الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، وأفضل الصّلاة وأتم التسّليم على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
سورة الزلزلة قال عليه الصلاة والسلام بحقها إنها نصف القرآن:
أيها الإخوة الكرام، سورة اليوم هي سورة الزلزلة، وقد قال عليه الصلاة والسلام بحقها إنها نصف القرآن:
(( إذا زُلزِلت تَعدِلُ نصف القرآن. ))
[ رواه الترمذي بسند ضعيف ]
وسورة الإخلاص ثلث القرآن، الحقيقة أن هذه السورة تحدد مبدأ المسؤولية، العقائد إذا زاغت وانحرفت وتاهت وشردت تُخفِّف من مسؤولية الإنسان، وإذا صحّت تحدد مسؤوليته، وتضعه أمام واجباته؛ فكل فرقة وكل دين قد سبق حينما ينحرف الناس يتعلقون بعقائد زائغة، قال تعالى:
﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُۥٓ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾
هذه عقيدة اليهود الزائغة قال تعالى:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
الله سبحانه وتعالى في هذه السورة يحدد مسؤولية الإنسان:
والمسلمون في عصورهم المتخلّفة اعتقدوا بهذه العقائد، وظنوا أنه بمجرد أن تكون من أمة سيدنا محمد فالجنة مصيرك، الشعوب والأمم وأصحاب الأديان والمِلل والنِّحل إذا امتد بهم العمر وانحرفوا وزاغت عقائدهم يخففون من مسؤولياتهم، ويُعزون المسؤولية إلى جهة أخرى، لكن الله سبحانه وتعالى في هذه السورة يحدد مسؤولية الإنسان.
لذلك إما أن تستقم وإما أن تستعد للبلاء، لا يوجد حل ثالث، إله عادل، والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه السورة تكفي، خالق الكون، الله رب العالمين يقول لك: يا عبدي
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)﴾
اعمل ما شئت لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( يامحمد عش ماشئت فإنك ميت واعمل ماشئت فإنك مجزى به وأحبب من شئت فإنك مفارقه. ))
افعل ما بدا لك، فكل شيء بحسابه، سيدنا علي كرم الله وجهه يقول: "والله ما أحسنت وما أسأت" ، كيف ما أحسنت إلى أحد؟ وكيف لم تسئ إلى أحد؟ قال: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلأنفسهم يمهدون"، إن فعلت خيراً فهو لك، وإن فعلت شراً فهو عليك، قال تعالى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾
كل شيء مسجل عند الله عز وجل إنْ صغيراً أو كبيراً.
كلمة (إذا) في الآية التالية لتحقق الوقوع لا لاحتمال الوقوع:
ربنا عز وجل في هذه السورة يحدد مسؤولية الإنسان، ولكن متى؟ قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)﴾
ما إعراب (إذا)؟ ظرف لما يستقبل من الزمن، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، مبني على السكون في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان، هذا إعرابها المفصل.
ماذا تعني (إذا)؟ تعني حين وسوف وإن، إذا جمعت حين مع سوف مع إن المؤدى إذا، وماذا قال علماء البلاغة عن إذا؟ قالوا: (إذا) لتحقق الوقوع لا لاحتمال الوقوع، فمثلاً إذا قال الله عز وجل:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾
عندما قال: (إذا) فنصر الله لا بد من أن يأتي، ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ هذا اليوم لا بد من أن يأتي، قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)﴾
أي هذا الفاسق قد يأتي وقد لا يأتي، فـ (إن) لاحتمال الوقوع بينما (إذا) لتحقق الوقوع، وفرق كبير بين احتمال الوقوع وبين تحقق الوقوع.
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ لا بد من أن يأتي نصر الله والفتح، ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ لا بد من أن يأتي ذلك اليوم، الذي تُزلزل الأرض زلزالها.
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْآخِرَةِ لِيَسُوٓـُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا(7)﴾
قد تحسنوا وقد لا تحسنوا، فـ (إن) لاحتمال الوقوع و(إذا) لتحقق الوقوع.
لا بد من يوم تزلزل الأرض كلها وهذا يوم القيامة:
لا بد من يوم تُزلزَل الأرض، طبعاً نحن شاهدنا في الصور أو سمعنا أو قرأنا عن زلزال وقع في الأرض، هذا الزلزال محدود، في مكان محدود، وله نتائج محدودة، منطقة في آسيا، في إيطاليا، في أغادير، في الأصنام في الجزائر، في بكين في الصين الشعبية منطقة محدودة تضطرب، فإذا اضطربت جعلنا عاليها سافلها، ومات أناس كثيرون، يقول لك: ضحايا الزلزال مئة ألف والمشردون أربعمئة ألف مثلاً، ويبقى الزلزال محدوداً بمكان محدد وزمان محدد وآثار محددة، ولكن هناك زلزالاً يصيب الأرض كلها في كل قاراتها.
زلزالها مفعول مطلق، وسمي المفعول المطلق مطلقاً لأنه مطلق، أي زلزالها الأخير، أو زلزالها الكبير، أو زلزالها العظيم، الزلزال الذي وعد الله به، والذي هو نهاية العالم، العالم لا بد أن ينتهي.
﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)﴾
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)﴾
إلى آخر الآيات، هذا الوضع لا يستمر أن تستيقظ كل يوم وترى الشمس تشرق ثم تغيب هذا وضع مؤقت؛ لا بد من يوم تُزلزَل الأرض، وهذا يوم القيامة فـ ﴿إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ أي إذا انتهت الحياة الدنيا، وقال بعض المفسرين: زلزالها للتخصيص أو للتعظيم.
أثقل ما على الأرض الإنسان لأنه قَبِل حمل الأمانة:
قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)﴾
أثقل ما فيها الإنسان، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)﴾
أتزعمُ أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
أنت المخلوق الأول في الأرض، لأنك إنسان أنت حملت الأمانة، وتحملت أن تكون من بني البشر، وأن تحمل الأمانة التي أبتها الأرض والسموات والجبال.
﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ هذه النفوس التي حملت الأمانة، والتي جاءت إلى الدنيا فبعضها آمن وبعضها كفر، بعضها وفّى بما عاهد الله عليه، وبعضها نقض عهده، وبعضها عرف ربه، وبعضها أدار ظهره للدين.
الإنسان إن عرف الله فاق الملائكة وإن آثر شهوته هبط إلى مادون الحيوان:
هذه النفوس البشرية التي كرمها الله عز وجل، والتي خلق الكون كله من أجلها، الذي سخر الكون من أجل الإنسان، قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)﴾
﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ(20)﴾
هذا الإنسان إن عرف الله فاق الملائكة وإن آثر شهوته هبط إلى مادون الحيوان، هذا الإنسان الذي إما أن يكون فوق الملائكة أو دون الحيوان، إما أن يكون خير البرية وإما أن يكون شر البرية، هذا الإنسان الذي جاء إلى الدنيا وأعطاه الله فكراً، وأعطاه الله سمعاً وبصراً، وبثّ في الأرض آيات للموقنين، وجعل من حوله الآيات تترى.
وفي كلّ شي له آيةٌ تدلّ على أنَّه واحد
[ لبيد بن ربيعة العامري ]
هذا الإنسان جاء إلى الدنيا وخرج من الدنيا ونسي المهمة الكبرى التي خُلِق من أجلها.
يوم القيامة تلفظ الأرض البشر من بطنها فيروا أنفسهم في يوم الدين الذي وُعدوا به:
قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ هؤلاء البشر لفظتهم الأرض من بطنها، فقاموا وحُشِروا ورأوا أنفسهم في يوم الدين الذي وعد به الله رب العالمين.
﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ(38)﴾
﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)﴾
﴿ قَالُواْ يَٰوَيْلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ(52)﴾
وهذا اليوم لا بد من أن يأتي، عن السيدة عائشة أنها قالت: يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟
(( فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: أمَّا في ثلاثةِ مواطنَ فلا يذْكرُ أحدٌ أحدًا: عندَ الميزانِ حتَّى يعلمَ أيخفُّ ميزانُهُ أو يثقلُ، وعندَ الْكتابِ حينَ يقالُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ حتَّى يعلمَ أينَ يقعُ كتابُهُ أفي يمينِهِ أم في شمالِهِ أم من وراءِ ظَهرِهِ، وعندَ الصِّراطِ إذا وضعَ بينَ ظَهري جَهنَّم. ))
في هذه المواطن الثلاث لو وقعت العين على العين لا تعرف الأم ابنها، ولا ابن يعرف أمه، فيما سوى ذلك قد تلتقي الأم ابنها فتقول: يا بني جعلت لك بطني وعاء وصدري سقاء وحجري غطاء، فهل من حسنة يعود علي خيرها اليوم، فقال: يا أماه ليتني أستطيع ذلك إنما أشكو مما أنت منه تشكين.
هذه الساعة العصيبة لا ينفع فيها إلا العمل الصالح والاستقامة ومعرفة الله عز وجل:
قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
﴿ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)﴾
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25 (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ (27) مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ ٱلۡجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلۡسِلَةٍ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعًا فَٱسۡلُكُوهُ (32) إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36 (لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)﴾
هذه الساعة العصيبة التي لا ينفع فيها شيء، لا ينفع فيها إلا العمل الصالح والاستقامة ومعرفة الله عز وجل ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ الإنسان يصاب بالذعر، قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا(3)﴾
قال الإنسان: ما الأمر؟ ما الموضوع؟ ما القضية؟ ماذا حدث؟ هذا يوم الفصل الذي وعدناكم أجمعين، قال تعالى:
﴿ هَٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ(21)﴾
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا(3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)﴾
لهذه الآية معنيان؛ إما أن هذه الزلزلة كأنها حديث الأرض للبشر، أن قد انتهت الدنيا ودخلنا في يوم القيامة هذا معنى، وكأن زلزال الأرض حديث لها لبني البشر، وكأنها تحدثهم أن الحياة الدنيا قد انتهت، وطُويت صفحاتها، ونحن على مدخل الدار الآخرة: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ والمعنى الأوجه أن هذه الأرض أحصت على الإنسان كل سكناته وحركاته وأنفاسه وأعماله صالحها وطالحها، خيّرها وشريرها، وكل شيء فعلته في الأرض سوف تنطق به الأرض.
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)﴾
هذه اليد شاهد عليك فعلت كذا وكذا، وهذه العين شاهدة عليك، وهذه الأذن شاهدة عليك، وهذه الرِّجل شاهدة عليك، وكل شيء على وجه الأرض يشهد على الإنسان عمله.
كل شيء على وجه الأرض يشهد على الإنسان عمله:
قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)﴾
أوحى لها أن تكلمي، أوحى لها أن حدِّثينا ماذا فعل فلان؟
(( لاتزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِه فيما أفناه، وعن عِلمه ماذا عمل فيه، وعن مالِه من أين اكتسَبه، وفيما أنفقَه، وعن جسمِه فيما أبلاهُ. ))
الإنسان يجهد أحياناً ليعرف الاسئلة، فها هي الأسئلة، حضِّر الأجوبة، هذه الأسئلة قبل الامتحان ربنا سبحانه وتعالى سربها لك، هذه هي الأسئلة عن: (عن عُمرِه فيما أفناه، وعن عِلمه ماذا عمل فيه، وعن مالِه من أين اكتسَبه، وفيما أنفقَه، وعن جسمِه فيما أبلاهُ) الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ هو الذي أوحى لها أن تنطق بكل شيء، هذا المكان جلسنا فيه ساعة من نهار وذكرنا الله عز وجل، هو شاهد عليكم، وفي هذا المكان -لا سمح الله ولا قدر- جلس أناس وارتكبوا المعصية؛ المعصية سُجِّلت عليهم، وهذا البيت شهد زواجاً مباركاً، وشهد زواجاً إسلامياً صحيحاً لا معصية فيه، هذا البيت بأرضه وجدرانه وسقفه يشهد عليك، وهذا البيت تمت به معاصٍ كثيرة كلها مسجلة لأن ربك أوحى لها، شيء خطير حينما قال عليه الصلاة والسلام: إنها تعدل نصف القرآن، لم يكن في هذا الكلام مبالغاً عليه الصلاة والسلام، تضع الإنسان أمام مسؤولية أنت مسؤول، قال تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
الإنسان العاقل علاقته مع الله وحده وكل عمل يقدم عليه لا بد من أن يهيئ جواباً لله:
هذا يُسأل، هذا الذي يحاسب؛ الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال، هل تاهَ بماله على عباد الله؟ هل ضيع فرض صلاة؟ هل قال جيرانه: لقد أغنيته يا رب فقصّر في حقنا.
سنُسأَل كلنا يا أخوان، نصيحة لوجه الله قبل أن تفعل أي عمل هيِّئ الجواب لله عز وجل، لا أحد في الدنيا يحاسبك، لو تصورت أنه ليس هناك محاسبة في الأرض، هيّئ جواباً لله عز وجل يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع إلا العمل الصالح، إن قال لك الله عز وجل: لماذا ظلمت زوجتك؟ ما تقول له؟ يا رب، ليس لها أحد، تزوجتها وليس لها أهل، أبوها توفي، وإخوتها مسافرون، فليس لها أحد، ولذلك ظلمتها، هل هذا جواب معقول! وأين أنا؟ ألا تخشى عذابي يوم القيامة؟ لماذا غششت هذا الزبون؟ لماذا بعته أسوأ ما عندك؟ استحلفك بالله أن تنصحه، لماذا غششته؟ أهكذا المسلم؟ أليس هذا أخوك في الإنسانية؟ ماذا فعل معك؟ رجاك واستحلفك وناشدك أن تنصحه فإذا أنت تغشّه، حضِّر جواباً، لماذا أخذت معظم المال لك أليس لأخوتك نصيب بهذا المال؟ أمعك جواب؟ أين الجواب؟ الإنسان العاقل علاقته مع الله وحده، وكل عمل يُقدِم عليه لا بد من أن يهيئ جواباً لله عز وجل، قبل أن يوزِّع الترِكة، وقبل أن يقول: هذه السجادة من رائحة والدي، هل يُقبَل هذا الجواب يوم القيامة؟ سجادة سعرها ثمانية آلاف، سأخذها لأنها من رائحة المرحوم، هذه لها ثمن، وعندك خمسة إخوة، فهل هذا الجواب مقبول؟ ليس مقبولاً، فلذلك العاقل مَن فكّر في هذه الساعة وهي لا بد آتية، وكل آت قريب. وكل متوقع آت، وكل آت قريب، العاقل يهيئ الجواب.
لماذا سمحت لابنك أن يفعل كذا وكذا؟ من أجل أن يأتي بالمال الوفير؟ ضيَّعت دينه، وجعلته يقع في الزنا، عاد من أوربا يتقن اللغة الإنكليزية وقد زنا خمسين مرة، هذا الابن يوم القيامة يقول: يا رب لا أدخل النار قبل أن أدخل أبي قبلي، هو الذي شجعني، هو الذي دفعني، هو الذي أغراني.
جوهر الدين أن الإنسان مسؤول:
لماذا قبلت هذا الزوج لابنتك؟ يا رب لأنه يملك بيتاً ممتازاً وسيارة فخمةً، فهناك أزمة سكن وما في اليد حيلة، أين دينه؟ ألم يقل لك فلان إنه لا يصلي، ألم يقل لك فلان إنه يشرب أحياناً، كيف تزوجه ابنتك لقد ضيعتها معه؟ أجب إن استطعت.
(( إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ))
لماذا رفضت فلاناً الفقير؟ ألم تعلم أن:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ(58)﴾
﴿ وَأَنكِحُواْ ٱلْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ ۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ(32)﴾
أجب، هذه القضية مع الله عز وجل، لا يوجد دجل ولا كذب ولا افتراء.
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
وسوف يسألك:
﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24)﴾
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفِّر وقتك واترك السفاسف، واترك القشور؛ تعلّق بلُبِّ الدين، بجوهر الدين، جوهر الدين أنك مسؤول.
خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي.
هذا هو العقل، العقل أن تهيئ أجوبة للملكين يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)﴾
متفرقين لا يوجد تجمعات يوم القيامة هذا ابن عمي، هذا ابن حالتي، هذا من جماعتنا، لا يوجد جماعات، ولا تحزبات ولا كتل، الناس يأتونه فرادى يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾
العمل الذي فعلته منذ أن ولدت وحتى الموت مسجل على شريط تراه بعينك:
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ ما رأيك أن العمل الذي فعلته منذ أن وُلِدت وحتى الموت مُسجّل على شريط تراه بعينك.
﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾
﴿ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ﴾ بعت بيتاً بيعاً قطعياً وقبضت المبلغ كاملاً وبالسعر المناسب ترفض التنازل، تقول: أريد ستين ألفاً، طلب منك بعد سنوات أن تفرغ له هذا البيت ترفض التنازل إلا بعد دفع ستين ألفاً، هذا الذي لدي، واذهب إلى المحكمة إن أردت، يوجد محكمة إلهية وهذا المال ظلم، عندما بعت البيت ألم تبعه بسعره؟ بلى، وألم تقبض ثمنه بالسعر المناسب؟ كله صحيح بعقد أصولي، بعد مضي خمس سنوات تضاعف سعر البيت، فلا يفرغ له البيت، لأنه باعه بسعر منخفض كما يدّعي، غير صحيح، فأنت بعته بكامل أهليتك الشرعية والقانونية، لديك جواب لله يوم القيامة؟ من السهل أكل مال الناس، لكن بعد الموت ليس من السهل حل المشكلة، فلم يعد لها حلاً، في الدنيا لها حل؛ كالإصلاح أو الاستسماح، أو إعطاء المال، أو المسامحة، كل شيء ممكن، ولكن بعد أن يأتي ملك الموت
﴿ مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ(4)﴾
انتهى الأمر.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ هذه الأعمال كلها مكشوفة.
لو فعل الإنسان عملاً صالحاً وآخر سيئاً كالذرة لرآه يوم القيامة ولحاسبه الله عليه:
قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7)﴾
كلمة ذرة في العلم الحديث أي ذرة لا ترى بالعين، ولا بالمجهر الدقيق، أما الذرة شيء دقيق دقيق، أي كل مئة مليون ملْيون ذرة برأس دبوس من الجهة المدببة، لو فعلت عملاً صالحاً بمستوى ذرة فإن هذا العمل سوف تشاهده يوم القيامة، وبعضهم قال: الذرة الهباب، إذا كنست غرفتك في أيام الشتاء وأشعة الشمس بالغرفة قد ترى في أشعة الشمس ذرات لا وزن لها إطلاقاً، والدليل أنها عالقة في الهواء، لو فعلت عملاً صالحاً أو آخر سيئاً كمثل هذه الذرة لرأيته يوم القيامة، ولحاسبك الله عليه؛ رأيت على المغسلة نملة أنقذتها من أن تغرق وأنت تتوضأ، وأوقفت الصنبور وأزحتها ماذا فعلت؟ هذا عمل عظيم، أنقذت نفساً.
﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٍۢ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)﴾
فراشة أنقذتها، ابتسامة ابتسمتها في وجه أخ لك مؤمن مسجلة، تفاحتان أخذت الأصغر وأعطيت أمك الأكبر مُسجلة، قطعة لحم في الصحن دفعتها لزوجتك مسجلة، سألك إنسان سؤالاً وأنت في الوضوء فأغلقت الصنبور حتى لا تسرف وبعدها تابعت، مسجّلة.
كل عمل تفعله مهما صغر مسجل عليك:
ابنك في الليل كان يبكي وزوجتك متعبة قلت: أنا سأسقيه الماء، والزوجة بقيت نائمة وأنت أسقيته الماء، هذا العمل مسجل، أحاول أن أضرب لكم أمثلة على أعمال صغيرة، لأن هناك أيضاً أعمال كبيرة، احاول أن أتقصى أشياء صغيرة جداً.
(( ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه. ))
جالس في المسجد رأيت خيطاً طوله سنتيمتر على السجادة وهذا بيت الله وضعته في جيبك مسجلة، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)﴾
أمام بائع اللبن كم سعر الكيلو؟ أكلت لقيمة صغيرة وأنت لا تريد أن تشتري، مسجلة، بائع كرز أخذت كرزة واحدة أنت لا تريد أن تشتري، لماذا أكلت هذه الكرزة؟ مسجلة مهما دقّت، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ وأنت تركن سيارتك انخدشت سيارة صديقك قليلاً ولا يشعر بها، يجب أن تبلغه، وتستسمحه، أو تعطيه شيئاً من المال ليعيد طلاءها، لا تقل لم يرني أحد، فالله يراك، "ولكن أين الله" .
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ وأنت تمشي في البستان وجدت الكثير من النمل، انتبه، فقد دهست على نملة ولو كان من غير قصد، ولكن خطؤك أنك لم تنتبه، ولم تدقق في الطريق.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ امرأة مومس رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فسقته فغفر الله لها، هذه الحيوانات التي ليس لها صاحب يدهسها الناس كالكلاب والقطط، ولو كانت غنمة لا يدهسها خوفاً من صاحبها، فسعرها مرتفع، فإن آذيتها عليك دفع ثمنها، والدجاجة كذلك، بينما ترى في الشارع كثيراً من الكلاب مدهوسة، أليس له رب هذا الكلب؟ أما كان بالإمكان أن تمشي ببطء وتنتبه وتحتاط؟ فالله عز وجل يحاسبك عنه.
السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه:
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ هذه الآية تكفي الإنسان وتجعله ينضبط ويستقيم استقامة تامة، ويحسب حساباً لهذا اليوم العظيم،
﴿ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(6)﴾
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ قمت لتصلي وأنت ترتدي ثياب النوم، وعندك ثوب أستر وأحل، لأنه يستر العورة لوناً وحجماً، أما إذا كانت ثياب النوم ضيقة فارتدِ الثوب أستر، كنت تصلي وجاءك هذا الخاطر لك أجر فيه، فأنت تنضبط بالشرع، غسلت رأسك وشعرك مبلول، وسوف تصلي، هكذا تقف بين يدي الله عز وجل؟ جفف شعرك قال تعالى:
﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ(31)﴾
عند الصلاة، على مستوى الصغائر يوجد حساب فكيف بالكبائر؟ هذه من باب أولى،
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾
تقول: أنا لم أقل لهما "أف" ولكن ضربتهما، إذا كانت كلمة "أف" تُحاسَب عليها حساباً عسيراً، فمن باب أولى ما فوقها. ربنا عز وجل عندما ذكر الذرة من باب أولى ما فوق الذرة، اغتصاب المال، والاعتداء على الأعراض، أكل مال اليتيم، من باب أولى أن هذه الكبائر تُحاسب عليها ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ الإنسان أحياناً يُضيَّف قطعة حلوى ويحب أن يأكلها ويتذكر ابنه الصغير فيتركها لابنه، هذه مسجلة، إن أكلها لن يحاسبه أحد، فقد اعطوه إياها وأكلها، ولكن فضّل أن يعطيها لابنه، تسجّلت، فانتبه أي عمل تعمله كبيراً كان أم صغيراً، إنْ خيراً وإن شراً مسجل عليك، وسوف تلقى جزاءه يوم القيامة، والسعيد من اتّعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه، والبطولة أن تحتاط ليوم القيامة وأنت في الدنيا، وقمة الغباء أن تواجه هذا اليوم العصيب وأنت لا تملك تعديل شيء، هذا هو الغباء، قال تعالى
﴿ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوۡمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٌ (26) يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ (27) ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرۡضِيَّةً (28) فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي (29) وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي (30)﴾
الإنسان يراقب نفسه، ويهيئ جواباً ليوم القيامة، ومهما دقّ العمل محاسب عليه، أخذت أنت وأخوك مئة بيضة وقال لك: اقسمها بيننا، هذه الكبيرة لك والصغيرة له، هذه خيانة، كمؤمن إما أن تقسم بالعدل وإما أن تؤثره بالكبيرة، فإذا كانت البيضة أثقل بثلاثة غرامات، لا تعد شيئاً عند الطهي، لكن أنت محاسب عليها، "لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت" ، الذنب لا قيمة له، ولكنك اجترأت على الله عز وجل، "لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار" .
الملف مدقق