وضع داكن
19-11-2024
Logo
الدرس : سورة الليل - تفسير الآيآت 1-21 التيسير والتعسير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد الله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الله سبحانه وتعالى في السور المكيـة يُقسِم ببعض الآيات الكونية:


أيُّها الإخوة الكرام:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (11)﴾

[ سورة الليل ]

الله سبحانه وتعالى في هذه السوَر المكيَّـة يُقسِم ببعض الآيات الكونية، وآية اليوم هي الليل:
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) يغشى أي: يُغطّي، فالليل يُغطّي وجه الشمس، والليل يُغطّي النهار، والليل يستر كل شيء فلا ترى فيه شيئاً، ترتاح فيه طاقاتنا العصبية، ما مِنّا واحدٌ إلا ويعرف قيمة النوم، فلو بقي بلا نوم يومين متتابعين لاختل كيانه، واختل توازنه.

الليل نظام إلهي تسكن فيه الخلائق والنهار كذلك نظام إلهي ولكنه حركة وانطلاق:


فالله سبحانه وتعالى جعل الليل سكناً، فحينمـا يُغشّي الليلُ النهار، أو حينما يُغشّي الليلُ ضوء الشمس، أو حينما يُغشّي الليلُ كل شيءٍ في نصف الكرة الأرضية، عندئذٍ تسكن الدنيا، فإن لم يكن ليـل فماذا يحصل؟ تنقلب حياتنا إلى فوضى، فهذا نام عشر ساعات، وبدأ يعمل، وهذا بدأ بالنوم، ينعدم الزمن فكيف نحسب الأيام؟ لا ليل ولا نهار، ولكن ضياءً مستمراً، أو ظلاماً مستمراً، تصوروا لو فَقدَت الأرض دورانها، ولو بقي الليل سرمداً إلى يوم القيامة، أو بقي النهار سرمداً إلى يوم القيامة فماذا يحصل؟ ينعدم الزمن، وما عرفنا عدد السنين والحساب، وما عرفنا أعمارنا، وما عرفنا النظام، لاختلفنا على العمل وعلى ساعات العمل، ولكن الليل نظامٌ إلهي تسكن فيه الخلائق جميعاً، والنهار: 

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)﴾

[ سورة النبأ ]

النهار لكسب الرزق جعله مضيئاً وجعله واضحاً، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) .
فيا أيُّها الإنسان الكريم: يا أيُّها المؤمن: هل فكرت في هذه الآية، في الليل كيف أنه رحمةٌ بنا، وأنه نظامٌ لحياتنا، وسكنٌ لأعصابنا، وأنه آيةٌ من آيات الله، على دوران الأرض حول نفسها، لولا القمر لأصبح الليل أربع ساعات، إذاً الأرض والقمر وحجم الأرض وسرعة دورانها، تُسهمان في هذا التوقيت المناسب، الليل ثماني ساعات، أو عشر ساعات، أو اثنتي عشرة ساعة، وهذا الوقت مناسبٌ لراحة الأجسام، أيُّ توفيقٍ بين طاقة الإنسان وحاجته إلى النوم، وبين دورة الأرض حول نفسها، ربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ) .

الليل والنهار آيتان من آيات الله عزَّ وجل:


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ  ))

[ الألباني السلسلة الصحيحة ]

ظهرَ النهار، وظهرَ فيه كل شيء، وتوضَّحت معالم الأشياء، وتوضَّحت معالم الأرض، وتوضَّحت حاجاتنا، دخل النور إلى بيوتنا فاستغنينا به عن ضوء الكهرباء وعن ضوء الشموع.
(وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ) وقد يقول قائل: لماذا كان (يغشى) فعلاً مضارعاً، والفعل (تجلَّى) فعلاً ماضياً؟ لأن النهار هو التفاتٌ نحو الشمس، والشمس مضيئةٌ دائماً، بينما الليل هو ابتعادٌ عن وجهها، أو دورة الأرض حول نفسها، بحيث تأتي هذه النقطة معاكسةً لضوء الشمس، إذاً الليل يغشى، والفعل المضارع فيه معنى الاستمرار، ولكن الشمس ساطعةٌ مشرقةٌ دوماً، فإذا كانت هذه النقطة على سطح الأرض في الجهة المعاكسة كان الليل، أمّا (تجلَّى) فيعني أنّ الشمس ساطعةٌ دائماً، فالليل والنهار آيتان من آيات الله عزَّ وجل.

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾

[ سورة فصلت ]

ومن آياته أيضاً

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾

[ سورة آل عمران ]

واختلاف طولهما وثبات دورانهما، وهما أيضاً آيتان من آيات الله عزَّ وجل.

الفروق بين الذكر والأنثى:


(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) هذا النظام البديع في كون الخلائق كلها ذكراً أو أنثى، هذه النطفة التي لقَّحت هذه البويضة، لا يمكن أن تكون ذكراً أو أنثى، فكيف أصبح الذكر ذكراً والأنثى أنثى؟ وكيف أصبح الرجل له صفاتٌ خاصة، بدءاً من هيكله العظمي، وله جمجمةٌ كبيرة، وله حوضٌ ضيِّق، وعضلاتٌ مفتولة، وصوتٌ خشن، وشعر في أماكن خاصة لا ينبت لدى المرأة، وله شكلٌ مُعيَّن، وطِباعٌ مُعينَّة، وأجهزةٌ مُعينَّة، وقدراتٌ في فكره مُعينَّة، ونفسيةٌ مُعينَّة، وطموحاتٌ مُعينَّة، ويتقن أعمالاً مُعينَّة، والمرأة لها هيكلٌ عظميٌ آخر، اتساعٌ في الحوض، وصِغَرٌ في الجمجمة، ولها أجهزةٌ خاصة من أجل الحمل والولادة، ولها شكلٌ خاص، وعضلاتٌ خاصة، لها توضُّع شحمٍ خاص تحت الجلد، ولها نبرةٌ خاصة، وعقليةٌ خاصة، وطبعٌ خاص، وطموحاتٌ خاصة، وأهدافٌ خاصة، (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) 

﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37)﴾

[ سورة القيامة ]

تلقِّح بويضة فإذا هما مخلوقان متباينان، ذكرٌ وأنثى.
وفي بعض العلوم الحديثة، تِبيانٌ مُفصَّلٌ جداً للفروق الدقيقة بين الذكور والإناث، ذاكرة المرأة أقوى من ذاكرة الرجُل، لكن محاكمة الرجُل أقوى من محاكمة المرأة، والعاطفة تغلب على المرأة، بينما العقل يغلب على الرجُل، اللحظة الآنية تغلب على المرأة، لكن الهدف البعيد يغلب على الرجُل، الرجُل يحب القيادة، بينما المرأة تستمتع أن تنقاد إلى زوجها، طبعاً هذا كلام عام، لا يمنع أن ترى امرأةً مُسترجلة، أو رجُلاً مُخنَّثاً، فهذه حالاتٌ خاصة، لكن الأصل في الزوجين أنهما متباينان في الطباع، والعادات، والتفكير، ونمط الحياة، ونمط السلوك، والنفسية، والرغبات، والطموحات، والشكل، والبنية، وفي الأعضاء.

الآية التالية تحتمل وجوهاً كثيرة في التفسير:


(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى)  هذا المعنى الأول، وبعضهم فسَّر هذه الآية، آدم وحواء، كيف أنَّ البشر كلهم انحدروا من هذين الإنسانينِ، وكلمة (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) هذه (ما) تعني خَلْقَ الذَّكرِ والأنثى، أيْ عظمة خلْق الذكر والأنثى، ولكن المعنى الثاني: ومَنْ خلق الذكر والأنثى، فكأن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

ومَن خلق الذكر والأنثى؟ ومن خطّط للذكر والأنثى؟ ومَن صمّم الذكر والأنثى؟ ومن ابتدع الذكر والأنثى على غير مثالٍ سابق؟ وبعضهم قال: وما خلق من ذكرٍ وأنثى، والمقصود (بمِن) هنا المؤمنون، الأنبياء، والصالحون، والصدّيقون، وكأن الله سبحانه وتعالى أقسم بعباده المؤمنين، وهذه الآية تحتمل وجوهاً كثيرة.
أولاً: وخلق الذكر والأنثى.
ثانياً: ومن خلق الذكر والأنثى.
ثالثاً: وما خلق من ذكرٍ وأنثى.
 و(مِنْ) هنا للتبعيض، أي خلق مِن ذكرٍ وأنثى صالحين، فأقسم بذاته، أو أقسم بعباده الصالحين، أو أقسم بهذه الآية الكبرى من آياته سبحانه.
والمجال يضيق عن التفصيل في الفروق بين الذكر والأنثى، وليس هذا منحصراً في الإنسان، لكنه ينسحب على الحيوان أيضاً، وعلى كل مخلوقٍ ذي روحٍ، ذكرٌ وأنثى، فللذكر طباعه، وللأنثى طباعها، الناقة والجمل، الهرة وذَكَرُها، طباعٌ مختلفة، وهذا بابٌ كبير من أبواب التفكير، لأن الفروق بين الذكر والأنثى لا على مستوى الإنسان فحسب، بل على مستوى مخلوقات الله كافةً، وربما ينسحب ذلك إلى النبات، فهناك نباتٌ مذكر ونباتٌ مؤنث، ولا تنعقد الثمرة إلا إذا تم التلقيح بين المُذكَّر والمؤنث.

السعي في هذه الحياة هو نشاط الإنسان وحركته اليومية:


(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) هذه هي موضوعات القسَم (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ) ما جواب القسَم؟ (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن سعيَكم في هذه الحياة، نشاطكم، وحركتكم اليومية، انظر إلى الطرقات في الساعة الثامنة، وانظر إليها في الساعة الخامسة، تزدحم بالمارَّة، كلٌّ إلى عمله، وهذا إلى مكتبه، وهذا إلى دائرته، هذا إلى أرضه، وهذا إلى عقد صفقة، وهذا إلى بيع أرض، وهذا إلى شراء بيت، وهذا إلى قراءة كتاب، وهذا إلى اقتناء حاجة، وهذا إلى إقامة دعوى، وهذا إلى صلح، وهذا إلى تعلُّم آيات الله، وهذا إلى حفظ القرآن، وهذا إلى حضور مجلس عِلم، وهذا إلى طلاق زوجته، وهذا إلى اغتصاب مال جاره، وهذا إلى الكيد برفقائه، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .
ولو نظرت إلى الناس صباحاً في المدن المزدحمة، لوجدت أنه ما من واحدٍ منهم إلا وله مسعىً ونشاطاً يستقل به عن أخيه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .

سعي البشر متباين ومتفرِّق في نتائجه مختلف في حقيقته:


ولكن ربما لا يبدو هذا المعنى كافياً، لكونه جواباً لقسَم، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ) فلو قلت لكم مثلاً: واللِه العظيم إنَّ الأرض غير السماء، طبعاً الأرض غير السماء، واللهِ العظيم إنَّ هذا غير هذا، طبعاً هذا شيء بديهي، فما المقصود إذاً من كلمة (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) .
قال بعضهم: إن سعيَكم متباينٌ متفرقٌ في نتائجه، مختلفٌ في حقيقته، هذه بديهةٌ مُسلَّمٌ بها، لا يختلف فيها اثنان، لأن كل إنسان له في الحياة طريق، وله فيها مطلب، وغاية، ومبعَث، ونيَّة، ودافع، وحاجة، ونمط، فمعنى شتَّى أي مُفترِق، لكن الذي يريده الله عزَّ وجل كجوابٍ لهذا القسَم العظيم: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) أي شتَّان بين سعيٍ وسعي، شتَّان بين عملٍ وعمل، شتَّان بين اتجاهٍ واتجاه، شتَّان بين ميلٍ وميل، شتَّان بين نشاطٍ ونشاط، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .

آيات قرآنية تُبيِّن أن سعي البشر متباين: 


سعيٌ يؤدي إلى المشنقة، وبعدها إلى جهنم وبئس المصير، وسعيٌ يؤدي إلى عز الدنيا والآخرة، فهل يجتمعان؟ شتَّان، سعيٌ يؤدي إلى سعادةٍ في البيت، وسعادةٍ في الحياة، وسعادةٍ بعد الممات، إلى ما لا يعلم إلا الله، إلى الأبد، وسعيٌ يؤدي إلى خزيٍ في الحياة الدنيا، وإلى عذابٍ عظيمٍ ومهينٍ أليم، ثم إلى جهنم وبئس المصير، هذا المعنى، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إنَّ هذا السعي غير ذاك السعي، لا يجتمعان، لا يمكن أن يجتمعا في موازنة.

﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم (14)﴾

[ سورة محمد ]

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص ]

هذا هو المعنى.

ليس في الأرض إنسان يستحق أن يكون قبلتك:


(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي مختلف، هذا الذي يبتغي مرضاة الله عزَّ وجل، والذي يخشى الله، ويخاف مقام ربه، ويقول: هذا حرام، إني أخاف الله رب العالمين.

﴿  وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]

لا أفعل هذا ولو قطّعت إرباً إرباً، هل هذا الإنسان المنضبط المُحب الخائف الذي يرجو رضاء الله عزَّ وجل، كالإنسان الذي يأكل المال من أي جهةٍ، ولا يعبأ أحرامٌ هو أم حلال؟ ويبني مجده على أنقاض الآخرين، ويبني غناه على فقرهم، ويبني أمنه على خوفهم، فهل هذا مثل ذاك؟ (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .
لِيُقيِّمْ كلُّ واحدٍ نفسَه، ما الذي أبغيه من حياتي؟ يقيِّم سعيه، إلى ماذا يسعى؟ إلى دنيا فانية تنتهي بالموت، أم إلى آخرةٍ باقية؟ هل يسعى إلى إرضاء إنسانٍ ما، وليس في الأرض كلها إنسان يستحق أن تُرضيه، وليس في الأرض كلها إنسان يستحق أن يكون قِبلتك.
هل تسعى لإرضاء مخلوق أم لإرضاء الخالق؟ هل أنت عبدٌ لله، أم عبدٌ لعبد الله؟ هل تنضبط بالشرع أم تنضبط بالهوى؟ هل تحكم نفسك أم تحكمك نفسُك؟ هل يقودك الهوى أم يقودك العقل؟ (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ليس هناك نسبة، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) .

في الأرض اتجاهان اثنان لا ثالث لهما:


لكن هذا الاختلاف ظاهرٌ بين سعي الناس جميعاً، فإذا كان على الأرض ستة آلاف مليون إنسان، فهناك إذاً ستة آلاف مليـون سعي، وستة آلاف مليون اتجاه، وستة آلاف مليون هدف، لكن اللهُ سبحانه وتعالى أراد أن يُصنِّف كل هذه الأهداف، وكل هذه النشاطات، وكل هذه الاتجاهات في طريقين اثنين لا ثالث لهما، فما هذان الطريقان؟ 
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ) لا يمكن أن يكون أحدنا إلا منضوياً تحت أحد هذين التصنيفين، فالطبيب يسعى لجمع المال، والتاجر كذلك، والمهندس، والعامـل، والصانع، والفلاح، وزارع الأرض، والموظف، ومن يملك مهنةً راقية، وصاحب الخدمات، فاختلاف المِهن كلها لها هدفٌ واحد، أن تكسب منها رزقاً، وهذا اختلاف كثرة ووحدة تنوّع، وربنا عزَّ وجل قال: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) مع أنَّ السعي مختلف جداً، ولكن كل هذا السعي لا بُدَّ أن ينضوي تحت هذين الاتجاهين الكبيرين، ما هما؟

الإنسان خُلِق في هذه الدنيا ليعطي فاللهُ يعطينا لنعطي:


(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) يا الله على روعة القرآن! أعطى ماذا؟ أغفل الله المفعول به، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) 
 مُطلق العطاء، مجرد العطاء، أن تعطي من مالك، وأن تعطي من وقتك، وأن تعطي من جهدك، وأن تعطي من خبرتك، وأن تعطي من رأيك، وأن تعطي من سُمعتك، ومن مكانتك، وأن تعطي الناس، شيئاً ما، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) أي أنت خلقت في هذه الدنيا لتعطي، فاللهُ يُعطيك لتعطي.

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾

[ سورة القصص ]

إنما أعطاك لتُعطي، فعطاؤه من أجل العطاء، لا من أجل أن تأخذ العطاء وتحرِص عليه، فتمنعه عن الناس.

العطاء لا بُدَّ له من أساس وهو التقوى:


(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)  البلاغة في الإيجاز، وهذا إيجازٌ غنيّ، أعطى علمه، ماله، خبرته، رعايته، وقته، وجهده، وعطفه، فقد تحتاج هذه الزوجة إلى عطفٍ منك، لو أنها لا تـروق لك، فلا بُدَّ من أن تعطف عليها، لا بُدَّ من أن تُشعرها أنك تحبها. 
أَعْطَى، أعطى العطف، أعطى المحبة، أعطى المال، أعطى الوقت، أعطى الجهد، لك مكانةٌ عند فلان، وأخوك المؤمن له عند هذا الفلان قضية، فاذهب إليه وارجُه أن يحلّها له، أعطيتَ من وجاهتك، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)
لكن هذا العطاء لا بُدَّ له من أساس وهو التقوى، أي اتقاء ما نهى الله عنه، أي الاستقامة، أعطى واستقام على أمر الله، اتقى أن يعصي الله، واتقى مغبَّة المعصية، اتقى أن يخرج عن أمر الله، هذا العطاء من دون أن يتقي الإنسان معصية الله لا قيمة له، إنه ذكاءٌ اجتماعي، إنه دفعةٌ مقدمة يقبضها في الدنيا

﴿  فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾

[ سورة البقرة ]

(أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ) العطاء كالماء ينصبُّ في برميل، أمّا اتقى فتعني الاستقامة، وكأنها قعر البرميل، فلو صببت على البرميل ماءً ولا قعر له فمتى يمتلئ البرميل؟ لن يمتلئ، لا بُدَّ من عملٍ صالح مبنيٍّ على الاستقامة، هذه الآية تُلخِّص الدين بأكمله، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ) أي صدَّق بالهدف العظيم النبيل الذي خُلقت من أجله.

الهدف العظيم النبيل من كل مصيبة يسوقها الله عزَّ وجل:


أنت خُلقت لهدفٍ نبيل، خُلقت لمعرفة الله، خلقت للسعادة، وللرحمة، وللتنعم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض إلى الأبد، خلقت لهذا، فمن صَّدق بهذا الهدف العظيم، واستقام على أمر مولاه العظيم، وأعطى ممّا آتاه الله.
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) ما هي اليسرى؟ هو الشيء الذي يسرُّك، بدءاً من لحظة التوبة وإلى الأبد، فإذا أعطيت واستقمت وآمنت فعرفت الله أولاً، واستقمت على أمره ثانياً، وفعلت الصالحات ثالثاً، فسوف يُيسرك لليسرى في بيتك، وعملك، وصحتك، وزوجتك، وأولادك، ومكانتك، وكلما ازداد العمر يوماً ازددت سعادةً وقناعةً وتبصرةً ومكانةً وعلماً ونوراً، فإذا جاء الموت، بدأت السعادة الكبرى التي وُعِدت بها، وعند الموت يُحس الإنسان أن كل عطاءٍ أعطاه الله إياه في الدنيا، ما هو إلا دفعةٌ صغيرةٌ على الحساب، دفعةٌ تشجيعية.
الله سبحانه وتعالى يعطيك طرفاً من السعادة في الدنيا، إذا غمرك بها قعدت عن طلب المزيد، تأتيك بعض الأحوال اللطيفة، وبعض التجلّيات التي تنعشك، لكن إذا جاء الموت يعرق المؤمن لشدة الخجل الذي ينتابه من عِظم مكانته عند الله، وعِظم ما أعدَّ الله له، فإذا فُتِحتْ أحد أبواب الجنَّة يقول المؤمن: لم أرَ شراً قط في حياتي.

(( يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ ))

[ أخرجه ابن ماجه ]

ويرى كل هذه المصائب والمضايقات التي ساقها الله له، إنما من أجل أن يصل إلى هذا المقام، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) .  

أيّما هدف على وجه الأرض لا يُحقَّق إلا بالله:


ليس هناك حظ، ولا أعطني حظّاً وألقني في البحر، هذا كلامٌ فارغ، فلان يده خضراء، هذا كلام فارغ، لا يوجد إلا هذه الآية، إمّا تيسير أو تعسير، والتيسير له أسباب، والتعسير له أسباب، وهذا هو قانون التيسير والتعسير، أو قانون التوفيق وعـدم التوفيق، وبعض العلماء قال: آيةٌ واحدة لو عقلها الناس لكانت حياتهم غير هذه الحياة.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[ سورة هود ]

أيُّ توفيقٍ هذا؟ يعني أيُّ هدفٍ على وجه الأرض لا يُحقَّق إلا بالله، وإلا إذا شاء الله.
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ )  أي بهذا الهدف العظيم، وقال بعضهم: بالجنَّة، أو صدَّق بهدف الله من خلقه، خلقهم ليسعدهم، مَن صدَّق بهذا الهدف النبيل، واستقام على أمره الرشيد، وعمل الصالحات تقرُّباً لذاته استحق اليُسر، اليُسر ما يسرُّك؟ وقد وَرَدَ في الأَثَرِ كما ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ في مَدَارِجِ السَّالِكِينَ: أَوحَى اللهُ إلى مُوسَى: " كُنْ لي كَمَا أُريدُ، أَكُنْ لَكَ كَمَا تُريدُ، كن لي كما تريد ولا تعلمني بما يصلحك"

(( مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمّاً وَاحِداً هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ  ))

[ ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ]

(( اعملْ لوجْهِ واحدٍ يكْفِكَ الوجوهَ كُلَّها ))

[ الألباني السلسلة الضعيفة ]

(( إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ ))

[ الألباني صحيح الجامع ]


قانون التيسير:


اليُسرى في العمل، اليُسرى في الزواج، اليُسرى في الصحة، اليُسرى مع الأولاد، اليُسرى مع الجيران، اليُسرى مع المستقبل، فهناك أشخاصٌ يخافون المستقبل، لا، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ)

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

أي من خير، لا تقلقوا.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

إن لم تتغيروا فلن يُغيِّر الله بنا، لليُسرى، هذا قانون التيسير، لا يوجد زهر، لقد قلب له الدهر ظهر المِجنّ، هذا كلام شيطاني، أيُّ دهرٍ هذا؟
قلبت له ظهر المجنّ فلم أدم

[ معن بن أوس ]

(( قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يُؤْذِينِي ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهارَ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

 ويقولون أيضاً: سَخِرَ القدر منه، أيُّ قدَر؟ الله عزَّ وجل، لا إله إلا الله، ألقوا الماء في طريقه فسحروه، هذه كلها خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، لا شيطان، ولا جن، ولا إنس، ولا سحرة، ولا طقوس، ولا كتابات، ولا تشاؤم، يوم الأربعاء يتشاءم الناس منه، ورقم ثلاثة عشر كذلك يتشاءم الناس منه، لا رقم، ولا يوم، دخـل شخص إلى المحل فوقـف البيع، أو أنَّ البيعة أُلغيت، فيتشاءم صاحب المحل من هذا الرجُل، هذا غلط، كله جهل بجهل، اقرأ حظك هذا الأسبوع، برج الحمل لك عدو بالمرصاد، أيُّ عدو هذا؟ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) .  
توفيقٌ من الله وهذه أسبابه، أو تعسيرٌ وهذه أسبابه، فاليُسرى ما يسرُّك في الدنيا والآخرة.

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾

[ سورة الرحمن ]


البخل وأشكاله :


﴿  إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)﴾

[ سورة المعارج ]

ما دمتُ بخير فالناس لا يعنونَني، لا.

(( ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه و هو يعلم به ))

[ الطبراني والبزار عن أنس ]

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)   بَخِلَ بماله، بَخِلَ بوقته، فمن أنت؟ ولماذا خُلِقت في الدنيا؟ أو بَخِلَ بخبرته، يخاف أن يعطي الخبرة لصانع فينافسه في العمل، فيبخل عليه ولا يعلِّمه، بَخِلَ بالعلم، بَخِلَ أن يكلم فلاناً من أجل فلان، وبَخِلَ بجاهه، وبَخِلَ بكل شيء، و(بَخِل) من دون مفعول به، مطلقة، فمجرد البخل والإمساك والحرص، وأندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، فهؤلاء هم البخلاء.

معنى كلمة (استغنى):


﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

[ سورة الحشر ]

الذي نجا من مرض البُخل فهذا من المفلحين، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) مطلقة، هناك شخص تستشيره بشيءٍ فيقول لك: لا أعرف، تعال إلى المكتب، لا يستطيع أن يتكلم إلا في المكتب لأن هناك أجرة.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) لا رازق إلا الله، ومعنى اسْتَغْنَى أيْ استغنى بما عنده من مال عن رحمة الله، واستغنى بالشهوات عن الآخرة، واستغنى بنظريةٍ ابتدعها، عمَّا قاله الله عزَّ وجل في كتابه، واستغنى بتقاليدٍ وعاداتٍ جاهلية عن سُنَّة النبي المطهَّرة، استغنى بنفسه عن ربه، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) .
(أَعْطَى) يقابلها (بَخِلَ) ، (وَاتَّقَى) استقام على أمر الله ويقابلها (اسْتَغْنَى) ، استغنى عن هذا الشرع، تقول له: هذا حرام، فيقول لك: تكلم كلاماً واقعياً، ولا يعبأ بالشرع، ولا يعبأ أكان هذا الدخل حلالاً أم حراماً، فاستغنى عن رحمة وتجليات الله، واستغنى عن الآخرة وعن الجنَّة، واستغنى عن توفيق الله، وعن حفظ الله، وعن رعاية الله، فكلمة (اسْتَغْنَى) مطلقة أيضاً، بخل مطلقة واستغنى مطلقة.

اليُسرى وعد والعُسرى وعيد:


(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) لم يرَ إلا الحياة الدنيا، أمّا ما وعده الله للمؤمنين من جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض فهذه كذَّب بها، قال لك: أنا إنسانٌ واقعي، ليس بحالمٍ ولا غيبي، أمّا هذا العطاء الكبير الذي وعدنا الله به فقد كذّب به، فالحُسنى الجنَّـة.

﴿  لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)﴾

[ سورة يونس ]

(وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ) هذا كلام الله خالق السماوات والأرض، فإنْ وجدت شخصاً بخل واستغنى، وكذَّب بالحُسنى، وكانت أموره مُيسَّرة، وهو سعيداً في حياته، فهذا شيءٌ مستحيل، فما دام قد بخل واستغنى، وكذَّب بالحُسنى، فلا بُدَّ من أن تكون أموره مُعسَّرة من سيِّئٍ إلى أسوأ، قد يعطيه الله المال ويضيِّق عليه، قد يعطيه اللهُ المالَ، ويشقيه نفسياً، قد يعطيه الله الصحة ويجعله قلقاً، فلا بُدَّ من شقاء، ولا بُدَّ من العُسرى، ولا بُدَّ من أن تجري الأمور على غير مراده، على عكس ما يشتهي، ولا بُدَّ من الضيق، والضياع، والخوف، والذعر، والسأم، والضجر، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) وعيدٌ إلهي، فاليُسرى وعدٌ والعُسرى وعيد.

لا قيمة للمال يوم القيامة:


هذا الذي تَنكَّب الحقَّ وأدار ظهره له لماذا؟ يبتغي به الدنيا، والدنيا ممثَّلة بالمال، لماذا المال؟ ولماذا لم يختر ربنا إلا المال؟
(وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ) لأن المال هو القيمة المطلقة للأشياء، فبالمال تشتري بيتاً، وتتزوج، وتسافر، وتقتني سيارة، ويعظِّمُك الناس، وتأكل أشهى الطعام، فالمال قيمةٌ مطلقة، فإنْ أُعطِي الإنسان مبلغاً ضخماً حَلَّ كل مشاكله به.
(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) هذا المُعرِض الذي بخل واستغنى وكذَّب بالحُسنى، لا يُغني عنه ماله إذا جاء الموت، فأين ماله؟ هذه الأموال الطائلة، وهذه البيوت، وهذه الوسائل المريحة في بيته، إذا جاء ملَك الموت ماذا تنفعه؟ هل غير القبر أمامه؟ وهل غير المثوى الأخير أمامه؟ وهل غير هذه الحفرة الصغيرة؟

الغنى والفقر بعد العرض على الله:


(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) يقول سيدنا علي بن أبي طالب:" الغنى والفقر بعد العرض على الله" .
فهذا يحاسب، هل تاه بماله على عباد الله؟ وهل أنساه المال فرض صلاة؟ وهل قال جيرانه: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا، وقد قصَّر في حقِّنا، (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) .

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾

[  سورة الحاقة ]


أشد الناس ندماً يوم القيامة:


(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) ثلاث أصدقاءٍ لك: صديقٌ يتركك عند البيت، وصديقٌ على شفير القبر، وصديقٌ يدخل معك في القبر، في البيت النساء من الأهل والأموال، مكتبه، بيته، فراشه الوثير، مكتبته الغنية، مكتبه التجاري، سيارته الفارهة، كل هذا يتركه، يسير معه أولاده الذكور، ويودعونه على شفير القبر، ولا يدخل معه في القبر إلا عمله فقط، فلذلك 

(( قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فقال لي اغتسل بماء وسدر ففعلت ثم عدت إليه فقلت يا رسول الله عظنا عظة ننتفع بها فقال يا قيس إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة وإن لكل شيء حسيبا وعلى كل شيء رقيبا وإن لكل حسنة ثوابا وإن لكل سيئة عقابا ولكل أجل كتاب وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وهو ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك ولا تبعث إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن كان صالحا لم تأنس إلا به وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه ألا وهو فعلك ))

[ أبو داوود ]

كل ذلك بحسب عملك (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) هذا المال لمن؟ إنّ أندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، وأندم الناس من باع آخرته بدنيا غيره أو بدنياه، أمّا بدنيا غيره أشدُّ ندماً.

﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)﴾

[ سورة الليل ]

الإنسان مُخيَّر، فأنت مُخيَّر، لكن على الله عزَّ وجل أن يُبيَّن لك الطريق الصحيح وأنت حر.

﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)﴾

[ سورة الليل ]

الدنيا والآخرة بأيدينا خَلْقاً وتصرُّفاً.

الدنيا والآخرة خلقاً وتصرفاً وتسييراً بيد الله سبحانه:


شرف المؤمن قيامه في الليل، وعزّه استغناءهُ عن الناس

((  مَنْ تواضعَ لغنيٍّ لأجلِ غِناهُ ذهبَ ثُلثا دينِهِ ))

[  السيوطي في الدرر المنتثرة ]

من اشتكى إلى كافرٍ فكأنما اشتكى على الله، ومن اشتكى إلى مؤمنٍ فكأنما اشتكى إلى الله.
(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) الدنيا والآخرة خلقاً وتصرفاً وتسييراً بيد الله، فهذا الذي أعرض عن الله لا يزال في قبضة الله وهو لا يشعر.

(( بادِرُوا بِالأعمالِ سبعًا، هل تَنظُرُونَ إلَّا فَقرًا مُنْسِيًا، أو غِنًى مُطْغِيًا، أو مَرَضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مُفَنِّدًا، أو مَوتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجالُ، فشَرُّ غائِبٍ يَنتَظِرُ، أو الساعةُ، فالساعةُ أدْهَى وأمَرَّ ))

[ الألباني ضعيف الترغيب ]

سبعة أشياء تنتظر المُعرضين، لا بُدَّ من غنىً يُنسي، أو فقر يُطغي، أو مرض يفسد الحياة، أو هرم يُضعِف الشخصية، أو موت ينهي الحياة، أو الدجَّال، أو الساعة.

الله تعالى لا يسأل عما يفعل سكوت القناعة واليقين بعدالته لا سكوت الخوف من جبروته:


(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) أنتم أحرار، وأنتم مخيَّرون لذلك: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) فقط، قَوم، أنبياء، كُتب، دُعاة، حقٌّ مبذول للناس جميعاً بلا مقابل.
(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ ) ربنا سبحانه وتعالى في آخر السورة يقول:

﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14)﴾

[ سورة الليل ]

هذا كلام الإله، كلام خالق الكون، أي يا مَن أعرض عن الله، يا مَن تَنكَّب طاعة الله، يا مَن أدار ظهره للحق، وتعلَّق بالدنيا، وجعلها أكبر همّه، ومبلغ علمه، ونسي الآخرة (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى) ، لكنه ليس كما يقول بعض الجهلاء، من أنَّ الله عزَّ وجل لا يُسأل عمّا يفعل.
مثلاً: قد يطيعه العبد طوال حياته ثم يضعه في جهنم، هذه الآية لها معنىً آخر، لفرط عدالته لا يُسأل عمّا يفعل، سكوت القناعة والرضى واليقين بعدالته، لا سكوت الخوف من جبروته، والدليل هذه الآية الثانية:

﴿ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)﴾

[ سورة الليل ]

لو كان الله يُدخِل الطائع النار، لكانت هذه الآية غير صحيحة، (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) حصراً، الشقي الذي شقيَّ ببُعده عن الله، والذي شقيَّ بالمعصية والانحراف والسقوط في وَحَلِ الدنيا، والذي شقيَّ بالإعراض عن الله، وشقيَّ بهواه وشقيَّ بالدنيا، الأشقى هو الأشدُّ شقاوةً، الأشقى هو الذي يصلى النار وحده.

الأشقى له صفتان صفة عقلية وصفة نفسية:


(لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) من هو الأشقى؟ الأشقى له صفتان، صفةٌ عقلية، وصفةٌ نفسية، الذي كذَّب وتولّى، بعقله كذَّب الحق، وبنفسه اتجه إلى الدنيا وأدار ظهره للحق، وصْفُ الله له بليغ، جاء بكلمتين:

﴿ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (16)﴾

[ سورة الليل ]

والتكذيب نوعان: تكذيبٌ لساني، وتكذيبٌ سلوكي، والتكذيب السلوكي أخطر، أمّا اللساني فأَنْ تقول: ليس هناك آخرة، أنا لا أؤمن بالآخرة، فهذا تكذيب باللسان، لكن الذي يقول: أنا أؤمن بالآخرة، ولا يسعى لها، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أنَّ رجلًا أتى النبيَّ فقال يا رسولَ اللهِ علِّمْني من غرائبِ العلمِ قال ما فعلتَ في رأسِ العلمِ فتطلبَ الغرائبَ قال وما رأسُ العلمِ قال هل عرفتَ الرَّبَّ قال نعم قال فما صنعتَ في حقِّه قال ما شاءَ اللهُ قال عرفتَ الموتَ قال نعم قال ما أعددتَ له قال ما شاءَ اللهُ قال انطلِقْ فأَحكِمْ ما هاهنا ثمَّ تعالَ أُعَلِّمْكَ غرائبَ العلمِ ))

[ ابن عراق الكناني تنزيه الشريعة إسناده ضعيف ]

هل عرفت الرب؟ فقال: ما شاء الله، قال: فماذا صنعت في حقه؟ ما الموقف العملي الذي وقفته من أجل الله، شخصٌ مريض مرضٌ شديد، وعرف الدواء، فماذا يفعل؟ هل يبقى مكتوف الأيدي؟ إذاً إمّا التكذيب باللسان، وهذا نادر في العالم الإسلامي، فلا تجد في المليون واحداً يقول لك: ليس هناك آخرة، هذا التكذيب نادر جداً، ولكن التكذيب الشائع جداً أنك تقول: هناك آخرة ولا تعمل لها، هناك جنَّة ولا تسعى لها، هناك نار ولا تتقيها.
إذا زرت طبيباً، وكتب لك وصفةً، وأثنيت على علمه، ولم تشترِ الدواء، فعدم شرائك الدواء دليلُ عدم ثقتك بعلمه، مهما أثنيت عليه بلسانك فقد أخذت موقف التكذيب، لأنّ المرض موجود، والآلام حاصلة، ومعك الوصفة، ولم تشترِ الدواء، بل ذهبت إلى طبيبٍ آخر.
معنى ذلك أنك تكذِّب علمه عملياً لا قولياً، وقد تكون لبقاً معه، فتقول له: أنت من أندر الأطباء في العِلم، ومع ذلك عدم شراؤك الوصفة تكذيبٌ عمليٌ لعِلم الطبيب، فهذا هو المُعوَل عليه، أن لا تكذِّب بالآخرة عملياً.  

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)﴾

[ سورة الإسراء ]

لها سعيٌ خاص، (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إذاً: الأشقى الذي كذَّب بالحق وتولّى، هذا الذي يصلى النار.

المحسن يُخلِف الله عليه أضعافاً مضاعفة والمُمسِك يُتلِف الله ماله:


﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى(17)﴾

[ سورة الليل ]

هذا الذي عرف الله عزَّ وجل، وأراد التقرب إليه، الذي يؤتي ماله يتزكى به 

(( ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ، أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ، أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا. ))

[  أخرجه البخاري ومسلم ]

المُحسِن يُخلِف الله عليه أضعافاً مضاعفة، والمُمسِك يُتلِف الله ماله، وما أكثَر الوسائل التي يُتلَف بها المال، أخطاءٌ صغيرة تُكلِّفُك مئات الألوف، (اللَّهُمَّ، أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وأعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) ، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى به.

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)﴾

[ سورة التوبة ]

لكن هذا العطاء ليس ردّاً للجميل، مثلاً: أحد الأشخاص بمناسبة فرح قدَّم لك هدية، وبعد حين رُزِقَ مولوداً، فذهبت إلى السوق، وبحثت عن هدية وقدَّمتها له ردّاً لجميلٍ سابق، فهذه الهدية لا تدخل في هذه الآية، لماذا؟ لأن هذا العطاء 

﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19)﴾

[ سورة الليل ]

لم يكن هذا العطاء ردّاً على عطاءٍ سابق، لا، إنما هو مبادرة وابتداء، وما لأحٍد عند هذا المعطي من نعمةٍ تُجزى

﴿  إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20)﴾

[ سورة الليل ]


الدنيا دار عملٍ والآخرة دار جزاء:


الآية الأخيرة:

﴿ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)﴾

[ سورة الليل ]

(سوف) للمستقبل، إنّ المؤمن في الدنيا تحت المعالجة، قد يُحمِّله اللهُ عزَّ وجل، أكبر عبء ممكن، حتى يُكسبَه أكبر أجر ممكن، ويعطيه أكبر سعادة ممكنة، لذلك الإمام الغزالي لخَّصها بقوله: "ليس بالإمكان أبدع مما كان" ، وقال بعضهم: "اللهم لا تخفف حملي ولكن قَوِّ ظهري" ، فإن خُفِّف حملُك قلَّ أجرُك، إذاً لم يُخفِّف الحمل، ولكنه أعطـاك قوة لتحمل هذا الحمل، والإنسان في الدنيا في فترة معالجة، ودفع، وتشويق، وتطهير، وتعطير، لكن في الآخرة فترة سعادة كبرى، فَسَمَّوا الدنيا دار عملٍ، والآخرة دار جزاء.
لذلك: (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ)
وقد ورَد عن الإمام الشافعي: كانَ الإمام الشافعي ماشياً فاذا برجُلٍ يسبقهُ يُناجي ربه ويقول:<< يا رب هل أنتَ راضٍ عني؟ فقال الشافعي: يا رَجُل وهل أنتَ راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال الرجل: كيف أرضى عن ربي وأنا أتمنى رضاه؟ قال: إذا كان سرورك بالنقمةِ كسروركَ بالنعمة، فقــد رضيتَ عن الله>> .
لا بُدَّ من أن ترضى، ولكن إذا رآك قد يئست، يعطيك قليلاً من العطاء، ربنا حكيمٌ، عندما يغلُب عليك اليأس، يتجلّى على قلبك ويطمئنك قليلاً، فتطمئن وتسترخي، وتقعد عن طلب المزيد، فيثيرك إلى أن تطلب الأعلى، فالدنيا كلها دار مُعالَجة، وأمّا الآخرة فهي دار نعيم واستمتاع، فربنا عزَّ وجل يعلم ماذا أعدَّ لعباده الصالحين، من خيراتٍ لا يحصيها اللسان، من جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ونعيمٍ مقيم.

﴿  أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ(35)﴾

[ سورة المعارج ]

 لذلك قال: (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ) فلا بُدَّ من أن ترضى رضاءً لا يوصف، أمّا الآن فأنت في المعالجة، إذا دخل طالب كلِّية الطب، والمنهاج كبير، ولغات أجنبية، وتشريح، والدوام ثلاث وأربعون ساعة، وعملي ونظري، ومذاكرات، وأطروحة، لكن بعد أن يتخرَّج، (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ) .

الإنسان في الدنيا في دار تكليف وفي هو في الآخرة في دار تشريف:


أمّا الآن فهو لا يرضى فهناك متاعب كثيرة، طبعاً هذا مثال، وللهِ المثل الأعلى، إذا درس شخصٌ دراسات عُليا، وتعب ونال شهادة عُليا، ثم في وقتٍ قليل يأخذ أرباحاً ضخمة، هذا نمط، فالإنسان في الدنيا يتعب، ويتعرف إلى الله، ويجلس ساعات على ركبتيه ليعرف الله عزَّ وجل، وساعات ليقرأ القرآن، ويمشي مع أخيه ساعات يبتغي مرضاة الله عزَّ وجل، فكأن الله يقول له: (وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ)
لا بُدَّ من أن ترضى، لكنك الآن في دار عمل، والجامعة مكان غير مريح، والمقعد غير مريح، لكن بعد التخرُّج كلُّ شيءٍ مريح، فهذه كلها أمثلة، والدنيا كذلك، هي دار عمل، دار تكليف، والآخرة دار تشريف، ولو فرضنا أنّ طالباً أخذ الدرجة الأولى على مستوى القطر، فأمامه حفلة تكريم، وهدايا، ورحلة، وسياحة، فهو الآن يتشرف، أمّا قبل هذا فقد كان مكلّفاً بالدراسة، فالإنسان في الدنيا في دار تكليف، وفي الآخرة في دار تشريف، الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فكلُّ الخير مدخَّرٌ لك في الآخرة.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران ]

الرصيد يوم القيامة، أمّا في الدنيا دفعات على الحساب، فإذا أصبحت في يأسٍ أتتكَ دفعةٌ على الحساب فتنتعش بها، تميل إلى الدنيا فتأتيك مشكلة، فتندفع بها إلى الله عزَّ وجل، ثم تسترخي فتأتيك مشكلةٌ ثانية، وهكذا إلى أن تستقيم وجهتك إلى الله عزَّ وجل.

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

الدنيا دار عمل، وهذه ( وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ( تأتي أيضاً في سورةٍ قادمة 

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)﴾

[ سورة الضحى ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور