الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
من تصدّى لأهل الحق سيخسر الدنيا والآخرة وهذا هو مصير أعداء الله:
أيها الإخوة المؤمنون سورة اليوم سورة المسد، قال تعالى:
﴿ تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ (2)سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ (4)فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ (5)﴾
الجو العام لهذه السورة:
هذه السورة تُبيِّن أن الإنسان إذا ضل عن سبيل الله، ونصّب نفسه عدواً لدين الله، وأراد أن يُطفئ نور الله، وتصدى لأهل الحق، وأراد بهم كيداً، فما مصيره في الدنيا؟ وما مصيره في الآخرة؟
مصيره في الدنيا أنه سيخفق في مسعاه، ومصيره في الآخرة أنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكأن الله سبحانه وتعالى من خلال هذه القصة القصيرة، وهي حدث واحد، حيثما ذكر الله سبحانه وتعالى قصةً أو حدثاً أو ذكر اسماً، فيجب أن نعلم علم اليقين أن هذه القصة ليست مقصودةً بذاتها، وأن هذا الاسم ليس مقصوداً بذاته، إنما المقصود أمثال أبي لهب، الذي انتهى منذ أمد بعيد، لكن كل إنسان تصدى للحق، أو وقف في وجه الإسلام، أو أراد أن يطفئ نور الله، أو تصدى للدعاة إلى الله عز وجل، عاداهم، وأراد بهم كيداً، إنه سيخسر مرتين، سيخسر الدنيا، وسيخسر الآخرة، هذا هو الجو العام، هذا هو مصير أعداء الله.
هذه السورة ذات خصوص وعموم:
المقصد الكبير الثاني في هذه السورة أن القرابة لا قيمة لها، فأبو لهب عمُّ النبي عليه الصلاة والسلام.
أولاً: من تصدى لأهل الحق خسر الدنيا والآخرة، قد يسأل سائل، لماذا هذا العِداء؟ ما له وللنبي صلى الله عليه وسلم، لمَ ناصبه العداء؟ لمَ وقف في وجه دعوته؟ لِمَ جعل نفسه عقبة كؤوداً في وجه الإسلام؟ لماذا؟
أحدنا قد لا يفهم لماذا يفعل هذا أبو لهب، ولكن أبا لهب يفعل هذا لأنه توهم أن دنياه في خطر، ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، هكذا توهم، فحفاظاً على دنياه، حفاظاً على ماله، حفاظاً على مكانته الاجتماعية ناصب النبي صلى الله عليه وسلم العداء، وجعل من نفسه ترساً للباطل، وعقبة في طريق الحق، لذلك ربنا عز وجل في سورة قصيرة لا تزيد على سطرين بيَّن لنا أن كل إنسان يقف موقف أبي لهب يكون مصيره في الدنيا الإخفاق والخسران، ومصيره في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير، فالذي يقرأ القرآن ويظنه كتاب تاريخ فقد ضل ضلالاً مبيناً.
هذه السورة نحن المقصودون منها.
وقيل: حينما كان يجتمع الوفود في مكة للحج، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقف فيهم خطيباً، ويقول: "اشهدوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله تفلحوا" وكان أبو لهب يقف وراءه، فحينما ينتهي من قوله يقول لهم: لا تصدقوه إنه كذاب ساحر، تباً له وتعساً. فنزل قوله تعالى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ تروي كتب التفسير قصةً، وهي أن أبا لهب كاد يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر، ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه وأفشل خطته، ونزل قوله تعالى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ .
الجو العام لهذه السورة أن كل إنسان تصدى للحق، وأراد إطفاء نور الله، وأراد أن يكيد للمسلمين وللدعاة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه سوف يبوء بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
﴿تَبَّتۡ﴾ بمعنى خسرت، والخسارة مؤلمة، حينما يعقد الإنسان صفقة ويجلبها ويعرضها ويبيعها ويحصّل ثمنها خلال سنة، ويجري حسابات دقيقة، ثم يجد نفسه لم يربح منها شيئاً، يشعر بألم لا يعرفه إلا من ذاقه، هذا إذا لم يربح، فكيف إذا خسر الألوف أو مئات الألوف؟ فكيف لو خسر الملايين؟ كيف لو أُخذ ماله كله؟ الشعور بالخسارة شعور مؤلم، ربنا عز وجل يقول: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ﴾ ، تبت بمعنى خسرت وبمعنى خابت وبمعنى هلكت، وبمعنى ضلَّت، أربعة معان لكلمة تبت: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ بعضهم قال: هذا دعاء عليه من الله سبحانه وتعالى، وبعضهم قال: هذا تقرير، دعاء أو تقرير.
قد تقول مثلاً: أطعمك الله، وأنت تريد بهذا أن الله قد أطعمك وسقاك وكفاك، هذا تقرير، وقد تقول للسائل: أعطاك الله، وأنت بهذا تريد الدعاء، فبعضهم فسّر ﴿تَبَّتۡ﴾ على أنها دعاء من الله عز وجل على أبي لهب، وبعضهم فسرها على أنها تقرير، وكونها تقريراً أرجح لأن الضعيف وحده هو الذي يدعو على خصمه.
﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ المعنى الأوجه أنه عجز عن تحقيق مراده، هذا الذي يتصدى للسحاب في السماء، ويدعوه أن يقف فهل يقف له؟ شيء مستحيل، هذا دين الله سبحانه وتعالى فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينصره، فهل يستطيع إنسان ما مهما علا شأنه وكبرت قوته أن يحول بين الدين وبين البشر، فالمعنى الثاني التقريري أوجه: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أي خسر خسراناً مبيناً، وعجز عن تحقيق مراده، والقافلة تسير والكلاب تعوي، الذي يركب سيارة، ويتصدى له كلب في الطريق، هذا الكلب يقفز قفزات سريعة ويظن أنه يحول بين هذه السيارة وبين المسير، لكنها تبقى ماضيةً في طريقها، والكلب يعوي إلى أن يسكت، فمعنى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أي إنه عجز عن تحقيق مراده، وفشل إن صَحَّ التعبير، بل إنه أخفق وخسر، خسر هذه المعركة التي تصدى لها، وخسر نفسه، بل خسر شيئين، أولهما خسر هذه المعركة، لقد خاض مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة، وأراد أن يعيقه عن نشر هذه الدعوة، أراد أن يحول بينه وبين نشر الهدى، لقد خسر هذه المعركة، وثانيهما خسر أيضاً حياته.
يَدَا الإنسان كناية عن الإنسان نفسه هذا من المجاز العقلي نريد الكل ونذكر البعض:
أما كلمة يدا: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ﴾ رجل أراد أن يحفِّظ القرآن لإنسان بدوي، والبدو يعرفون العربية بالسليقة، ولا يعرفونها بالنحو، فأحب القارئ أن يقطِّع آيات السورة إلى أجزاء صغيرة، فقال له: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ﴾ ، قال له: تبت يدان، لأن الاسم المثنى إذا أُضيف إلى كلمة تُحذف النون، فإذا قلت: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ﴾ فهذه خلاف اللغة، أما ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ فهي الأصح.
﴿تَبَّتۡ يَدَآ﴾ اليدان هنا كناية قرآنية عن الذات:
﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ(10)﴾
أيْ هذا ما قدَّمتَ أنت:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ(64)﴾
هذه كنايات القرآن الكريم، فقد يكني القرآن الكريم عن الإنسان بيديه: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ لأنه يعمل بيديه، ويعطي بيديه، ويبطش بيديه، ويحسن بيديه، فيَدَا الإنسان كناية عن الإنسان نفسه، هذا من المجاز العقلي، نريد الكل ونذكر البعض.
علماء التفسير لهم في سبب تسمية أبي لهب بكنيته مذاهب شتى:
قال تعالى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أما أبو لهب فمبدئياً إذا الإنسان نادوه باسمه لا يتأثر، لأن الله عز وجل قال: يا يحيى، يا زكريا، يا عيسى بن مريم، لقد نادى أنبياءه أكثرهم أو كلهم بأسمائهم، وذكر هذا الإنسان الضالّ المُضل بكنيته: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ ولكن علماء التفسير لهم في سبب تسمية أبي لهب بكنيته مذاهب شتى.
أولاً: كان اسمه عبد العزى، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن ينسب العبودية لغيره في كتابه، مستحيل أن يذكر الله سبحانه وتعالى اسماً فيه تُنسب العبودية لغيره، إذاً صُرف النظر عن ذكر اسمه عبد العزى فهذا معنى.
المعنى الآخر أن كنيته كانت أشهر من اسمه، فالمتنبي أشهر من اسمه، والجاحظ كذلك، فكنيةُ أبي لهب أشهر من اسمه، أما لماذا سمي أبو لهب؟ فتروي الكتب أن له وجنتين متألقتين كأنهما لهب في خديه، وهذا دليل الجمال، كان جميلاً، وكان يميل إلى البياض والحمرة، فكان يُكنى أبو لهب، فربنا ذكره بكنيته، وكنيته تتناسب مع مصيره، أبو لهب مصيره إلى اللهب، وأبو لهب سيصلى ناراً ذات لهب، هذا توجيه آخر.
وشيء ثالث، أن الاسم عند العرب أشرف من الكنية، لكننا الآن نحن تواضعنا على أن كلمة أبا فلان أليق من أن تقول له يا فلان.
الأنبياء جميعاً ناداهم الله بأسمائهم إلا النبي عليه الصلاة والسلام:
لكن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا(12)﴾
﴿ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا(7)﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ(116)﴾
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ(144)﴾
﴿ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِى وَبِكَلَٰمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ(144)﴾
الأنبياء جميعاً ناداهم الله بأسمائهم إلا النبي عليه الصلاة والسلام.
كرَّم الله سيدنا محمداً فلم يخاطبه باسمه بل خاطبه بمهمته وبمقام النبوة والرسالة:
ليس في القرآن كله آية واحدة نادى بها الله سبحانه وتعالى نبيه يا محمد، لكنه ذكره باسمه على سبيل الخبر، أما كيف خاطبه:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(1)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
لقد كرَّم الله عز وجل سيدنا محمداً فلم يخاطبه باسمه، بل خاطبه بمهمته، وبمقام النبوة، وبمقام الرسالة، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ﴾ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ﴾ وبقية الأنبياء جميعاً خوطبوا بأسمائهم، وهذا لا يمنع أن يتحدث الله سبحانه وتعالى عن رسوله باسمه:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا(29)﴾
إذاً أبو لهب اسمه عبد العزى، شيء آخر أن كنيته كانت أشهر من اسمه، شيء ثالث أن العرب كانت تعظم الاسم، ولا تعظم الكنية.
الدنيا هي الفرصة الوحيدة للتعرف إلى الله عز وجل فالدنيا مزرعة الآخرة:
قال تعالى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إذا فهمنا تبت يدا أبي لهب بمعنى الدعاء فتب تفيد معنى التحقُّق، أيْ إنّ الله سبحانه أعطاه مالاً مثلاً، وقد أعطاه مالاً حقّاً، ثم حرمه الله المال وقد فعل الله ذلك.
﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أول معنى خسر المعركة التي خاضها مع النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أيْ عجز وفشل وأخفق في تحقيق مراده، هذا المعنى الأول، (وتب) وخسر حياته كلها، خسر الدنيا، وهي أثمن ما عند الإنسان، الإنسان في الدنيا يرقى، وفي الدنيا يتعرف إلى الله، الدنيا هي الفرصة الوحيدة للتعرف إلى الله عز وجل، والفرصة الوحيدة للاستقامة على أمره، وللعمل الصالح، لأنّ الدنيا مزرعة الآخرة، فلا تلعنوا الدنيا، لماذا؟ لأن الإنسان يرقى في الجنة عن طريق الدنيا؛ يمتطيها للآخرة، بالدنيا يصل إلى الآخرة، والدليل قوله تعالى متحدثاً عن أهل الجنة حينما يدخلونها يقولون:
﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ(74)﴾
لولا الدنيا لما كانت الآخرة، ولولا الدنيا لما كانت الجنة، ولولا أن الله سبحانه وتعالى خلقك في الدنيا وأعطاك فكراً وكوناً لما عرفته، ولولا أنه أعطاك مالاً فأنفقته في طاعته لما ارتقيت إليه، ولولا أنه زرع في نفسك شهوات فكففت عن محارمه لما شعرت أنك منه قريب.
على الإنسان ألا يلعن الدنيا لأن كل سعادته الأبدية تبدأ من الدنيا:
بهذه الشهوات التي أودعها الله فيك ترقى، وبهذا الفكر الذي وهبه الله لك ترقى، وبهذا المال الذي أعطاك الله إياه ترقى، وبهذا الأسلوب أسلوب الزواج وإنجاب الذرية ترقى بأولادك، وترقى بزوجتك، وإن كان لك عمل فأتقنته ترقى، وإذا نصحت المسلمين ترقى، بعتهم سلعاً جيدة بأسعار معتدلة ترقى، صدقتهم ترقى، نصحتهم ترقى، وضعت لقمة في فم زوجتك ترقى، أدَّبت ولدك ترقى، لاعبت ولدك ترقى، كيفما تحركت رقَيْت، إن كنت مؤمناً كيفما تحركت، فهذا كله عمل صالح مسجل في صحيفتك.
يوم القيامة يطّلع الإنسان على أعماله الصالحة، فيرى أن كل حركة وكل سكَنَة، وكل نظرة، إذا نظر الإنسان إلى أخيه نظرة وُدّ رفعه الله بهذه النظرة، إذا نظر الإنسان إلى والديه -نظر فقط- نظرة رحمة رفعه الله بهذه النظرة، إذا حنا على زوجته، رفعه الله بهذا الحنو، إذا أطعم الجائع وكسا العريان ورحم المصاب، هذا كله في الدنيا، هذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض متوقفة على الدنيا، لذلك هذا الذي يلعن الدنيا لا يعرف شيئاً.
لا تلعن الدنيا، كل سعادتك الأبدية تبدأ من الدنيا، وثمنها الدنيا، والبحث يطول، في الدنيا تتعرف إلى الله، كيف تعرفه، لو لم يخلق لك شمساً وقمراً وجبالاً وبحاراً وأنهاراً وطعاماً وشراباً وفواكه وأزهاراً ونباتات وأشجاراً، كيف تعرفه؟ كيف تعرفه لو لم يخلق لك من صلبك ابناً يشبهك تحبه ويؤنسك؟ كيف تعرفه لو لم يخلق لك من نفسك زوجة تسكن إليها، وجعل بينك وبينها مودة ورحمة؟ كيف تعرفه؟ لا تعرفه إلا في الدنيا.
أولُ (تَبَّ) خسر المعركة و(تبَّ) الثانية خسر حياته:
كيف تتقرب منه؟ بالدنيا، ببذل المال، بالخوف منه، بالخوف من مال حرام، فبالترفع عن المال الحرام ترقى، وأخذ المال الحلال ترقى به، وإنفاق المال الحلال ترقى به، وغض البصر عن محارم الله ترقى به، والنظر إلى زوجتك ترقى بهذه النظرة، جبرت خاطرها بهذه النظرة، هناك أشخاص لؤماء، يبذلون كل مودتهم لغير زوجاتهم، فإذا دخل البيت صار عبوساً قمطريراً، هؤلاء يحاسبون، هذه مَن لها غيرك؟ لماذا المودة البالغة لأختها؟ لماذا اللطف الشديد لقريباتها؟ لماذا النعومة خارج المنزل والفظاظة والغلظة داخله؟ أبواب الجنة كلها في الدنيا مفتحة، فإذا أتقنت عملك ترقى به، وإذا نصحت المسلمين ترقى، وإذا اعتدلت بالسعر فلم تسهم في رفع الأسعار والتضييق على الناس ترقى، وإذا نفذت وعدك ترقى، وفي كل حركة من حركاتك، وكل سكنة من سكناتك، قال تعالى:
﴿ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121)﴾
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّۢ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٌ صَٰلِحٌ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ(120)﴾
فهذه الدنيا، أولاً: تَبَّ وخسر أبو لهب المعركة مع رسول الله، والدعوة انتشرت، والإسلام عمّ الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم رفعه الله إلى أعلى عليين، وسقط أبو لهب في وحل الدنيا، وكان ذكره قميئاً، يبعث الاشمئزاز والاحتقار، لقد خسر أبو لهب المعركة مع النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الخسارة ليست بشيء، إنه خسر دنياه التي هي فرصته الوحيدة لسعادته الأبدية: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أولُ ﴿تَبَّتۡ﴾ خسر المعركة، و﴿تَبَّ﴾ الثانية خسر حياته، فإذا انتقل إلى الدار الآخرة ﴿سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ هذا مصير كل من يعادي الحق، وكل من يضع نفسه ضد الدين أو ضد الهدى الإلهي.
التعبير بالماضي من قِبَلِ الله على شيء لم يحدث بعدُ إنما هو من باب تحقُّق الوقوع:
قال تعالى: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ أما كلمة (تبت) بالماضي، فلما نزلت هذه السورة كان أبو لهب حياً يُرزق وربما استهزأ بها، أنا خسرت! مال عريض، وجاه كبير، وزعامة في قريش، فكيف خسر؟ قال العلماء: إن التعبير بالماضي من قِبَلِ الله عز وجل على شيء لم يحدث بعدُ إنما هو من باب تحقُّق الوقوع. إذا نظر شخص إلى ابنه وهو يهمل دراسته، ولا يبالي لا بوظيفة يكتبها، ولا بدرس يحفظه، ولا بدوام يباشره، فبحسب خبرة الأب يقول: خسر ابني، والابن لا يشعر بهذه الخسارة إلا بعد حين، فالله سبحانه وتعالى رآه معرضاً، معادياً، مبغضاً، فقال: ﴿تَبَّتۡ﴾ وظن أبو لهب حينما تُليت عليه هذه السورة أو بلغت مسامعه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يهجوه بالشعر، فقال: أَقُلتَ فيَّ شعراً، فقال سيدنا الصديق رضي الله عنه: لا والله، ما قال فيك شعراً، النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر، لقد ظنه شعراً.
﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أصبحت واضحة، المعنى الأوجَه؛ ﴿تَبَّتۡ﴾ الأولى: خسر المعركة مع النبي صلى الله عليه وسلم ﴿وَتَبَّ﴾ الثانية: خسر حياته كلها، وهي أثمن شيء عند الإنسان، وفرصة وحيدة لا تُعوَّض.
المال شيء ولكنه ليس كل شيء:
﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ الإنسان أحياناً يتوهم أن المال كل شيء فيسعى له ليلاً ونهاراً: وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي.
هذا ما يفعله معظم الناس، يتوهمون أن سعادتهم كلها بالمال، وأن المال هو كل شيء، وأنه عصب الحياة، ومادة الشهوات، وأنه من ملك المال ملك كل شيء، وأنه من خسر المال خسر كل شيء، والدراهم مراهم، هكذا يتوهم الناس، فإذا لهثوا وراء المال وبلغوا خريف العمر ووجدوا أن المال لم يحقق لهم ما كانوا يتوقعون من سعادة، عندئذ يكون الشعور بالخسارة الكبرى، المال شيء ولكنه ليس كل شيء، سيدنا أبو ذر قال: "حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي" . شعور الإنسان في خريف العمر حينما يحبط عمله، وحينما يخفق في مسعاه، وحينما يشعر أنه أمضى حياة كلها شقاء في شقاء، وأن المال لم يسعده، وأنه أتعبه كثيراً وسبَّب له عداوات خطيرة، عندئذ يعض على يديه، ويقول: يا ليتني لم أفعل هذا.
ترى المؤمن يتوفاه الله عز وجل، ولكن أولاده في رعاية الله، وفي حفظه الله، وفي توفيقه، وقد لا يدع لهم مالاً كثيراً، ولكنه ترك لهم سمعةً طيبة يعيشون بها بين الناس، أما أبو لهب ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ ماذا يفعل المال؟
مرة كنت عند طبيب، جاءه هاتف، ولشدة ارتفاع الصوت بالهاتف سمعت الذي يخاطبه، قال له: يا دكتور نبعثه إلى أيِّ مكان تريد، وقدِّر المبلغ، وندفع، قال: واللهِ لا أمل له، سرطان مستفحل، لو استأصلناه ينمو بعد أسبوعين، ليس عندي حل، وبقيت كلمة: ندفع المبلغ مهما كان، وإلى أي مكان في العالم نأخذه. ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾
المال لا يفعل شيئاً، هو شيء وليس كل شيء، إذاً أبو لهب ظن أن ماله يحميه من مغبة أعماله السيئة، ولكن المال لا يحميه، كان أبو لهب يقول: إن كان ما يقوله حقاً -إذا كانت الآخرة حقّاً، وفيها جهنم- إن كان ما يقوله هذا الرجل - أي رسول الله - حقاً فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، وسأدبر أمري، أدفع مالاً في الآخرة وينقذني، هذا في الدنيا، تخرج بكفالة في الدنيا فحسب، هكذا كان يقول: إن كان ما يقول هذا الرجل حقاً فإنني أفدي نفسي بمالي وولدي، فربنا أجابه: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ. ))
[ النسائي عَنْ عَائِشَةَ ]
فكلمة (كسب) هنا تعني الولد: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ لقول النبي عليه الصلاة والسلام، (إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ) والنبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى الصدقة الجارية:
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. ))
[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
فالولد الصالح صدقة جارية، لذلك أفضل كسب الرجل ولده، أي أعظم عمل تقوم به أن تعتني بولدك، فإذا اعتنيت به وكان خليفة لك يدعو إلى الله من بعدك، كان عالماً، كان ديِّناً، كان إنساناً طيباً صالحاً، فإنه ذخر لك من بعد موتك.
من معاني الآية التالية أن الإنسان لا ينفعه ولده ولا ماله:
وما كسب مِن ولدٍ، بعض المفسرين قال: ﴿وما كسب﴾ أيْ مِن ولد، وولد الرجل من كسبه، وقد كان العرب في الجاهلية يعتزون بالمال والولد لذلك قال: إن كان ما يقول هذا الرجل حقاً فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فقال الله عز وجل: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ هذا معنى، أي لا ينفعه ولده ولا ينفعه ماله، قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
كسب الإنسان لا ينفعه إذا جاء الموت إلا ما كان على تقوى:
بعضهم قال: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ (ما) هنا نافية، أيْ لم يغن عنه ماله ولا أولاده، وبعضهم قال: (ما) استفهامية، ما أغنى عنه ماله؟ أم أغنى؟ وبعضهم قال: ما أغنى عنه ماله وما كسب، (ما) في الآية مصدرية، بمعنى ما أغنى عنه ماله وكسبُه، وقد تكون (ما) موصولة بمعنى: الذي كسب من عمل، صار المال شيئاً والعمل الطيب شيئاً آخر، عمله في الدنيا، الناس يعملون، هذا يؤسس مثلاً محلاً، وذاك يؤسس مصنعاً صغيراً، وآخر يقيم حقلاً، وغيره يعمل مشروعاً زراعياً، ثم يأتي الموت، وهذا كله من كسبه.
﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ قال لي شخص: بلَّغوا صاحب شركة ضخمة أن أرباحنا هذه السنة بلغت خمسة ملايين، تبلَّغ هذا صباحاً، وفي الساعة الخامسة مساءً تُوُفِّيَ: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ الآن يجـب على الإنسان أن ينتبه، فمنجزاته في الدنيا لا تغني عنه شيئاً، لو فرضنا أنّ مهندساً أشاد أعظم بناء، فهذا البناء لا يشفع له عند الله، ولو فرضنا أنّ محامياً استطاع أن ينتصر في أعقد قضية، فهذا الانتصار في هذه القضية إن لم يكن في الحق فلا قيمة له عند الله، وقد يبلغ الرجل أعلى درجة، ويبلغ شهرة عريضة، وقد يكون غنياً كبيراً، هذا (أُنَسيس) الذي كان من أغنى الناس على الأرض، كان عنده أساطيل تجارية، وعنده جزر وكلها مِلكه، ومع ذلك ألم يأته الموت؟ وحينما توفي ماذا أخذ معه: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ .
ربنا عز وجل جعل الموت موعظة بليغة:
الحقيقة أن ربنا عز وجل جعل الموت موعظة بليغة، كان من الممكن أن نُخلَق جميعاً دفعة واحدة، ونموت جميعاً دفعة واحدة، وبهذه الطريقة لا يتعظ أحدنا بأحدنا، لكن هذا النظام الإلهي، أن أناساً يولدون، وأناساً يكبرون، وأناساً يموتون، الموت موعظة بليغة.
إنسان دُعِي إلى وليمة، والوليمة الساعة الثانية والنصف ظهراً، وفي الساعة الثانية كان عنده ثريا يجب أن يركِّبها، في أثناء تركيب الثريا تكهرب فأغمي عليه، والذي أقام الوليمة انتظر، والطعام جاء ساخناً من المطعم، فقال: تفقدوه، فإذا هو في المشفى، دخلوا عليه فإذا هو قد فارق الحياة، هذا الطعام الذي أُعِدّ له لم يُتَحْ له أن يأكله. دخلنا في معنى آخر، منجزات الإنسان في الدنيا، إن كان حقق نجاحاً في التجارة، وإن كان حقق نجاحاً في الصناعة، وإن كان حقق نجاحاً في العلم، أخذ شهادة بورد، وإن كان حقق نجاحاً في كسب المال، وإن كان حقق نجاحاً في أولاده، عنده ثمانية مهندسين وأربعة أطباء، وإن كان حقق نجاحاً في بناته، زوّجهم إلى أشخاص من وجهاء المجتمع، أصهارُهُ من الدرجة الأولى، وإن كان حقق نجاحاً في كل منحى من مناحي الحياة، وجاءه الموت وكان عمله سيئاً: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾ إذاً لنجعل هذه الآية في بؤرة ذاكرتنا، الخلاصة إذاً: أنه ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ ، أخفق في مسعاه، وخسر حياته كلها، وحينما يموت ﴿سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ أحياناً ارتفاع الحر فيه موعظة، فربنا عز وجل إذا رفع الحرارة قليلاً ضجّ الناس، تُرى ما هذه النار ذات اللهب؟ ﴿سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾
إذا أطاعت امرأةٌ زوجها في معصية فشأنها شأنه ومصيرها مصيره والعكس صحيح:
الحر لا يطاق، هذا الحر الشديد ليس بشيء أمام حر جهنم.
﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ (81)﴾
إذا كان عند الإنسان مكيف في الدنيا فلن يكون له ذلك في الآخرة: ﴿سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ قال لي رجل: أنا عندي خمسة مكيفات، واحد بغرفة الضيوف، وآخر بغرفة النوم، ومكيف بالمطبخ، ومكيف بالصالون، وغير ذلك، ولكن ليس في الآخرة مِن مكيف، فإذا كان من أهل الدنيا العصاة فسيصلى ناراً ذات لهب.
﴿وَٱمۡرَأَتُهُ﴾ أما كلمة (وامرأته) فينخلع لها القلب، إذا طاوعت امرأةٌ زوجها في معصية فالآية موجهة إليها: ﴿سَيَصۡلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَٱمۡرَأَتُهُۥ﴾ وإذا طاوع الزوجُ امرأتَه في معصية فستصلى ناراً ذات لهب وزوجها معها، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والمرأة التي تقول لزوجها: لا أعصي الله وافعل ما شئت، طلقني إذا شئت، إنه لن يطلقها، وسوف يكرمها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ. ))
[ أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بسند ضعيف ]
إذا آذيت أولياء الله عز وجل فأنت في حرب مع الله فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم:
اعلمْ أنّ دين الرجل مؤلف من مئة ألف فقرة أو أكثر، فنظرُ الريبة يُحاسب عليه، وحلف يمين كاذبة يُحاسب عليها، ورفع السعر يُحاسب، وإنْ أخفى العيب فسيحاسب عليه، أو باعه تقسيطاً بسعر أغلى يحاسب، وهناك أكثر من ألف أو ألفي علاقة محرمة في البيع والشراء، وإذا دخل إلى البيت فقبَّل ابناً وما قبَّل الثاني فسيُحاسب، وإذا حكَّموه وظلم فسيُحاسب، فدينُ الرجل معقد جداً، فيجب أن يكون دقيقاً في معاملاته، وفي بيعه وشرائه، وفي جواره، وفي حديثه، وفي نظراته، أما المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها، وحفظت نفسها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها، فإذا أطاعته في معصية انطبقتْ عليها هذه الآية: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ يروي التاريخ أن لأبي لهب أولاداً ثلاثة، الأول معتب والثاني عتبة، وقد أسلما وتبعا النبي عليه الصلاة والسلام، وخدماه خدمة راقية وأحباه، وأما عتيبة فجاهر بإيذائه وعداوته للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان زوج ابنة النبي فطلقها كي يغيظه بها، فدعا عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال:
(( اللهم سلط عليه كلبك فخرج في قافلة يريد الشام، فنزل منزلا، فقال: إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا له: كلا، فحطوا متاعهم حوله، وقعدوا يحرسونه، فجاء الأسد فانتزعه، فذهب به. ))
فلما يتصدى الإنسانُ للأنبياء، ومن آذى لي ولياً آذنته بالحرب، هذا يدعو إلى الله اتركه، دعه وشأنه، فإذا آذيت أولياء الله عز وجل فأنت في حرب مع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ عارضه عتيبة، وجاهره وناصبه العداء، وطلق له ابنته ليغيظه بها، فدعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام.
العلاقات في الإسلام أساسها المبادئ لا العلاقات الشخصية:
فيما يقابل هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( سلمان منَّا أهل البيت ))
[ الحاكم والطبراني بسند ضعيف ]
سلمان الفارسي منا آل البيت، أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً، وعمه أبو لهب: ﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ﴾
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ. ))
(( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْه. ))
[ البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
العلاقات في الإسلام أساسها العلاقات المبدئية، أساسها المبادئ لا العلاقات الشخصية، ولا العلاقات النَّسَبية، ولا التجمعات الإقليمية، هذا كله في الإسلام مرفوض: (سلمان منَّا أهل البيت) .
(( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ. ))
[ البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
(( عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ أخوانكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ))
[ البخاري عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ]
هذا هو الإسلام، الإسلام جعل الناس سواسية كأسنان المشط، سيدنا أسامة بن زيد كان شاباً لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً، وكان أسود اللون أفطس الأنف، وكان حِبَّ رسول الله، وكان يسمى بين الصحابة "الحِبَّ ابن الحِب" ، كان هو حِبَّ رسول الله، أي محبوب رسول الله، وكان أبوه كذلك، لما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة الجيش، وتوفي ولم يُرسَل هذا الجيش، فتابع سيدنا الصديق أمر إنفاذ الجيش، وفيه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، كبار الصحابة كانوا جنوداً تحت إمرته، وهو لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً، والصحابة تكلموا، فقالوا: ما هذا؟ هذا يقودنا؟ رفعوا أمرهم إلى سيدنا عمر، وسيدنا عمر كان ذكياً، تبنَّى رأيهم ليُسمِعَهم رد الصديق، فما كان من سيدنا أبي بكر رضي الله عنه إلا أن أمسكه من لحيته وكادت تنخلع بيده، وهزه هزاً عنيفاً، وقال: ثكلتك أمك يا بن الخطاب، أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، أتمنعني أن أجيّش جيشاً جيَّشه رسول الله، واللهِ لينفذن بعث أسامة، وخرج سيدنا الصديق وهو الخليفة الوقور، خرج يمشي وأسامة راكب على ناقة، لم يحتمل أسامة هذا الموقف، قال: واللهِ يا خليفة رسول الله لتركبنَّ أو لأنزلن، فقال: والله لا ركبت ولا نزلت، وما عليَّ أن تغبرَّ قدماي ساعة في سبيل الله، وسار بركابه، فلما وصلا إلى مكان تجمع الجيش استأذنه بعمر، أتأذن لي بعمر ليكون وزيراً معي، هذا الإسلام. إنّ اللون لا قيمة له، والأصل لا قيمة له، ومكان الولادة لا قيمة له، وكذا مكانة الأبوين، لا قيمة إلا قيمة واحدة:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾
من علامات المؤمن أدبه الشديد مع الناس ومن علامات غير المؤمن تكبره واستعلاؤه:
يا سعد لا يغرنَّك أنه قد قيل خال رسول الله، الخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، لا أعتقد أن هناك صحابياً جليلاً سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعه سعد في بعض المعارك:
(( عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَداً غَيْرَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ. ))
[ متفق عليه عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
ما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأحد: فداك أبي وأمي إلا لسعد.
(( أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ. ))
[ الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]
كان عليه الصلاة والسلام مرحاً، وكان ودوداً مع أصحابه، يعرف قيمتهم واحداً وَاحداً:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَرِيباً مِنْهُ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ قَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ ))
[ متفق عليه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
ومرة دخل سيدنا أبو بكر فما وجد مكاناً ليجلس فيه، فسيدنا علي رضي الله عنه أزاح له، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، وأثنى على سيدنا علي، وعلى سيدنا أبي بكر في آن واحد، كان إذا دخل عليه سعد يقول هذا خالي، خال بعيد المرتبة، أروني خالاً مثل خالي، ارم سعد فداك أبي وأمي، ما هذا المقام؟ هل بعده من مقام، قال له عمر: يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله -إياك أن تُغَرَّ بها- فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينهم وبينه قرابة إلا طاعتهم له، إياك أن تستعلي على أحد، إياك أن ترى نفسك خيراً من أحد، كلهم عباد الله، هذا الذي تحتقره قد يكون مقامه عند الله عز وجل أضعاف مقامك، من علامات المؤمن أدبه الشديد مع الناس، ومن علامات غير المؤمن تكبره واستعلاؤه.
أربع كلمات مهلكات وعلامة الإيمان التواضع:
ثلاث كلمات مهلكات: أنا ولي وعندي، قال إبليس:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ(12)﴾
فأهلكه الله عز وجل، وقالها قارون:
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ(78)﴾
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ(81)﴾
وقالها فرعون:
﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِۦ قَالَ يَٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ ٱلْأَنْهَٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)﴾
فأغرقه الله في البحر:
﴿ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوٓاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ(46)﴾
ثلاث كلمات مهلكات، فعلامة إيمانك التواضع، وهذا الذي أمامك عبد من عباد الله، فلا تدري قد يكون له عند الله شأن غير شأنك، فتأدَّب مع الناس.
(( عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ. ))
[ ابن ماجه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ]
وهذا من تواضع النبي عليه الصلاة والسلام.
تقييم البشر من شأن الله وحده :
إذاً وصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتيبة بالهلاك فأهلكه الله، فيا أيها الإنسان لا تستعدِ، ولا تكن عدواً للحق، ولا تهرف بما لا تعرف، فتقول: فلان مبطل، تأكَّدْ من هذا الكلام، لمَ نقلت كلام لستَ متأكداً منه لا تصِم الناس بالباطل، ولا تكفِّر أحداً، فمن كفَّر الناس فهو أكفرهم، قل: لا أعلم، لأنّ تقييم البشر من شأن الله، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(118)﴾
هذا ليس من شأني، ما قولك بفلان؟ لا علاقة لي، أنا عليَّ بنفسي.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)﴾
أنا لستُ مكلفاً بتقييم الناس، فلان على الحق أم على الباطل؟ لا أدري والله، إن كان مطبقاً لكتاب الله فهو على الحق، ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
علامة المؤمن أن كاهله ليس عليه شيء:
قال تعالى: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ قالوا: حمالة الحطب أي حمالة الذنوب، الحطب هنا كناية عن الذنوب، حينما يفعل الإنسان أعمالاً سيئة، يؤذي إنساناً، يغتصب مالاً، يسبب خراب بيت إنسان آخر، أو دمار أسرة، فيفرق بين أم وابنها، وبين أخ وأخيه، وبين زوجة وزوجها، يجعل إنساناً يفلس، أو يورطه في ورطة كبيرة، أو يسبب له مرضاً خبيثاً على أثر صدمة آلمته، فهذه كلها أعمال كأنها أحمال فوق ظهره، المؤمن خفيف، ينام مساءً ولا أحد متعلق معه بحق، فلو أنّ نملة داسها لم يكن عليه أنْ ينام الليل، فقد تسبَّب بموت مخلوق، فعلامة المؤمن أن كاهله ليس عليه شيء، ما أكل مالاً حراماً، لا آذى إنساناً، ولا سبَّب شقاء أسرة، ولا دمار مستقبل فتاة، فإذا خبَّب امرأةً، أو أفسد فتاة قضى معها شهوته وانصرف، لكنها أصبحت مومساً، وصارت هي وذريتها وذرية ذريتها إلى جهنم، أرأيت هذا الجيل؟ جيل من الفتيات المومسات هذه في صحيفته، ويوم القيامة يكشف له عن ذلك، انظر هذه التي قضيت شهوتك منها لساعة، دمّرتها، وكان يمكن أن تكون أمّاً صالحة ولها زوج ولها أولاد وأصهار، فأفسدتها وجعلتها زانية. مثلاً امرأة التجأت إلى إنسان لحل قضية فراودها عن نفسها، يبدو أنها طاوعته، فقال لي شخص: إنها كانت تضع على وجهها خماراً بعد ذلك نزعته، وصار بعد ذلك فقط حجاباً،وبعدها صارت من دون شيء، وبعد ذلك أصبحتْ تدير الآن بيتاً للدعارة، مَن السبب؟ هذا الذي أفسدها، هذا العمل عندما ينكشف في الآخرة فمضاعفاته لا حصر لها، يمكن أن يلقى الزاني ثمانمئة ألف ساقطة في صحيفته، هذا صار عبئاً عليه: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ أتستطيع أن تحمل كل هذه الأحمال، تكذب وتغش وتحلف يميناً باطلةً، وتؤذي إنساناً، وتورط آخر في ورطة، أين أنت سائر، القضية خطيرة جداً، فإذا أشقيت أسرة يكفي أنْ تفسد علاقة بين زوجين، فإذا طلقها من أجلك كنتَ أنتَ سببَ تعاسة للأطفال.
علامة المؤمن أنه ينام مطمئناً.
علامة المؤمن أنّ بالَه مرتاحٌ، لم يبنِ مجده على أنقاض الآخرين، ولا سعادته على شقائهم، ولا جمع ماله على إفقارهم، ولا بنى أمنه على قلقهم، بالعكس، فهو مصدر خير ومصدر سعادة للناس وطمأنينة، فلا يخيف أحداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلماً. ))
(( عن عَائِشَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. ))
[ متفق عليه عن عَائِشَةَ ]
(( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه. ))
فإياك أن تكون أداة للشر، إياك أن تكون أداة بيد شرير، لذلك هذه ﴿حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ من معانيها كل ذنب حطبة، هذا الحمل سوف يسحق صاحبه، هذا أول معنى من معانيها ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ .
والمعنى الثاني: كلمة امرأة بعضهم يرى أنها مشتقة من المرآة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( المَرْءُ على دِينِ خَليلِه، فَلْينْظُرْ أَحَدُكُم مَنْ يُخالِل. ))
الآن أنت وحدك صلِّ بإتقان، صل الصبح حاضراً، بعد أسبوع تستيقظ زوجتك معك، فإذا نمت إلى ما بعد طلوع الشمس بقيت هي نائمة، وإذا كنت ورعاً رأيتها ورعة، تكلَّمْ أنت على النساء تتكلم هي على الرجال، كُفَّ عن الغيبة، استحتْ أن تغتاب، هذه الحقيقة ثابتة (المَرْءُ على دِينِ خَليلِه) ، إنْ رأتك ورعاً تكن ورعة، شريفاً شريفة، لا تنظر فهي لا تنظر، عندك رحمة ترحم، كلامك قاس تقسو بكلامها، تسب أهلها تسب أهلك، (المَرْءُ على دِينِ خَليلِه، فَلْينْظُرْ أَحَدُكُم مَنْ يُخالِل) .
فكلمة ﴿وَٱمۡرَأَتُهُ﴾ مرآة له، فهذا المعنى الأول، ﴿حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ كانت هذه أم جميل، سموها العوراء، وأم قبيح وليست أم جميل، هذا الاسم لا يليق بها، كانت عوراء، وسماها المفسرون أيضاً أم قبيح: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ﴾ أي تحمل هذه الأوزار والذنوب التي سوف تحرقها في النار.
والذي يأكل مال اليتيم، والذي يأكل الحرام، والذي يأكل الربا، أو الذي يوكله، الذي يغصب أموال الناس، والذي يغشهم في البيع والشراء، الذي يبخسهم بضاعتهم، إن باعوا أطروا، وإن اشتروا ذموا، مَن يفعل هذا فإنما:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾
الملف مدقق