الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سورة اليوم هي سورة الضحى، وهذه السورة لها مكانةٌ خاصةٌ من بين سور القرآن الكريم، لأنها متعلقةٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد تتعلق بكل مؤمنِ له تجربةٌ مع الله عزَّ وجل، من نوع تجربة النبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام حينما أُنزلت هذه السورة قال: الله أكبر، لذلك بعض قُرّاء القرآن الكريم يقولون حينما يقرؤون هذه السورة: الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)﴾
ولد النبي عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة، فرأى مجتمعاً فاسداً وثنياً، يأكل القويُّ منه الضعيف، يأتي الفواحش، يقطع الرحم، يُسيء الجوار، يعبُد الناس بعضهم بعضاً، يعبدون آلهةً ما أنزل الله بها من سلطان، فكَّر في هذا المجتمع الفاسد، فكَّر في هذه الأوثان، وفي تلك الأصنام، فرأى أنها باطلٌ في باطل، ففكَّر في خلق السماوات والأرض، ونظر في ملكوت الله فعرف ربه، عبَدَ الله عزَّ وجل السنوات الطويلة، وكان في غار حِراء يخلو الليالي الطويلة، ومَن منّا يستطيع أن يذهب إلى رأس جبلٍ فيقبع في مغارةٍ أياماً بلياليها، كم أُنسه بالله شديد؟!
وما زال يَعبُد الله عزَّ وجل ويفكِّر في ملكوت السماوات والأرض، ويتقرَّب إليه بالعمل الصالح، ولا يعرف مَن هو، ولا ما سيكون، ولا مَن سيكون، ولا أنه سيكون نبياً، ولا رسولاً، ولا أنه سيد خلق الله، كل هذا لا يعرفه، ولمّا بلغ الأربعين وقد عَرَف الناس صدقه وأمانته وعفافه وطهارته ونسبه، جاءه الوحي، فقال:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
قال: ما أنا بقارئ، قال:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
جاءه الوحيُ فكان هذا الوحي غذاءً لروحه، عَرَف أنه مشمولٌ بالعناية الإلهية، عَرَف أنه مقصودٌ بالرعاية الربانية، عَرَف أنه مصطفى، عَرَف أنه مقربٌ إلى الله عزَّ وجل، عَرَف طريقه لهداية الناس، بعثه الله نبياً ورسولاً، بدأ يدعو قومه، وبدأ الوحي ينزل عليه، وفجأةً انقطع عنه، وبانقطاع الوحي أصابه غمٌّ شديد، وحزنٌ مديد، وشعر أن الله كأنه تركه وكأنه قلاه، وتخلّى عنه، فجاءت هذه السورة مبدوءةً بقوله تعالى:
﴿ وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)﴾
لا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها
هذه السورة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمنٍ له مع الله تجربة:
هذه السورة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل مؤمنٍ له مع الله تجربة، يعبده، ويطيعه، ويحبُّه، ويتفانى في خدمة خلقه، ويصلّي له، ويتهجد له، فإذا أصابته جفوةٌ، وأنكر قلبه، وشعر أن صلاته شكلية، وأن إقباله على الله أصبح صورياً، ضاق بالدنيا وضاقت به الدنيا.
فأحبابنا اختاروا المـحبة مذهبــاً وما خالفوا في مذهب الحُبِّ شرعنا
فـما حُبّنا سـهلٌ وكـل مـن ادعى سُـهــولتـه قــلنـــا لـه قــد جـهـلـتـنا
فـأيسر ما في الحب للصـبِّ قتله وأصـعبُ مـن قتل الفتى يوم هَجرنا
إذا كان المؤمن قد عوّده ربه على الصِلة به، والتجلّي على قلبه، والسعادة بقربه، ثم انقطعت عنه هذه الأحوال، وأنكر قلبه، ثم عادت له تلك الصِلات، وتلك الأحوال، وتلك القُربات يكاد قلبه يطير فرحاً.
هذا الذي يحصل لبعض المؤمنين بشكلٍ صغيرٍ جداً، إذا ما قيس بما حدثَ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قربٍ شديد إثر نزول الوحي من جديد، فربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَالضُّحَىٰ) يُقسم بالضحى أي يُقسِم بالنهار، وإنَّ أجمل ما في النهار وقت الضحى، لا تنظروا إلى الضحى في المدينة، فالمدينة شوَّهت الضحى، وشوَّهت الليل، ولكنك إذا خرجت إلى أماكن بعيدةٍ عن المدينة، حيث الطبيعة الجميلة، وحيث الجبال الخضراء، وحيث الأشجار والعصافير، فإذا ذهبت إلى هناك، ووقفت في وقت الضحى تذوقتَ معنى قول الله عزَّ وجل: (وَالضُّحَىٰ) يعني أجمل وقتٍ في النهار، ليس شديد الحَر، بل يجمع بين برد الليل وضياء النهار، (وَالضُّحَىٰ) أقسَم الله سبحانه وتعالى بالضحى.
في الكون اثنينية واللهُ هو الواحد:
(وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ) أيْ إذا سكن، وأجملُ ما في الليل سكونُه، وأجملُ ما في النهار ضُحاهُ، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: يا محمد، والضحى الذي يُمثِّل فضلي، يُمثِّل عطائي، وجمالي، يُمثِّل لطفي، والليلِ وما فيه من سكون، وما فيه من هدوء، وما فيه من راحةٍ وسكينة، والضحى والليل، وكيف أنَّ الضحى لا تُعرَف قيمته إلا بالليل، وكيف أنَّ الليل لا يُعرَف سكونه إلا بالنهار، وكأن الله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين اثنين، فهناك الليل والنهار، والحر والقر، فلولا البرد لمَا عرفنا قيمة الحر، ولولا الحر لمَا عرفنا قيمة البرد، وهناك الحلو والمر، والخير والشر، والحقُّ والباطل، والأمانة والخيانة، والشجاعة والجبن، ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين اثنين، وكأن في الكون اثنينية، والله هو الواحد.
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ) الله سبحانه وتعالى أقسَم بهما لنبيه المصطفى مؤكداً له أن صاحب هذا الفضل العميم، وصاحب هذا الجمال الأخّاذ، وصاحب هذا اللطف المُستديم، لا يمكن أن يتركك، لا يمكن أن يتخلى عنك، لا يمكن أن يدعك بلا وحي، لا يمكن أن يأخذ بيدك في أول الطريق ثم يتركك.
(وَالضُّحَىٰ )1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ) اطمئن يا محمد، اطمئن إلى مكانتك عندي، اطمئن إلى أنَّ هذا الوحي لن ينقطع، اطمئن إلى أنك معنيٌّ بلطفنا، (وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ) .
نعمة القرب من الله سبحانه :
كذلك المؤمن، فبعضهم وقع من غير قصدٍ في مخالفة فأنكر قلبه، وانقطعت صِلته، وتوجس خيفة، وخاف أن يُعاقبه الله عزَّ وجل، وانتظر العقاب فلم يحدث له شيء، وقف يُصلّي، وناجى ربه في صلاته، وقال: يا رب لقد عصيتك فلم تُعاقبني، فوقع في قلبه أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي.
أحياناً تنقطع الأحوال، وتنقطع الصِلة، ويُنكر المرء قلبه لا لذنبٍ اقترفه ولكن لحكمةٍ إلهية، ومن هذه الحكمة أنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يعرِّفه بتلك النعمة العُظمى نعمة القُرب، ولا تُعرَف هذه النعمة إلا بزوالها ولو مؤقتاً، من ذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع تجلياته على عبده المؤمن، فأنكر قلبه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، من حكمة الله عزَّ وجل أنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يُعرِّف عبده، أنَّ نعمـة القرب عظيمةٌ عند هذا العبد، فلذلك حينما انقطعت صِلته بالله عزَّ وجل لم يحلُ له شيء، ولم يطمئن إلى شيء، ولم يرُق له شيء، لأنه فقَد حبيبه.
الطفل الصغير إذا ضيَّع أمه في الطريق لا يصرفه عن هدفه الألعاب التي نثرت في الواجهات، ولا الأطفال الذين حوله، إنه فَقَدَ أُمَّه، وهو يبكي، لا يريد إلا أُمّه.
هذه السورة كما قلت قبل قليل خاصّةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها بالتبعية كل مؤمنٍ له مع الله أحوالٌ، وله صلته بالله، وله من الله تجلياتٌ على قلبه، وله من الله سعادة إذا غابت عنه وانقطعت فأنكر قلبه، فإنه يتفاعل مع هذه السورة وكأنه معنيٌّ بها.
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ) يعني كأنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع بين تلك الآيات الدالة على عظمته، وبين المشاعر التي تنتاب المؤمن.
من كانت له عند الله مكانة وصلة وإقبال فهذا هو أثمن ما في الوجود:
هل يعقل يا حبيبي أن يكون فضلي عميم، وأدعك في منتصف الطريق؟! هل يعقل مَن خَلَق (وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ) وما فيه من رقة، وما فيه من جمال، وما فيه من فضل، وما فيه من نعمة، هل يُعقل لهذا الخالق العظيم أن يدعك وشأنك، وأنت المُحب وأنت الوفي؟!
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) معنى (مَا وَدَّعَكَ) ، في قراءة (ما وَدَعك) بمعنى ما تركك، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ) معنى قلى أي: ما أبغضك الله عزَّ وجل، ماذا فعلت؟ كُلُك إحسان للمخلوقات، كُلُك حرصٌ على طاعة الله، وكُلُك شوقٌ إلى صِلة الله عزَّ وجل (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ) .
يعني من ذاق عَرَف، ومن كانت له عند الله مكانة، من كان له مع الله صِلة، من كان له مع الله إقبال، هذا هو أثمن ما في الوجود، هذا هو أثمن ما في الحياة، وما سوى ذلك سرابٌ بسراب.
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَـــريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَـرابُ وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُـلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُراب
هذه أحوال المؤمن، لا بُدَّ للمؤمن من صِلةٍ بالله عزَّ وجل، لا بُدَّ للمؤمن من ساعةٍ يرقى فيها إلى الله عزَّ وجل، لا بُدَّ للمؤمن من ساعةٍ يُناجي فيها ربه، يُمرِّغ وجهه في عتبة الله عزَّ وجل، ولا بُدَّ للمؤمن من أن يكون متذللاً لله عزَّ وجل.
لا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها
فلو شاهدت عيـناك من حسـننـا الـذي رأوه لما ولـيّت عنــا لغـيرنا
ولو سمعت أذناك حُسن خطابنا خلـعت عنك ثيـاب العُجب و جئتـنا
ولـو ذقت من طعم المحـبَّة ذرةً عــذرت الـذي أضـحى قتيلاً بحـبنا
ولـو نسمت مـن قربنا لك نسمةٌ لـمـُت غـريـبـاً واشــتياقـاً لـقربـنـا
ولـو لاح مـن أنوارنا لــك لائـحٌ تـركــت جـميـع الكــائنـات لأجـلـنا
فما حبـنا سـهلٌ وكل مـن ادّعـى ســُهـولتـه قـلـنـا لـه قـد جهــلـتـنـا
أطع أمرنـا نرفع لأجـلك حجـبنا فـإنـا منـحنـا بالـرضـا مـن أحـبـنـا
ولُذ بحمانا واحتـــــــــمِ بجنابنـا لـنحميـك مـما فـيه أشـرار خلـقـنـا
عظمة الكون تدل على كمال الله عزَّ وجل:
يعني التديُّن من دون هذه الأحوال جسدٌ بلا روح، معرفة أحكام الدين من دون إقبالٍ على الله عزَّ وجل جسدٌ بلا روح، حينما فُهِمَ الدين أنه عباداتٌ فقط، وأعمالٌ تؤدَّى فقط، من دون محبةٍ لله ورسوله، ومن دون إقبالٍ على الله، من دون التفات إليه، من دون اتصالٍ به، ومن دون هذه التجليات التي تغمر قلب المؤمن فيذوب لها، من دون هذا كله الدين جسدٌ بلا روح.
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) من الآيتين اللتين أقسَم الله بهما، ومن جواب القسَم يتضح أنَّ عَظَمة الخلق تدل على عَظَمة الخالق، وأنَّ كمال الخلق يدل على كمال التصرُف.
عَظَمة الكون تدل على كمال الله عزَّ وجل، وليطمئن الإنسان إلى الله عزَّ وجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى لن يتِرَ المؤمنين أعمالَهم
﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾
ولن يضيعهم، والعاقبة للمؤمنين.
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54)﴾
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾
﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)﴾
المؤمن مطمئن أن الله سبحانه وتعالى لن يصيبه إلا بما كتب له من الخير:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
ليطمئن المؤمن المستقيم وذو العمل الطيّب إلى مكانته عند الله عزَّ وجل، ليطمئن إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى لن يصيبه إلا بما كتب له من الخير
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
ليطمئن إلى قوله تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
وعود الله سبحانه وتعالى للمؤمنين:
ليطمئن إلى وعد الله عزَّ وجل.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
ليطمئن إلى قوله تعالى:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
ليطمئن إلى قوله تعالى:
﴿ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾
ليطمئن إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى هو كل شيء، فمن عَرَفه فقد عرف كل شيء، ومن لم يعرفه فقد ضلَّ عنه كل شيء، واللهُ سبحانه وتعالى أَحَبُّ إلينا من كل شيء.
وقد ذكر ابن القيِّم في طريق الهجرتين هذا الأثر: "ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء" ، لتطمئن إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا كنت له كما يريد كان لك كما تريد.
(وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ) ما ودعك أي: ما تركك في نصف الطريق، ما دام قد أخذ بيدك إلى أول الطريق، فلا بُدَّ من أن تكون في نهاية الطريق.
الله تعالى يطلب من عبده أن يتعَلَّق بالآخرة ويعمل لها فهي خير له من الأولى:
﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4)﴾
هذه الكلمات واضحة، ولكن مع هذه الكلمات إيحاءات، فهل شعرتَ أيُّها الأخ الكريم بهذه الإيحاءات؟ الله سبحانه وتعالى في عليائه، رافع السماوات بغير عمد، مَن بيده ملكوت السماوات والأرض يقول لك: يا عبدي (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ) ، تعَلَّق بالآخرة، اعمل للآخرة فهي خيرٌ لك من الأولى.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
[ سورة النساء ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) .
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78)﴾
﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)﴾
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ) فلينظر ناظرٌ بعقله، أنَّ الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟ فإن قال أهانه فقد كذب، وإن قال أكرمه فلقد أهان غيره، حيث أعطاه الدنيا، فإن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب.
(( إنَّ اللهَ تبارك وتعالَى قسم بينكم أخلاقَكم كما قسم بينكم أرزاقَكم، وأنَّ اللهَ يُعطي الدُّنيا من يحبُّ ومن لا يحبُّ، ولا يُعطي الدِّينَ إلَّا من يحبُّ، فمن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحبَّه، لا يُسلِمُ عبدٌ حتَّى يُسلِمَ قلبُه ولسانُه، ولا يُؤمِنُ جارٌ حتَّى يُؤمِّنَ جارَه بوائقَه ، قلنا : يا نبيَّ اللهِ فما بوائقُه ؟ قال : غَشَمُه وظُلمُه ، ولا يكسِبُ مالًا من حرامٍ فيُنفِقُ منه فيُبارَكُ له فيه ولا يتصدَّقُ به فيُتقبَّلُ منه، إنَّ اللهَ لا يمحو السَّيِّئَ بالسَّيِّئَ ولكن يمحو السَّيِّئَ بالحسَنِ، إنَّ الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ ))
وإن الله يحمي صفيُّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام.
(( إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبْدًا حَماهُ مِن الدُّنيا، كما يَحْمي أحدُكم مَريضَه عن الطَّعامِ والشَّرابِ. ))
(( إنَّ اللهَ يَحمي عبدَه الدنيا، كما يَحمي الرَّاعي الشفيقُ غنمَهُ عن مراتعِ الهَلَكَةِ ))
الدنيا لمن يسعى لها والآخرة للمتقين:
فهل أنت يا أخي الكريم مُصدّقٌ قول الله عزَّ وجل: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ) ؟ هل ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟ أما يرضى أحدنا أن تكون له الآخرة ولو كان في الدنيا مُعذَّباً؟ لأنَّ الدنيا زائلة، أما يرضى أحدنا أن تكون له جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض وكان دخله في الدنيا محدوداً، وكانت وظيفته متواضعةً، وكان قد حُرِم من الدنيا شيئاً، لا بُدَّ من حكمةٍ بالغة وراء ذلك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ) هل أنتم مصدقون ذلك؟
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)﴾
كما قلت قبل قليل: الآيات للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكل مؤمنٍ بالتبعية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ)
(( قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
إذا لاح للمؤمن مقامه في الجنَّة عندئذٍ يذوب خجلاً لما أعد الله له من نعيمٍ مقيم:
ربنا سبحانه وتعالى ألا نُصدّقه؟ (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) متى نعرف ذلك إذا لاحت لنا الآخرة، ولاح للمؤمن مقامه فيها، وظهر للمؤمن أعماله الطيّبة معروضةً عليه، عندئذٍ يذوب خجلاً لما أعدَّ الله له من نعيمٍ مقيم.
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)﴾
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)﴾
آياتٌ كثيرة.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
وصف الله تعالى للمتقين يوم القيامة :
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾
ويصفهم الله عزَّ وجل:
﴿ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)﴾
يوم القيامة هذا العطاء الكبير، وهذه الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض، وهذه الجنَّة التي لا تزول ولا تحول إلى أبد الآبدين، وهذا الذي أعدَّه الله لعباده أيُستغنى عنه؟ أيُزهد به؟ أيضعه الإنسان وراء ظهره؟ أيلتفت إلى الدنيا وحدها؟ أينافس على جمع الدرهم والدينار؟ وفي الموت لا يأخذ معه شيئاً
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) .
المؤمن لا يعرف قيمة عمله إلا حين تلوح له الجنة:
هذا الذي يدرس ويدرس، ويسهر ويسهر، بعد التخرج والتفوق، وبعد أن يحتل مركزاً مرموقاً، وتأتيه الأموال من كل طريق، يرضى، هذا مثلٌ من أمثلة الدنيا، وكذلك المؤمن يغض بصره، ويحفظ فرجه، ويترفع عن كل معصية، ويطيع الله في كل شاردةٍ وواردة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، يسهر الليل، ويستيقظ لصلاة الفجر، يساعد الضعيف، يطعم الجائع، ويجلس على ركبتيه الساعات الطوال ليتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، وإذا دُعيَّ إلى عملٍ صالحٍ لبَّاه، وإذا دعي إلى عملٍ طيِّب وافاه، هذا المؤمن لا يعرف قيمة عمله إلا حينما تلوح له الجنَّة، فيقول: لم أرَ شراً قط في حياتي.
(( يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ. ))
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6)﴾
حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ووزَّع بعض الغنائم على المؤلفة قلوبهم، وجد عليه بعض الأنصار، وعلى رأسهم سيدنا سعد بن عبادة
(( لمَّا أعطَى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ ما أعطَى مِن تلكَ العَطايا في قُرَيْشٍ وقبائلِ العربِ،ولم يَكُن في الأنصارِ مِنها شيءٌ، وجدَ هذا الحيُّ منَ الأنصارِ في أنفسِهِم حتَّى كثُرَتْ فيهمُ القالةُ ، حتَّى قالَ قائلُهُم لَقيَ رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ - قَومَهُ فدخلَ علَيهِ سعدُ بنُ عبادةَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ،إنَّ هذا الحيَّ قد وَجدوا عليكَ في أنفسِهِم لما صنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أصبتَ، قسَمتَ في قَومِكَ وأعطَيتَ عطايا عِظامًا في قبائلِ العرَبِ، ولم يَكُن في هذا الحيِّ منَ الأنصارِ شيءٌ قالَ: فأينَ أنتَ مِن ذلِكَ يا سَعدُ؟ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ ما أَنا إلَّا امرؤٌ من قَومي وما أنا. قالَ فاجْمَع لي قَومَكَ في هذِهِ الحظيرةِ قالَ: فخَرجَ سعدٌ فجمعَ النَّاسَ في تلكَ الحظيرةِ. قالَ : فجاءَ رجالٌ منَ المُهاجرينَ فترَكَهُم فدَخلوا، وجاءَ آخرونَ فردَّهم، فَلمَّا اجتَمعوا أتاهُ سعدٌ فقالَ: قدِ اجتَمعَ لَكَ هذا الحيُّ مِنَ الأنصارِ قالَ: فأتاهُم رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ - فحمِدَ اللَّهَ وأثنَى عليهِ بالَّذي هوَ لَهُ أهلٌ، ثمَّ قالَ: يا مَعشرَ الأنصارِ مَقالةٌ بلغَتْني عنكُم، وجِدةٌ وجدتُموها في أنفسِكُم، ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فَهَداكمُ اللَّهُ، وعالةً فأغناكمُ اللَّهُ، وأعداءً فألَّفَ اللَّهُ بينَ قلوبِكُم ؟ قالوا: بلِ اللَّهُ ورسولُهُ أمَنُّ وأفضَلُ. قالَ: ألا تُجيبوني يا معشرَ الأنصار؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللَّهِ، وللَّهِ ولرسولِهِ المنُّ والفَضلُ. قالَ: أما واللَّهِ لو شئتُمْ لقلتُمْ،فلَصَدقتُمْ وصُدِّقتُمْ أتَيتَنا مُكَذَّبًا فصدَّقناكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ وطريدًا فآويناكَ، وعائلًا فأغنَيناكَ، أوجَدتُمْ في أنفسِكُم يا معشرَ الأنصارِ في لُعاعةٍ منَ الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا ليُسلِموا، ووَكَلتُكُم إلى إسلامِكُم أفلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبعيرِ وتَرجِعونَ برسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ في رحالِكُم فَوالَّذي نَفسُ مُحمَّدٍ بيدِهِ لَولا الهِجرةُ لَكُنتُ امرءًا مِن الأنصارِ ولَو سلَكَ النَّاسُ شِعبًا وسلَكَتِ الأنصارُ شِعبًا لسلَكْتُ شِعبَ الأنصار،اللَّهمَّ ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ الأَنصارِ وأبناءَ أبناءِ الأنصار ، قالَ : فبَكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم وقالوا: رَضينا بِرَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ قَسْمًا وحظًّا. ثمَّ انصَرفَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ وتفرَّقْنا. ))
يُذكِّره بالماضي.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى نبيُّه يتيماً لئلا يكون لأحد من خلقه عليه حق:
قال بعضهم:
كُن عن هُمومِك معرِضَا وكِلِ الأمورَ إلى القَضـَا
وأبـشـِرْ بـخـيـرٍ عــاجـلٍ تـنـسى بـه ما قد مضى
فــلَــرُبّ أمــرٍ مُـسـخـِـطٍ لـك فـي عـواقِـبِـه رِضـا
ولـربـّمـا اتّسـع المَضـيقُ وربّـمـا ضــاق الــفَـضَـا
الـله يفــعــل مــا يـشــاء فـلا تــكــن مـتـعـــرِّضــا
الـله عـــوّدك الـجــمــيـلَ فقِسْ على ما قد مـضـى
هذا يجب أن يعرفه كل مؤمنٍ، الله عوَّدك الجميل، ألم يهدك إليه؟ ألم يُعرِّفك به؟ ألم يَدلك على أهل الحقّ؟ ألم تسعد به؟
الله عوّدك الجميلَ فقِسْ على ما قد مضى
فالله سبحانه وتعالى يقول: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) ، اليتيم هو الذي لا أب له، بعضهم اجتهد وقال: لقد جعل الله سبحانه وتعالى نبيُّه يتيماً، لئلا يكون لأحدٍ من خلقه عليه حقّ، لا حقَّ عليه إلا حقُّ الله عزَّ وجل (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) ، قد يكون الطفل يتيماً، ويُتاح له من الرعاية، والعناية، والرفق، والإكرام، ما لم يتح لمن له أبٌ شديدٌ قوي.
من معاني (اليتيم) :
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7)﴾
من معنى اليتيم أيضاً تقول: دُرَّةٌ يتيمة، ومعنى دُرَّةٌ يتيمة أي لا مثيل لها، فآواك بأصحابك، أنت فردٌ لا مثيل لك، أنت سيد المخلوقات، أنت سيد ولد آدم، أنت يتيم لا بمعنى أنه ليس لك أب، ولكن بمعنى أنه لا مثيل لك في كمالك، ولا مثيل لك في عطفك.
(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم دخَل على ابنتِه وهي تغسِلُ رأسَ عثمانَ فقال يا بُنَيَّةُ أحسِني إلى أبي عبدِ اللهِ فإنَّه أشبهُ أصحابي بي خُلُقًا ))
هذا الموقف الكريم، بلغه أنَّ عكرمة جاءه مسلماً فقال لأصحابه:
(( يأتيَكُم عِكْرمةُ بنُ أبي جَهْلٍ مؤمِنًا مُهاجرًا، فلا تسبُّوا أباهُ، فإنَّ سبَّ الميِّتِ يؤذي الحيَّ، ولا يبلُغُ الميِّتَ ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
من هو أبوه؟ إنّه أبو جهل، ألدُّ أعداء الإسلام! فاليتيم بالمعنى الآخر لا مثيل له، كأن تقول: دُرَّةٌ يتيمة، فالمعنى الأول: ألم يجدك يتيماً لا أباً لك، فألهم الناس أن يعطفوا عليك، وأحاطك بالرعاية والعطف والعناية حتى من أعدائك.
واليتيم بالمعنى الآخر الدُرَّة التي لا مثيل لها، فآواك بأصحابك، وبعضهم يقول: لماذا لم يترك النبي عليه الصلاة والسلام ذريةً من الذكور؟ بعضهم اجتهد وقال: لو أنَّ للنبي عليه الصلاة والسلام ابنٌ من الذكور، وأساء إلى الناس لسرَت البغضاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ليس من ذريته الذين عاشوا ذكرٌ، لتكون محبته خالصةً في نفوس أصحابه والناس جميعاً.
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) معنى الضال هنا الغافل عمّا سيكون، أنت غافلٌ عن أنك ستكون نبياً مُرسلاً، أنت غافلٌ عن أنك ستكون سيد ولد آدم، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)﴾
معنى (لَّا يَضِلُّ) أي لا يغفل، فالضلال هنا معناه الغفلة، والنبي عليه الصلاة والسلام غافلٌ عن مقامه، غافلٌ عن مرتبته عند الله عزَّ وجل، غافلٌ عن نبوُّته القادمة، غافلٌ عن رسالته، والمعنى الآخر للغفلة هو عدمُ العِلم
﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)﴾
ما كنت تعرف أن قرآناً سينزَّل عليك، وما كنت تعرف ما بهذا الكتاب من حقائق وتشريعات (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) .
والمعنى الثالث أنَّ الضال هنا، أي وجـدك في قومٍ ضالين فهداهم الله بك، ومعنى الضلال أيضاً هو الطلب، فلان نَشَد ضالته فهو ضال، أي يبحث عن شيءٍ ضائعٍ منه، والنبي عليه الصلاة والسلام يبحث عن طريقٍ يهـدي به الناس، ويبحث عن أسلوبٍ ينقذهم به من الظلمات إلى النور، يبحث عن طريقةٍ تهديهم إلى ملكوت السماوات والأرض، يبحث عن أسلوبٍ يرفعهم من وحل الشهوات إلى سمو الطاعات، فهداه إلى ذلك، وأنزل عليه كتابه، هذا المعنى الرابع.
والمعنى الخامس: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) أي ضائعاً بين قومك فهداك إليه، قد كان قومك لا يعرفون مقامك قبل البعثة، فهداك إليه، وعرَّفهم بك، والمعنى السادس: الضلال الحيرة، كنت حائراً في الطريق الذي يناسب هؤلاء الضالين فهداك إلى الطريق، والمعنى الذي يجمع المعاني المادية والمعنوية، أن الشجرة الوحيدة في الصحراء تسمى ضالة وهي يهتدي بها القوم.
كنت وحيداً فريداً في عظمتك، كنت وحيداً فريداً في سموك، فاهتدى بك الناس جميعاً، ويقال: إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ضاع عندما كان صغيراً في شِعاب مكة، فسخَّر الله له أبا جهل، وعثر عليه يلعب ببعض الأوراق والأغصان في شِعاب مكة، فردَّه إلى أهله.
(أَلَمْ يَجِدْكَ) ، الله سبحانه وتعالى يُذكِّر النبي عليه الصلاة والسلام بالنِعم التي أغدقها عليه، كان يتيماً فآواه، وكان ضالاً فهداه.
﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)﴾
معنى عائلاً أي فقيراً، أغناه الله عزَّ وجل بخديجة، أغدقت عليه من عطفها ومن مالها، لذلك كان وفياً لها أشدَّ الوفاء، حينما فتح مكة دعاه أصحابه ليبيت عندهم، فقال: انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة، كلما كان يذكر خديجة، تقع الغيرة في قلب عائشة رضي الله عنها، تقول له: ألم يبدلك الله خيراً منها؟ فيقول: لا والله، لا والله، لا والله، صدَّقتني حين كذَّبني الناس، وواستني حين أساء إلي الناس، واللهِ ما أبدلني الله خيراً منها، كان وفياً لها.
(( كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ. ))
وبعضهم قال: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ) أي رضَّاك بما قسمه الله لك، والغنى له معنيان، فإمّا أن تكون غنياً حقيقةً، وإمّا أن تكون راضياً عن الله عزَّ وجل، فهذا هو الغنى بعينه،
(( ارْضَ بما قسم اللهُ لك تَكُنْ أَغْنَى الناسِ ))
فإنْ رضيت عن الله فأنت الغني، وإن رضيت بما قسَم الله لك من الدنيا فأنت الغني، وهذا هو الغِنى الحقيقي.
وبعضهم قال: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ) أي فقيراً بمعرفتك له فأغناك بمعرفته، كنت مفتقراً إليه فملأ قلبك معرفةً به، كانت نفسك متشوقةً إليه فملأها من تجلياته.
معانٍ ثلاثة، إمّا أنه جعله غنياً حقيقةً، فقد جاءه سيدنا أبو بكر فأعطاه كل ماله، فقال: يا أبا بكر ماذا أبقيت لك ولأهلك؟ قال: الله ورسوله.
(( أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا. ))
[ أخرجه الترمذي وأبو داوود ]
كانت جفنةُ سعدٍ تدور معه حيثما دار.
(( كان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن سَعدٍ كلَّ يومٍ جَفنةٌ تَدورُ معه حيثُ دار، وكان سَعدٌ يقولُ: اللَّهُمَّ ارزُقْني مالًا، فلا تَصلُحُ الفِعالُ إلَّا بالمالِ. ))
المؤمن غناه بعمله الطيِّب و باستقامته و بيقينه برحمة الله عزَّ وجل:
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ) والنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن الدنيا تعدل عنده جناحَ بعوضة، جاءه رجلٌ من سادة العرب، وقد رأى وادياً من الغنم، فقال: يا محمد لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: هو لك، لا أهزأ بك، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
(( أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فأعْطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا؛ فَوَاللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً ما يَخَافُ الفَقْرَ. فَقالَ أَنَسٌ: إنْ كانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ ما يُرِيدُ إلَّا الدُّنْيَا، فَما يُسْلِمُ حتَّى يَكونَ الإسْلَامُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَما عَلَيْهَا. ))
كان غنياً في نفسه، غنياً بمعرفته بربه، وكذلك المؤمن غِناه بعمله الطيِّب، غِناه في استقامته، غِناه في يقينه برحمة الله عزَّ وجل ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ)
قراءة هذه الآيات تجعل قلب المؤمن يذوب محبةً لله عزَّ وجل:
قال لي أحد الأشخاص وهو من أصحاب الملايين، عندما كنتُ أضع الخبز في الزيت، وأضعها بالزعتر، يبادرني والدي بصفعةٍ ويقول لي: أكثرت، يجب أن تمسها مسّاً رقيقاً، فجعله الله غنياً حين كبر.
فإذا كان الإنسان فقيراً، ثم جعله الله غنياً، ولم يتأثر بهذه الآية فهو كالصخر، ميت القلب، إذا كان بلا مأوى وصار له مأوى، يملك مفتاح بيت، وغرفة نوم، وغرفة جلوس، وغرفة طعام، مطبخاً فيه أنواع من الطعام، ولديه أدوات كهربائية، دافئٌ في الشتاء، مبردٌ في الصيف، يقرأ هذه الآية ولا يتأثر؟!، له أولادٌ يحفون به، له أصهارٌ يحترمونه، وله مكانةٌ اجتماعية، لا يشكو شيئاً، ولا يشعر بالنقص ولا بالحرمان، ألا يتأثر بهذه الآية؟! (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) ، كان صانعاً في محل، ويحاسَب حساباً عسيراً، وإذا تأخر يُلام ويُعنَّف، صار صاحب محل، يجلس خلف مكتب، غضّ بصرك عن محارم الله، وتواضعْ لله عزَّ وجل، وتذكَّرْ كيف كنت في الماضي.
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) كنت تدخل إلى دور اللهو فمَنَّ الله عليك بمجالس العِلم، وهذه نعمةٌ كبرى، كنت تقضي الليالي الطويلة في اللعب بالنرد، فمنَّ الله عليك فأصبحت تُمضي الوقت في قراءة القرآن، كنت تتحدث للناس بكلامٍ لا معنى له، كلامٍ فاحش، مزحٍ بذيء، فمنَّ الله عليك بمعرفته فأصبحت تُعرِّف الناس بالله عزَّ جل، إذا قُرأت هذه الآيات من مؤمنٍ، يجب أن يذوب قلبه محبةً لله عزَّ وجل.
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) إذا قرأتها أنت فلها معانٍ، وإن نزلـت على النبي عليه الصلاة والسلام فلها معانٍ، النبي يتفاعل معها بمعانٍ خاصةٍ به، وأنت إذا قرأت هذه السورة ربما تفاعلت معها بمعانٍ خاصةٍ بك.
﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)﴾
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)﴾
كنت يتيماً، فإذا رأيت يتيماً فلا تقهره، ومعنى لا تقهره أي لا تظلمه ولا تمنعه حقَّه، أحسِنْ إليه، وفي قراءةٍ: "فلا تكهر" ، والكهر هو الاحتقار.
أعرابيٌ دخل المسجد النبوي الشريف وصلّى بين الصحابة الكرام وراء رسول الله، جاهل لا يعرف شيئاً، أحد الصحابة أصابه عطاسٌ شديد فالتفت نحوه وقال: يرحمكم الله أثناء الصلاة، فما كان من الصحابة إلا أن ضربوا أرجلهم بأيديهم، يزجرونه، فامتلئ قلبه ذعراً، وخوفاً، وفَرَقاً من أن ينهالوا عليه ضرباً بعد الصلاة، فلمّا سلّم النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا عبد الله اقترب منّي، قال: إن هذا الكلام لا يصح في الصلاة، فقال هذا الإعرابي: بأبي هو وأمي ما رأيت مُعلِّماً أعظم منه، فوالله ما كهرني، ولا شتمني، ولا ضربني، بأبي هو وأمي.
(( بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَّاهْ، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجلعوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان؟ قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنّهم. ))
هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( علِّموا ولا تُعنِّفوا، فإنَّ المعلِّمَ خيرٌ من المُعنِّفِ ))
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) .
أحاديث شريفة تؤكد مكانة من يعطف على يتيم:
قال عليه الصلاة والسلام:
(( كُنْ لليتيمِ كالأبِ الرَّحيمِ ))
(( أول من يمسك بحلق الجنَّة أنا، فإذا امرأةً تنازعني تريد أن تدخل الجنَّة قبلي، فقلت: من هذه يا جبريل، قال: هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فلم تتزوج من أجلهم، تريد أن تدخل الجنَّة قبلي، تنازعني لأنها عطفت على الأيتام.
أنا أولُ من يفتحُ بابَ الجنَّةِ، إلا أنَّ امرأةٌ تُبادِرُني، فأقول لها: ما لَك! ومن أنتَ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قعدتُ على أيتامٍ لي. ))
(( وَأنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا. ))
وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
(( إنَّ اليتيمَ إذا بَكَى؛ اهتزَّ عرشُ الرَّحمنِ لبكائِه، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لملائِكتِه: من أَبكى عبدي وأنا قبضتُ أباهُ وواريتُه في التُّرابِ؟! فيقولونَ ربُّنا لا عِلم لنا فيقولُ الرَّبُّ تعالى اشهَدوا لَمن أرضاهُ أُرضيهِ يومَ القيامةِ ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( من ضمَّ يتيمًا فكان في نفقتِه وكفاه مُؤنتَه كان له حجابًا من النَّارِ يومَ القيامةِ ومن مسح يدَه على رأسِ يتيمٍ كان له بكلِّ شعرةٍ حسنةٌ ))
ولا يظنُّ من كان عمره أربعين سنة أنه يتيم، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يُتمَ بعدَ احتلامٍ ))
[ أخرجه أبو داود والطبراني والبيهقي ]
فإذا كان الشخص كبيراً ووالده متوفَّى فلا يقل: أنا يتيم، لا، اليتيم من كان دون سن البلوغ، هذا هو المعني باليُتم، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) لأنك كنت يتيماً فاذكر يُتمَك السابق، اللؤماء قد يُسيئون للضُعفاء، وقد كانوا من قبل ضُعفاء، ولا يذكرون كيف كانوا ضُعفاء.
إجابة السائل فرض على العلماء :
﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)﴾
لا تنهر، أي لا تزجَر السائل، رُدَّه ببذلٍ يسير، أو ردٍ جميل، واذكر فقرك، ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( لا يمنعنَّ أحدُكم أو لا يمتنعنَّ أحدُكم منَ السَّائلِ أن يعطيهُ وإن رأى في يدَيهِ قلبتينِ من ذهبٍ ))
وقال الفضيل بن عياض: "نعم القوم السُّؤَّال - جمع سائل - يحملون زادنا إلى الآخرة " ، وقال إبراهيم النخعي: "السائل بريد الآخرة"
وفهِم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) من يسألك العِلم، من يسألك عن قضيةٍ في كتاب الله ، ومن يسألك عن حديثٍ شريف، عن تفسير آية، عن قضيةٍ فقهية، عن فتوى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) .
تواضعْ لمن تُعلِّم، إجابة السائل فرضٌ على العلماء، السلام سُنَّة لكن ردّه فرض، وكان أبو الدرداء يقول: "مرحباً بأصحاب الحديث " ، هؤلاء الذين يُحدِّثون الناس كان يبسط لهم رداءه، ويقول لهم: مرحباً بأحبّة رسول الله.
الله تعالى يطلب من نبيّه الكريم أن يهدي الناس وإذا سأله أحد أن يجيبه ويتواضع له :
ويروى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام، وقع في قلبه أن الله سبحانه وتعالى اتخذ إبراهيم خليله، واتخذ موسى كليمه، وأعطى سليمان ملكاً، فماذا أعطاه الله عزَّ وجل؟ فقال الله عزَّ وجل: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) لو أردنا أن نُقابل هذه الآيات الثلاث بتلك الآيات الثلاث:
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ) ، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) ،( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ)،(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)، يغلب على معنى الآية أنَّ الذي يسألك عن قضيةٍ في الدِين، وعن قضيةٍ تتعلق بالله عزَّ وجل، كنت ضالاً فهديتك، فإذا سُئلت فاهدِ الناس، كنت ضالاً فهديتك فإذا سألك أحد فأجبه وتواضع له.
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ) كنت فقيراً فاغتنيت.
الآية التالية لها عدة معان:
والآن إذا اغتنيت حدِّث الناس بهذه النِعَم:
﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)﴾
هذه الآية لها عدة معانٍ، المعنى الأول، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( الحَمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شَكَرَ اللهَ عبدٌ لا يَحمَدُهُ ))
والحمد حالةٌ نفسية، والشكر عمل، لقوله تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾
والشكر له حدّان، حدٌّ أدنى وحدٌّ أعلى، فالحد الأدنى أن تعرف أن هذه النعمة من الله، كيف شكرك ابن آدم؟ عَلِم أن هذا منّي فكان هذا شُكره، والحد الأعلى العمل (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) .
والمعنى الثاني نعمة الله هي القرآن الكريم (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فليكن موضوع حديثك القرآن الكريم.
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)﴾
والمعنى الثالث للنعمة النبوَّة، فمهما حدّثت الناس عن نبوّة المصطفى، وعن كمالاته صلى الله عليه وسلم، وعن رحمته، وعن حلمه، وعن كرمه، وعن علو مقامه، فهذا موضوعٌ مناسبٌ للحديث.
النعم التي طالبنا الله تعالى بالحديث عنها:
حدِّث الناس عن القرآن، وحدِّثهم عن نبوّة النبي العدنان، أو حدِّثهم عن نِعَم الله، فإمّا أن تحدِّثهم عن نِعَم الله، وإمّا عن قرآنه الكريم، وإمّا عن نبيِّه العظيم، هذه موضوع الأحاديث.
قال ابن العربي: "إذا أصبت خيراً فحدِّث به الثقة من أخوانك" ، يعني إذا أكرمك الله عزَّ وجل بقيام ليل، وقرأت آياتٍ كثيرة وتفاعلت معها، وذاب قلبك، ومنَّ الله عليك بمعانٍ لم تكن تعرفها من قبل، فهذه نعمةٌ عظيمة، حدِّثْ بها من تثق به من إخوانك، ولا يسمَّى هذا كِبراً ولا يُسمَّى فخراً ولكنه حديثٌ بنعم الله، فلعلَّ هذا الأخ المستمع يتشجع، ولعله يغار منك، ولعله يتخذك قدوةً (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .
حدِّثهم عن نِعَم الله، بعضهم فهم هذه الآية فهماً خاطئاً، كأنْ يقول: ذهبنا إلى النزهة، اشترينا هذا الشيء بكذا، وفعلنا كذا، وسررنا بكذا، ليس هذا هو المقصود (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة العقل، نعمة الشمس، نعمة القمر، هذه الآيات العُظمى، هذه نِعَم الله، نعمة الهواء، نعمة الماء، نعمة البيان، نعمة الذاكرة، نعمة اليدين، نعمة الخلق، نعمة الطعام، نعمة الشراب (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .
بعض المعاني الخاصة لهذه الآية :
ونعمة الله هي القرآن الكريم، حدِّثهم عن كلام الله، ونعمة الله نبيِّه العظيم، حدِّثهم عن النبي الكريم، هذه آية دقيقة جداً (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، وإذا تجلّى الله عزَّ وجل على قلبك فيما يتعلق بالآخرة، فحدِّث به بعض من تثق به من إخوانك، صلّيت صلاةً متقنة تفاعلت معها، أو جلست إلى ذكر الله، فشعرت بشعور عالٍ، أُلهِمتَ بعض المعاني حول هذه الآيات، حدِّث بها من تثق من إخوانك، وقال عليه الصلاة والسلام:
(( مَن لم يَشكُرِ القَليلَ؛ لم يَشكُرِ الكَثيرَ، ومَن لم يَشكُرِ النَّاسَ؛ لم يَشكُرِ اللهَ، التَّحدُّثُ بنِعمةِ اللهِ شُكرٌ، وتَركُها كُفرٌ، والجَماعةُ رَحمةٌ، والفُرقةُ عَذابٌ. ))
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .
وبعض المعاني الخاصة لهذه الآية، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً رثّ الثياب:
(( كنتُ جالسًا عند رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم فرآني رثَّ الثيابِ فقال ألك مالٌ؟ قلتُ: نعم يا رسولَ اللهِ، من كلِّ المالِ. قال: فإذا آتاك اللهُ مالاً فليُرَ أثرُه عليك. ))
ثياب مهترئة، أثمال بالية! ولك من كل مال! هذا كفرٌ بنعمة الله.
(( ليسَ منَّا منْ وسَّعَ اللهُ عليهِ، ثمَّ قترَ على عيالِهِ ))
مادام الله قد وسَّع عليك، ارتدِ ثياباً جديدة، ولا تجلب لنفسك الاحتقار، مادام الله قد منَّ عليك دون أن تتكبر بها، أو أن تزهو بها، أو أن تختال على خلق الله بها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ :إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ ، وغَمْطُ النَّاسِ. ))
(( إن الله يُحِبّ أن يرى أثرَ نعمتهُ على عبدهِ ))
أنت دُعيت إلى حفلٍ، وجئت بثيابٍ رثّةٍ مهجورة، نظر الناس إليك نظرة ازدراء، وأنت تملك المال، فهذا ليس من السُنَّة، مادام الله قد آتاك المال، فدَع ثياباً جديدة للمناسبات الرسمية، لئلا تُتّهم بأنك لا تعرف اللياقة والأناقة، ولئلا تدَع مجالاً لأهل الدنيا أن ينتقدوك.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) هذه الآية دقيقة جداً، حدِّثهم عن نِعَم الله، وحدِّثهم عن آيات الله، وحدِّثهم عن القرآن الكريم، و حدِّثهم عن النبي العظيم، وإذا أصابك خيرٌ من طرف الآخرة لا من طرف الدنيا، فحدِّث به الموثوقَ من أصحابك، وإذا وسَّع الله عليك فليُرَ أثرَ هذه التوسعة عليك.
الملف مدقق