاب:
﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ(42)﴾
مكرمٌ عن أن يكون فيه مصلحةٌ، أو هوى، أو خطأ، كلامٌ هو كلام رب العالمين، وكمال الله مطلق، وكلامه مطلقٌ في كماله.
﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ عن كل زيف، عن كل عَيْب، عن كل خطأ، عن كل سطحيِّة ﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ مِن كل ما يشوبها ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ ملائكة كرام.
﴿ كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)﴾
حيثما وردت كلمة (الإنسان) معرَّفةً بأل في القرآن فهو الإنسان قبل أن يؤمن:
بالمناسبة: حيثما وردت كلمة (الإنسان) معرَّفةً "بأل" في القرآن فهو الإنسان قبل أن يؤمن.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ(6)﴾
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20)﴾
ورد في القرآن "فطرة" وورد "صبغة" ، وكل مولودٍ يولد على الفطرة، لكن الذي اتصل بالله عزَّ وجل، يصطبغ قلبه بكمال الله عزَّ وجل، فكلمة الإنسان إن وردت في القرآن معرفةً "بأل" فهو الإنسان قبل أن يؤمن، فهذا "الإنسان" إن لم يؤمن قُتِلَ، لُعِن، وأهلك نفسه في الدنيا والآخرة: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ ما الذي حمله على أن يكفر؟ ألأِنَ الله أوجده من عدم؟ أَلأِنّ الله كرَّمه؟
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70)﴾
إعجاز الله في خلق الإنسان :
لماذا هو يكفر؟ لأن الله تعالى قال:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن(10)﴾
لأنه خلقه، وألقى حُبَّه في قلب أمه وأبيه؟ لأنه خلقه وشق سمعه وبصره؟! ما الذي حمله على أن يكفر، ألأن الله أوجده؟ ألأن الله خلقه في أحسن تقويم؟ ألأن الله أنعم عليه بنعمه الظاهرة والباطنة؟ ما الذي حمله على أن يكفر؟
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)﴾
أي أنّ الهيكل العظمي يضم عظمَ عُنق الفخذ، يتحمَّل ضغطَ مئتين وخمسين كيلو،
والعظم الثاني كذلك، أي أن الإنسان يمكنه أن يتحمل حِملاً يبلغ نصف الطن، ولكن هذا العظم ما أصله؟ ماءٌ مَهين، كيف أصبح الماء عنصراً متيناً، قوياً، كيف؟ كيف أصبح ميناء الأسنان ثاني أقسى عنصر في الكون بعد الألماس؟
فمن أين جاءت هذه القساوة؟
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)﴾
لأن في العين مئة وثلاثين مليون عصية ومخروط؟ بكل واحد منا في شبكية العين لديه مخاريط وعصيات، واحدة منها للون الأبيض والأسود والثانية للألوان،
مئة وثلاثون مليون مِن أجل صورةٍ دقيقةٍ جداً، من أجل أن تفرِّق بين درجتين من ثمانمئة ألف درجة للون الواحد، فاللون الأخضر إذا درَّجته ثمانمئة ألف درجة، فالعين البشرية السليمة تفرِّق بين درجتين.
مِن أجل أن تشم كل الروائح، وأن ترى كل الصور والمرئيات، وأن تسمع أدقَّ الأصوات، وأن تمشي، فوازِن بين كُليةٍ طبيعيةٍ وكذلك كليةٍ صناعية، ما أبعد الفرق بينهما؟ وبين آلة للتصوير وبين عين الإنسان.
الإتقان والدقة في خلقه سبحانه :
قال تعالى:
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَةٍ﴾ هل من المعقول أنّ نقطة ماء تصبح بعد تسعة أشهر طفلاً له جمجمة، دماغ، عين، حواجب، أجفان، رموش، قَرْنية، قزحية، جسم بلوري، خلط مائي، خلط زجاجي، أعصاب، شبكية، عصب بصري؛ ثمانمئة ألف عصب بغمد واحد، أمعقول هذا؟
معدة فيها خمسة وثلاثون مليون عصارة، أمعاء دقيقة، عمر الخلية في الأمعاء ثمانٍ وأربعون ساعة، هذا شيء لا يصدق، كل واحد منا تتجدد زُغابات أمعائه كل ثمان وأربعين ساعة مرة،
أقصر عمر خلية بالإنسان زغابات الأمعاء؛ ثمان وأربعون ساعة، وأطول عمر خمس سنوات، والإنسان يتجدد كلياً كل خمس سنوات، كلياً ما عدا دماغه وقلبه، لو تجدد دماغه، فيا لطيف، تجده يقول: والله كنت طبيباً، وقد مُحيت كل المعلومات من دماغه:
﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ*مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ .
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)﴾
لو كان بالتصنيع خطأ، وكان بالشعر أعصاب حس، ماذا تفعل؟ تحتاج لأن تذهب إلى المستشفى لتحلق، تُخدَّر كاملاً لتحلق، وكانت أعصاب حس بالأظافر والشعر، لصرتَ كالوحش، أو تجري عملية جراحية فتخدر لكي تحلق، ولولا هذه المفاصل لأكل الإنسان كما تأكل القطّة، يضع الصحن على الأرض وينبطح، ويلعق بلسانه، ليس هناك طريقة ثانية.
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ عظام، وأعصاب، ولو أن هذه المثانة غير موجودة، فقط الكليتان والحالبان، لسال البول إلى الخارج مباشرةً، لا توجد مثانة، كل عشرين ثانية تخرج نقطتا بول، يحتاج إلى فوط صحية ماركة "الرجل السعيد"، لكن الله عزَّ وجل خلق لك مثانة، تبقى خمس أو ست ساعات وأنت بكامل راحتك، نظيف، مهفهف، مُعَطَّر.
آيات قرآنية تؤكد دقة خلق الإنسان :
قال تعالى:
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ*مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾ كل حرفٍ تنطق به؛ تسهم في صنعه سبعة عشرَ عضلة،
فخلال ساعة كم كلمة تكلمت، وكم عضلة تحركت؟
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾
كل قال ابن عباس: الثديان، غذاء بارد في الصيف، دافئ في الشتاء، مُعَقَّم، فيه مناعة الأم، سهل الهضم، جاهز فوري..
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن(10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)﴾
ماذا ينتظر؟
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)﴾
كيف يكون هذا الطفل داخل الرحم، الذي حجمه يبلغ سبعمئة وخمسين سنتيمتراً مكعباً، سوف يخرج؟ ولو قرأتم عن آلية الولادة لخشع قلبُكم، واقشعرَّ جلدكم، قال العلماء: أمر هرموني يأتي إلى عظم الحوض فيتَّسع، أمر هرموني ثانٍ يأتي إلى الطفل الجنين فينقلب، أمر هرموني ثالث، هذا الرحم يتقلَّص قبل الولادة تقلُّصاً لطيفاً،
مُتَزَامناً، مبرمجاً، تقول لها القابلة: أنتِ لم يحِنْ وقت ولادتك، بعد خمس ساعات ستلدين، تقيس المسافة الزمنية بين التقلُّصين، ومِنها تعرف متى ستكون الولادة، فالرحم ينقبض انقباضاً لطيفاً، لأنه لو انقبض انقباضاً عنيفاً لقتل الطفل، فإذا خرج الطفل ينقبض انقباضاً شديداً جداً، فإذا الرحم كالصخر، لأنه الآن مئة ألف شريان كانت فيه وانقطعت، فإذا انقبض انقباضاً شديداً أغلق كل الشرايين، ولو أن الانقباض كان قاسياً قبل الولادة وليِّناً بعدها لماتت الأم وطفلها، فإنْ كان قبل الولادة عنيفاً أمات الطفل، وإنْ كان بعد الولادة رخواً أمات الأم مِن النزيف:
﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ*مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ*ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ يولد، فيفرحون، الحمد لله على سلامته، ولو كان عنده ثقب مفتوح لاحتجتَ إلى مئتين وخمسين ألف ليرة لإجراء العملية، ثقب بوتال لو بقي مفتوحاً للزِم إجراء عملية، فبين الأذينين هناك ثقب مفتوح لو لم يُغلق في أثناء الولادة لاحتجتَ إلى ربع مليون ليرة، ويصبح لون الطفل أزرق، وإذا لم يجروا له عملية يموت، أمّا وهو سليم، رضع من ثدي أمه، وقد فرح الجميعُ، ثم ظهرتْ أسنانه ففرحوا، ثم قال: بابا، فطار عقل أبيه، بعد هذا دخل الحضانة، فقرأ الفاتحة، الأسرة كلها اختلَّ توازنها لأنه قرأ الفاتحة مثلاً، بعد هذا ذهب إلى المدرسة، وبعدها أخذ ابتدائية، وإعدادية، ثم الثانوية، وبعدها أخذ بكالوريا، وبعدها يريد أن يشتغل، فتؤَمِّن له عملاً، ثم يريد أن يتزوج، فتزوج، ثم جاءه أولاد، ثم تقدم في السن، فزوّج أولاده، وزوّج بناته، ثم بدأت متاعبه الصحية، حتى صار عنده كيس أدوية:
﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)﴾
هذه رحلة لا بدَّ منها، وكل واحد يقف على محطة الآن، وهذا القطار مِن البداية إلى النهاية، تجد أحدهم في المحطة الوسطى وهذا بالرابعة، والآخر بالخامسة.
﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)﴾
إلى الآن لم تتب إلى الله عزَّ وجل؟ إلى الآن لم تستقم؟ إلى الآن لم تصطلح مع الله عزَّ وجل؟
إلى متى وأنت باللذات مشـغـولٌ وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤولُ
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا لَعَمْرِي في المَقالِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ
الملف مدقق